أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - القبليات المعرفية وعلاقتها بالفهم الديني















المزيد.....



القبليات المعرفية وعلاقتها بالفهم الديني


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3076 - 2010 / 7 / 27 - 13:41
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الفكر هو علاقة معرفية تربط الذهن بالموضوع. او هو قراءة الذهن ورؤيته للموضوع. ففيه ان العلاقة قائمة بين القراءة والرؤية من جهة، وبين الموضوع من جهة أُخرى. فطالما هناك تفكير بشري فلا بد من هذه العلاقة الثنائية. ففي علم الطبيعة مثلاً هناك علم من جهة، وهناك طبيعة مستقلة من جهة ثانية، او قل هناك شيئان: شيء لذاتنا وشيء في ذاته. وهذا التقسيم يجعل العلاقة بين الفكر والموضوع ليست متطابقة بالضرورة، فهي اشبه بعلاقة الماهية بالوجود حسب تصور فلاسفتنا القدماء، اذ الوجود واحد لكنه يتعدد بتعدد قابليات الماهيات ويتنوع بتنوعها.
هكذا فان الفكر يتعدد مع ان الموضوع واحد. وهذا ما يبرر اختلاف القراءات الى الدرجة التي يرى فيها الكثير ان النص مفتوح وقابل الى ما لا نهاية له من القراءات والأفهام، واليه يعود السبب فيما يطرح احياناً من تساؤل حول ما اذا كان للنص معنى مقصود كشيء في ذاته ام لا؟ فهذه النسبية تدل على ما للفكر من تأثر بكل من الذهن والموضوع، مثل تأثر الصورة في المرآة بكل من الشخص وهذه الأخيرة. فالمرآة المستوية لا تعطي ذات الصورة التي تعطيها المرآة المقعرة او المحدبة او غيرها، لكن جميع المرايا تظل معبرة عن شيء واحد لا غير، هو ذلك الشخص، دون ان تخلط بينه وبين غيره من الأشياء. ونفس الحال يجري مع الفكر والقراءات.
فالفكر واقع - لا محالة - تحت تأثير الذهن البشري واعتباراته القبلية. وقد تكون هذه الاعتبارات عامة مشتركة، كما قد تكون خاصة ببعض الأذهان دون البعض الآخر. فمثلاً على الاعتبارات القبلية العامة؛ مبدأ السببية وعدم التناقض، ولكون هذه القضايا واضحة للجميع فإن بها يكون العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، حسب قول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت . أما الاعتبارات القبلية الخاصة فهي تعود الى المنظومات الفكرية المتباينة، فمثلاً للمنظومة الفلسفية اعتباراتها القبلية الخاصة التي تميزها عن الاعتبارات القبلية الخاصة بالمنظومة الكلامية، وهكذا.. كما قد تكون هذه الاعتبارات منضبطة او غير منضبطة، اي تخضع الى قواعد واضحة فتكون منضبطة، او انها لا تخضع الى ذلك كتلك المتأثرة بالظروف النفسية والخارجية فتكون غير منضبطة.
وليس الفكر الديني ومنه الاسلامي بمنئى عن هذه الحقيقة العامة، حيث انه ايضاً متأثر بما عليه الذهن البشري واعتباراته القبلية بأصنافه السابقة، فهو بالتالي فكر بشري اجتهادي قابل للتعدد كغيره من مذاهب الفكر. وحتى التيار المتصف بالنقلي او البياني يستند الى عدد من القبليات المعرفية تجعله تياراً اجتهادياً كغيره من التيارات الدينية، كالذي أشار اليه ابن رشد في بعض المواضع من كتابه (مناهج الأدلة في عقائد الملة).
علماً بأن القبليات المعرفية هي كل معرفة يعتمد عليها في الادراك والعلم والفهم سلفاً، وهي لا تشكل بالضرورة مبادئ ثابتة ولا قواعد منضبطة، بل منها ما هو منضبط وثابت، كما منها ما هو غير منضبط ومتغير، وان البشر يتفاوتون ويختلفون حولها، فمنها المتفق عليه، ومنها المختلف حوله.
