أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (3)















المزيد.....



إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (3)


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 3091 - 2010 / 8 / 11 - 02:09
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 2-8 أغسطس 2010
(13)
في ما تقدَّم، ولأجل دحض مزاعم صحيفة (التيَّار) بأن الحزب الشِّيوعي السوداني شموليُّ النزعة، وأنه كان يعدُّ للإنقلاب على الديموقراطيَّة الثالثة، عام 1989م، لولا أن الجَّبهة الاسلاميَّة (استبقته!) بانقلابها هي في 30 يونيو، عُدنا بالأستاذ عثمان ميرغني، وبصحيفته، وبالقرَّاء عموماً، إلى بواكير التكوين الفكري، والسِّياسي، والتنظيمي للحزب، فرأينا كيف أن المكانة العليَّة التي شغلتها قضيَّة الديموقراطيَّة، ضمن هذا التكوين، هي التي كانت، منذ فجر الاستقلال، وراء أطروحتيه حول "الحكومة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة"، و"الانتقال المتدرِّج إلى الاشتراكيَّة"، بكلِّ ما تحملانه من دلالات المرونة والواقعيَّة، الأمر الذي حصَّن برنامج مؤتمره الثالث، في فبراير 1956م، حسبما لاحظ نقد، من الانزلاق إلى النصِّيَّة المطلقة، والتأويل السَّلفي للكلاسيكيَّات الماركسيَّة، خصوصاً ما اتصل منها بشعار "تحطيم جهاز الدَّولة القديم وبناء الجِّهاز الجَّديد"، أو بشعار "ديكتاتوريَّة البروليتاريا"؛ حيث استعاض عن الأوَّل بشعار واقعي ممكن التحقيق في ظروف السودان هو "إصلاحات ديموقراطيَّة في جهاز الدَّولة"؛ كما وأن مصطلح "ديكتاتوريَّة البروليتاريا" لم يُستخدم، قط، لا في ذلك البرنامج، ولا في وثائق اللجنة المركزيَّة خلال الفترة (1956م ـ 1967م)، ولا في تقرير المؤتمر الرَّابع (الماركسيَّة وقضايا الثورة السودانيَّة ـ أكتوبر 1967م)، ولا في الدُّستور الذي أجازه ذلك المؤتمر؛ وبالتالي ما من مسوِّغ نظري أو سياسي يجيز استخدامه في أدبيَّات الحزب مستقبلاً.
هكذا، وعلى حين يمكن، بطبيعة الحال، الاختلاف مع الحزب حول جدوى (الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة) نفسها، القائمة على الحُرِّيَّات والحقوق، فإن جدِّيَّة توق الحزب، ونزوعه، إلى هذه الديموقراطيَّة، لا يمكن أن تكون محلَّ مغالطة، حيث ظلَّ أداؤه، منذ الدِّيموقراطيَّة الأولى (1954م ـ 1958م)، يشير إلى ذلك بأكثر من إصبع، فى مواجهة الخروقات التى ظلت تتعرَّض لها، للمفارقة، على يد ذات القوى التى كان يفترض، نظريَّاً، أن تكون أكثر تمسُّكاً بها، والتزاماً بمبادئها، من الشِّيوعيين! مع ذلك، بقيت جُلَّ المسئوليَّة ملقاة، في إطار هذا الوضع المقلوب، على عاتق الحزب الذي ظلَّ يدعو، بإخلاص ودأب مشهودين، إلى سنِّ التشريعات، وصياغة البرامج، واتخاذ الترتيبات التي من شأنها أن تكفل مساحة أرحب لنشاط الجَّماهير، ومشاركتها الفاعلة فى إدارة شئون البلاد، حتى لا تتحوُّل قضيَّة الحُرِّيات والحقوق إلى محض شعارات خاوية، ولا تنحبس الصِّراعات الفكريَّة والسِّياسيَّة في الحلقات القياديَّة الحزبيَّة وحدها، بعيداً عن الرَّقابة والمشاركة الدِّيموقراطيَّة للجَّماهير، مِمَّا يعرِّض النظام، بل والاستقلال الوطني نفسه، لخطر الانهيار الشَّامل. ونكتفي، على هذا الصَّعيد، بسوق ثلاثة أدلة من تلك الفترة.

(14)
الدَّليل الأوَّل: من حادثة (جودة)، إبَّان حكومة أزهري الأولى، بعد بضعة أسابيع من إعلان الاستقلال، حيث استشهد 25 مزارعاً رمياً بالرُّصاص، وحوالي أكثر من مئة بالاختناق في (عنبر) ضيِّق سيِّئ التهوية تمَّ اعتقالهم فيه، كما أصيب 86 آخرون بإصابات خطرة، وذلك لمجرد أنهم تجمَّعوا أمام مكتب (مشروع جودة) الخاص لزراعة القطن فى كوستي على النيل الأبيض، مطالبين بمراجعة استحقاقاتهم!
