أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (3) هَمُّ الشَّعْبي وهَمُّ الشَّعْبيَّة!















المزيد.....



حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (3) هَمُّ الشَّعْبي وهَمُّ الشَّعْبيَّة!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 2981 - 2010 / 4 / 20 - 08:51
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 12-18 أبريل 2010
(13)
لاحظنا، في خاتمة الحلقة السَّابقة، أن قرار الحركة الشعبيَّة بمقاطعة الانتخابات في الشمال لم ينجُ، هو الآخر، من لعنة (حلب التيوس). وسقنا أمثلة لذلك من تباين ردود فعل قادتها ورموزها البارزين، بمن فيهم رئيسها ونائبه، إزاء الإعلان عن ذلك القرار من جانب أمينها العام ونائبه المسئول عن قطاع الشمال. وبالنظر إلى طابع الانضباط العسكري للحركة، فقد استغربنا، من جهة، أن تقتصر ردود الأفعال هذه على أسلوب التصريحات الليِّن، نسبيَّاً، في التعامل مع قادة (متهمين) بارتكاب تجاوزات خطيرة، وأن تتخذ هذه التصريحات، من جهة أخرى، طابع (الكلمات المتقاطعة) التي لا تترك سبيلاً لفضِّ مغاليقها إلا من باطنها هي نفسها، مع التركيز المخصوص على تصريحات سلفا، المدعومة من نائبه، بأن "القرار (لم يصدر) عن المكتب السِّياسي، ومع ذلك (لا يوجد) انقسام في الحركة! وأن عرمان (سيبقى) في موقعه نائباً للأمين العام، ومسئولاً عن قطاع الشمال! وأن (ما أعلنه) الأمين العام عن انسحاب قطاع الشمال من الانتخابات (سيظلُّ قائماً) حتى (يُراجع) في وقت لاحق"! والتركيز، كذلك، على (اتهام) أتيم قرنق لباقان بـ "تجاوز (التفويض) الممنوح لـ (لجنته)، وأن قرار المقاطعة الذي أعلنه (معزول) عن بقية القوى السِّياسيَّة (الشماليَّة) التي (ترتبط) بها الحركة في المدى البعيد"! ذلك مع الأخذ في الاعتبار بتأكيدات باقان وعرمان، علناً، على أنهما "مفوَّضان في اتخاذ هذا القرار من (رئيس) الحركة"! وخلصنا، من كلِّ تلك (الكلمات المتقاطعة)، إلى أن استقصائها، بشئ من الانتباه، يمكن أن يكشف إما عن (انقسام) في الحركة، أو عن محض (تقسيم) تكتيكي للأدوار طاله الارتباك لدى التنفيذ!
كلا الاحتمالين وارد. فمن جهة، ومع أن تلك التصريحات قد تبدو، للوهلة الأولى، متعارضة، إلا أنها، في حقيقتها، وبإعادة قراءتها في ضوء الاحتمال الثاني، ليست متعارضة البتة (!)، وذلك للاعتبارات الآتية:
(1) لم يقل، لا باقان ولا عرمان، إن القرار صادر عن المكتب السِّياسي؛ وإذن، فليس ثمَّة تناقض، في هذه الناحية، بين قولهما وبين قول رئيس الحركة ونائبه؛
(2) لم ينف رئيس الحركة قول الأمين العام ونائبه بأنهما مفوَّضان منه، شخصيَّاً، في إصدار ذلك القرار، ما يعني أن نظم الحركة وأعرافها تبيح ذلك؛
(3) ولو كان الأمر بخلاف ذلك، لحقَّ للقائد الأعلى أن يعلن، فوراً، عن إلغاء القرار، وإجراء التحقيق اللازم مع القائدين. غير أن سلفا، وعلى حين أولى جلَّ اهتمامه للتأكيد على بقاء عرمان في موقع المسئوليَّة، صمَتَ عن أيِّ تعليق على مصير القرار نفسه، اللهمَّ إلا بتأكيده على أنه "سيظلُّ (قائماً) حتى (يُراجع) لاحقاً"، دون أن يسارع لاستدعاء المكتب السِّياسي بغرض إجراء هذه (المراجعة)!
(4) أما حديث أتيم قرنق عن (تجاوز) باقان لـ (التفويض) الممنوح لـ (لجنته)، بحُجَّة أن القرار جاء (معزولاً) عن مواقف بقية القوى السِّياسيَّة (الشماليَّة) التي (ترتبط) بها الحركة في المدى البعيد، فيكشف، أوَّلاً، عن وجود (تفويض) صادر من سلفا، إلى (لجنة) برئاسة باقان، في اتخاذ قرار (المقاطعة) خارج المكتب السِّياسي، مِمَّا يعني صحَّة قول باقان وعرمان؛ ويكشف، ثانياً، عن أن هذا (التفويض) مشروط بـ (التشاور) مع القوى السِّياسيَّة (الشماليَّة) التي يعتبر أتيم أن "الحركة مرتبطة بها في المدى البعيد"، أي (قوى جوبا)، وهو الشرط الذي لم يقل أتيم نفسه أنه لم يُنجز، خاصَّة وأن الأيَّام التالية أثبتت أن (المقاطعة) شكلت، بالفعل، الاتجاه العام لمعظم أركان هذه القوى.