والمشترك بين ادراك الشيء الخارجي وبين فهم النص هو ان الموضوع المعالج لدى كل منهما يمثل مادة خام يراد الكشف عن معناها وتفسيرها. وهو ما يمكن اعتباره (الشيء في ذاته)، وان كلاً منهما يخضع الى آليات من التفكير القائم على القبليات. والفكر البشري عن وعي او غير وعي يعمل طبقاً لهذه القبليات، حاله في ذلك حال اللغة حيث هي الأُخرى تعمل ضمن وعاء مشترك قبلي قادر على فهم الجمل اللغوية وتوليدها بلا حدود، سواء كان ذلك يجري عبر نظام (الكفاية اللغوية) كما اطلق عليه تشومسكي، او عبر خرق هذا النظام بأداة (المتبقي) كما اطلق عليه لوسركل. لكن تظل القابلية الفكرية اعمق واوسع مدى من القابلية اللغوية، وفيها من القواعد والمبادئ ما لا نجده في القابلية اللغوية، وبها يتهيء العمل ضمن انظمة معرفية قد تختلف وقد تشترك.
وقد كان عمانوئيل كانت (المتوفى سنة 1804) يعتبر العقل هو الذي يحدد الموضوع الخارجي، وهذه هي ثورته كما وصفها بأنها ثورة في الفلسفة على غرار الثورة الكوبرنيكية في علم الفلك، فكما ان كوبرنيك قلب التصور البطليمي القديم معتبراً الارض هي التي تدور حول الشمس لا العكس، فكذا ان (كانت) اعتبر العقل هو المحدد للشيء الخارجي خلافاً للرؤية السائدة قبله والتي كانت على العكس ترى الشيء الخارجي هو الذي يحدد العقل، ومنه الاستنتاج القائل بتطابق العقل والطبيعة، او الصورة الذهنية والشيء الخارجي.
وبحسب المقياس (الكانتي) فان ما هو قبلي جدير بتحديد ما هو بعدي. ولا شك ان هذا الحال ينطبق على ما يجري في الفهم. ولو صحت مقولة (كانت) لكان الفهم هو المحدد للنص لا العكس، وبعبارة ادق ان ما هو قبلي للفهم يقوم بتحديد ما هو بعدي له.
وتعتمد نظرية (كانت) السابقة على التفرقة بين «ما لذاتنا وما في ذاته»، وهي تفرقة صحيحة. فنحن لا نمتلك فعلاً غير «ما لذاتنا»، لكن ذلك لا يعني وجود فصل تام بين الأمرين كما يميل اليه (كانت)، اذ يرى ان الذهن البشري يحدد الأشياء عبر ادراك «ما لذاتنا» بمعزل عن «الشيء في ذاته»، طالما ان هذا الأخير يستحيل ادراكه، فكل ما ندركه هو ذلك الظاهر في الذهن، وهو لا يدل على المطابقة مع «الشيء في ذاته» باي نحو من الانحاء، ويظل هذا الشيء بالنسبة الينا مجهولاً مطلقاً. وبالتالي فإن القبلي هو ما يحدد البعدي بهيئة (ما لذاتنا)، استناداً الى الشروط القبلية والقوالب الذهنية كشرط السببية وقالبي الزمان والمكان.
وقد نثبت العكس، وهو ان للأشياء دوراً في تحديد «ما لذاتنا»، لذا فالفصل المطلق بين «ما لذاتنا وما في ذاته» هو فصل وهمي مفتعل. مما يعني ان من الممكن استكشاف بعض الحقائق الموضوعية في الأشياء، كما يمكن اثبات هذه الأشياء - نسبياً - عوضاً عن الزعم (الكانتي) الذاهب الى ان الشروط القبلية لا تمتلك موضوعية خارجية بالضرورة، وهو ما يجعل الشيء في ذاته عصياً عن التحديد والمعرفة. رغم ان بهذه الشروط استطاع (كانت) ان يثبت لنا الشيء في ذاته، كإستعانته بمبدأ السببية. فاذا كنا ندرك ظواهر الأشياء كشيء لذاتنا فما الذي يدعونا للاعتقاد بوجود شيء في ذاته إن لم نستند الى مبدأ السببية؟! وعليه كيف جاز لنظرية (كانت) ان تعد هذا المبدأ مفصولاً عن الواقع الموضوعي مع أن به تقرر ذلك الواقع، وبدونه يستحيل اثبات الشيء في ذاته؟!
