في الفقرة الأولى من المقدمة أشار المؤلف إلى أحد أسباب عدم تنفيذ قرار المؤتمر الثاني حول كتابة تأريخ الحزب وهو سبب خارجي أسماه بسيادة الروح الدوغماتية في الحركة الشيوعية العالمية . وقد لمسنا من خلال المناقشة السابقة أن هذا السبب غير مقنع وغير واقعي أيضاً ، بل ويبعد القارئ عن معرفة الأسباب الحقيقية والتي قلت أن الداخلية منها هي الأهم . وفي الفقرة الثانية يورد المؤلف هذه الأسباب بالصورة التالية : _
" " 2 _ المشروع ( يقصد وضع تأريخ الحزب ـ ن.خ ) بحد ذاته يتطلب تعاون مجموعة من الباحثين ، ومساندة واسعة ، سواء من داخل الحزب ذاته أم من الناس الآخرين الذين يغارون على نضاله خدمة لمصالح الشعب . وربما كان أفضل أشكال العمل في هذا الشأن تأليف لجنة خاصة توزع العمل فيما بينها طبقاً للأوضاع التي يعيشون فيها ، إلا أن تشتت الباحثين على النحو الذي يعيشه الثوريون العراقيون اليوم ، لا يغري باعتماد هذا الشكل الطموح من العمل ، وقد يؤدي اعتماده إلى طمس المشروع من جديد . إن ظروف النضال بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي ومناضليه مرت وتمر بتعقيدات كثيرة ، وقد انعكست هذه على إمكانية جمع الوثائق وتظيم الأرشيفات . وإذا لم يتعامل المرء مع هذه التعقيدات من منطلق السعي إلى انتهاز الفرص واستغلالها دون إبطاء ، فإن هذه المهمة تتعقد هي الأخرى . أكتب هذا وفي ذهني النهاية التي انتهت إليها بعض الأرشيفات المعتمدة التي كانت موجودة في براغ وفي غيرها . " ( ص8 )
وهنا لا بد من توضيح بعض النقاط الجوهرية :
· - إن المشروع الذي يتحدث عنه المؤلف هو المشروع المثالي والمتكامل والذي هو بمثابة طموح لكل الشيوعيين وأصدقائهم . وأن إنجازه يتطلب حقاً إمكانيات وظروف ملائمة قد لم تتوفر للشيوعيين من قبل وقد تمتد إلى سنوات أخرى قادمة حتى تحققها .
ذلك شئ ، والمشروع الذي استهدفه المؤتمرون في المؤتمر الثاني بقرارهم ، شئ آخر والذي يمكن تسميته مجازاً بـ " روح التأريخ " وليس كله . أي بمعنى أن يتم إعداد تأريخ يلخص العبر والتجارب الرئيسية والأخطاء السابقة للاستفادة منها في النضال العملي واليومي . خاصةً وأن الحزب كان قد تعرض إلى انتكاسة كبيرة في 8شباط عام 1963والى بلبلة فكرية في فترة إعادة التنظيم ( خط آب ـ خط الانقلاب الثوري ـ انشقاق الحزب ) . كل ذلك كان ينبغي تقييمه بصورة موضوعية وجادة لوضع سياسة صائبة وتجنيبه البلبلة والتشويش وآثارهما السلبية على تنفيذ مهامه الآنية والبعيدة .
· _ قبل انعقاد المؤتمر الثاني عام 1970كان قد انعقد المجلس الحزبي ( الكونفرنس ) الثالث في نهاية عام 1967 لمعالجة تداعيات الانشقاق الذي شهده الحزب في أيلول من العام نفسه . وفي هذا المجلس طرح مشروع " تقييم " لسياسة الحزب السابقة منذ ثورة 14/ تموز/ 1958 حتى منتصف الستينات بمساهمة نشيطة ورئيسية من عضو م.س زكي خيري ، كما جاء في مذكراته ـ صدى السنين وغيرها . وكان قد شارك في إعداده عضو م.س ( قبل الانشقاق ) وقائد الحركة الانشقاقية لاحقاً عزيز الحاج إضافة إلى مساهمات أخرى أقل سعةً وشموليةً .
وبعد إجراء التعديلات وإدخال إضافات تمت المصادقة على التقييم وصدر قرار بتعميمه على منظمات الحزب كمادة للتثقيف الداخلي على أمل مناقشته وتطويره ، وإقراره بصيغته النهائية من قبل المؤتمر الثاني وهو ما لم يتم ، واتخذ القرار موضوع نقاشنا .
· _ ظهر ، بعد سنوات عديدة ، أن هناك وثائق ومحاضر هامة ليست في صالح أفكار وتوجهات بعض قادة الحزب آنذاك لم يجرِ اطلاع أعضاء الكونفرنس عليها وكذا على أعضاء المؤتمر الثاني من بعد .