واستطراداً، فإن النقطة الأخيرة، بالذات، تكشف، ولو عرَضاً، عمَّا يحتقب أتيم من فكر (وحدوي) محمود يُدرج موقفه ضمن نفس التيَّار الذي يضمُّ، أيضاً، باقان وعرمان، صاحبي القرار موضع الجدل!
إذن، فإن هذه النقاط الأربع لتؤكد، تماماً، ودونما أدنى شكٍّ، على أن قرار المقاطعة هذا هو، في حقيقته، ومن الناحية الرَّسميَّة، قرار الحركة، وإن كان إصداره قد اتخذ أسلوباً غير معتاد، توزعت فيه الأدوار بين أكثر من جهة، مِمَّا لا يصعب التكهُّن بأسبابه ذات الصلة الوثيقة، ولا ريب، بسياسات (الجَّماعة ديل)، والتي ربَّما كانت أدناها خشية الحركة من أن تؤدي موافقتها على مجرَّد (تأجيل) الانتخابات، دَعْ إعلان (مقاطعتها) من قمَّة سنام القيادة، إلى تهديد (قدس أقداس) الساحة السِّياسيَّة الجنوبيَّة، وهو (الاستفتاء) المقرَّر في يناير 2011م، خصوصاً وأن رئيس الجمهوريَّة، مرشح الحزب الحاكم لدورة أخرى، قد هدَّد بذلك علناً (بي بي سي، 30/3/10).
غير أن تغليبنا لاحتمال (تقسيم العمل) في إصدار قرار المقاطعة، بناءً على ما أوردنا من أسباب، لا يستبعد، بالمرَّة، ورود الاحتمال الثاني المتعلق بمسألة (الانقسام) داخل الحركة، ولكن في سياق آخر، وإن كان متصلاً، مِمَّا سنعرض له لاحقاً.

(14)
ننتقل، بعد ذلك، لنحاول سبر غور موقف (المؤتمر الشَّعبي) من قضيَّة المقاطعة، لفهمه، على حقيقته الرَّاجحة، بصورة أفضل.
وأوَّل ما يجدر أخذه في الاعتبار، هنا، هو حقيقة أن (مشروع) د. الترابي (الاستراتيجي) قائم، باختصار، وبالأساس، ومنذ مفاصلته مع (الإنقاذ)، في خواتيم تسعينات القرن المنصرم ومطالع هذه الألفيَّة، على بلورة (حركته الجَّديدة)، باسم (المؤتمر الشعبي)، وتسويقها، وطنيَّاً وإقليميَّاً ودوليَّاً، من موقع (البديل الإسلاموي المعتدل!) لما يعتبرها (حركة متطرِّفة!) استقلت عنه بالسُّلطة، بعد أن كان رتبها، بنفسه، إثر حلِّ (الجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة)، وأطلق عليها، تمشِّياً مع احتياجات المرحلة، اسم (المؤتمر الوطني)، لولا أن زعامته المطلقة لها استعصت عليه، فصار رمزها الأكبر، منذ ذلك الحين، هو المشير، لاحقاً، عمر البشير.
وإذن، فقد صار (مشروع الترابي)، وفق استراتيجيَّته الخاصَّة، هو (النقيض الهادم) لـ (مشروع البشير)، و(البديل الوحيد) عنه، وبالتالي صار (الشعبي) يستمدُّ (مشروعيَّته الإسلامويَّة) من (المناوءة) لـ (الوطني)، بقدر ما صار الترابي يستمدُّ (مشروعيَّته الإسلامويَّة) من (المناوءة) للبشير. لذا، ولمَّا كان ذلك كذلك، فإن القانون الأساسي الذي يحكم هذه (المناوءة) هو ضرورة وجود (الوطني) في السُّلطة، كمبرِّر لـ (مشروعيَّة) إقصائه عنها، من جانب (الشعبي)، لا غيره، وحلوله محله فيها، وإلا فليبق (الوطني) في السُّلطة، ما شاء الله له أن يبقى، إن كانت مغبَّة إقصائه عنها هي أن يرثه (طرف ثالث)، خصوصاً إذا كان (علمانيَّاً)، بالمدلول (الإسلاموي) للمصطلح، فينغلق الطريق إلى هذه السُّلطة، تماماً، ليس أمام (الشَّعبي) وحده، بل أمام (المشروع الإسلاموي) بأسره، ولأمد غير معلوم، في أفضل الأحوال، بل وقد لا يتاح، مرَّة أخرى، إلا بمغامرة جديدة غير مأمونة العواقب! وكلتا الحالتين تمثل السيناريو الأسوأ، ألف مرَّة، بل (الكابوس المفزع) بالنسبة لـ (الشعبي)، مقارنة بحالة استمرار (الوطني) في الحكم!
