دروس دبي.

رائد الدبس

الحوار المتمدن-العدد: 2928 - 2010 / 2 / 26 - 18:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

تعطينا تجربة تلك الإمارة الصغيرة دروساً كثيرة وكبيرة. وتطرح علينا أسئلة أكبر من عمرها. ولا شك أن أصعب الأسئلة تأتي من الصغار سنّا، سواء كانوا دولاً أم أفراداًً..
يطيب للكثيرين الآن الإشادة بنجاحها الأمني المتميز في الكشف عن جريمة اغتيال المبحوح، وتحديد شخصيات مرتكبيها وتفاصيلها، بسرعة ومهنيّة عالية، وهذا صحيح تماماً. فالفريق الخلفان يقدم لنا إنجازاً أمنياً كبيراً،أو مسلسلاً حقيقياً ليس على طريقة رأفت الهجّان.. لكنه ليس الإنجاز الأكبر والأهم في حياة هذه الإمارة الخليجية الصغيرة والطموحة جداً.
سجلّ إنجازاتها كبير وحافل، ولا يتوقف عند أعلى برج في العالم، ولا عند مستوى الأمن والنظام والنظافة والجودة في كل ما تقدمه دبي من نموذج للمدينة العالمية الرائعة.. بل يتعدى ذلك ليقدم نموذجاً لتجربة عربية تجارية-مالية، ذات طبيعة اقتحامية جَسورة ،لا تخلو من مغامرة كبيرة ومثيرة للجدل. والأهم من كل هذا، أن إنجازها الأمني الكبير في الكشف عن جريمة اغتيال المبحوح، يجب أن يُقرأ ضمن سياق إنجازاتها وأزمتها المالية الراهنة أيضاً.

سجل دبيّ الحافل بالإنجازات، والمثير للإعجاب، بدأ يخضعُ للنقد والجدل والتشكيك، خصوصاً بعد ظهور الأزمة المالية للإمارة. ولا عيبَ في ذلك، بل يُفتَرض أن يأخذ النقاش والنقد مجراهُ بكل شفافيّة وصراحة بين جميع الأطراف، ابتداءً من دولة الإمارات العربية المتحدة، مروراً بمجلس التعاون الخليجي وباقي الدول العربية وانتهاءً بدول العالم المعنيّة بالأمر. لأن هنالك الكثير من الأسئلة المُحقّة والوجيهة جداً، التي تطرحها تجربة النمو التراكمي المالي السريع لإمارة دبي ونموذجها التجاري-الخدماتي غير المقترن بعملية تنمية شاملة، صناعية واجتماعية وثقافية. ناهيك عن اعتمادها على استيراد السكان كوسيلة للتسويق، بكل ما يحمله ذلك من مخاطر على مشروع الدولة وما يجلبه من أرباح سريعة وآنيّة لمشروع الشركة التجارية الكبرى..لكن، لنترك هذا للخبراء الاقتصاديين، كي يتفقوا على الصواب فيه، ويستخلصوا منه الدروس والعبَر، والخطط المستقبلية الأكثر واقعية.

الأمر المثير للاهتمام،هو طريقة تعامل دول مجلس التعاون الخليجي وباقي الدول العربية مع أزمة دبي المالية. فإمارة دبي التي كانت الجوهرة والمفخرة العربية في أوج ازدهارها تبدو يتيمةً في أوج أزمتها!! ففي الوقت الذي نلاحظ فيه، بعد إمارة أبو ظبي، تسابقاً أوروبياً مشروطاً لمساعدة دبي في تخطي أزمتها، نرى أن دول مجلس التعاون الخليجي تتصرف وكأن الأمر لا يعنيها ولن يطالها أبداً ! هل نستغرب شيئاً من حال العرب؟! لا جديد في الأمر.. يبدو عدم اكتراث العربي بمصير أخيه العربي الذي نجح أو تفوّقَ في أمر ما، ثمّ ما لبث أن وقعَ في أزمة، أمراً ثابتاً في سلوك العرب.. وسواءٌ كان ذلك الأخ صغيراً أم كبيراً، فعدم الاكتراث ودفن الرؤوس في الرمال، هما السمتيْن البارزتيْن.

يؤكد معظم الخبراء الاقتصاديون أن أزمة دبي المالية سوف تتصاعد وتتكشف أكثر فأكثر خلال المرحلة القادمة. وما يبدو واضحاً أن دبي سوف تواجه أزمتها ودائنيها الكبار شبه وحيدة بإصرارها ومثابرتها المعهودة. والمؤكد أنها سوف تخرج من أزمتها عاجلاً أم آجلاً. لكن السؤال ليس عن الكلفة المالية لخروج دبي من أزمتها فحسب، بل عن الكلفة المعنوية والسياسية في ظل تخلي أشقائها عنها ؟؟

في هذا السياق جاء تصرف أمن دبي الجريء والمحترف تجاه جريمة اغتيال المبحوح، ليفضح إسرائيل وعملاءها، وليحرج دائنيها الأوروبيين الكبار وخصوصاً بريطانيا، في قضية الجوازات الأوروبية المزورة، وهو تصرف ينمّ عن شجاعة وحكمة تستحق التقدير والاحترام. ويُرسلُ عدة رسائل إلى كل من يهمّهم الأمر، بأن أمن دبي قوي وقادر وجريء ، مما يعني تعزيز ثقة المستثمرين والدول باستقرارها من ناحية، ويُظهر نوعاً من الصلابة في مواجهة شروط الدائنين الأوروبيين الكبار أيضاً..
كما أن تصرفها في الكشف عن وجود اختراق أمني خطير داخل حماس، ما كان يُفترض أن يُواجَه بهذه المكابرة والإنكار والتصريحات الإعلامية غير المجدية من بعض قيادات حماس. بل أن يدفع حماس نحو سلوك أنضج وأكثر تواضعاً.

كلمة أخيرة. تجربة دبي تعطي نموذجاً لقدرة الإنسان العربي على الإنجاز حين يمتلك الإرادة والثقة بالنفس. لكنها تعطي مؤشراً واضحاً على أن أفضل التجارب العربية يمكنها أن تتعثر ويتبدد كثير من خيرها، بسبب ابتعاد الأشقاء عن دعمها وعدم الاستفادة من إيجابياتها والاكتفاء بانتقاد سلبياتها التي قد يكون أهمها، التخطيط المفرط في الطموح إلى حد المغامرة، وكذلك الخلط بين مشروع الدولة ومشروع الشركة التجارية الكبرى..

#رائد_الدبس (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل