|
نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (3)
يحيى محمد
الحوار المتمدن-العدد: 3110 - 2010 / 8 / 30 - 06:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
النظريات الموضوعية - التكرارية
المفهوم التكراري وهجر المبدأ ترتبط النظرية التكرارية بعدد من المفكرين بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، واخذت تثبّت اقدامها شيئاً فشيئاً حتى تهيء لتطبيقاتها ان تدخل ضمن المجال العلمي . ففي الاربعينات من القرن التاسع عشر طرح أليس في عدد من الصفحات الفكرة الخاصة بهذه النظرية، ومثل ذلك ما فعله كورنو Cournot في كتابه (حساب نظرية المصادفات والاحتمالات) سنة 1843، ثم جاء جون فِن فقام بتطوير النظرية في بحثه المعنون (منطق المصادفة) سنة 1866. كذلك جاء بعدهم بيرس Peirce الذي بحث الموضوع ذاته فاضفى عليه بعض الابعاد الجديدة ، واخذت النظرية تتطور اخيراً لدى كل من ميزس وريشنباخ وغيرهما خلال القرن العشرين، الامر الذي جعلها اكثر دقة وقبولاً. ولا شك ان هذه النظرية جاءت كرد فعل على الاعتقاد (القبلي) للاحتمال كما ارساه لابلاس في مبدئه القائل بتساوي الحالات الممكنة، حيث رفضت مبدأ عدم التمييز الذي عدته عديم الفائدة في الكشف عن القيم الاحتمالية، خصوصاً وانه واقع بتلك المشكلة المسماة (تناقض برتراند) كالذي مرّ معنا. وعلى رأيها ليس هناك الا طريق واحد يجيب عن تلك المشكلة، وهو الطريق الذي يتحدد بتأسيس الاحتمال على التجربة، فعوضاً عن ان يكون تساوي الامكان هو الذي يؤسس فكرة تساوي الاحتمال، كما تلجأ اليه النظرية السابقة، اصبح تساوي التردد والتكرار هو مصدر القول بتساوي ذلك الاحتمال . وهذه النتيجة لا تتضمن مفهوم الاحتمال سلفاً، ولا مغالطة المصادرة على المطلوب. وعلى رأي العديد من الباحثين ان جون فِن هو اول من اشار الى التصور التكراري للاحتمال بشكل واضح ومنظم خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وانه من الاوائل الذين قاموا بنقد النظرية التقليدية حول ما تتضمنه من القبلية في فكرتها عن التساوي في الاحتمالات، وكونها لا تتحدث عن الاحتمال بوصفه يعبر عن تصور للحوادث وعلاقاتها الخارجية وصفاتها الخاصة، وبالتالي فقد خلص فِن من انه لابد من التمييز بين التساوي في الحساب الاحتمالي لاعتقادنا الشخصي كما تعبر عنه النظرية التقليدية، وبين التساوي في الحساب في تكرارات الحدوث للحادثة، واعتبر ان التصور الاخير هو الصحيح دون الاول . وطبقاً لكارناب فان اصحاب النظرية التكرارية لم يعلنوا رفضهم للتفسير التقليدي للاحتمال وابداله بمفهومهم الجديد، بل حسبوا تصورهم للاحتمال هو ذات التصور الذي حمله الكتّاب الاوائل، وبالتالي فانهم يعدون انفسهم قد ساهموا في صياغة المفهوم بمزيد من الدقة والضبط، وجعلوه اكثر سعة وشمولاً مما كان عليه. لذا فسروا لفظة الاحتمال عند لابلاس لا بمعناه المنطقي، وانما بالمعنى الاحصائي، لكن جوهر اعتراضهم قد انصب على مبدأ عدم التمييز الذي هجروه كلياً . وعلى العموم ان هناك مذهبين لهذه النظرية، أحدهما يكتفي بالتكرار المحدود في معرفة القيمة الاحتمالية، والاخر ينفي تحديد التكرار بحد معين، انما يجعله طريقاً مفتوحاً بغير نهاية. وتفصيل الحديث عن هذين المذهبين سيكون كالاتي:
مذهب التكرار المتناهي يُنسب هذا المذهب في الاصل الى الفيلسوف ثيودور فيشنر Theodor Fechner الذي نُشر عمله بعد وفاته (سنة 1897)، وجاء بعده كل من برونز Heinrich Bruns وهيلم George Helm ، ثم تبنى المذهب عدد من المفكرين المعاصرين، ابرزهم برتراند رسل، كما في كتابه (المعرفة الانسانية)، وذلك باعتبار ان هذا الاتجاه يسمح بانشاء الاحتمال الرياضي ببساطة، وانه يفي بشروط بديهات الاحتمال وحساباته . وتتحدد القيمة الاحتمالية في هذا الاتجاه من خلال وجود فئة متناهية تشترك في بعض الافراد بالانتماء الى فئة أخرى. فاذا عرفنا عدد تكرر هذا الاشتراك كان بالامكان تحديد درجة احتمال انتساب أي عضو من الفئة الاولى الى الفئة الثانية، وذلك من خلال ايجاد نسبة رياضية بين عدد الاعضاء المشتركين وبين مجموع كافة افراد الفئة المتناهية . فاذا رمزنا الى عدد الفئة الاولى بـ (ل)، وعدد تكرر الاشتراك لدى اعضائها بـ (ك)، فان قيمة احتمال ان ينضم فرد ما من الفئة الاولى الى الفئة الثانية هو: (ح = ك-ل). فمثلاً اذا كنا نعرف ان عدد انواع الطفيليات مائة نوع، وكنا نعلم ان خمسة وعشرين منها لها القابلية على توليد المرض للانسان؛ ففي هذه الحالة لدينا فئة متناهية هي الطفيليات، وفئة اخرى هي صفة القابلية على توليد المرض، وايضاً هناك اشتراك بين الفئتين لدى مجموعة من أعضاء الفئتين. لذا ان تحديد قيمة احتمال أن يكون الطفيلي ممرضاً هو: (25%). هذا هو ما يريده الاتجاه المتناهي للتكرار في فهم الاحتمال. ويلاحظ انه لا ينطبق على الفئات والقضايا غير المتناهية، وان التحديد الرياضي للعلاقة بين عدد الافراد الكلية وعدد تكرر الاشتراك داخلها لا يعطي اي قيمة نهائية للاحتمال فيما لو فرضنا وجود عدد لا نهائي للافراد. الامر الذي دعا المفكرين الى ايجاد صياغة اخرى للاحتمال تأخذ باعتبار الفئات غير المتناهية التي يتشكل منها اغلب قضايا الواقع. وعلى رأي بريثوايت ان هذا النوع من الاحتمال لا ينفع في التحديد العلمي، ذلك ان الشرط في هذا النوع هو ان يكون عدد الاعضاء في مقام الكسر محدوداً نهائياً، بينما الاحتمال في المجال العلمي لا يصح ان يفترض الحدود والنهاية في الاعضاء، والا امتنع التعميم، ويكون الاحتمال خاصاً بالعدد المحدود من تلك النماذج، مما يجعل القضية عموماً ليست في عداد الافتراض العلمي، حيث مهما نكوّن من عدد المشاهدات فهناك زيادة ربما توظف ضد الفرضية العلمية. مما يعني انه اذا كان بامكان التكرار المحدود ان يؤسس الحقيقة للقضية الاحتمالية بشكل نهائي، فان ما يحصل في المجال العلمي هو غير ذلك بالمرة، اذ كل نتيجة نتوصل اليها انما هي نتيجة مؤقتة قابلة للتعديل بفعل ما يوجد من الاعداد غير المتناهية للحالات . وهناك عدد من الاعتراضات ابداها المفكر الصدر اتجاه هذا التفسير للاحتمال. فهو يرى ان هذا المذهب يشترط ان يكون لدينا علم بعدد افراد الفئة (ل) و(ك)، مما يعني اننا لو لم نعلم بالتحديد عدد الاعضاء المشتركة بين الفئتين لما أمكن ان نحدد نسبة الاحتمال، لأنها تفترض العلم التام بعدد هذه الاعضاء . كذلك فيما لو لم يكن لدينا علم بوجود اعضاء مشتركة، اي كنا نحتمل ذلك، فانه لا يمكننا ان نحدد النسبة الاحتمالية. كما انه في حالات معينة قد تكون هناك حادثة محتملة الوجود من غير تكرار، ففي هذه الحالة لا يمكن ان يطبق عليها ذلك المفهوم، مثل احتمال وجود زرادشت كانسان كان يدعي النبوة ويدعو الى الاباحية . يضاف الى ان التعريف السابق يزودنا بنسبة إحتمالية كلية، ففي مثالنا السابق عن الطفيليات الممرضة استطعنا ان نستنتج النسبة الاحتمالية لأي طفيلي - لا على التعيين - بقيمة قدرها (1-4) طالما كان لدينا علم بعدد افراد الفئة المتناهية وعدد الاعضاء المشتركة. فهذه النسبة كلية ثابتة لأنها نتجت عن معرفتنا بعدد الفئتين (ل) و(ك). لكن هناك نسبة احتمالية اخرى مشتقة من تلك النسبة الكلية، وهي ما تتعلق بالفرد الواقعي المشخص، كإن نقول - استناداً الى معرفة تلك النسبة الكلية - ان هذا الطفيلي يحتمل له بدرجة (1-4) ان يكون ممرضاً. وعليه فان اضفاء نفس النسبة من القضية الكلية على القضية الواقعية يحتاج الى بديهة تقر بضرورة التطابق بين القضيتين، فبدون هذه البديهة لا يحق لنا تحديد القيمة الاحتمالية للقضية الواقعية . وعلى هذه الشاكلة يمكن ان نذكر بديهة اخرى يقتضيها التعريف، وهي انه لما كانت النسبة الكلية تعتمد على ما يرد من معلومات واقعية فانها قد تكون قابلة للخطأ وعدم الدقة، حيث انه ليس في جميع الاحوال يمكن ان نعرف بالدقة التامة عدد افراد الفئة (ل) و(ك)، وعليه فحين نحدد هذا العدد، ومن ثم نقيم النسبة الرياضية، سنحتاج الى بديهة للتقدير تقر بأنه كلما كانت معلوماتنا الواقعية بهذا الحد فان القيمة الاحتمالية ستقدر على ضوئها. الامر الذي يعني انها قابلة للتبديل والتغيير طبقاً لتغير البينات المستمدة من الواقع.
مذهب التكرار اللا متناهي يعد جون فن اول من صاغ فكرة الحد في سلسلة صاعدة من التكرار (سنة 1866). فتحديد قيمة احتمال الحادثة يأتي عنده من خلال النسبة القائمة بين نوعين من الحوادث في سلسلة طويلة دون توقف، فكلما ازداد استمرارنا في تتبع سلسلة التكرار كلما اخذت النسبة نحو الثبات تدريجاً حتى ينتهي الامر الى الوصول الى قيمة حدية ثابتة . وقد اخذت هذه الفكرة بعداً متطوراً لدى ميزس وريشنباخ. فميزس حدد الاحتمال عبر لحاظ التكرار داخل سلسلة طويلة وكبيرة من النتائج المشاهدة، وذلك حتى يتم التوصل الى قيمة حدية ثابتة، وهي القيمة التي يعتمد عليها في تحديد قياس الحوادث الجديدة . اي ان العملية تتخذ شكلاً برنولياً، حيث تختبر الحادثة ضمن سلسلة طويلة من التكرار فيتم تحديد النسبة التكرارية للحادثة، وهي قيمة حد التكرار التي عليها تتحدد قيمة احتمال الحادثة في المستقبل . وتوضيحاً لهذه الفكرة ذكر ميزس مثالاً يتعلق بمعرفة قيمة احتمال ظهور وجه معين من وجهي قطعة نقد، سواء كانت القطعة منتظمة او غير منتظمة. وقد عد في طريقته وجود مسلمة اساسية لابد منها في تحديد الاحتمال، وهي تنص بانه عند تكرار الرمي طويلاً فان النسبة التي سنحصل عليها من ظهور وجه الصورة مثلاً تميل لان تصل الى قيمة محددة ثابتة، وهي قيمة احتمال ظهور ذلك الوجه من القطعة. فكلما زاد التكرار كلما زاد التوقع من الوصول الى قيمة الحد الثابتة. فعلى هذه المسلمة اخذ يفسر ما جاء في نظرية (برنولي - بوسن) المسماة بقانون الاعداد الكبيرة ، وكذا نظرية بايس التي اطلق عليها القانون الثاني للاعداد الكبيرة، لتشابهها بالاول. وينص القانون الاول بانه لو رمينا تلك القطعة من الزهر مرات كبيرة العدد فسوف نحصل باحتمال كبير يقارب الواحد على ما يقارب تلك النسبة. فمثلاً لو رمينا قطعة النقد الف مرة وتبين لنا ان النسبة الاحتمالية قد اخذت الثبات نحو الحد بقيمة احتمالية معينة، فانه على ذلك يمكننا توضيح ما يتعلق بنظرية برنولي، حيث نتوقع انه لو اردنا ان نرمي القطعة الى عدد كبير كإن يكون مليون مرة فانه تبعاً لهذه النظرية سنتوقع باحتمال كبير ان النسبة الاحتمالية التي سنحصل عليها هي ذات تلك النسبة التي حصلنا عليها من قبل، مع اختلاف ضئيل جداً. وعلى نفس الشاكلة قام ميزس بتفسير نظرية بايس او القانون الثاني للاعداد الكبيرة، والذي ينص بانه في حالة وجود عدد كبير من قطع النقد المختلفة وقد اظهرت نسبة ظهور كل واحدة منها في رميات طويلة قيمة حدية معينة، فانه في الرميات الكبيرة مجتمعة سنتوقع ان نسبة تردد ظهور وجه الصورة تتخذ حداً ثابتاً هو نفس ذلك الحد الذي وجدناه لدى مجموع ما ظهر في الرميات الاولى المشاهدة مع اختلاف ضئيل جداً. وعند ميزس انه سواء ما يتعلق بالقانون الاول (برنولي)، او القانون الثاني (بايس)، فان الامر يعتمد على المسلمة الاساسية التي مرت معنا، وبدونها لا يصح القانونان . لذلك فان هناك من اعتبر النظرية التكرارية لها جذور تعود الى قانون الاعداد الكبيرة لبرنولي. بل واعتبرت فكرة هذا القانون حاضرة بشكل مبكر لدى الاوائل من اصحاب هذه النظرية، وعلى رأسهم جون فِن . في حين وجد اصحاب المفهوم التقليدي للاحتمال من نظريات برنولي وبايس جسراً يمررون من خلاله نظريتهم قبال نظرية التحديد التكراري، الامر الذي دعا ميزس الى ان يعد ذلك من المغالطات . ويشترط ميزس ان يكون الاختبار عشوائياً لكي يحقق الغرض من اقتراب ما اخترناه من القيمة الحدية للاحتمال. فاختبار أي صنف فرعي من السلسلة اللا نهائية بشكل عشوائي يمتاز بأنه يتجه ويقترب الى الحد الاحتمالي الثابت للسلسلة الكلية . مع هذا فان مسلمة العشوائية لم يأخذ بها رواد هذا المذهب ممن جاء بعد ميزس، مثل ريشنباخ وسالمون .
نقد مذهب التكرار اللا متناهي لعل ابرز الانتقادات التي يمكن توجيهها الى هذا المذهب ما يلي: 1 ـ لا شك ان اهمية النظرية التكرارية هو ان بامكانها تحديد النسبة الاحتمالية للحادثة عبر التكرار والاختبار حتى في حالة عدم التساوي في الامكانات، وهي النقطة التي تنتقد عليها النظرية التقليدية. فتحديد وجه ما من وجوه قطعة زهر محددة يتم بدقة عبر النظرية التكرارية عندما نكون على علم بعدم تساوي الامكانات بين الوجوه المختلفة. لكن مع هذا هناك حالات قد نتأكد فيها من التساوي دون حاجة للاختبارات التكرارية، وهي النقطة التي تتفوق فيها النظرية التقليدية على التكرارية، رغم ان بامكان هذه الاخيرة ان تعالج مثل تلك الحالات تبعاً لافتراضاتها، لكنها لا تصل الى نفس الدقة التي عليها الاولى. فمثلاً على الحالات التي لا تضطرنا الى استخدام التكرار كحالة تجريبية، انه لو كانت لدينا عشر كرات متشابهة لكنها موزعة على اصناف من الالوان؛ فان ذلك يكفي لأن يحدد لنا تعيين الدرجة الاحتمالية لسحب أيٍّ منها عشوائياً. والصفة العامة في الدرجة التي نحصل عليها تتسم بالثبات التام، مع ان الاعتماد على مبدأ التكرار الطويل لا يحقق هذه النسبة الا مع وجود فارق ضئيل، مما يعني ان الاجراء الذي نستخدمه وفق مبدأ الامكان هو اولى وأدق من ذلك المستخدم وفق مبدأ التكرار. يضاف الى ان الاتجاه السابق لا يصدق على القضايا المحدودة للحوادث كالتي يعالجها الاتجاه المتناهي - على مر معنا -، وذلك لأنه يفترض سلسلة لا نهائية لتلك الحوادث. وبالتالي لو اننا طبقنا اتجاه التكرار المتناهي على القضايا المحدودة التي نعلم فيها بتساوي الامكان؛ لكانت النتائج التي نحصل عليها غير دقيقة، كما ان هذه القضايا لا تخضع الى تفسير الاتجاه غير المتناهي كما عليه مذهب ميزس. وإن كان ريشنباخ، على خلاف ميزس، قد كفل بتطبيق طريقته على مثل تلك القضايا المحدودة او النهائية، فضلاً عن تلك التي تتصف بغير نهاية . كما ان الكثير من القضايا العلمية والحياتية لا تتحدث عن احتمالات التكرارات غير المتناهية. فمثلاً ان شركات التأمين عندما تريد ان تعرض النسب الاحتمالية فانها لا تتحدث عن العلاقة التكرارية بوصفها غير متناهية، بل يكفيها البحث عن العدد الكبير نسبياً لتكوين تلك النسبة. وإن كان هذا الاعتراض لا ينطبق على نظرية ريشنباخ باعتبارها مرنة تتقبل تعديل النسب الاحتمالية عند زيادة التكرار، لكنها في جميع الاحوال لا تعطي ضماناً لاي من التنبؤات، سواء كان هذا الضمان مؤكداً او محتملاً .
2 ـ ان هذه النظرية لا يمكنها ان تتحدث عن احتمالات الحوادث الفردية. فمثلاً عندما يتحدث العالم التكراري عن احتمالات الزواج المنتهية الى الطلاق في امريكا ويجد نسبة لها كإن تكون (1-4)؛ فان ذلك يعني انه يتحدث عن التكرار النسبي للاعضاء من نوعين للحوادث، لكنه لا يتحدث بخصوص الاحتمال الذي يطول هذا او ذاك من الحالات الخاصة للزواج . وتبعاً للبروفسور برود فان الاعتماد على التكرار والاحصاء ينجح في قضايا يمكن تكرارها باستمرار كما هو الحال مع العاب الحظ والمصادفة، أما في قضايا الواقع فنواجه حالات كثيرة تتعلق بالاحتمال لكنها لا تعالج تبعاً لفكرة التكرار والاحصاء. فمثلاً ان دراسة احتمال ان يبقى رجل محدد - كزيد مثلاً - في سن الاربعين حياً خلال السنوات العشر القادمة، لا تعتمد على التكرار، حيث لا تكرار في مثل هذه الحالة الخاصة، او ان وفاة زيد لم تتكرر من قبل، وهي لا تحدث الا مرة واحدة في العمر. وعندما يقال انه يمكن اخذ اعتبار صفات الرجال الاخرين من نفس الصنف، فذلك غير صحيح ايضاً، حيث لابد من وجود تغايرات في القيمة الاحتمالية نتيجة الكثير من التغايرات الحاصلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية وغيرها، ولا شك ان جميع هذه العوامل تؤثر على القيمة الاحتمالية لبقاء زيد على قيد الحياة. وهذا النقد الذي افاده برود قد عدّه الاستاذ رايت مهماً ازاء طريقة ميزس التكرارية . بل ان هذه النظرية لا يمكنها ان تستوعب الاحتمالات التي تتعلق بالفرضيات والنظريات العلمية، باعتبارها فردية وغير قابلة للتكرار، كإن تقيّم نظرية انشتاين في الجاذبية بانها قوية الاحتمال، او يقال بأن هذه القصيدة يحتمل ان تعود الى الشاعر المتنبي، او يقال حول حادثة تاريخية محددة بانها محتملة الوقوع. فمثل هذه الاحتمالات لا تنطبق عليها التكرارات، كما انه لا يمكن معرفة تحديد قيمتها المعرفية . وقد اشار الى هذا النوع من الاحتمالات وتمييزه عن النوع الاخر الخاص بالحوادث عدد من المنطقيين المحدثين، امثال رامسي وبوبر وكارناب ورسل ونيل . مع هذا يمكن القول ان ريشنباخ - على خلاف ميزس - قد قبل ما يجري في الحياة العملية من تقرير الاحتمالات للقضايا الشخصية او الفردية، كإن يُسأل عن احتمال ان يكون الطقس ممطراً ليوم غد، فيقال ان هناك احتمالاً كبيراً لصالح هذه الحادثة مثلاً، حيث اعتبر ذلك من الاحتمالات التقريبية. وهو مع ذلك يرفض ان يتحدث عن مثل هذه الحالات الفردية ما لم تبرر من خلال التكرار النسبي. بل ومن حيث ان النتيجة فيه لا تقبل التحقيق خلافاً للاحتمال القائم على التكرار النسبي، فقد اخذ يفسره تبعاً للعادة النفسية، اذ اعتبر ان المرء اذا تعود ان يتحدث عن الاحتمال بالنسبة الى حادث مفرد فإن اعتقاده سوف يدفعه لأن يقول بأن 75% - مثلاً - من الحالات الشبيهة الكثيرة ستكون لها نفس النتيجة . لكن هذا التقرير لاقى اعتراضاً حتى من قبل المنظرين للاحتمال التكراري، لكون صياغته بسيطة تقترب من الاستعمال العامي. فاغلب اولئك الذين اقروا النظرية التكرارية قد اتبعوا ميزس في رفض الحالات الفردية وكذا الحالات التقريبية، معتبرين اياها انها صياغات بلا معنى، لكونها لا تخضع لمبدأ التحقيق، كما هو واضح . وقد كان كينز يرى ان النظرية التكرارية ضيقة المجال، حيث تشترط ان يكون هناك تتابع في الحوادث، وبغير ذلك لا يصح تحديد القيمة الاحتمالية. لكن ميزس رد على كينز من خلال التمييز بين الاستعمال العلمي للاحتمال والاستعمال المألوف عند الناس، فاعتبر من الخطأ تحديد المفهوم العلمي للاحتمال ليطابق كل تلك المتعلقة بالاستعمالات غير العلمية او ما قبل العلم . فميزس يعترف بان هناك استخدامات للاحتمال لم تُغط بحسب نظريته الخاصة، معتبراً ان هذه الاحتمالات هي نماذج من التصور ما قبل العلم، وهي الحالة التي تكون فيها المعرفة غير ناضجة .
3 ـ ان القيمة الاحتمالية التي تستخرجها النظرية التكرارية لا تنطبق على الحوادث التي يحتمل لها شيء من التلازم. فهناك فرق واضح بين القضايا الاحصائية غير اللزومية، وبين القضايا التي يحتمل لها ان تتضمن شيئاً من اللزوم. وتوضيح ذلك هو انه لو كنا نحتمل ان تكون بين الحادثتين (أ) و(ب) علاقة لزومية واردنا اختبار حالهما فأجرينا ثلاث تجارب عليهما كشفت عن اقترانهما بالظهور في الجميع؛ فان مبدأ التكرار لو شئنا ان نمدد وظيفته حتى على مستوى التجارب القليلة؛ فانه سيعين قيمة قريبة من الحد، وهي تساوي واحداً طبقاً لقانونه: (ح = ك-ل = 3-3 = 1). لكن نفس هذه النتيجة ستتكرر فيما لو ظهرت (ب) مع (أ) دوماً في عشر أو مائة أو الف أو مليون تجربة، حيث تكون القيمة القريبة من الحد هي أيضاً مساوية لواحد. مع ان من الواضح وجداناً ان (أ) لو ظهرت مع (ب) في ألف تجربة لكانت النتيجة أقوى من ظهورها في ثلاث او عشر او مائة، مما يعني أن إجراء الطريقة السابقة على القضايا التي يحتمل تضمنها اللزوم هو اجراء عقيم. الامر الذي لابد فيه من إجراء حساب آخر يتناسب مع هذه المسألة. وبهذا الصدد يوجد معنيان للزوم، أحدهما بمعنى الضرورة والاخر بمعنى الشد كما سيمر علينا. ولو استخدمنا المعنى الاول طبقاً لنظرية المفكر الصدر لكان من الواجب علينا الاستعانة باسلوب المنطق الافتراضي كالاتي: توجد لدينا ثمانية افتراضات متكافئة من العوامل في حالة ثلاث تجارب كالاتي: 1 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الاولى فقط. 2 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الاولى والثانية فقط. 3 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الاولى والثالثة فقط. 4 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الثانية فقط. 5 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الثانية والثالثة فقط. 6 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الثالثة فقط. 7 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجارب الثلاث جميعاً. 8 ـ ظهور (ب) مع (أ) في جميع التجارب. هذه ثمانية عوامل مفترضة ومتنافية، وهي من الناحية القبلية متساوية الاحتمال بما قيمته (1-8)، طالما لا يوجد ما يرجح لنا بعضها على البعض الاخر. فلو ظهرت لنا (ب) مع (أ) في جميع التجارب؛ لكان احتمال التلازم بينهما يحظى بقيمة مجموع الاحتمالات السبعة الاولى مع نصف الاحتمال الثامن، حيث انه حيادي قد يعبر عن التلازم وقد يكون مجرد صدفة محضة، لهذا لابد من تقسيمه الى نصفين احدهما لصالح اللزوم والاخر لصالح الصدفة، فتكون القيمة النهائية التي يحصل عليها لزوم (أ) مع (ب) هي كالاتي:
7-8 + (1-8 × 1-2) = 15-16
أي انه لو كان لدينا ستة عشر عاملاً لكان جميعها باستثناء واحد منها لصالح لزوم (أ) مع (ب). أما لو اقمنا أربع تجارب كشفت عن ظهور (ب) مع (أ) في جميعها؛ فان قيمة احتمال التلازم ستكون (31-32). ولا شك ان هذه القيمة اكبر من القيمة السابقة، مما يعني انه كلما كثرت التجارب الناجحة ازدادت القيمة الاحتمالية للزوم، وهذا ما لا يمكن تفسيره بحسب قانون النظرية التكرارية القائل: (ح = ك-ل). كذلك الحال فيما لو ارتكزنا على اساس علاقة الشد، رغم ان القيمة الاحتمالية التي تعطيها تختلف عما تزودنا به علاقة الضرورة، كما سيتضح لنا ذلك فيما بعد.
4 ـ ان اتجاه ميزس يفترض ان النسبة الاحتمالية للحوادث عند التكرار الكبير للاختبارات العشوائية تقترب من نسبة الحد الثابتة، رغم ان النظرية التكرارية تصرح بكونها تعتمد على الاستقراء والتجربة دون اللجوء الى الافتراضات القبلية كالذي تعمل به النظرية التقليدية، اذ ما الذي يؤكد لنا ان هناك قيمة حدية ثابتة للاحتمال يمكن الاقتراب صوبها؟ هكذا يؤخذ على هذا الاتجاه اعتماده على بعض المصادرات القبلية رغم رفضه لأي فكرة من هذا القبيل. فهو يوجب ان تكون النسبة الاحتمالية التي يحصل عليها في جزء من سلسلة الاختبارات اللا نهائية هي دائماً قريبة من نسبة حد التكرار، ولا شك ان هذا الحكم مفترض ولا يوجد دليل عليه. بل قد يقال ايضاً انه حتى اذا رأينا شيئاً من الثبات النسبي في الاختبارات الكبيرة فان ذلك لا يبرر بقاء هذا الثبات لدى الاختبارات العظمى ضمن سلسلة غير متناهية، فكل قطعة من هذه السلسلة تكون صغيرة وضيقة بالقياس الى ما تبقى منها، وبالتالي كيف يمكن تبرير الثبات في الجزء الاعظم من هذه السلسلة ما لم يعتمد على امر خارج حدود الاختبار والتجربة؟ اذ ما المانع من ان اي نتيجة اخرى نحصل عليها تتحول الى نتيجة اخرى مخالفة عند زيادة الاختبارات؟ على ذلك نقدت هذه النظرية من حيث ان الحدود التكرارية غير قابلة للتحقيق ولا التكذيب في اي تجربة تقام، وذلك لوجود متوالية من السلسلة اللا نهائية، وبالتالي لا يوجد ضمان لوجود الحد في مثل هذه العلاقات الترددية . فعلى رأي البعض انه من الناحية المنطقية لا يمكن مشاهدة القيمة الحدية من العلاقة الترددية، ولا مشاهدة استقلالية كل الامكانات المتاحة للحوادث في السلسلة، انما كل ما يمكن لحاظه هو التعاقب المحدود للحوادث . لهذا ودفعاً لمثل تلك المشاكل فان البعض يرى ان الطريق الاسلم هو الاقتصار على التكرار المتناهي، خصوصاً وان كلاً من العلوم الطبيعية والاجتماعية تقوم على التسليم بمثل هذا النوع من التكرار . ولا شك ان هذا النقد لا ينطبق على نظرية ريشنباخ، ذلك انه لا يفترض صدق فكرة حد التكرار او الاحتمال، بل يعتبر انه لو كانت هذه الفكرة صادقة لكان الاستقراء دالاً عليها. وقد عرفنا ان طبيعة هذا الشرط قبلية، حيث لا يملك دليلاً عليه سوى التبرير النفسي المستمد من العادة المسندة الى الخبرات الماضية. كذلك فان هذه الفكرة تتضمن نوعاً آخر من الاحتمال، اذ انها تعني ان من المحتمل ان يكون هناك حد، مثلما من المحتمل ان لا يكون، ومن المحتمل ان نعثر على هذا الحد، مثلما من المحتمل ان لا نعثر عليه. فمن هذه الناحية انها تفضي الى افتراض نوع من الاحتمال القبلي الكيفي لتحدد به الاحتمال البعدي الخاص بالحد، وهي بالتالي تفسر الاحتمال بالاحتمال.
5 ـ ان تقدير النسبة الاحتمالية لأي مجموعة كانت من سلسلة الحوادث اللا نهائية تحتاج الى مصادرة تقرر صدق هذه النسبة في حدود ما اتيح لنا من البحث والفحص؛ مادامت هناك امكانية كبيرة لتعديل النسبة طبقاً لما تكشف عنه الاختبارات اللاحقة. وايضاً فان تعيين النسبة الاحتمالية ومن ثم تقديرها على الحوادث والافراد التي لم تخضع بعد للاختبار؛ يحتاج الى مصادرة قبلية تتعلق بالتعميم ولو كان تعميماً مؤقتاً، حيث أمامنا - هنا - حوادث اضفينا عليها حكماً معبراً عن نفس القيمة الاحتمالية للحوادث السابقة رغم ما بينهما من اختلاف، وهذا يقتضي افتراض مصادرة تبرر لنا التعميم من الحالات الماضية المختبرة على الحالات المستقبلية القادمة. فعلى سبيل المثال يمكن لشركات التأمين على الحياة ان تحصل على نسبة معينة من حوادث الموت خلال عشر سنوات، وهي حين تتعامل مع السنوات القادمة القريبة تستخدم نفس هذه النسبة، فكيف حق لها هذا التعامل ما لم تفترض التماثل او التكافؤ كأنسب اجراء مؤقت؟! وبعبارة اخرى ان تحديد النسبة الاحتمالية لتنبؤاتنا في القضايا التكرارية يعتمد في الاساس على افتراض تقدير عوامل متكافئة، وذلك لأن التكرار وحده وإن كان يعطي نسبة إحصائية للعلاقة بين الصفة المشتركة وجميع الحوادث التي تم إختبارها، الا أنه لا يمكنه تبرير الحكم بما نتنبأ به في الحوادث الواقعية، فليس لدينا ما يمكن أن يبرر هذا الحكم الا افتراض تقدير التكافؤ في العوامل طبقاً لتلك النسبة الاحصائية التي يحددها مبدأ التكرار. فعلى سبيل المثال: لو كانت لدينا إحصائية تخبر باصابة (5%) من سكان مدينة بمرض السل الرئوي، فاننا حينما نضفي نفس هذه النسبة على احتمال أن يكون زيد مصاباً بالسل؛ انما يعني أنه لو افترضنا وجود مائة من العوامل المتكافئة الدواعي فان خمسة منها فقط لصالح الاصابة. ولا شك ان هذا التفسير لا يبرره التكرار، وانما يبرره ما افترضناه من ذلك التكافؤ. ففائدة التكرار لا تزيد عن كونه يحدد لنا النسبة الاحصائية التي يعتمد عليها افتراضنا لتعيين القيمة الاحتمالية.
6 ـ كما يلاحظ ان النظرية التكرارية تفترض نوعاً من الاحتمال دون التمكن من تفسيره. فهي تصرح على شاكلة نظرية برنولي من انه عند الاختبارات الكبيرة فان هناك توقعاً باحتمال قريب من الواحد ان النسبة الاحتمالية تميل الى الحد التكراري، او انه كلما زادت الاختبارات كلما زاد التوقع او الاحتمال من ان النسبة الاحتمالية تميل الى الثبات. وهذا يعني ان النظرية التكرارية اذا كان بامكانها ان تفسر لنا الاحتمال بانه عبارة عن الحد التكراري فانها لا تفسر لنا الاحتمال الاخر الذي تقر به ضمناً عندما تقول ان هناك توقعاً واحتمالاً كبيراً جداً - قريباً من الواحد - من ان النسبة الاحتمالية تميل الى الحد، فهي لا تفسر لنا ذلك الاحتمال الكبير البالغ حد الاقتراب من الواحد، بل انها تفترضه سلفاً لتؤسس عليه الاحتمال الاخر. او يمكن القول انها تفسر الاحتمال بالاحتمال، الامر الذي يجعلها تقع اما في الدور او التسلسل او المصادرة على المطلوب.