الشَّاهد، بعبارة أخرى، أن (مشروعيَّة) طلب (الشَّعبي المعتدل!) للسُّلطة، في الوقت الرَّاهن، وأقصى ما يحتقب من (مبرِّر) لذلك، هو وجود (الوطني المتطرِّف!) فيها، بحيث يستطيع (الشَّعبي) أن يواصل طرح (مشروعه المعتدل!) البديل، ولا بأس من استمرار المعركة بينهما، طالما أنها تدور في إطار نفس (حركة الإسلام السِّياسي)! أما هزيمة (الوطني) على يد أخرى غير يد (الشَّعبي)، فسوف تفضي، لا محالة، إلى اختناق (مشروع) الأخير، بل وموته؛ وإلا، إذا قدِّر لأيِّ يد أخرى (غير إسلامويَّة)، بل غير يد (الشعبي) تحديداً، أن تنزع السُّلطة، بالانتخابات مثلاً، من (الوطني)، وتطرح مشروع (الدَّولة المدنيَّة)، أو (الدَّولة الدِّيموقراطيَّة التعدُّديَّة)، فهل من المتصوَّر أن ينفسح المجال، مجدَّداً، لـ (الشَّعبي) كي يقترح (مشروعه الإسلاموي المعتدل!) بديلاً عن (مشروع الوطني المتطرُّف)؟!

(15)
بهذا الفهم، فقط، نستطيع أن ندرك كلمة السِّر المفتاحيَّة في نداء د. الترابي الشَّهير الذي أطلقه العام الماضي، تحت شعار: (لا للانقلاب، لا للانتفاضة، نعم للانتخابات)، وذلك عندما سرت شائعات عن توقع انقلاب ما، بالتلازم مع دعوات ارتفعت، من بعض أطراف المعارضة، لإعداد الجماهير نحو انتفاضة تطيح بالنظام. فالانقلاب والانتفاضة، كلاهما، وبرغم الفروقات الشاسعة بينهما، قفزة في الظلام غير مأمونة الجانب في حسابات (مشروع الترابي)!
وعلى الرغم من أن ما سنذهب إليه، هنا، قد يبدو غريباً، للوهلة الأولى، إلا أننا نستطيع، بهذا الفهم، أيضاً، أن ندرك مغزى (التوتر!) الذي أصاب د. الترابي، عندما لاحت، باكراً، في أوساط (قوى جوبا)، بوادر لطرح فكرة الاتفاق على مرشَّح رئاسي واحد في مواجهة البشير! حينها سارع الرَّجل إلى مقاومة الفكرة، بالكثير من الشَّراسة، لدرجة وصفها بـ (الغباء!)، طارحاً بديلاً لا معنى له سوى سحب أقدام هذه القوى لخوض الانتخابات بشروط تنأى بها عن إلحاق أيَّة هزيمة بمرشَّح (المؤتمر الوطني)! ويتلخَّص بديل الترابي الذي طرحه، كراهيَّة لمعاوية، وليس حُبَّاً لعليٍّ، بطبيعة الحال، في ما أسماه (تشتيت الأصوات!) في المرحلة الأولى، حتى لا يتمكن البشير من الحصول على النسبة المطلوبة، وهي 50% + صوت واحد، ومن ثمَّ تستطيع هذه القوى أن تعود، في المرحلة الثانية، لمقترح الإلتفاف حول المرشَّح الواحد!
وبالحق، إن كان ممكناً، بالفعل، الاتفاق على مرشَّح واحد في المرحلة الثانية، فما الذي كان يحول دون الاتفاق عليه منذ المرحلة الأولى؟! ذلكم هو (سؤال المليون دولار) الذي لم يجب عليه الترابي، بل ولم يطرحه عليه أحد!
لعلَّ هذا الالتواء في المنطق هو ما قصد إليه الأستاذ علي محمود حسنين، نائب رئيس (الاتحادي الأصل)، حين قال "إن الترابي يريد أن يشتت الأصوات للبشير، في الجولة الأولي للانتخابات، لكنه، في الحقيقة، سوف يشتَّت هو أولاً!" (سودانايل، 4/2/10). أما ما لم يقله حسنين، صراحة، فهو أن الترابي، المدرك جيِّداً لحقيقة شُحِّ فرص حزبه، حدَّ العدم، في أن ينعقد إجماع (قوى جوبا) على مرشَّح من منسوبيه، كان مدركاً، أيضاً، وهو يطرح مقترحه ذاك، لحقيقة أن (الجَّماعة ديل) لن ينتظروا (قوى جوبا) لتلاقيهم بمرشَّح واحد في المرحلة الثانية، بل سيقطعون أمرهم بينهم، منذ المرحلة الأولى، بأيَّة (وسيلة)!
وقد تكفي للتدليل على علم د. الترابي بهذه (الوسيلة!) الإفادة بالغة الخطورة والأهميَّة، والتي أدلى بها، في شأن هذه المسألة، أحد أبرز معاونيه المقرَّبين منه، في كتاب صدر مؤخَّراً، وحظرته السلطات، حيث كشف، في ما يتصل بـ (انتخاب) الأمين العام لحزب (المؤتمر الوطني) نفسه، عام 1997م، وبما لا يدع مجالاً للقول بعدم علم (الزعيم)، عن مدى ضيق أوعية هذا الحزب بطلاقة الخيار الديموقراطي الحُر، حيث لجأت قيادته إلى إباحة (التزوير) من أجل (تمرير) انتخاب مرشَّحها على حساب إرادة القواعد! وقد وصف الكاتب ذلك بأنه "خلق استشرى، بغير فقه ولا تقوى، في منافسات الحركة الإسلاميَّة مع خصومها في اتحادات الطلاب ونقابات المهن، وبرعت فيه الأجهزة الخاصَّة للمعلومات والأمن، وظلت تتحالف لإنفاذه وتمام نجاعته عضويَّة الحركة في الأجهزة الشعبيَّة والرسميَّة، لتكسب به مقاعد الاتحادات والنقابات، ريثما تستدير بالفوضى على نفسها فتزوّر إرادة قاعدتها داخل حزبها لصالح أجندة القيادة" (المحبوب عبد السلام؛ الحركة الإسلامية السودانيّة: دائرة الضوء ـ خيوط الظلام: تأملات في العشريّة الأولى لعهد الإنقاذ، دار مدارك، القاهرة 2010م، ص 159 ـ 161).