وقد سبق للفيلسوف المثالي باركلي (المتوفى سنة 1753) ان زعم بغياب المبرر للقول بوجود الحقائق الخارجية، او ما يعبر عنه كانت (الشيء في ذاته). فاذا كان كل ما نمتلكه هو الشيء لذاتنا فقط، فما مبرر الاعتقاد بوجود عالم خارجي ونحن لا يسعنا ادراكه ادراكاً مباشراً؟ لكن لو سلمنا ان بوسع الشروط الخارجية اثبات الشيء في ذاته، فما الذي يمنع من تحديد هذا الشيء بحسبها؟ وبعبارة أُخرى الى اي حد يمكننا اثبات قضايا الواقع؟ هل باستطاعتنا ان نثبت تفاصيله او مجملاته؟ وهل يمكننا اثبات كيفياته ام كمياته ورموزه؟ وماذا بشأن العلاقات بين الأشياء وارتباطاتها بحسب التأثير والاقتران الزماني والمكاني؟
هكذا تثور بعض المؤاخذات على مقالة (كانت). فما يدعيه في تحديد العقل للشيء الخارجي مقبول على النحو النسبي، فالتأثير مشترك ومتبادل، فالعقل يحدد الشيء، والعكس صحيح. والدليل على ذلك ظهور الأشياء في الذهن منتظمة، فهي تظهر بالشكل الذي تظهر فيه تبعاً لعاملين؛ هما: الشيء كما في ذاته، وقبليات الادراك العقلي. لذا فالعقل لا يحدد الشيء تحديده المطلق، بل الأمر متبادل بين العقل والشيء. وبعبارة ادق، تتحدد الصورة الذهنية بتأثير كل من العقل والشيء الخارجي، فلا العقل يحدد الصورة وحده، ولا الشيء الخارجي يفعل ذلك، بل كلاهما يعملان - معاً - على تحديدها.
وينطبق الأمر ذاته على العلاقة بين الفهم والنص، فاحدهما يعمل على تحديد الاخر. فالفهم لا يحدد النص باطلاق، كما ان النص لا يحدد الفهم باطلاق، والأمر نسبي.
واذا توخينا الدقة فان الفهم محدد بكل من القبليات والنص معاً، فلا القبليات تعمل على تحديد الفهم وحدها، ولا النص يفعل ذلك، بل كلاهما يعمل على تحديده بنوع من الاشتراك. وعليه فعندما نقول ان الفهم محدد بفعل القبليات فلا يعني ذلك انه معزول عن تأثير النص.
لذا ففي الفهم الديني توجد عناصر ثلاثة، هي: القبليات والنص والفهم. والعلاقة الدائرة بينها هي علاقة ثابتة، فالفهم يتوقف على كل من القبليات والنص، وان غياب احد العنصرين الأخيرين يعني غياباً للفهم ذاته. لكن العكس ليس صحيحاً، اي ان غياب الفهم لا يعني غياباً للقبليات، كما لا يعني غياباً للنص. فالفهم نتاج التفاعل بين هذين العنصرين، ووجوده مستمد من وجودهما دون عكس.
وبعبارة أُخرى، إن بين ذات القارئ والنص المقروء مسافة لا يمكن اجتيازها الا عبر قنطرة القبليات. فلولا هذه القبليات لكانت المسافة قائمة والبعد باقياً من غير اجتياز.
وهنا يطرح السؤال المزدوج التالي: كيف نثبت ان القبليات تعمل على تحديد الفهم؟ وكيف نثبت كون النص يحدد الفهم ايضاً؟
وقد يصاغ هذا السؤال المزدوج بصيغة أُخرى لها علاقة بالادراك والشيء الخارجي، فيمكن أن يقال: كيف نثبت أن للعقل تأثيراً على تحديد الشيء الخارجي، كما تزعم نظرية (كانت) معتبرة العقل هو المحدد للشيء الخارجي لا العكس؟ كذلك كيف نعكس المسألة ونثبت ان الشيء الخارجي يحدد العقل مثلما ان هذا الأخير يحدد الاول؟
ومن حيث الدقة: كيف نثبت ان لكل من العقل والشيء الخارجي دوره في تحديد الصورة الذهنية والحكم التصديقي، فتكون هذه الصورة - وكذا الحكم - نتاج فعل عاملين: العقل بقضاياه القبلية، والشيء الخارجي كوجود مستقل؟
وبعبارة أُخرى: كيف نثبت ان ما هو قبلي يقوم بتحديد صورة ما هو بعدي، وان ما هو بعدي يعمل على تحديد تلك الصورة، وان العملية بين الطرفين مشتركة تتفاعل فيها العناصر الخارجية والذاتية لتحديد ادراك الشيء او صورته؟ وكذا هو الحال مع الاحكام التصديقية.
هكذا فان امامنا قضيتين متماثلتين. فالموقف من النص كشيء في ذاته وعلاقته بالصورة الذهنية لدى القارئ هو كالموقف من الشيء الطبيعي وعلاقته بالصورة الذهنية لدى الرائي، ولا جواب لدينا على هذه المشكلة الا باعتماد منطق القرائن الاستقرائية ودورها الايجابي في تنمية القوة الاحتمالية للتقريب بين الحالتين التصورية والموضوعية، او بين القراءة والنص المجهول كشيء في ذاته. فنحن نقوم - هنا - بعملية من الاستدلال، وكل عملية استدلال هي عبارة عن اتصال غير مباشر، فليس لدينا ما يمكن فعله من الاتصال المباشر في الكشف عن طبيعة الأشياء الخارجية، او الكشف عما يتضمنه النص المجهول كشيء في ذاته.
إذاً يمكننا ان نستدل بشتى القرائن الدالة على الحقيقة الموضوعية؛ سواء كانت طبيعية او نصية، وعملية الاستدلال هذه تتخذ السبل المنطقية التي فيها يمكن التمييز - في الكثير من الاحيان - بين الأمر الاقرب للحقيقة عن ذلك البعيد عنها.
وللتبسيط نفترض - مثلاً - ان احساسنا قد نقل لنا صورة ذهنية عن كرة تبدو أمامنا لكننا نشك في وجودها او كونها شيئاً اخر كالقلم والطاولة وغير ذلك. ففي هذه الحالة علينا ان نتوسط ونتوسل بمختلف القرائن لنثبت فيما لو كانت هذه الكرة حقيقية او وهمية، وكذا فيما اذا كانت بالفعل عبارة عن كرة او انها شيء آخر. ومع اننا بسبب تراكم الخبرات التي نمارسها في التعامل مع الأشياء الخارجية لن نحتاج عادة الى الاختبار او المزيد منه، لكنّا نفترض كما لو كنّا نمارس عملاً استدلالياً اولياً، مثلما هو الجاري في الممارسات الاستدلالية للعلوم الطبيعية. لكن حيث من المحتمل ان يكون ما نراه وهماً؛ لذا كان لا بد من صنع قرينة أُخرى، كإن نتحرك نحو زاوية أُخرى وننظر من خلالها إن كنّا سنرى شيئاً ما كالسابق، وكذا نذهب لنتلمس الشيء الذي نراه، اذ لو كان وهماً بصرياً لكان من المستبعد ان نتحسس بلمسه، فهذا الاحساس يزيد الظن بوجود شيء خارجي يحمل صفات تبدو انها دالة على الكرة، ولأجل التأكد أكثر يمكننا القيام بضرب ودحرجة ما لمسناه، كما يمكننا ان نأتي بآخرين ليخبرونا عما يرونه ويلمسونه من شيء، وكذا يمكننا ان نأخذ له صوراً فوتوغرافية تبين حقيقة وجوده ومعالمه.. الخ.
ويمكن تطبيق الأمر ذاته على العلاقة بين احساسنا التصوري في القراءة وبين النص المجهول كشيء في ذاته. حيث يمكننا في النص البسيط - مثلاً - ان نجمع العديد من القرائن الاحتمالية التي يمكنها ان تدعم تقارب الحقيقة بين القراءة والنص المجهول، بحيث كلما زادت هذه القرائن كلما قوي احتمال التقارب بينهما. وواقع الأمر ان اول فعل في القراءة ينشأ هو فعل الظهور المجالي، اذ يمكن الاستدلال على ان هذا الظهور قابل لان يبرر القطع الوجداني بالتطابق مع النص المجهول، وذلك بالقدر الذي ينفى عنه مجال (الخبز والشعير!). فقوة القطع الوجداني بالتطابق بين المجال والنص المجهول هي بنفس قوة القطع الذي نعتقد فيه ابتعاد النص عن مجال (الخبز والشعير!). فالقطع بهذا المعنى ممكن ومبرر تبعاً لكثرة القرائن الاحتمالية، وهي نفسها التي تبرر القطع بنفي ان يكون للنص إشارة تخص ذلك المجال المستبعد.
ويمكن تشبيه علاقة تطابق الظهور المجالي مع النص المجهول؛ بعلاقة الوجود مع الماهية، او علاقة النور مع الزجاج الملون. فالزجاج يظل مظلماً غير متميز واشبه بالمعدوم ما لم ينفذ اليه النور. فهذا النفاذ هو الذي يُظهره ملوناً كما هو عليه. اذ ليس بمقدور النور قلب الزجاج الى (الخبز والشعير)، او تحويل قابلياته الى شيء اخر. وبالتالي فلولا هذه القابليات الكامنة ما ظهر بالشكل الذي ظهر فيه، رغم ان ظهوره بهذا الشكل من الالوان لا يعبر عن حقيقة ما عليه الزجاج بالكامل، انما بفعل كل من النور والقابليات تظهر الالوان والاشكال على النحو الذي ظهرت فيه، ولولا النور ما ظهر من ذلك شيء، وكذا لو ان للنور لوناً اخر غير ما كان عليه؛ لظهرت الوان الزجاج بشكل مختلف عما كانت عليه.
إذاً يظل المجال ثابتاً هو هو لا ينقلب الى مجال (الخبز والشعير)، وان بدا تأثر الظاهر وما على شاكلته بالقبليات والاذهان.
هكذا نقف بفكرة المجال موقفاً وسطاً بين اولئك الذين رؤوا امكانية تطابق قراءتنا مع النص كشيء في ذاته، او كما قصدهُ صاحب النص، وبين اولئك الذين رؤوا في النص انفتاحاً لا يحده حدود، اي انه قابل للتشكل والانتاج الى ما لا نهاية له من القراءات والفهم والتفسير؛ بعدد القراء والمفسرين، وهو بهذا يكون مستقلاً عن قصد صاحبه باعتباره خطاباً مكتوباً وليس كلاماً مشافهاً . وتهيمن هذه الرؤية على الكثير من المفكرين الغربيين من رواد ما بعد الحداثة - من امثال غادامير ودريدا وريكور والبراجماتيين وغيرهم –. وتوحي نظريات عدد من هؤلاء بأنها لا تضع حدوداً للقراءة والتفسير، ولا ميزاناً للترجيح بين القراءات المتعددة، كالذي تدعو اليه براجماتية (رورتي) ونقائضية (دريدا) المسماة بالتفكيكية. مع أن هذا التصور يجعل النظرية لا تخدم قائليها إن لم تسيّج ضمن سياج منيع بمثل ذلك الذي اطلقنا عليه المجال. فهي ذاتها معبر عنها بالنص، ولو طبقنا عليه ما يقولونه لكان من غير الممتنع ان نقرأه قراءة هي على النقيض تماماً مما يريدون ايصاله الينا، وهنا سوف يستحيل ان يتحقق اي مجال للتواصل المعرفي. فالتواصل لا يتم الا عبر النص، ولما كان الأخير مفتوحاً، فلا مجال لمعرفة ما يراد منه ولو على سبيل التقريب، وبالتالي يصبح من العبث ان نكتب شيئاً او نقول شيئاً، فكل شيء يمكن حمله على (الخبز والشعير) بلا حدود. ولا شك ان فكرة المجال والفهم المجمل والقيم الاحتمالية تبعدنا عن هذا العبث من التفكير إن اريد به الانفتاح التام بلا قيود مقننة مرسومة.