إحتجاجاً على ذلك العنف استنهضت الجَّبهة المعادية للاستعمار حركة شعبيَّة واسعة، قوامها تنظيمات العمَّال، والطلاب، والمحامين، والصَّحافة المستقلة، وغيرها. لكن الحكومة (الدِّيموقراطيَّة!) ردَّت بالمزيد من (عنف الدَّولة) على ذلك الحراك الذى لم يعتمد سوى أساليب التعبير الدِّيموقراطي السِّلمي المعهودة، فأقدمت على اعتقال قياداته، وفي مقدِّمتهم رموز الجَّبهة المعادية للاستعمار، ومحاكمتهم جنائيَّاً، والزَّجِّ بهم فى غياهب السُّجون. لقد رسبت آثار تلك الأزمة في الجانب السَّلبي من الحياة السَّياسيَّة (القدَّال؛ معالم ..، ص90)، ووصفها أكاديمي غير شيوعي بأنها "تمثل الفشل المستمر للمجموعة المسيطرة على الحكم في حلِّ التناقضات مع المزارعين بأسلوب ديموقراطي" (تيسير محمد احمد؛ زراعة الجُّوع في السودان ـ ضمن المصدر).

(15)
الدَّليل الثانى: من موقف الحزب إزاء الصراعات داخل القوى التقليديَّة، خلال تلك الفترة، مما عرَّض جنين الدِّيموقراطيَّة للإجهاض. فالصِّراعات التي بدأت إرهاصاتها، مثلاً، داخل الحزب الوطني الاتحادي، خلال فترة الحكم الذاتي (1954م ـ 1956م)، ما لبثت أن انفجرت بعد الاستقلال، ثمَّ سرعان ما تفاقمت باستقالة 21 من نوَّابه الذين أعلنوا عن تكوين حزب الشَّعب الدِّيموقراطي، وأخيراً توِّجت بلقاءٍ، بعد طول قطيعة، بين السَّيِّدين علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي، في ما عرف حينها بـ (لقاء السَّيِّدين)، ما أدى ليس فقط إلى إسقاط حكومة الأزهري في يوليو 1956م، بعد ستة أشهر فقط من الاستقلال، بل وإلى سكب المزيد من الزَّيت على حريق الصَّفِّ الوطني، حيث رفع الاتحاديون شعارات: (الكهنوت مصيرو الموت)، و(مصرع القداسة على أعتاب السِّياسة)، وردود أفعال الختميَّة العنيفة، والمتوقعة بطبيعة الحال.
في الأثناء بذل الحزب الشِّيوعي قصارى جهده، على صغر حجمه، وضعف إمكانياته المادِّيَّة، في الدَّعوة إلى الوحدة الوطنيَّة، لأجل المحافظة على الاستقلال وحماية الدِّيموقراطيَّة، مندِّداً بالخلاف بين الختميَّة والاتحاديين، بوصفه صراعاً على السُّلطة لا يخدم غرضاً وطنيَّاً، بقدر ما يشتت القوى التي حاربت الاستعمار، ومنادياً بتكوين جبهة وطنيَّة لتأمين الاستقلال، تضمُّ الاتحاديين والختميَّة والشِّيوعيين وحلفائهم في الجَّبهة المعادية للاستعمار. ورد ذلك، على سبيل المثال، ضمن الخطاب الجَّماهيري الذى ألقاه عبد الخالق في ليلة سياسيَّة بعطبرة (مايو 1956م)، في أوَّل ظهور علني له، بعد زهاء العشر سنوات من العمل السِّري؛ كما ورد في بيان المكتب السِّياسي في 15/6/1956م، والذي عكس قلق الشِّيوعيين على مصير البلاد، في ما لو قدِّر لحالة الانقسام أن تستمر، داعياً ".. لتخفيف حدَّة التوتر .. وإيجاد نقاط اتفاق .. تدفع بعوامل الانقسام إلى الخلف، مِمَّا يساعد .. على بناء وحدة وطنيَّة تحمي الوطن، وتعزِّز استقلاله". وطرح البيان مشروع ميثاق يتضمَّن: عدم استئثار معسكر أو طبقة بمفاخر الجِّهاد من أجل الاستقلال، واحترام العقائد، والمذاهب، والانتماءات الحزبيَّة، ومساواة الجَّميع في الحقوق الدِّيموقراطيَّة، والسَّعي لإيجاد نقاط اتفاق بين جميع الأحزاب، والهيئات، والطوائف، على مبدأ أساسي هو تعزيز الاستقلال السِّياسي. وفي مذكرتها إلى رؤساء الأحزاب وأعضاء البرلمان، في يوليو 1956م، دعت الجَّبهة المعادية للاستعمار إلى تكوين حكومة قوميَّة للنهوض بمهام تعزيز الاستقلال؛ وحذرت من خطورة أيَّة محاولة لإقصائها، أو إقصاء العمَّال والمزارعين مهما كان حجمهم، لأن المهمَّ هو مضمون الوحدة التى سيؤدِّي انعدامها إلى انقسامات أعمق فى المستقبل. وفى 27 يناير 1958م أصدرت سكرتاريَّة الجَّبهة المعادية للاستعمار بياناً، أثناء الانتخابات، جاء فيه: "دخلنا المعركة الانتخابيَّة .. لتوحيد القوى الوطنيَّة .. لهزيمة خطط التدخُّل الاستعماري .. ليست القضيَّة في نظرنا .. هزيمة حزب الشَّعب الدِّيموقراطي أو الوطني الاتحادي، وإنما توحيد الحزبين لتأييدنا فى هذه القضيَّة الشَّريفة التى تمثل حقاً مصالح بلادنا الوطنيَّة". ولم يقتصر خطاب الجَّبهة على قادة الاتحاديين والختميَّة، بل تطوَّر إلى حدِّ دعوة جماهير الحزبين للتوحُّد، عمليَّاً، فى الشَّارع، وتوحُّد نوَّابهما داخل البرلمان، كما فى البيان الصَّادر بتاريخ 12/3/1958م (ضمن القدَّال؛ معالم ..، ص 91 ـ 94).