7 ـ ان النظرية التكرارية لا يمكنها ان تفسر لنا الكثير من القضايا الاحتمالية. فهي عاجزة مثلاً عن تفسير قانون برنولي في الاعداد الكبيرة، حيث ان النسبة الاحتمالية التي يتنبأ بها هذا القانون لم تنشأ على اساس التكرار، بل جاءت نتيجة للتحليل الرياضي القائم على اساس مبدأ الامكان. وبغض النظر عن هذه النتيجة فانه ليس بوسع الانسان - عادة - ان يقيم التكرار في مثل تلك القضايا باعتبارها تتضمن الاعداد الضخمة من الحوادث والاختبارات. وحتى في الحالات التي يمكن للانسان ان يتعامل فيها مع هذه الاعداد فان اعطاء نتائج لا تتفق مع ما يتنبأ به قانون برنولي لا يجعلنا نشكك في كفاءته، بل يدعونا نتوقع سبب ذلك الى بعض الاسباب التي من شأنها حرف النتيجة عن مسارها المتوقع. وقد كان نيل يرى ان من الغباء الاعتقاد بان نظرية برنولي تحتاج الى التحقيق التجريبي، مثلما هو من الغباء صنع ذلك مع الحساب العددي: (7 + 5 = 12). فالنظرية تستند الى الضرورة الرياضية، وهي لا تعني ان النتائج تأتي يقينة، فلو رمينا قطعة نقد مليون مرة وظهرت الصورة ما يقارب النصف، فان ذلك مفسر، ولو انه لم تظهر قريبة من النصف وانما قريبة من الربع مثلاً فانه لا يعني خطأ نظرية برنولي، وذلك باعتبار ان كل الامكانات التوزيعية من الصفر الى الواحد محتملة، لكن بعضها اقوى من بعض . وعلى الرغم من ان بعض المؤيدين الاوائل للنظرية التكرارية يرى ان من الضروري رفض الحسابات الاحتمالية المقدمة من قبل برنولي وسائر الرياضيين من القرن الثامن عشر، وذلك لكون هذه الحسابات لها صلة وطيدة بمبدأ عدم التمييز، لكن مع هذا فان اكثر المدافعين المحدثين للنظرية التكرارية تقبلوا تلك الحسابات بعد اضفاء التصور التكراري عليها بعيداً عن مبدأ عدم التمييز .
8 ـ هناك من اعتبر في افكار ميزس شيئاً من الغموض واللبس. فرغم انه كان تجريبياً وحمل نظريته لتأسيسها على قوانين تجريبية مرئية، الا انه استخدم مفهوم سلسلة الحد التكراري ليشير به الى كل من المعنى الرياضي غير المتناهي والى مجموعة الحوادث الحقيقية المتناهية . ونجد الاستاذ كرامر (Cramer) رغم انه يتفق مع ميزس في كون نظرية الاحتمال هي فرع من فروع العلم التجريبي شبيهاً بالميكانيكا، الا انه لم يوافق على فكرة الحد التكراري الذي يفترض وجود حد ثابت كلما كانت حوادث نوع ما تميل الى اللا نهاية. فهذه هي المسلمة الاساسية الاولى في نظرية ميزس، وقد حسبها كرامر انها جذابة لاول نظرة، لكنها تتضمن صعوبات رياضية عند التحقيق . ولدى البعض انه يستحيل تحقيق السلسلة اللا نهائية للاختبارات، حيث ان النتائج التجريبية هي دائماً نهائية ومحدودة، فاعتبار فكرة (اللا نهاية) شرطاً لمعرفة القيمة الحدية للتكرار هو امر غير صحيح . وكذا فان الاستاذ برود قد شكك فيما لو كان يمكن ان يجد لهذه النظرية تطبيقاً خارج حدود الرياضيات المحضة، وذلك باعتبارها تتضمن العدد اللا نهائي من الاعضاء . ومثل ذلك ان برتراند رسل لم يتقبل فكرة اللا نهاية في نظرية التكرار في العلم التجريبي، معتبراً انها لا تصلح الا في الرياضيات المحضة. وعليه فقد رجح ان يكون ما يريده بعض رواد النظرية التكرارية، مثل ريشنباخ، لا يتعدى العدد الضخم من التكرارات والاختبارات . مع ان فكرة اللا نهاية بالمعنى الرياضي لا تقف عارضاً مشكلاً أمام ريشنباخ، وذلك لأنه لا يعتقد امكان تحقيق القيمة النهائية لنسبة حد التكرار، اذ يجعل ما تؤول اليه الاختبارات ضمن سلسلة مفتوحة هي التي تبرر افتراض الاعتماد على النسبة كشيء مرجح قابل للتغير والتعديل دون ان يكون هناك حد نهائي للمسألة . كما ان مذهب ميزس انما يتحدث عن الاختبارات الكبيرة ضمن السلسلة المفتوحة، ويعد هذه الاختبارات كفيلة بان تقربنا من الحد التكراري باضطراد.
9 ـ هناك من اعترض على ميزس لكونه قد جمع بين مسلمتين متناقضتين، هما الاقتراب من الحد وفكرة العشوائية، اذ كيف يمكن ان نضمن التوصل الى الحد الرياضي عن طريق العشوائية؟! فمن شأن العشوائية انها لا تتضمن لزوم الخضوع الى اي قاعدة وقانون رياضي. الامر الذي جعل البعض يستبعد العشوائية ويحتفظ بفكرة الحد فقط، مثلما فعل كامك (Kamke) . ومن وجهة نظر بوبر ان النقد السابق لا يخلو من صحة . لكن قد يقال ان ما يراد من العشوائية هو بمعنى الاستقلال بين الحوادث، وليس بمعنى الفوضى التي لا تخضع الى اي قاعدة وقانون.
10 ـ ظهرت هناك بعض التصورات التي استهدفت اصلاح نظرية التكرار ونقدها، كما هو الحال مع نظرية بوبر الذي ذكر بانه سوف يستخدم التصور الموضوعي للاحتمال بشكل اوسع مما هو مستخدم، ويشمل كل التفسيرات الموضوعية للاحتمالات كالنظرية التكرارية، وكذا ما هو اكثر تخصيصاً والذي اطلق عليه التفسير الميلي، فنظريته تغطي كلا التفسيرين التكراري والميلي . وقد حاول بوبر ان يفسر الحوادث الموضوعية من خلال اعتبار ان لها ميلاً واستعداداً للظهور حسب الشروط الخاصة، فعندما تكون لدينا رميات معتدلة لقطعة النقد فان لظهور وجه الصورة - مثلاً - ميلاً للاقتراب شيئاً فشيئاً عند قيمة معينة، كأن يظهر الوجه خلال (1000) رمية (550) مرة، لذا يكون الميل للرمية المفردة نفس القيمة السابقة، اي (55%)، فهذا الميل هو لصالح ظهور الصورة حتى لو لم نرم قطعة النقد، فهو ميل للاشياء الموضوعية لان تسلك تلك الطرق المعينة . فالاحتمال عند بوبر يصف سلوك الاشياء الخارجية تحت شروط وظروف معينة بان لها ميلاً نحو قيمة محددة. فعندما تتحدد قيمة احتمال ان يكون كل وجه من وجوه قطعة الزهر (1-6)؛ لا يعني انها جاءت نتيجة رمي القطعة عدد من المرات، فحتى لو لم ترم القطعة ولا مرة واحدة فان صفة الميل تظل موضوعية طبقاً للظروف والشروط الخاصة، اذ يمكن التعرف على الصفات الفيزيائية للقطعة ومنه ندرك - مثلاً - حالة التماثل بين وجوهها الستة، فيتحدد الاحتمال تبعاً لذلك، بل ويتصف بصفة الميل موضوعياً . هكذا ان بوبر وخلافاً لمدرسة التكرار النسبي يتقبل تحديد احتمال الحادثة الفردية. بل ويرى ان من الممكن التمييز بين مصدرين رئيسيين لتقديراتنا الفرضية، الاول منهما مؤسس على افتراض تساوي المصادفة او الاحتمال، اما الاخر فمؤسس على الملاحظات الاحصائية. وبخصوص الاول فالمقصود به هو ان احتمالات الصفات الاولية تكون متساوية عند التماثل بينها، وافضل مثال على ذلك لعبة الزهر المتماثل الوجوه. اما الاخر فمؤسس على الاحصاء، ومثاله احصاءات الوفيات، فهنا ان البينة الاحصائية حول الوفيات هي من الناحية التجريبية مؤكدة، وطبقاً لهذه الفرضية فان الميل السابق سوف يستمر الى ان يكون قريباً جداً على ما كان . وقد اعتبر بوبر ان العلاقة بين الاحتمال والتكذيب علاقة عكسية كلما ازداد احدهما انخفض الاخر. فالنظرية التي يكاد يستحيل تكذيبها هي تلك التي تشتمل على احتمال كبير جداً لأن تكون حقيقة، اي انها لا تقول شيئاً عن العالم، وبالتالي تصبح عديمة الفائدة كنظرية علمية. اي انها تصبح غير قابلة للتكذيب ولا المراجعة والتحقيق، وذلك لنفس الاسباب الخاصة بالظروف ذات النتائج غير التجريبية. فمثلاً ان النسبة الاحتمالية المحددة تبعاً للتكرار الطويل تظل صحيحة ثابتة على الدوام، مما يجعلها غير قابلة للتكذيب. وعلى عكس ذلك عندما يكون الاحتمال غير ثابت للفرض العلمي فانه يمكنه ان يقول شيئاً عن العالم ويصبح اكثر قابلية للتكذيب، ولا شك ان الاحتمال في هذه الحالة يكون اقل مقداراً عن الاحتمال الاول، وهو ما ينفع في الطرق العلمية . مع انه يؤخذ على بوبر انه يتعامل مع نوعين مختلفين من الاحتمال، احدهما هو التقدير النسبي، سواء ذلك الناتج عن التكرار الطويل، او الناتج عن الاختبارات الاولية، والاخر هو الاحتمال