كما قد تكفي، أيضاً، للتدليل على علم د. الترابي بـ (الوسيلة) المشار إليها، أحدث إجاباته، شخصيَّاً، على سؤال، ضمن حوار أجرته معه الصحفيَّة رفيدة حسن، حول ما إن كانت الانتخابات ستقوم في موعدها، قائلاً: "هذا كذب حكومي فقط، لأن الإحصاء السُّكاني تمَّ كبته، وبدون هذا الإحصاء لن تجري انتخابات، وإذا جرت لن تكون حُرَّة ولا نزيهة!" (سودانايل، 27/3/10). وليس أبلغ من هذا في التعبير عن تقلب واصطراع (الأهواء) السِّياسيَّة الشَّخصيَّة، لدى الرَّجل، بين رغبته في أن يخسف بنظام الحزب الحاكم الأرض، من جهة، ورغبته في الإبقاء عليه، طالما ليس بمستطاعه أن يكون هو بديله في الوقت الرَّاهن!
وفي ما عدا (زلات اللسان) النادرة، من هذه الشَّاكلة، مِمَّا يؤكد علمه التام بحقيقة (الوسيلة) الأثيرة التي أدمن الحزب الحاكم اللجؤ إليها لحسم نتائج المنافسات الانتخابيَّة، بمختلف مستوياتها، كبُرت أم صغرت، ظلَّ د. الترابي يقاوم، بعناد، كلَّ اتجاه لوَصْم العمليَّة الانتخابيَّة بـ (التزوير) أو (عدم النزاهة)، بينما كان واضحاً أن طيوف تلك (الوصمة) نفسها ظلت تهشُّ على عقول أقرب مساعديه إليه، وتقف، كالغصَّة، في حلوقهم، غير أن توقيرهم له ظلَّ يحول دون نطقهم بها، حتى أن الأستاذ كمال عمر، رئيس المكتب السِّياسي لـ (الشَّعبي)، عندما تغلب عقله الباطن على إرادته الواعية، ذات حديث تلفزيوني مشوب بأشدِّ الغبن، نهار اليوم التالي لنهاية الاقتراع، كاد يفصح، بصريح العبارة، عن دمغ الانتخابات بـ "عدم النزاهة"، هكذا على الإطلاق، لولا أنه انتبه، في آخر لحظة، ليكتم ذلك الوصف الشَّائن، فخرجت العبارة من فمه محوَّرة إلى "الانتخابات التي توفرت فيها (بعض) النزاهة!" (قناة الجزيرة، 16/4/10).

(16)
مع اقتراب موعد الاقتراع كان د. الترابي، في الواقع، قد سدر، تماماً، في ركوب أكثر من سرج في وقت واحد، وأوغل، إلى أقصى حدٍّ، في إطلاق رسائله المتعارضة في جميع الاتجاهات، الأمر الذي ترتب عليه اضطراب التصريحات وارتباكها، واتخاذ المواقف ونقائضها، من شاكلة إبلاغه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، صاحب المركز الأبرز في مراقبة الانتخابات، بمخاوفه من "الضغوط والفساد السافر الذي يمكن ان يواجه العمليَّة الانتخابيَّة، خاصَّة في الريف، مع عدم تمتع المفوضيَّة بالاستقلال الكافي" (الصَّحافة، 10/2/10)؛ ثمَّ إبدائه، في التو والحين، كامل اطمئنانه إلى أن "صناديق الاقتراع ستكون محفوظة، والرقابة عليها ستكون كثيفة" (الشرق الأوسط، 10/2/10)، ولا غرو، فمرماه الأساسي هو إكساب الانتخابات صدقيَّة تبعد عن النظام الذي ستفرزه شبح (اللاشرعيَّة)، وتكسب ساحة صراع (الإخوة الأعداء) ما تتطلبه من (شرعيَّة)؛ وذلك، في الحقيقة، هو مربط فرسه!
لكنه، ما أن تيقن، أولاً، من مقاطعة الانتخابات، فعليَّاً، من جانب غالبيَّة أركان (قوى جوبا) التي يمكن أن تشكل مشاركتها الحثيثة فيها تهديداً جدِّيَّاً لـ (مشروعه)؛ وما أن تيقن، ثانياً، من عدم مقاطعتها من جانب قوى أخرى، بما يكفي، في تصوُّره، لإكسابها الشَّكل التنافسي المطلوب، ومن ثمَّ لإضفاء طابع (الشَّرعيَّة) عليها؛ ثمَّ ما أن تيقن، ثالثاً، وعقب نهاية مرحلة الاقتراع، من موقف مراقبيها الغربيين، وخصوصاً كارتر الذي صرَّح بأن "المجتمع الدَّولي سيعترف بنتيجتها، رغم أنها لم ترقَ إلى مستوى المعايير الدَّوليَّة!" (قناة الجزيرة، 17/4/10)؛ وأخيراً ما أن تيقن، على وجه العموم، من أنه لم يعُد ثمَّة تهديد جدِّيٍّ، بحسب تقديره، لـ (شرعيَّة) ساحة (المعركة الرئيسة) التي ينبغي، وفقاً لاستراتيجيَّته، أن تقتصر على (الإخوة الإسلامويين الأعداء)؛ حتى قام إلى (صراعه)، فوراً، مع البشير وحزبه، لا يضيِّع ساعة واحدة، حيث انقلب، بلا أيِّ مقدِّمات، يعلن، في مؤتمر صحفي، مساء السبت 17/4/2010م، عن (رفضه) لنتائج هذه الانتخابات، قبل إعلانها رسميَّاً، وهي ذات الانتخابات التي لطالما أصرَّ على المشاركة فيها، بالمخالفة لرأي (حلفائه!)، بل وظلَّ يردِّد، حتى آخر لحظة، أن قرار مقاطعتها خاطئ خاطئ (!)، مثلما انقلب يعلن عن أنه اكتشف، فجأة، أن النظام الذي ظلَّ ينافح بعناد ضدَّ اتهامه بـ (التزوير!)، وضدَّ وصف (انتخاباته!) بـ (عدم النزاهة!)، قد ارتكب جميع هذه الموبقات بـ (تبديل!) الصناديق التي لطالما حرص هو على بثِّ الطمأنينة في نفوس الناس إلى كونها "ستكون محفوظة، والرَّقابة عليها ستكون كثيفة" (قناة الجزيرة، 17/4/10)؛ كما ويعلن أن هذا (العبث!)، على حدِّ تعبيره، وقع في المراحل الأخيرة للعمليَّة الانتخابيَّة، قائلاً: "لقد وردت إلينا أنباء متواترة من ساسة كبار في النظام، ومن عناصر في أمنه الرَّسمي الخاص، مِمَّن هم على صلة بنا، وكثيراً ما يناجوننا، كونهم متردِّدين بين البقاء في النظام، وبين استبقاء ولائهم للحركة الأصل، ومن مناجاتهم لنا أن النظام أعدَّ عُدَّته لاكتساح الانتخابات بـ (تبديل) الصناديق، لا بالتصويت" (المصدر)؛ و .. طيِّب!
غير أن ثمَّة ملاحظة على هذا البيان ينبغي ألا تغفل عنها العين، وهي أن تلك (المناجاة) لا يمكن، بالمنطق، أن تكون قد وقعت، لأوَّل مرَّة، بالسبت 17/4/2010م، بعد يومين من نهاية الاقتراع؛ بل إنها، بطبيعتها، وبالدَّلالة اللغويَّة لكلمة (متواترة)، وبحكم الإضاءات التي سلطها عليها د. الترابي، لا بُدَّ قد وقعت قبل ذلك بكثير! فعبارة مثل "وردتنا أنباء (متواترة) بأن النظام أعدَّ عدَّته"، إنما تناسب، تماماً، الفعل المراد تحقيقه في المستقبل، لا المنقضي في الماضي!
إذن، وإذا اتفقنا على أن ذلك لا بُدَّ أن يكون، عقلاً، كذلك، فإن السُّؤال المنطقي الذي يطرح نفسه، هنا، فوراً، هو: لماذا انتظر د. الترابي كلَّ تلك المدَّة ليكشف عن ذلك الفعل بعد (خراب سوبا)؟! ولماذا لم يبلغ به حلفاءه في حينه، بدلاً من التمادي في حثهم على المشاركة في انتخابات كان يعلم، سلفاً، أنها ستكون (مضروبة)؟! بل ولماذا شارك هو نفسه فيها، طالما أنه كان يعرف كلَّ تلك (الخبايا)؟!
خبايا؟! وحده، وأيم الله، د. الترابي هو مَن يرغب، بآخرة، في أن يصوِّرها كذلك، بينما ظلَّ متاحاً، حتى لراعي الضأن في الخلاء، أن يراها، بشئ من التبصُّر، في كلِّ ما ظلَّ يجري حوله، على الأقلِّ خلال الأشهر الماضية، بل وأن يدرك، أيضاً، أن مبلغ همِّ د. الترابي كان، وما يزال، وسيظلُّ، طال الزَّمن أم قصُر، هو ضمان بقاء (الجَّماعة ديل) في السُّلطة، كي يستمرَّ هو في مصادمتهم، بينما عينه لا تغفل، لحظة، عن تحرُّكات القوى الأخرى، ريثما تتاح له، لا لسواه، القدرة الكافية، والفرصة المواتية، للانقضاض على نظام (الإنقاذ)، والاطاحة به، والحلول محله!
بعبارة أكثر إيجازاً، ظلَّ الترابي يأمل في "أن يأكل الكعكعة، وأن يحتفظ بها في نفس الوقت"، بمعكوس حكمة المثل الأفرنجي السَّائر! وهي خطة، وإن بدت، للوهلة الأولى، كما سبق وقلنا، غريبة، أو شديدة التعقيد، إلا أنها تمثل، يقيناً، الثقل الأساسي، ضمن فكر الدكتور، والخط الرئيس لاستراتيجيَّته السِّياسيَّة!

(17)
مع ذلك كله، ومهما يكن من شئ، فلو أن الأمر اقتصر على (الانتخابات) وحدها، لكان هيِّناً ومقدوراً عليه! ذلك أن (الانتخابات) جزء لا يتجزَّأ من قضيَّة (التحوُّل الديموقراطي) التي هي، بطبيعتها، قضيَّة (اجتماعيَّة) تمثل، على أيَّة حال، ساحة صراع (سياسي) لن ينقضي بأخي وأخيك، في ما يبدو، ولزمن ليس بالقصير. لكن الأخطر من ذلك أن هذه القضيَّة (الاجتماعيَّة) راحت، بآخرة، تنزلق، بسرعة الضوء، لتشتبك، في أكثر من موضع، مع القضيَّة (الوطنيَّة)، المتمثلة، بالأساس، في (وحدة) البلاد، و(الحفاظ) على (سلامة) أراضيها، والتي ستتعرَّض لاختبار عسير، من خلال (الاستفتاء) المقرَّر في يناير 2011م، حسب اتفاقيَّة السَّلام الشامل المبرمة في 2005م، الأمر الذي لم يُظهر الحزب الحاكم عناية كافية به، أو حدباً ملموساً عليه، طوال السَّنوات الخمس الماضية، كما ولا يبدو أن في جُعبته من (سحر الحُواة) ما قد يمكنه من الوفاء، ولو بأقل القليل من هذا الاستحقاق الوطني، خلال الأشهر الثمانية المتبقية على الحدث الجلل! ذلك على الرَّغم من العبء التواثقي الذي ظلَّ ملقى على كاهله، طوال تلك السَّنوات، من حيث التزامه المفترض بجملة نصوص من (المبادئ المتفق عليها)، ضمن (بروتوكول مشاكوس) المبرم في 20/7/2002م، كالبند/1/1 الذي يجعل (الأولويَّة) لـ (الوحدة) القائمة على "إرادة الشعب الحُرَّة، والحكم الديموقراطي، والمساءلة، والمساواة، والاحترام، والعدالة"؛ والبند/1/5/1 الذي ينصُّ على إقامة (نظام ديموقراطي) في البلاد، والبند/1/5/2 الذي ينصُّ على أن (السَّلام) لا يكون بمجرَّد إيقاف (الحرب)، وإنما "بالعدالة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسّياسيَّة"، فضلاً عن البند/1/5/5 الذي يقترن فيه (الاستفتاء) نفسه، كممارسة مستحقة لـ (تقرير المصير)، بالعمل على جعل (الوحدة) خياراً (جذاباً)؛ وكذلك البند/2/4/2 من (الجزء ب: عمليَّة الانتقال)، والذي ينصُّ على وجوب عمل الأطراف مع (مفوضيَّة التقويم والتقدير) لجعل (الوحدة) خياراً (جذاباً) للجنوبيّين!
صحيح أن هذا العبء مِمَّا يُفترض أن يتحمَّل نصيبه منه، أيضاً، الطرف الآخر: الحركة الشَّعبيَّة. ولقد سَّددنا، بالفعل، وفي أكثر من مناسبة، نقدنا، بالمقابل، لتقصيرها، على هذا الصَّعيد. لكن ليس من عدالة السَّماء، ولا من فطرة العقل، أن نساوي، في المسئوليَّة، بين الطرف الأقوى والطرف الأضعف، وأن نحمِّلهما إيَّاها بذات القدر. فالطرف الأكبر هو الذي يتحمَّل العبء الأكبر. هذا هو منطق العدل الذي يُقام، عليه، الوزن، وتنصب، لأجله، الموازين. وإذن، فلا يمكن، لأيِّ نظر سليم، ألا يرى، على هذا الأساس، فداحة إهدار الحزب الحاكم للسَّانحة التاريخيَّة النادرة التي هيَّأتها له اتفاقيَّة السَّلام الشامل، منذ العام 2005م، في ما لو كان تحلى بأدنى قدر من الإرادة السِّياسيَّة، كي يجبر كسر الوطن، ويلمَّ ما تبعثر، شذر مذر، من شعثه، ويرمِّم ما خلفت الحروب وظلامات التهميش من شروخ جبهته الدَّاخليَّة، حتى تخلخلت عمده، وتشققت جدرانه، وتصدَّعت أركانه، وبات مشرفاً، بجهاته الأربع، على انهيار فضائحيٍّ مدوِّ!
لقد فتح فجر التاسع من يناير 2005م نوافذ شعبنا على شموس فرح لم تعانقها عيونه منذ أزمنة بعيدة؛ لكن نهج الأثرة، والتهميش، والتكالب، والفساد، وضيق الأفق، وانعدام الإرادة السياسية، بدَّد كلَّ تلك البشارات، بل أحالها إلى بقايا رماد وسط عاصفة هوجاء، وحالَ دون قدرة (الجَّماعة ديل) على أن يرفعوا رؤوسهم، كي يبصروا، ولو لمرَّة، أبعد من مواطئ أقدامهم، حيث الشَّجر يمشي، وسُحُب الأطماع الأجنبيَّة تتجمَّع، ومصالح الضَّواري العالميَّة تتلاطم، هدَّارة، من كلِّ حدب وصوب، باتجاه وطننا الذي لم يعُد يغمض عينيه المؤرَّقتين، أو يفتحهما، إلا على مخايل خارطته العزيزة منهوشة، مقضومة، شائهة، ينزف جرحها الفاغر شلالات من زكيِّ الدَّم المسفوح على أحراش ومستنقعات وسط أفريقيا وجنوبها، بعد أن أسلم هذا النهج الكريه آمال شعبنا، بالأخصِّ في تلك المراتع الحبيبة، إلى يأس ممدود، وغبن بلا حدود، وعمد إلى تكسير مجاديف النزعة (الوحدويَّة) في الحركة الشعبيَّة، وتعزيز استقواء التيَّارات (الانفصاليَّة)، داخلها وخارجها، مِمَّا انعكس، بالنتيجة المحتومة، سلباً، على مجمل أوضاع قضيَّتنا (الوطنيَّة) الكبرى!

(18)
فهْمُ هذه الإشكاليَّة بصورة دقيقة غير ممكن بدون العودة إلى الحالة التي تشكلت، من خلالها، جدليَّة (الوحدة والانفصال)، أصلاً، في فكر الحركة، منذ أوَّل تأسيسها، في يوليو 1983م، وحتى الوقت الرَّاهن، باعتبار أن أرجحيَّة أيٍّ من هذين الضِّدَّين تتحقق، ليس، فقط، بمحض ما يختزن من عوامل تلقائيَّة، وإنما، أيضاً، بمدى قوَّة الدَّعم القصديِّ الذي يناله تحت الظرف المحدَّد. في هذا السِّياق، وبحسب د. جون قاي نيوت، أستاذ العلوم السِّياسيَّة بجامعة جنوب أفريقيا ببريتوريا، في مبحثه القيِّم (الخلفيَّة التاريخيَّة لتكوين قطاعي الجنوب والشمال في الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السودان وتبلوُر الهدفين التوأمين: السودان الجديد الموحَّد وتقرير المصير)، والذي كنا عرضنا ترجمة لأجزاء منه، ضمن رُزنامة 16/11/2009م، ولا نرى بأساً في إعادة التذكير، هنا، بأهمِّ جوانبه، فإن الاختلاف قد وقع، منذ ذلك الوقت الباكر، بين مجموعتين: الأولى، بقيادة د. جون قرنق، ووليم نون، وكاربينو كوانين، وسلفا كير ميارديت، نظرت للمشكلة، لا باعتبارها تخصُّ الجنوب وحده، بل السودان كله، من حيث استهداف سياسات الهجمنة hegemonic politics، لدى حكومات المركز، لأقاليم البلاد كافة، بالتهميش، ومن ثمَّ اعتبرت تلك المجموعة أن الضرورة الموضوعيَّة تقضي بتصويب النضال نحو التحرير الشَّامل للسودان كله من نير تلك السِّياسات. أما المجموعة الأخرى، والتي كان أبرز رموزها صمويل قاي، وأكوت أتيم، ووليم شول، فقد دعت إلى التركيز، فقط، على تحرير الجنوب، باعتبار ذلك قد شكل، دائماً، ومنذ 1955م، هدف الأجيال المتعاقبة للمناضلين الجنوبيين، سواء في (أنيانيا ون) أو (أنيانيا تو). ومنذ ذلك الحين عُرفت الكتلة الأولى بـ (تيَّار السودان الجديد)، بينما عُرفت الكتلة الثانية بـ (تيَّار الأجندة الجنوبيَّة).
لكن هاتين الرؤيتين لم تتصادما، بقدر ما أمكنهما التعايش، على نحو أو آخر، حتى يوليو 2005م، حين قرَّر د. قرنق تكوين قطاعين في الحركة، أحدهما للجنوب، بقيادة باقان اموم، والآخر للشمال، بقيادة عبد العزيز آدم الحلو. عند ذاك توزَّعت مواقف العضويَّة من ذلك القرار على ثلاث مدارس فكريَّة: الأولى اعتبرته خرقاً لمانفستو الحركة الذي يفترض نظامه القيمي أنها تنظيم قومي يناضل لتأسيس دولة علمانيَّة ديموقراطيَّة موحَّدة، تعتبر المواطنة فيها هي أساس الانتماء. وبالتالي فإن إنشاء القطاعين يناقض روح المانفستو، ويخلق، عمليَّاً، مركزي قوَّة متمايزين، فضلاً عن كتلتين إقليميَّتين منفصلتين، كلّ منهما قابلة لبلورة أيديولوجيَّة مختلفة، وتوجُّه سياسي خاص. أما الثانية فقد رأت فيه تطوُّراً طبيعيَّاً، حيث لزم الحركة، بعد اتفاقية السَّلام الشامل، أن ترتب أوضاعها في الشَّمال، تمهيداً لتمدُّدها في كلّ البلاد، وإعداد نفسها لاكتساح الانتخابات، ومن ثمَّ تولي السُّلطة على مستوى السودان كله. وأما الثالثة فقد استقبلته كانعكاس منطقيّ للأيديولوجيَّة الواقعيَّة التي قضت، منذ مؤتمر الحركة الأوَّل في أبريل 1994م، باعتماد الهدفين التوأمين: (السودان الجديد) و(تقرير المصير)، كأساس لأيّ محادثات سلام مع الحكومة؛ فما كان متصوَّراً، بالتالي، أن تتيح الحركة لأعضائها الشماليين إدارة أمورها في الجنوب، وذلك تحسُّباً لانفصال الإقليم، كأحد مترتبات الاستفتاء المتوقعة! وكان من الحُجج التي ساقها أصحاب هذه المدرسة، أيضاً، أن بإمكان (قطاع الشَّمال)، إذا حدث وجاءت نتيجة الاستفتاء، بالفعل، لصالح الانفصال في 2011م، وخصوصاً عندما تعقد الحركة مؤتمرها الثالث في مايو 2013م، أن يبرز كتنظيم قائم بذاته! وقد اعتمد هؤلاء تلك الحُجَّة كمبرّر لاستبعاد جبال النوبا وجنوب النيل الأزرق من (قطاع الجنوب)، متناسين إمكانيَّة أن تسفر (المشورة الشعبيَّة) التي ستجري بالتلازم مع (الاستفتاء)، عن اختيار هتين المنطقتين الالتحاق بدولة الجنوب حالَ الانفصال!