وهي الوثائق التي أشير إلى فقدانها من أرشيف براغ وغيرها لأسباب لم يشأ المؤلف ذكرها .
ورغم ذلك ظهر أنها كانت موجودة ومتاحة آنئذ بحكم نشرها ، أو نشر قسم هام منها ، في بعض الكتب التي صدرت في فترات لاحقة .
ومن خلال تلك الحقائق وغيرها تبدو تعليلات وحجج المؤلف غير كافية وغير مقنعة إطلاقاً . المقدمة تتعرض إلى موضوع " تلكؤ " تنفيذ قرار المؤتمر الثاني ، الذي دام سنوات كثيرة ، وتنسب أسبابه إلى قضايا " فنية " بحتة دون الإشارة ، ولو من بعيد ، إلى أي احتمال لوجود دوافع ذاتية لدى بعض قادة الحزب في ذلك الحين لإخفاء أخطائهم وهم ليسوا بمعصومين منها كما هو حال الجميع . وهذه قضية لا يمكن تجاهلها كما فعل المؤلف بكل بساطة . وخطورة مثل ذلك التجاهل لا تنحصر بتقييم نشاط هذا القائد أو ذاك وحسب ، بل وتتعداه إلى الانعكاس سلباً على مجمل عمل ونضال الحزب وهو ما حصل بالفعل في الفترة اللاحقة . كان الأهم هو الكشف عن الأسباب الذاتية والموضوعية لجميع الأخطاء . وهي أخطاء جسيمة ، كما بات معروفاً الآن ، إلى حدود معينة ولكن دون أن تصبح معرفةً كاملة بعد ، وهو ما كنت أطمح إلى تحققها عند صدور كتاب المؤلف .
أو أن يكون عاملاً مساعداً في الكشف عنها وعن خلفياتها النظرية والفكرية والعملية وصولاً إلى استخلاص العبر والتجارب المجدية لنضال حزبنا في الحاضر والمستقبل .
إنها تجربة قيمة لا يجوز ضياعها على الحزب والناس إرضاءً لأفكار وتوجهات سياسية وفكرية معينة لا يراد لها أن " تخدش " لأي سبب كان .
ويعلم المؤلف أكثر مني بكثير بالنتائج الوخيمة التي ترتبت على عدم كتابة التاريخ بصورة صحيحة في الاتحاد السوفيتي وتأثرها بالذاتية والفردية مما حرم الشيوعيين والناس من إمكانية الاستفادة من العبر والتجارب الناتجة عن الأخطاء والنواقص ، وأصبح ضياع التجربة ، بسبب ذلك ، أحد أبرز
أسباب " الانهيار " ! ، حسب تعبير المؤلف ، أخيراً .
ولذلك فإن التغاضي عن الأسباب الحقيقية لعدم تنفيذ قرار المؤتمر الثاني ، حول كتابة التأريخ ، يستثير شكاً مشروعاً في إمكانية الحصول على قراءة موضوعية للأحداث القادمة وهو ما فعلته الفقرة الثانية بوضوح تام . ولاحقاً سنرى في المقدمة نقاطاً تؤشر هي الأخرى أيضاً نحو نفس الاتجاه .
الخلاصة : لقد كانت وراء تجاهل قرار المؤتمر الثاني دوافع ذاتية وهي الأقوى في النتيجة من مجمل الصعوبات والتعقيدات الأخرى . إنها العقدة الرئيسية . والظروف والتعقيدات ما هي إلا عوامل مساعدة وكان بالإمكان تذليلها خاصةً في فترة السنوات الخمس 1973ـ 1978 التي تمتع الحزب خلالها بإمكانيات كافية لتنفيذ إرادة الحزب ، لولا وجود مقاومة داخلية كان هدفها الإبقاء على التقييم الخاطئ السابق ولتجنب عرض الوثائق ، والمحاضر منها بصورة خاصة ، على ما أعتقد .
وقد ساد أثناء تلك الفترة تيار ونهج خاطئ على سياسة الحزب العامة ، وجد انعكاساً له على موضوع كتابة تأريخ الحزب ، وشكل قوة مقاومة عكسية عرقلت الحزب عن تنفيذ قرار المؤتمر .
لقد تعرضت إلى هذا الموضوع الحيوي بصورة مختصرة جداً ، على أمل العودة إليه بالتفصيل وبما يستحقه من اهتمام وأهمية في قراءةٍ موضوعية لتأريخ الحزب ، وذلك بعد الانتهاء مباشرة من استعراض جميع النقاط الأخرى الواردة في المقدمة .
والى اللقاء لمواصلة مناقشة محتويات المقدمة . مع التحيات الحارة .
27/تموز/2002. نزار خالـد .
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