الذي يتقوم به التقدير النسبي، بمعنى اننا نقدر الاحتمال النسبي تبعاً لاحتمال آخر نطلق عليه تعابير مختلفة، كإن نقول هناك احتمال كبير او ظن يقارب اليقين بأن النسبة الاحتمالية تقدر بنصف مثلاً. كما يمكن ان نطلق على هذا الاحتمال بالميل، وبالتالي انه اذا كان بوبر قد فسر الاحتمال النسبي تبعاً للميل، فان الميل ذاته يتضمن احتمالاً آخر يحتاج الى التفسير. فمثلاً لو عرفنا عبر التكرار الطويل ان النسبة الاحتمالية لظهور وجه الصورة لقطعة نقد تميل الى درجة النصف تقريباً، فقد نسأل عن مدى ثقتنا بهذه النسبة الاحتمالية، وعندها يمكن ان نجيب بأننا على ثقة بظن كبير جداً بأن ظهور الصورة يميل الى تلك النسبة، فهذا التعبير ذاته عبارة عن نوع من الاحتمال لا يخضع للتقدير النسبي او الكمي. وبالتالي فانه اذا كانت نظرية بوبر تفسر النسبة الاحتمالية تبعاً للميل، فان الميل هنا يتضمن احتمالاً اخر ليس من صنف الاحتمالات الموضوعية ولا يخضع للاعتبارات الكمية. وعلى العموم فان نظرية بوبر رغم انها تتسع لتفسير مختلف الاحتمالات الموضوعية، لكنها ترفض الاعتراف بالاحتمالات الاخرى التي لها صيغ ذاتية ومنطقية، كما انها تعجز عن ان تفسر الاحتمالات الكيفية رغم انها اساس تكوين الاحتمالات الاولى. وهناك من اعترض على بوبر في تبنيه للنظرية التكرارية، حيث انها تقود الى صعوبات في تحديد احتمالات الفروض. فعدد الامكانات في الكون لا متناهي، وعليه اذا حاولنا ان نحدد الاحتمال كنسبة بين عدد الحالات الملائمة للفرضية الى العدد الكلي من الامكانات الموجودة فان النتيجة ستكون اما صفراً، او على احسن الاحوال انها غير محددة . مع ذلك يمكن ان يجاب بجوابين، احدهما في حالة ما اذا كنا لا نعد تأثيراً مطلقاً للحالات المختبرة على غير المختبرة، حيث لا نعلم شيئاً عن الحالات غير مختبرة، وبالتالي فانها مجهولة التحديد، ولو شئنا ان نستعين بالتقديرات الاحتمالية الذاتية فان ذلك يفرض علينا ان نعتمد على معرفة امكاناتها الفعلية، فلو كان لها امكانان مثلاً فان احتمال احدهما سيساوي احتمال الاخر تبعاً لمبدأ عدم التمييز. وفي هذه الحالة سوف لا نقع بالنتيجة الصفرية كالذي يفترضه الإشكال المذكور. لكن يظل ان هذه الحالة ليست صحيحة كما سنعرف فيما بعد. اما الطريقة الاخرى المتأثرة بالحالات المختبرة، فمن الواضح انها تجعل من الناتج الذي نحصل عليه قيمة احتمالية تقدر به النسبة للحالات غير المختبرة، وذلك على شكلين، احدهما فيما لو علمنا بالتماثل بين الحالات المختبرة وغير المختبرة، الأمر الذي يجعل النسبة الاحتمالية فيها ثابتة على الدوام تقريباً، اما الاخر فهو فيما لو علمنا بعدم التماثل، وفي هذه الحالة ليس بوسعنا الا التقدير المؤقت للناتج الذي حصلنا عليه، وهو مبرر كاجراء مؤقت قابل للتعديل. وفي جميع الاحوال ان ذلك لا يجعل من نظرية بوبر او غيرها من النظريات تقع في الناتج الصفري كالذي يريد ان يثبته الإشكال السابق. مع ما يؤخد على نظرية بوبر بان فكرتها الخاصة بالميل، هي مثل فكرة الوصول الى الحد، تعد من المصادرات القبلية المنافية لمزاعم النظريات الموضوعية التي تدعي عدم الاستعانة بالافكار القبلية والذاتية.
المفهوم التعددي للاحتمال اعتقد عدد من الباحثين بان هناك نوعين من الاحتمال، احدهما ذاتي عائد الى جهل الانسان، واخر موضوعي له علاقة بالحوادث، وهو يعبر عن نسبة محددة موضوعياً، كالحوادث الفيزيائية والذرية، ولا علاقة له بالجانب الذاتي للانسان . وربما يكون رامسي هو اول من اشار الى حقيقة وجود نوعين من الاحتمال، كل منهما يعالج جانباً لا يعالجه الجانب الاخر، وهو الاحتمال المنطقي والاحتمال الاحصائي او الفيزيائي؛ معتبراً انه ليس من المؤكد ان يكون هناك توافق وانسجام بين هذين النوعين، خاصة وان هناك خلافاً عاماً بين الاحصائيين الذين تبنوا النظرية التكرارية من جهة، وبين المنطقيين الذين رفضوا تلك النظرية من جهة اخرى، وهو الخلاف العائد الى طبيعة المعنى الذي يشير اليه مصطلح (الاحتمال)، حيث يستخدمه احد الفريقين بمعنى غير ذلك الذي يستخدمه الفريق الاخر. الامر الذي جعل رامسي لا يأخذ باعتبار ما صرح به من ثنائية المفهوم، بل تبنى فكرة الاحتمال المنطقي، اي فكرة درجة الاعتقاد العقلي، كمصدر وحيد له. ففي عبارة كتبها عن المصادفة (سنة 1928) انكر فيها ان يكون هناك احتمالات موضوعية سوى ما يتعلق بذلك المعنى من درجة الاعتقاد العقلي . اما ابرز من نفى ان يكون الاحتمال احادي المفهوم فهو كارناب، حيث اعتبر ان من الواجب الاعتراف بوجود نوعين من الاحتمال، احدهما منطقي واخر تكراري، ويطلق على هذا الاخير احياناً الاحصائي والفيزيائي. وقد سبق لهذا المفكر ان نقد كلاً من كينز وجيفريز الذين رفضا التصور التكراري او الاحصائي للاحتمال، حيث ظنا ان كل قضايا الاحتمال يمكن تأسيسها وصياغتها وفق مفهوم الاحتمال المنطقي. واعتبر كارناب انهما غالا بالامر، واضاف بان هناك تزايداً في عدد الاشخاص الذين يدرسون كلا الجانبين من النزاع والدعوى، حتى انتهوا الى صحة كل منهما من بعض الجوانب دون الاخرى. فالتصور الاحصائي يستفاد منه في الرياضيات والعلوم، ولا يصح هجره واستعاضته بالتصور المنطقي، وكذا العكس صحيح ايضاً، فكلا التصورين يحتاجهما العلم، لكن وظيفتهما مختلفة تماماً. فالاحتمال الاحصائي يصف حالة الشيء الموضوعي، فيزيائية او بيولوجية او اجتماعية، وبالتالي فهو تصور يستعمل في الحالات الخاصة وفي القوانين التي توضح الاطرادات العامة لمثل هذه الحالات. لكن من ناحية اخرى فان الاحتمال المنطقي لا يستخدم في القضايا العلمية، سواء الخاصة منها او العامة، بل يستفاد منه فقط في الاحكام التي لها علاقة بمثل تلك القضايا، وبالذات الاحكام التي تتعلق بالقوة المستفادة من البينة الى الفرضية، فالاحتمال المنطقي لا ينتمي الى العلم نفسه وانما الى المنهج العلمي . وقد اطلق كارناب على هذا النوع الاخير من الاحتمال بالاستقرائي، حيث عليه ينشأ ما سماه (المنطق الاستقرائي) . كما عبّر عنه بالاحتمال1، وعن الاحتمال التكراري بالاحتمال2. وهو يقصد بالاول نفس ما يعنيه كينز من انه عبارة عن درجة التأييد الخاصة بفرض ما تبعاً لوجود بينة هي سبب هذه الدرجة من التأييد. ويستخدم هذا النوع من الاحتمال للتنبؤ. فمثلاً يمكن القول ان من المحتمل بحسب تجاربنا الماضية ان الشمس ستشرق غداً، وانه بحسب تجاربنا السابقة يمكن ان نقيّم نظرية الانفجار العظيم لنشأة الكون بانها قوية الاحتمال، فنحن هنا نتحدث عن احتمال فرضية ما بحسب ما لدينا من بينات وادلة مؤيدة. اما الاحتمال الاخر التكراري، فهو يتضح من النسب الترددية التي نستنتجها في حالات معينة كالعاب الحظ والمصادفة، او في حالات علمية مثل احتمالات سرعات جزيئات الغاز وما اليها . وابسط حالات هذا النوع من الاحتمال هو المعنى المفاد من التكرار النسبي لنوع معين من الحوادث، لكن في حالات اخرى ان الاحتمال الاحصائي لا يشير الى وجود تكرار ملحوظ او حقيقي، وانما الى شيء جائز حصوله، او يحتمل ان يكون. فمثلاً عند الفحص الفيزيائي لقطعة زهر بشكل جيد قد يتضح انه متماثل الوجوه تماماً، وعند ذلك يمكن الزعم بان احتمال اي من الوجوه هو (1-6)، وهو يعني انه عند السلسلة الطويلة بشكل كاف من الرميات فان التكرار النسبي لاي وجه من هذه القطعة سيكون (1-6). وبالتالي فان قضية الاحتمال هنا تشير الى التكرار الممكن اكثر مما هو الى التكرار الحقيقي. ونفس الشيء يمكن فعله حتى لو لم يكن الزهر متماثل الوجوه، فعند الفحص القبلي يمكن ان يكون الاحتمال المعطى صحيحاً، وبالتالي نحن نتحدث هنا عن القضية التي تشير الى حالة فيزيائية