ويرى الباحث، من منظور تاريخي، أن الضرورة هي التي قضت بتغليب الحركة للعمل العسكري، كآليَّة لتحويل السودان (القديم) إلى سودان (جديد)، حيث تعلمت، من التجارب السَّابقة، أن حلَّ المشكلة بالطرق السلميَّة صعب. كما يعتبر الحركة نفسها ناتجاً عرضيَّاً لشتى الأفكار التي تضامَّت لتشكل أساس المانفستو، وأن الأخير غذى مختلف النزعات التي شكلت العصب الأيديولوجي لغالبيَّة الأعضاء. لكن، ولكون نضال الحركة قد ابتدأ، أصلاً، من الجنوب، فقد كان محتماً أن تتبلور أيديولوجيَّة جديدة تستوعب الخيارين معاً: الوحدة في التنوُّع، أو الانفصال!
كذلك يتتبَّع د. قاي الإشكاليَّات الأيديولوجيَّة والسّياسيَّة والتنظيميَّة التي جابهتها الحركة، خصوصاً عقب انقسام أغسطس 1991م الذي رأى فيه شماليُّوها، ليس، فقط، مهدِّداً لوحدتها، بل ردَّة كاملة عن مشروع (السودان الجديد) الاشتراكي الديموقراطي العلماني الموحَّد. وكان الجدال، قبل ذلك، قد انحصر بين رفاق اعتبر بعضهم تقدُّميَّاً والبعض الآخر إصلاحيَّاً. وتواصلت مجابهة الحركة لتلك الإشكاليَّات في مفاوضات أبوجا (1992 ـ 1993م)، حيث برزت المفاضلة بين (الوحدة) على أساس (فيدرالي)، أو حتى (كونفيدرالي)، وبين (تقرير المصير) للجنوب. لكن، ولأن بناء (السودان الجديد) ظلَّ دائماً هو الهدف الغالب، فقد وجَّه د. قرنق رسالة واضحة للجميع: "يمكن لمن يريد تحرير الجنوب وحده أن يتوقف عندما نبلغ كوستي، أما الآخرون فيحقُّ لهم مواصلة النضال لتحرير بقيَّة البلاد"! وفي هذا السياق جاءت، أيضاً، فترة التجمُّع الوطني، وميثاق أسمرا 1995م، ثمَّ المفاوضات الشَّاقة في كينيا، والتي أثمرت اتفاقيَّة السلام في يناير 2005م، وما تمخّض عنها من ترتيبات للفترة الانتقاليَّة، الأمر الذي شكل، بالنسبة للكثيرين من كوادر الحركة، محور صراع، وضرورة ملحَّة لمراجعة كلِّ خطوطها.
ويخلص د. قاي إلى أن ما يبدو، الآن، مأزقاً أيديولوجيَّاً وسياسيَّاً داخل الحركة، ناجم، في الواقع، من أن كلَّ الأطياف المُهمَّشة تقبَّلت مفهوم (السودان الجديد)، وقاتلت من أجله، وضحَّت. غير أن المشكلة هي أن هذا المفهوم تكشَّف، لدى التطبيق، عن تعقيدات لا حصر لها، خصوصاً في المستويات التنظيميَّة للقطاعين، وصعوبة توطينه في شتى البيئات المحليَّة، دون إيلاء الاهتمام الكافي للجوانب التي قد تكون متناقضة!
(نواصل)



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (2) إرتِبَاكاتُ حَلْبِ التُّيوسْ!
- حكايةُ الجَّماعة .. ديل (1 2) الاِسْتِكْرَاد!
- مَنْ يَرقُصُ لا يُخفي لحْيَتَه!
- بَرَاقشُ .. الأَفريقيَّة!
- السَّيْطَرَةُ الهجْريَّة!
- رَدُّ التَحيَّة بأَحْسَن منْهَا!
- لَيْلَةُ البَلاَلاَيْكَا!
- الهُبُوطُوميتَر!
- عَودَةُ العَامل والفَلاَّحَة!
- آخرُ مَولُود لشُرطيّ سَابق!
- طَبْعَةُ وَاشنْطُنْ!
- إشكَاليَّةُ القَاوُرْمَة!
- مَنْ يُغطّي النَّارَ بالعَويش؟!
- أيَّامٌ تُديرُ الرَّأس!
- مَحْمُودٌ .. الكَذَّاب!
- يَا وَاحدَاً في كُلّ حَالْ! (2)
- يَا وَاحدَاً في كُلّ حَالْ!
- عَتُودُ الدَّوْلَة (الأخيرة)
- عَتُودُ الدَّوْلَة (13) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ...
- عَتُودُ الدَّوْلَة (12) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ...


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (3) هَمُّ الشَّعْبي وهَمُّ الشَّعْبيَّة!