لم ينشأ هذا الموقف، لدى الشِّيوعيين، من فراغ، بل ثمَّة أكثر من سبب يدعونا للقول بأنه ظلَّ متسقاً، دائماً، مع رؤية الحزب الاستراتيجيَّة لمرحلة ما بعد الاستقلال، من حيث الاستقلال الاقتصادي، والمشاركة الجَّماهيريَّة، وتحسين ظروف حياة الكادحين، والثورة الثقافيَّة. فبغير تحقيق ذلك ".. لا يعتبر السودان كامل الاستقلال، بل إن الاستقلال السِّياسي يصبح أداة من أدوات الاستغلال الاستعماري، وتردِّي حالة الشَّعب، ويأخذ المستعمرون باليسار ما أعطوه باليمين. لقد أكدت تجربة بلادنا .. صحَّة هذا التقدير الماركسى للاستقلال السِّياسي" (ع. الخالق؛ لمحات ..، ص 111).
من هذه الزاوية فقط يمكن النظر إلى هاجس وحدة القوى الوطنيَّة، في فكر الحزب الشِّيوعي، كضمان لتعزيز الاستقلال وحماية السَّيادة الوطنيَّة؛ وفهم دعوته المستمرَّة، قبل وبعد الاستقلال، إلى أعلى سقف من التحالف، سواءً على مستوى القوى الوطنيَّة عموماً، أم على مستوى الجَّبهة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة بخاصة، لا كمفاضلة بين أشكال تنظيميَّة، وإنما كشرط لازم لإنجاز هذه المهام؛ فما من حزب، بمفرده، مؤهَّل، فى السودان، لتحمُّل هذه المسئوليَّة التاريخيَّة. وسوف يعود عبد الخالق، بعد أكثر من عشر سنوات، ليؤكد، في سياق مساهمته الشَّهيرة ضمن وقائع الصِّراع الفكري الذي احتدم داخل الحزب حول الموقف من انقلاب مايو 1969م، أنه، عندما يجرى التفكير فى حزب واحد، أيْ طبقة واحدة، لتجسيد إرادة الأمَّة، فإن القضيَّة تصبح أكبر من مجرَّد الاختيار بين أشكال تنظيميَّة. فحتى لو كانت الطبقة الواحدة هى الطبقة العاملة، أو كان الحزب الواحد هو الحزب الشِّيوعي، فإن هذا التصوُّر سيبقى مثاليَّاً، وسيؤدي إلى الفشل المحتم في إنجاز مهام الثورة الدِّيموقراطيَّة بطريقة حاسمة (ضمن القدَّال؛ معالم ..، ص 267).
لقد ظلَّ (مضمون الأهداف) المطروحة في أفق المرحلة يمثل، كما سبق وأشرنا، العامل الأكثر حسماً، بالنسبة للحزب، في تحديد (مضمون التحالف) المطلوب لتحقيقها. وبما أنه من المستحيل، حسب تقدير الحزب، أن تنجح طبقة واحدة، أو حزب واحد، في النهوض بأعباء (مرحلة الثورة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة) في السودان، فإن (التحالف الوطني الدِّيموقراطي) العريض قد انطرح، بالتالي، كضرورة موضوعيَّة، كما وأن مضمونه نفسه قد تحدَّد تلقائياً. و".. بهذا النشاط المتزايد، خاصَّة خلال عام 1958م، وبالتعاون مع كلِّ المواطنين المخلصين، ابتدأت تحدث تحوُّلات عميقة في النظام البرلماني، (حيث)، لأوَّل مرَّة، ابتدأت كتلة من نوَّاب الأحزاب الحاكمة تنظر لمصالح الشَّعب الناخب، وتتحرَّر من نفوذ التعصُّب الحزبي. وكان هذا الأمر خطوة حاسمة في دعم النظام الدِّيموقراطي البرلماني، ورفع مستوى السُّلطة التشريعيَّة فوق السُّلطة التنفيذيَّة" (ع. الخالق؛ دفاع ..، ص 55 ـ 56).
الشاهد، إذن، أنه، لو لم يكن مصير الاستقلال السِّياسي والنظام الدِّيموقراطي ليعني الشِّيوعيين في شئ، لكان منطقيَّاً، تماماً، أن ينتهج حزبهم خطاً سياسيَّاً يفاقم من الصِّراعات غير المبدئيَّة، الناشبة، أصلاً، بين القوى الوطنيَّة، ويكرِّس لتنازعها العبثي على عظمة السُّلطة وأسلاب الحكم!

(16)
الدَّليل الثالث من وقائع الموقف الأكثر تشدُّداً الذي اتخذه الحزب ضدَّ انقلاب الفريق إبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958م. فقبل أسبوعين من وقوعه كانت جريدة الحزب (الميدان) أوَّل من نبَّه الرأي العام إليه، حيث نشرت، في افتتاحيتها، مقالاً لعبد الخالق بعنوان: "إفتحوا عيونكم جيِّداً: الأمريكان يستعدون لتدبير الانقلاب المقبل في السودان" (الميدان، 3/11/1958م ـ ضمن القدَّال؛ معالم ..، ص 100). بل وقد انصبَّ جُلُّ نشاط الحزب، خلال الفترة التي سبقت الانقلاب، مباشرة، على التنبيه لمخاطره المحدقة، والدعوة لرفع درجة الاستعداد السِّياسي بين القوى الوطنيَّة لرفضه ومجابهته، الأمر الذي وضع الحزب، بالذات، في عين عاصفة الانقلابيين القمعيَّة، فجرى القبض على قادته، وقدِّموا للمحاكمة العسكريَّة، في ما عرف إعلاميَّاً، وقتها، بـ "محكمة الشِّيوعيَّة الكبرى"، ولمَّا تكن قد انقضت، بعد، سوى أشهر قلائل على وقوع الانقلاب والاطاحة بالتجربة الدِّيموقراطيَّة الأولى في البلاد. وعن ذلك يقول عبد الخالق في المقتطف المطوَّل التالي: ".. وصل إلى علمي .. أن انقلاباً ما سيتم .. حدث هذا في الاسبوع الثالث من أكتوبر. وقد دعوت المكتب السياسي .. للتشاور .. واتخذنا قرارنا بما نراه فى مصلحة الاستقلال والدِّيموقراطيَّة. لقد انتهزت فرصة أوَّل اجتماع سياسي فنوَّهت بما يدبَّر للدِّيموقراطيَّة والاستقلال .. وتساءلت لمصلحة من تتخذ تلك الخطوة، وقد أشرفت البلاد على التخلص من حكومة السَّيِّد عبد الله خليل، ووضع حكومة أكثر ديموقراطيَّة وتجاوباً مع أهداف الشَّعب الوطنيَّة؟! وقد واصلت تلك الحملة .. في أكثر من أربعة اجتماعات سياسيَّة عامَّة، ودفعنا بجريدة (الميدان) في هذا الاتجاه .. (و) قمنا باتصالات متعدِّدة مع بعض الأخوان في قيادة الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشَّعب الديموقراطي والكتلة الحُرَّة في حزب الأمَّة والجَّنوبيين، ووضعت لهم ما وصل إلى علمنا، وطلبت منهم أن نتعاون لإنقاذ النظام البرلماني واستقلال البلاد، ولو أن أولئك الأخوان أخذوا ما قلت مأخذ الجِّد، وقاموا بما يفرضه الدِّفاع عن الاستقلال والدِّيموقراطيَّة، لكنا نعيش اليوم في ظروف تختلف عن الظروف الراهنة" (ع. الخالق؛ دفاع ..، ص 56 ـ 57).
ما أن وقع الانقلاب حتى أصدر المكتب السِّياسي للحزب بيانه الشهير، في 18 نوفمبر 1958م، أيْ في اليوم التالي مباشرة، بعنوان: "17 نوفمبر إنقلاب رجعي"، وذلك بالمفارقة لمواقف جميع الأحزاب الأخرى التى سارعت، بلا استثناء، لتأييد الانقلاب، منذ ساعاته الأولى! لقد ".. جاءت المعارضة، منذ الوهلة الأولى، من اليسار والنقابات والاتحادات المهنيَّة، رغم أنها لم تكن في السُّلطة" (حيدر إبراهيم علي؛ المجتمع المدني والتحوُّل الدِّيموقراطي في السودان، ص 51). وبعد أن أوضح البيان كيف أن حركة شعبيَّة واسعة كانت قد انطلقت في المناهضة لحكومة عبد الله خليل، حتى بات انهيارها وشيكاً، عشيَّة الانقلاب، مِمَّا دفعه لتسليم السُّلطة لقادة الجَّيش، مضى فى تحليله قائلاً: ".. ولكن الأغلبيَّة السَّاحقة من الضباط .. جزء من البرجوازيَّة الصغيرة فى بلادنا، ولهم اتجاهات وطنيَّة ديموقراطيَّة، وستكون مهمَّة الاستعماريين تصفية هذه القوَّة .. وبناء جهاز موال للرجعيين، بجانب تصفية الحركة الجَّماهيريَّة .. إن حزبنا مواجه بمهام تاريخيَّة كبرى .. يجب ألا نترك القوى الشعبيَّة تتقهقر" (ضمن القدَّال؛ معالم ..، ص 108 ـ 109).

(17)
كان على الحزب، إذن، خلال العامين التاليين، وقبل حدوث الانعطاف في مواقف الأحزاب الأخرى من الانقلاب، مع نهاية 1960م، أن يتحمَّل وحده، على صغر حجمه، وقلة إمكاناته الماديَّة، كامل المسئوليَّة عن "عدم ترك القوى الشَّعبيَّة تتقهقر" في المعركة ضدَّ الديكتاتوريَّة؛ وقد لزمه، جرَّاء ذلك، بالطبع، أن يدفع، وحده، إلى جانب حلفائه وسط القوى النقابيَّة والدِّيموقراطيَّة، مدنيين وعسكريين، ثمن ذلك الموقف. فالانقلابيون، كما سبق وألمحنا، لم يكونوا غافلين عن خط الحزب المعادي لنظامهم، ونشاطاته الرامية إلى إسقاطه، واستعادة النظام الدِّيموقرطي البرلماني. لذا فقد استهدفوا الشِّيوعيين، منذ اللحظة الأولى، بحملة من السِّياسات المعادية، والاعتقالات التى طالت قياداتهم ورموزهم، يُساقون إلى مخافر الشُّرطة ومراكزها لتلتقط لهم الصُّور وكأنهم من عتاة المجرمين، على حدِّ وصف عبد الخالق، في حين خُصِّص معاش مترف من أموال الشَّعب لمن مكن الانقلابيين من القضاء على النظام الدِّيموقراطي ـ رئيس الوزراء السَّابق، والأمين العام لحزب الأمَّة، وقتها، السَّيِّد عبد الله خليل الذى كان، ومن باب الإمعان فى التمويه، قد صرَّح للصحف، قبل يوم واحد من الانقلاب، معلقاً على الخبر الذي كشفت عنه (الهيرالد تريبيون)، أوان ذاك، حول اعتزامه اللجوء للجَّيش، بأن الذين يتحدَّثون عن احتمال وقوع انقلاب لا يعرفون (أخلاق!) السودانيين التي (تتعارض!) مع الانقلابات! وإلى ذلك أغلق الانقلابيون جريدة (الميدان)، رغم سماحهم لبقية الصُّحف الحزبيَّة والمستقلة بمعاودة الصُّدور. وبالجملة، بدا واضحاً أنهم يناصبون الشِّيوعيين، بالذات، من بين جميع الأحزاب، العداء، و".. إننا نعاقب على رأينا المعروف فى الانقلاب قبل شهرين من حدوثه، والذي جاهدنا كثيراً لمنعه لإيماننا بأنه مضرٌّ بقضيتي الاستقلال والدِّيموقراطيَّة" (ع. الخالق؛ دفاع ..، ص 58 ـ 59).
لقد أفضت مختلف المراكمات، ابتداءً من أواخر 1960م، إلى تغيير موقف الأحزاب من نظام عبود. وبعد حوالي العام من ذلك، عندما بلغت تلك المراكمات درجة عالية من التشبُّع، بادر الحزب بطرح مقترح (الإضراب السِّياسي) على الأحزاب كأداة لإسقاط ذلك النظام الشمولي. هذه الحقيقة التاريخيَّة، وما تبعها من وقائع انتهت بهزيمة ديكتاتوريَّة عبود، في ثورة أكتوبر 1964م، على أيدي الجَّماهير العزلاء إلا من إيمانها بالدِّيموقراطيَّة، تكفي، بمجرَّدها، للكشف عن عمق التعويل، في فكر الحزب، على طاقات الجَّماهير، وقواها المستقلة. وبالفعل شكلت تلك القوى بين جماهير الانتاج الحديث، وفي مناطق الوعي، ووسط صغار ضبَّاط الجَّيش، طاقة الدَّفع الأساسيَّة لإنجاح الاضراب السِّياسى، وانتصار الثورة. وسوف يعود عبد الخالق، في خواتيم عقد السِّتينات، لتلخيص الاستنتاجات الرَّئيسة التي تثبت صحَّة ذلك التقدير، بقوله إن ثورة أكتوبر واجهت الفئات التي تداولت الحكم منذ 1954م، مدنيَّاً وعسكريَّاً، بجملة من الحقائق المذهلة، أهمُّها إمكانيَّة أن تنشأ حركة سياسيَّة مستقلة عن تلك الفئات، قوامها منظمات نقابيَّة، ومهنيَّة، وجماعات سياسيَّة لم يكن لها شأن كبير من قبل، فتستطيع نسف حكم قائم بطريقة مفاجئة للفئات ذات المصالح، وتشكل سلطة لا تنتمى إلى تلك الفئات، بل وينفصل جهاز الدَّولة عن السُّلطة الحاكمة، وينضمَّ لتلك القوى السِّياسيَّة فى الاضراب السِّياسى كعمل ثوري (جريدة "أخبار الأسبوع"، 13/3/1969م).
ولعلَّ واقعة طرح الحزب لسلاح (الاضراب السِّياسي) تشكل، في حدِّ ذاتها، دلالة واضحة على مدى استمساكه بالدِّيموقراطيَّة، في معنى وُسع المشاركة الجَّماهيريَّة المستقلة، حتى في مجابهة الديكتاتوريَّات وكسرها. ففى 29/8/1961م صدر أوَّل بيان من المكتب السِّياسي للحزب، حول (الاضراب السِّياسي العام)، فحواه ".. أن الطبقات التى ترتكز عليها القوى الثوريَّة هى العمال والمزارعون والطلبة والبرجوازيَّة الوطنيَّة؛ وبالعمل اليومي وسط هذه القوى يمكن أن تعبَّأ في إضراب سياسي عام .. يشلُّ النظام .. شللاً تاماً .. الإضراب السِّياسي العام هو توقف الجَّماهير الثوريَّة عن العمل. ويتمُّ تنفيذه عندما تصل تلك الجماهير إلى وضع لا تحتمل فيه العيش تحت النظام الرَّاهن. إنه عمليَّة، وسلسلة، وليس ضربة واحدة. وليس المهمُّ هو متى وأين يبدأ .. المهمُّ الارتقاء بالنضال الجَّماهيري وتنظيمه ليصل إلى نقطة التنفيذ الشَّاملة".
منذ ذلك الوقت أصبح (الاضراب السِّياسى) جزءاً عزيزاً، ليس، فقط، من خبرة الحزب، بل ومن خبرة الجَّماهير الثوريَّة فى كلٍّ من أكتوبر 1964م وأبريل 1985م. وسوف يعود نقد، بعد قرابة الأربعين عاماً، ليركز خبرة (الاضراب السِّياسى) باعتباره ".. أداة مجرَّبة وفاعلة لاستعادة الدِّيموقراطيَّة، وللدِّفاع عن الدِّيموقراطيَّة التى تعترف مبادؤها بمشروعيَّة انتفاضة الجَّماهير"، ليس ضدَّ الدِّيكتاتوريَّات والأنظمة الشُّموليَّة، فحسب، بل وحتى ".. عندما يتنكر الحكام الذين انتخبتهم (الجَّماهير) لمبادئ الدِّيموقراطيَّة". ويخلص إلى أن تضمين (الاضراب السِّياسي) و(الانتفاضة) فى البرنامج القادم هو تعبير "عن الطبيعة الثوريَّة للحزب .. ومسعاه في أن يواصل تراث الثورة السودانيَّة"، منذ الثورة المهديَّة (ورقة مبادئ موجهة ..).

(18)
وإذن فقد اتخذ الحزب وحده، في البداية، موقف التصدِّي لانقلاب عبود، رغم أن ذلك قد يبدو، للوهلة الأولى، فوق طاقته المحدودة، ورغم أن ثمَّة ثلاث ملاحظات مهمَّة يمكن أن ترد، هنا، على النحو الآتى:
الملاحظة الأولى: أن الانقلاب، من الناحية الشَّكليَّة البحتة، لم يسلب الحزب سلطة.
الملاحظة الثانية: أن الانقلاب وقع تتويجاً لسياسات حكومة عبد الله خليل المعادية لروح الاستقلال والديموقراطيَّة، أيْ لمنطق وجود الحزب نفسه، ما يعني أن تلك السِّياسات قد استهدفت، بالأساس، الحزب، والمنظمات الجَّماهيريَّة المستقلة؛ ومن أشكال ذلك الاستهداف، على سبيل المثال:
أ/ عدم سماح الحكومة للشِّيوعيين بممارسة حقهم الدُّستوري في تكوين حزبهم، في حين كانوا شديدي الحرص على اكتساب ذلك الحقِّ ليتمكنوا من ممارسة نشاطهم الدِّيموقراطي في أجواء الشَّرعيَّة والعلانيَّة، بعكس (الفولكلور) الذى ظلَّ يشيعه خصومهم بشأن (استمرائهم) العمل من (تحت الأرض)، ويا له من (فولكلور) بائس سقيم! فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الشِّيوعيين ما اضطروا للعمل السِّرِّي، على ما يتكبدون فيه من مشاق ومخاطر فادحة، إلا بسبب سياسات القمع التي تمارس ضدَّهم منذ أيَّام الاستعمار. لقد أوضح عبد الخالق مكابدات الشِّيوعيين من أجل اكتساب الشرعيَّة التي تمكنهم من النشاط العلني بقوله: "منذ العام 1954م .. وأنا أساهم جاهداً مع كل العاملين لتغيير قوانين الاستعمار بالطرق الدِّيموقراطيَّة حتى أتمكن من تأليف حزب شيوعي دستوري. ولقد انتهزت الفرصة عندما صرَّح وزير خارجيَّة السودان محمد احمد محجوب، في اليونان، فى منتصف عام 1957م، بأن سياسة حكومته تهدف للسَّماح للشِّيوعيين بمزاولة أيِّ نشاط يريدونه في ظلِّ الدُّستور، فحرَّرت خطاباً إلى رئيس الوزراء عبد الله خليل أطلب منه أن يقرن قول السَّيِّد محجوب بالعمل، وأن يتقدَّم للبرلمان بإلغاء المادة/4 من قانون الجَّمعيَّات غير المشروعة، فصمت عن لا أو نعم! إن هذه الواقعة تؤكد أننى سعيت وأسعى لإيجاد وضع ديموقراطي حقٍّ يكفل حُرِّيَّة التنظيم الدُّستوري لكلِّ مواطن أو جماعة" (ع. الخالق؛ دفاع ..، ص 45). واستطراداً، يؤكد عبد الخالق على أهميَّة مناخ الشرعيَّة والعلانيَّة بالنسبة لنشاط الحزب قائلاً: ".. منذ إعلان الاستقلال وحتى يوم مصادرة دستور السودان المؤقت، ما مرَّ أسبوع إلا وكان هناك اجتماع جماهيري مفتوح يتحدث فيه قادة الجَّبهة عن المشاكل التي تواجه البلاد، فشرحنا للشَّعب أهميَّة الدِّيموقراطيَّة، وتعديل القوانين التى وُرثت من عهد الاستعمار، حتى يستطيع الشَّعب أن يؤثر في مجرى الحياة السِّياسيَّة في البلاد" (نفسه، ص 54 ـ 55).
ب/ الرُّوح العدائيَّة التي تعاملت بها الحكومة مع التعبيرات الجَّماهيريَّة السِّلميَّة المعارضة لزيارة ريتشارد نيكسون، نائب الرئيس الأمريكى، وقتها، إلى السودان، بغرض تسويق (مشروع أيزنهاور) الاستعماري، حيث أصدرت الحكومة بياناً اتهمت فيه "حفنة من الشِّيوعيين بتهديد الأمن والاستقرار"!
ج/ تعطيل الحكومة للبرلمان في يونيو 1958م، عندما بدأت سُحب المعارضة تتجمع ضدها، وتنذر بسَحب الثقة منها.
د/ مماطلتها في الاعتراف بالاتحاد العام لنقابات عمَّال السودان وتسجيله.
هـ/ ردُّ فعلها العنيف في مواجهة الاضراب الذى قاده الاتحاد بتاريخ 21 أكتوبر 1958م، بمشاركة 42 نقابة تمثل 98% من مجموع القوى العاملة في البلاد، للاحتجاج على تغوُّل الحكومة على حُرِّيَّة العمل النقابى واستقلاله، ولحملها للدُّخول في مفاوضات فوريَّة مع المضربين لمناقشة مطالبهم بتنفيذ بعض الاجراءات الاقتصاديَّة، كتنويع التجارة الخارجيَّة، وتأميم القطاعات الاقتصاديَّة الاستراتيجيَّة، والتخفيض الفعَّال في منصرفات الحكومة. فعلى حين حظي الاضراب والمطالب بمؤازرة قويَّة من الحزب، والجَّبهة المعادية للاستعمار، وجماهير المزارعين، والتجار، بالاضافة إلى طلاب جامعة الخرطوم الذين أضربوا تضامناً، وبعثوا برسالة إلى اتحاد العمَّال اعتبروا فيها أن الهجوم على الاتحاد هو الخطوة الأولى نحو حجر الحُرِّيَّات الدِّيموقراطيَّة؛ أقدمت الحكومة، بالمفارقة لأبسط مبادئ الليبراليَّة السِّياسيَّة، على تنظيم (جردة) اعتقلت من خلالها 62 عاملاً، وحظرت المواكب والتجمُّعات السِّياسيَّة في الخرطوم. وقد وصفت صحيفتا (الأيَّام) و(الرأى العام) المستقلتان الاضراب بأنه نقطة تحوُّل في نشاط الحركة النقابيَّة (القدَّال؛ معالم ..، ص 96 ـ 97).
و/ وأخيراً تتويج حزب الأمَّة لهذه السِّلسلة من الخروقات لأسس الحياة الدِّيموقراطيَّة بتسليم رئيس الوزراء (الأمين العام للحزب) السُّلطة لكبار الضُّباط فى 17 نوفمبر 1958م، وذلك، حسب الفريق إبراهيم عبود نفسه، بموجب "أوامر .. صادرة من رئيس لمرءوس، وقد قبلتها ونفذتها على هذا الأساس .. عبد الله خليل هو مهندس الانقلاب، ولو طلب منا إلغاءه في أيَّة لحظة لفعلنا فوراً" (إفادة عبود أمام لجنة التحقيق فى انقلاب 17 نوفمبر 1958م ـ ضمن: تيم نبلوك ، صراع السُّلطة والثروة فى السودان، ص 208).
الملاحظة الثالثة: أن الأحزاب أجمعها، باستثناء الشيوعيين والقوى النقابيَّة، سارعت لتأييد الانقلاب منذ ساعاته الأولى:
أ/ فحزب الأمَّة لم يكتف بتدبيره، بل أيَّده، صراحة، ببيان راعيه الإمام عبد الرحمن المهدي، بعد يومين فقط من وقوعه، دامغاً كلَّ أطراف العمل السياسى بالفشل: ".. فشلوا جميعاً، ولم تنجح أّيٌّ من الحكومات .. وأصيب الشعب بالاحباط ، وهاهو يوم الخلاص ، فقد هب رجال الجيش وأمسكوا بمقاليد الأمور ، ولن يسمحوا للتردد والفوضى والفساد بالعبث فى هذه البلاد ، ولقد منَّ الله علينا برجل يقود الحكومة بالحق والصرامة ، فابشروا بهذه الثورة المباركة ، واذهبوا إلى أعمالكم بهدوء وثقة لتأييد رجال الثورة" (تيم نبلوك؛ صراع السلطة والثروة .. ، ص 210).
ب/ أما حزب الشَّعب الدِّيموقراطي فقد وجَّه راعيه السَّيِّد علي الميرغني رسالة إلى الشَّعب، في اليوم الأوَّل للانقلاب، قال فيها: ".. سمعنا بأن الجَّيش .. تولى مقاليد الحكم .. ونأمل أن تؤدى نوايا ومجهودات الجَّيش إلى نشر الأمن والاستقرار .. والطمأنينة .. ونسأل الله أن يؤدي ما حدث إلى الخير والنجاح، وأن يلهم الذين تحمَّلوا المسئوليَّة إلى السَّداد" (نفسه، ص 211 ، 212). ومع أنه ليس من المستبعد ، بطبيعة الحال، ردُّ (الحذر) في ثنايا هذا الاقتضاب إلى عزوف السَّيِّد علي المأثور عن طرح آرائه بصورة مباشرة، إلا أنه يبقى وارداً بإلحاح، فى باب تفسير هذا (الحذر)، شكُّ الختميَّة في علاقة نظام عبود بحزب الأمَّة! ولعلَّ مِمَّا يؤكد ذلك أنهم تقاربوا، لاحقاً، مع النظام، بعد إبعاده اللواء أحمد عبد الوهاب، المحسوب على حزب الأمَّة، من المجلس الأعلى للقوَّات المسلحة، وتمتين العلاقات مع مصر، وتوقيع اتفاقيَّة مياه النيل عام 1959م، فأصبح تأييد الختميَّة ضروريَّاً لبقاء النظام، ولدفع تهمة عدم الشَّرعيَّة عنه. لذا، عندما قدَّمت المعارضة مذكرتها لعبود عام 1960م، مطالبة بعودة الحكم المدني، تقدَّم أغلب قادة الختميَّة، وعلى رأسهم الشَّيخ علي عبد الرحمن ومحمد نور الدين، بـ (مذكرة كرام المواطنين)، في 29/11/1960م، تأييداً للنظام العسكري (نفسه، ص 212). ولئن لمح كثيرون (براعة) ما فى صياغة بيان الختميَّة الأوَّل، مِمَّا جعل موقف التأييد فيه محلَّ استنتاج فقط، كون عباراته تعمَّدت عدم الافصاح المباشر، فإن هذه (المذكرة) عكست، بأكثر العبارات إفصاحاً ومباشرة، موقف التأييد الصارخ للانقلاب، حتى بعد عامين من وقوعه، دونما حاجة، هذه المرَّة، إلى طمر (المعنى) فى براعة (المبنى)، للدرجة التى بدا فيها هذا الموقف متطابقاً، بأثر رجعي، مع موقف حزب الأمَّة الأوَّل. لقد عادت تلك المذكرة لتصف "ثورة" عبود بأنها "عظيمة"، وأنها سارت "في عزم وصدق" لتحقيق أهدافها، و".. ساد البلاد جوٌّ من الاستقرار .. ليجني الشَّعب ثمرات الاستقلال .. (و) من واجب المواطنين أن .. يبذلوا كلَّ الجَّهد .. الخ" (بشير محمد سعيد؛ الزعيم الأزهري وعصره، ص 374 ـ 375، ضمن: حيدر إبراهيم علي؛ ورقة فى ندوة "الديموقراطية في السودان: البعد التاريخي والوضع الراهن وآفاق المستقبل"، ص 39). واستطراداً فسوف يعود الشيخ علي عبد الرحمن لتكرار نفس هذا الموقف بعد انقلاب مايو 1969م بقوله: ".. أصبح مجرد التفكير فى الأنظمة الحزبية السَّابقة وطريقة إصلاحها .. نكسة ورجعة إلى الوراء .. وها هي البلاد التقدميَّة، على وجه العموم، والجمهوريَّة العربيَّة المتحدة (مصر عبد الناصر ـ الكاتب)، على وجه الخصوص، قد قطعت شوطاً كبيراً في تطبيق نظام الحزب الواحد كأسلوب ديموقراطي يوحِّد الأمَّة، ويحدِّد خطها السِّياسي" (علي عبد الرحمن الأمين؛ الدِّيموقراطيَّة والاشتراكيَّة في السودان، ص 40).
ج/ وأمَّا الحزب الوطني الاتحادي فقد بعث أمينه العام خضر حمد ببرقيَّة تهنئة إلى الفريق عبود من القاهرة، في اليوم التالي، مباشرة، للانقلاب، يطالبه فيها باتخاذ إجراءات ضد الفساد والمفسدين! وكتب في مذكراته، لاحقاً، أنه، بعد عودته للسودان، قابل المرحوم إسماعيل الأزهري الذى عبَّر له عن ثقته في وطنيَّة عبود وجماعته، ورأى أن يُعطوا الفرصة ليعملوا، فلعلهم يوفقون فيما فشلت فيه الأحزاب؛ وأنهم لن يضعوا من جانبهم أيَّة عراقيل أمامهم، وسيفسحون لهم الطريق للعمل المثمر، لأن المهمَّ هو خير البلد؛ واقترح عليه أن يزور اللواء أحمد عبد الوهاب، ثمَّ عبود، فقام بالزيارتين، ونقل خلالهما رأي أزهري (مذكرات خضر حمد ـ ضمن القدَّال، معالم ..، ص 107).
د/ وأما الأخوان المسلمون الذين لم يعاملهم نظام عبود، أصلاً، كحزب سياسي، وإنما كجمعيَّة دينيَّة، والذين كان نشاطهم محصوراً، فقط، وسط الطلاب، فقد أيَّدوا الانقلاب صراحة، أيضاً، حيث كتبت صحيفتهم (الأخوان المسلمون) بتاريخ 1/12/1958م تقول: "إن البداية التى سارت عليها الحكومة فى تصحيح الأوضاع الفاسدة تدعو للاطمئنان" (نفسه).
(نواصل)



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (2)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (1)
- الأَمَازُونِيَّات!
- إِنْزِلاقَاتُ الصُّدُوع!
- عَوْلَمَةُ الشَّعْرِ الهِنْدِي!
- سَنَةُ مَوْتِ سَارَامَاغُو!
- رَطْلُ لَحْمٍ آخَر لِشَيْلُوك!
- الدَّوْحَة: أَبْوَجَةُ الذَّاكِرة!
- مَنْ تُرَى يُقنِعُ الدِّيك!
- مَوَاسيرُ الطُّفَيْليَّة!
- حكاية الجَّماعة ديل! (4 4) أَحْلافُ النَّظَائِرِ والنَّقَائ ...
- حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (3) هَمُّ الشَّعْبي وهَمُّ الشَّعْب ...
- حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (2) إرتِبَاكاتُ حَلْبِ التُّيوسْ!
- حكايةُ الجَّماعة .. ديل (1 2) الاِسْتِكْرَاد!
- مَنْ يَرقُصُ لا يُخفي لحْيَتَه!
- بَرَاقشُ .. الأَفريقيَّة!
- السَّيْطَرَةُ الهجْريَّة!
- رَدُّ التَحيَّة بأَحْسَن منْهَا!
- لَيْلَةُ البَلاَلاَيْكَا!
- الهُبُوطُوميتَر!


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (3)