تخص الزهر ، وان الحكم فيها هو حكم واقعي تجريبي. على انه اذا كان الاحتمال التكراري يتحدث عن الواقع الفيزيائي وهو يقبل التحقيق ولا علاقة له بجهل الانسان واعتباراته العقلية، فان الاحتمال المنطقي لا يتحدث عن الواقع ولا يقبل التحقيق، وانما له علاقة بالبينة المستمدة من بعض الملاحظات التي تتعلق بالواقع، لذا فان ما يتكون لدى زيد من الناس من درجة معينة للاحتمال قد لا يكون نفس الامر بخصوص عمر من الناس، لاختلاف البينات المتواجدة عندهما، ومع ذلك فدرجة الاحتمال لدى كل منهما تعد صحيحة نسبة للبينة الخاصة بكل منهما، وليس لها علاقة بالواقع، وهي صحيحة ايضاً حتى لو كانت البينة المستمدة من الواقع خاطئة، اذ تظل العلاقة منطقية بين البينة ودرجة الاحتمال من غير ان يكون لذلك علاقة مباشرة بالواقع. او نقول انه يمكن للقيمة الاحتمالية للقضية المنطقية ان تتغير تبعاً لتغير الحوادث، او البينات التي تعتمد عليها، ومن ثم يجوز هجر درجة الاحتمال السابقة واستبدالها باللاحقة . وكل ذلك يعد خلافاً لحال قضية الاحتمال التكراري الذي يعبر عن العلاقة الترددية في سلسلة طويلة من الحوادث، او عن العلاقة في ما يتصف به واقع الحوادث فعلاً. فالاحتمال المنطقي الاستقرائي يتعلق بالقضايا التنبؤية، او تلك التي نجهل حقيقتها، مثل التنبؤ بحادثة مستقبلية، كطبيعة الطقس غداً، او بما ستفضي اليه الانتخابات القادمة، او الافتراض المتعلق بالسبب غير المرئي لحادثة مرئية.. الخ. ومن الواضح ان هذا النوع من الاحتمال ليس تكرارياً او احصائياً، بل له طبيعة منطقية خالصة . صحيح ان كارناب واجه مشكلة تتعلق بمثل هذه الحالات الفردية من القضايا الاحتمالية، ولم يجد بداً من تفسيرها تبعاً للنوع المنطقي من الاحتمال، اذ كتب يقول: (يستخدم مفهوم الإحتمال الإستقرائي (المنطقي) ايضاً في الحالات التي يكون فيها الفرض h تنبؤاً متعلقاً بحادث مستقل، مثلاً ان السماء سوف تمطر غداً، او ان الرمية التالية لهذا النرد سوف تكون آساً.. قد يقولون مثلاً: (كيف يمكن تحقيق نص يقول بأن احتمال سقوط المطر غداً هو (1-5) بناءً على الدليل من مشاهدات الظواهر الجوية؟) سوف نشاهد ما اذا كانت السماء ستمطر غداً ام لا تمطر، ولكننا لن نشهد أي شيء يمكنه ان يدقق القيمة (1-5). الا ان هذا الاعتراض مبنيّ على سوء ادراك لطبيعة النصوص المتعلقة بالاحتمال الاستقرائي (المنطقي). فهذا النص لا يعطي قيمة (1-5) للاحتمال الاستقرائي (المنطقي) لمطر الغد، ولكن يعطيه بالأحرى للعلاقة المنطقية بين التنبؤ بالمطر وبين التقرير الخاص بالظواهر الجوية) . اذن ليس للنظرية المنطقية لكارناب صعوبة في ان تتحدث عن الحوادث الفردية، وهي بخلاف النظرية التكرارية التي ترفض ان يكون هناك معنى للحديث عن احتمال الحالات الفردية ما لم يكن الطريق الى ذلك عبر الحديث عن التكرار النسبي لمجموعة الحوادث، كالذي سلّم به ريشنباخ، حيث تحدث عن الاحتمال في الحالات الفردية بطريقة غير مباشرة . وقد اعتبر كارناب ان احد المبادئ الاساسية التي يحتاجها الاحتمال المنطقي الاستقرائي هو ذلك المسمى مبدأ عدم التمييز، والذي ينص - كما علمنا - بانه اذا لم تتضمن البينة اي شيء يؤيد حادثة ما دون غيرها من الحوادث الممكنة، اي اذا كانت معرفتنا متماثلة بالنسبة الى جميع الحوادث، فانها ستكون ذات نسب احتمالية متساوية. فمثلاً اذا كانت البينة تعبر عن ان معرفتنا بان قطعة الزهر تحتوي لا شيء اكثر من كونها منتظمة ومتماثلة الوجوه، فان احتمال اي وجه منها طبقاً لهذه البينة هو (1-6). وكذا لو علمنا ان احد الوجوه لا على التعيين بانه يحمل ثقلاً يجعله اكثر احتمالاً للظهور، فان احتمال كل واحد منها سيساوي (1-6) ايضاً، وذلك باعتبارنا لم نعلم بالضبط اي معلومة اخرى غير هذا الاجمال، وبالتالي فمبدأ عدم التمييز صحيح ونافع في مثل هكذا حالات منطقية، طالما يمكن تقييده بما فيه الكفاية، وذلك تجنباً من الوقوع في النتائج المتناقضة كالتي شهدناها لدى التصور التقليدي للاحتمال . على ان الجديد في نظرية كارناب هو الجمع والتوفيق بين النوعين السابقين للاحتمال. فالاحتمال1 ليس مجرد احتمال يعبر عن درجة التأييد لفرض ما، وانما ايضاً عبارة عن تقدير للعلاقة الترددية في السلسلة الطويلة للحوادث. فكارناب يقول انه في حالات معينة ان الاحتمال1 يمكن ان يتخذ كتقدير للاحتمال2 . فالعلاقة بينهما هي علاقة يعتمد فيها احدهما على الاخر، فهناك قضية الاحتمال الامبيريقية الكمية، وهي من حيث كونها منتزعة عن الواقع فانها تصلح ان تكون بينة في تأسيس قضية الاحتمال المنطقية، حيث يمكن في هذه القضية تقدير الكم الاحتمالي تبعاً لتلك البينة . وكذا يمكن العكس، اذ لو اظهرت التكرارات ان قياسنا للاحتمال1 ليس دقيقاً لكان يمكن تغيير نسبة الاحتمال1 طبقا للاحتمال2 . وواقع الحال أنه في هذه الحالة يتحول الاحتمال2 الى الاحتمال1، باعتباره يعبّر عن بينة من القضايا الواقعية، كالذي يشير اليه كارناب . فمثلاً في قطعة الزهر عندما يتبين لنا انها ذات شكل منتظم ومتماثل من خلال الفحص التجريبي، فان هذه البينة تدعونا الى ان نعتبر كل وجه له قيمة احتمالية هي (1-6)، كنسبة تكرار ممكنة، حيث لا يوجد ما يرجح بعض الوجوه على البعض الاخر، وعليه فان القيمة السابقة تعبر عن الاحتمال2. وكذا لو تبين لنا خلال الرميات الكبيرة ان ظهور الآس (1) كان له نسبة محددة كإن تكون (1-7) مثلاً، فان ذلك يشكل ما يطلق عليه الاحتمال2 ، وهو الاحتمال الذي يلعب دور البينة بالنسبة الى تقدير الاحتمالات المستقبلية، فتقدير احتمال ظهور الآس (1) في الرميات المستقبلية لهذه الزهرة هو (1-7)، وهو ما يطلق عليه الاحتمال1. اي ان الاحتمال1 عبارة عن تقدير للاحتمال2 ، وهذا التقدير خاضع للتغيير فيما لو تبين عبر التكرار الفعلي ان ظهور الاس ليس تلك القيمة وانما اكبر او اصغر منها. ومثلاً اخر لو اردنا ان نعرف نسبة الطلاق عند المتزوجين لدى مليون حالة زوجية في سنة محددة، وقد استخبرنا عدداً منهم وليكن الف حالة فتبين من خلالها (200) من هذه الحالات قد شملها الطلاق، لذا فطبقاً لهذه البينة فان نسبة الطلاق في هذا العدد هو (1-5)، وهذا هو الاحتمال2، فعلى هذا الاحتمال يتأسس الاحتمال1، وذلك من حيث كونه عبارة عن تقدير هذا الاحتمال على اي مجموعة من المجموعات غير المختبرة، بما في ذلك كل المجموعات التي تمثل المليون. هكذا انه عندما نقارن نظرية كارناب بالنظرية التكرارية السابقة، نرى انها تسعى الى تفكيك هذه الاخيرة وتحويلها الى ان تتضمن نوعين مختلفين من الاحتمال بدل ان تقتصر على نوع واحد فحسب، فهي تتفق معها ان النسبة التكرارية تعبر عن الاحتمال التكراري، لكنها تعارضها حول النسبة المضفاة على الحوادث غير المختبرة بعد، فاذا كانت النظرية التكرارية تضفي عليها نفس النسبة من دون ان تجد فرقاً في نوع الاحتمال الممارس لدى الجهتين، فان نظرية كارناب ترى ان النسبة الاحتمالية المفترضة على تلك الحوادث تعود الى نوع اخر من الاحتمال غير الاحتمال التكراري السابق. كذلك فانه اذا كانت النظرية التكرارية كما لدى ميزس تتجنب الحديث عن احتمالات الحادثة المفردة المستقبلية، فان نظرية كارناب يسعها التحدث عنها من منطلق الاحتمال المنطقي. وعلى العموم ان نظرية كارناب ترى ان كل فرض تنبؤي يشار اليه ببينات من الشواهد والاستدلال فهو يرجع الى الاحتمال1 (المنطقي)، حيث النسبة فيه تقاس الى ما تخبرنا به تلك البينات. أما الاحتمال2 (التكراري) فهو عبارة عن تلك النسبة الترددية الثابتة التي تأتي عبر سلسلة التكرارات الطويلة المختبرة، او عبر ما يطلق عليه كارناب التكرار الممكن، كما رأينا.
نقد النظرية على الرغم من اهمية نظرية كارناب في تبرير القيم الاحتمالية التي نضفيها على سلسلة التكرارات للحوادث؛ فان هناك عدة مشاكل تواجهها، وبنظر الاستاذ اير انه لا معنى لنقد التفاصيل التي تخص هذه النظرية، وذلك باعتبار ان كارناب اخذ يغير من ارائه، وكذا فان اتباعه اخذوا يصلحون من نظريته . لكن يظل هناك عدد من النقاط يمكن مناقشتها كالاتي: 1 ـ يلاحظ انه اذا كان الاحتمال التكراري يتقدر عددياً، فان الاحتمال المنطقي الاستقرائي يعالج بالقيم الكيفية دون القيم العددية في اكثر الحالات الحياتية والعلمية، كأن توصف القضية بانها ضعيفة الاحتمال، او توصف مقارنة بغيرها انها اقوى احتمالاً من الاخرى، وهكذا . وعلى رأي عدد من المفكرين المحدثين فان درجة التأييد وما يرادفها مما يطلق عليه درجة التوافق او القبول او المعقولية او غيرها مما يعود الى الاحتمال المنطقي؛ كلها لا تخضع لقوانين الاحتمال وحساباته، وبالتالي فانها تعد بنظر الكثيرين غير احتمالية، ومن الذين اثاروا هذا النقد بوبر وفون رايت وكيندال وغيرهم .
2 ـ يمكن اعتبار قضايا الاحتمال التكراري التي تنتزع عن الواقع بمثابة بينة للفرض الخاص بالاحتمال المنطقي، وهنا يمكن ارجاع الاحتمال التكراري الى الاحتمال المنطقي، وذلك باعتبار ان هذا الاخير يتقوم بحسب البينة وعلاقته بالفرض. ومن ثم فما هو الفارق الجوهري بين الاحتمالين؟ ذلك انه يمكن ان نعتبر الاحتمال واحداً هو الاحتمال المنطقي، وان النسبة التكرارية لا تعد من الاحتمال، بل هي بينة خاصة لتقدير الاحتمال المنطقي للفرض.
3 ـ ان البينة التي يتكئ عليها الاحتمال المنطقي، بل والتكراري ايضاً، هي في حد ذاتها لما كانت تحمل امكانات الخطأ، فانها عبارة عن قضايا قائمة على الاحتمال، اي انها تعتمد على بينة اخرى تؤكد صدقها واعتبارها. واذا كانت نظرية كارناب وغيرها من النظريات السابقة يمكنها ان تفسر لنا الاحتمال المنطقي والتكراري من حيث الرجوع الى ما يعطيه الواقع من بينات، فانها بذلك تصادر سلفاً الاحتمال الخاص بالبينة وتسكت عنه، وكأنها بهذا تفسر الاحتمال بالاحتمال. فما هو نوع الاحتمال الذي يتعلق بالبينة ذاتها، وما هو الفرق بينه وبين الاحتمالين الاخرين المنطقي والتكراري؟
4 ـ ان نظرية كارناب لا يمكن تطبيقها على الاحتمالات الافتراضية كتلك التي تفسر لنا الاحتمالات الخاصة بقضايا السببية، اذ انها ليست تكرارية ولا مستمدة من الواقع مباشرة، وذلك على شاكلة ما تبين لنا في نقدنا للنظرية التكرارية. فهي على هذا لا من الاحتمال1، ولا من الاحتمال2. كما هناك من القضايا الاحتمالية ما لا تعتمد على البينة، ولا انها نتاج التكرار النسبي، بل هي قضايا احتمالية قبلية.
5 ـ هناك من اعتبر وجود انواع مختلفة للاحتمال اكثر مما ذكره كارناب. فالاستاذ آير اعتبر هذه الانواع ثلاثة، احدها الاحتمالات القبلية كالذي يجري عليها حساب المصادفات مثلما هو الحال مع العاب الحظ والمصادفة. وثانيها الاحتمالات التكرارية والاحصائية، وثالثها الاحتمالات ذات احكام التأييد (Judgements of Credibility)، وهي تخص الحوادث الخاصة التي لا تخضع للتقادير الرياضية، كاحتمالاتنا لطبيعة الطقس ليوم غد وما شاكلها . كما عدّ الاستاذ ماكي وجود ما لا يقل عن خمسة انواع للاحتمال اغلبها لا ينطبق عليه ما ذكره كارناب، حيث احدها يأتي بالمعنى الحياتي المألوف حينما نقول ان هذا محتمل، او ان هذا متوقع الحدوث، او غير ذلك. وثانيها يأتي بالمعنى القياسي كالذي عليه التعريف التقليدي للاحتمال، وهو انه نسبة بين عدد الحالات الممكنة الملائمة الى جميع الحالات الممكنة الكلية. وثالثها يأتي بمعنى العلاقة المنطقية بين البينة والفرضية، وهو المطلق عليه الاحتمال1 لدى كارناب، والمسمى بدرجة التأييد. ورابعها يأتي بالمعنى التكراري بكلا شقيه المتناهي وغير المتناهي، وهو ينطبق ايضاً على ما يطلق عليه كارناب الاحتمال2 . وخامسها يأتي بمعنى مصادفات الحادثة الموضوعية المفردة .
#يحيى_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (2)
-
نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (1)
-
موقف الفلاسفة التقليديين من فهم النص
-
نظرية المقاصد ونقدها
-
موقف الخطاب الديني من غير المسلمين
-
عقل: عربي أم إسلامي؟
-
الخطاب الديني والتفكير الوقائعي
-
التراث المعياري وصراع الأصول المولّدة
-
الاصول المولدة في علم الكلام
-
كيف نقرأ التراث؟
-
أربعة مواقف للفلاسفة والعرفاء من النص الديني
-
بين الفهم المجمل والمفصل للدين
-
ديفيد هيوم ومشكلة الاستقراء
-
الوضعية المنطقية وقضايا المعرفة
-
إشكالية تغيير الأحكام الشرعية
-
التشريع الديني وتغايراته
-
شواهد لأثر الواقع على تغيير فهم النص الديني
-
نظرية كارل بوبر والقضايا العلمية
-
التغيير الفقهي وأنماطه الواقعية
-
مصادر المعرفة الإسلامية: النص.. الواقع.. العقل
المزيد.....
-
مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
-
من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين
...
-
بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين
...
-
الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب
...
-
استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
-
لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
-
روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
-
-حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا
...
المزيد.....
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
المزيد.....
|