كما أن المعنى الذي أراده غادامير رغم أنه لا يخرج عن المعنى الوجودي للانفتاح، بمعنى أن طبيعة الذهن البشري تظل خلاقة للفهم والتفكير بلا حدود، وهو أمر صحيح، سيما وأن في كل زمان هناك من يتجاوز المجال الظاهر للفهم، لكن مع ذلك فهذا الفيلسوف يرى ان كل فهم للنص لا بد ان يكون نتاج تأثيرين مختلفين من الأُفق، هما أُفق النص وأُفق الثقافة المعاصرة كما سنعرف، وهذا ما يجعل من المحال معرفة النص كما هو، وبالتالي الانفتاح على القراءات بلا حدود، رغم انه – مثل بول ريكور - لا يساوي بين هذه القراءات من حيث احتمال الإصابة . وفي جميع الأحوال تظل عملية التأويل عند غادامير وغيره من المفكرين مفتوحة بلا نهاية؛ باعتبارها لا تستوفي الغرض من اصابة المعنى النهائي. وهنا نعود الى المربع الأول، ونحن لا نجد رداً على هذا التحليل سوى ما ذكرناه، وسيأتينا تفصيل ذلك فيما بعد.
على أن ما يقدمه الفكر البشري من اجتهاد في قراءته للموضوع، سواء كان نصاً او واقعاً او غير ذلك، لا ينفي وجود حقائق متكشفة مجملة وقليلة للموضوع (الخام)، وكأن الموضوع يُظهر نفسه بنفسه.
فنحن هنا اشبه ما نكون أمام غابة كبيرة تشهد بوجود الاشجار الكثيفة دون شك، وكأن الاشجار تعلن عن نفسها، أما سائر الأشياء الأُخرى ، مثل انواع محددة من الحيوانات، فهي لا تظهر الا بعد البحث والتفتيش، وقد تظل هناك أشياء مجهولة عنا في هذه الغابة الكثيفة، كما قد تشتبه علينا أمور لا نعلم عنها شيئاً على وجه القطع واليقين لعدم قدرتنا على تحديدها بدقة.
وعليه أصبح الموضوع، كالنص مثلاً، ناطقاً بحقائق فعلية تتكشف لدى الادراك دون حاجة الى جهد التحديد والتعيين. لكنها - مع ذلك - تظل مجملة غاية الاجمال.
إذاً في المادة او الموضوع الخام، هناك حقيقة عامة تشهد عليها قرائن كثيرة تجعلها ظاهرة «بنفسها» دون جهد ادراك، سواء كان الموضوع الخام عبارة عن واقع او وجود او نص او عقل. لكن تظل الحقائق المتكشفة «بنفسها» محدودة، خلافاً لما يتبقى من مضامين، اذ تحتاج الى جهد الممارسة الاجتهادية عبر العلاقة التي تربط قبليات الادراك بالموضوع. فعند هذا الارتباط والامتزاج يتحول الموضوع الى علم وتفكير. فتارة تتلبس العلاقة الكشفية للذهن بموضوع الطبيعة فتنتج عن ذلك علوم الطبيعة، وأُخرى بالنص فتنتج علوم النص، وثالثة بالعقل فتنتج علوم العقل... الخ.
وبعبارة أُخرى، عندما يُعرض الموضوع على الذات البشرية يكون له وجه من الحقائق المنكشفة بفعل قبليات قرائن الاستقراء الاحتمالية، مثلما له وجه اخر يتلبس بمختلف قبليات الذات الكاشفة.
ولا نقصد - هنا - بالحقائق، الحكم على ما يتضمنه الموضوع من صواب او خطأ، بل نقصد بها الجانب الوصفي فحسب. فمثلاً يمكن ان نصف نصاً ما بهذه الحقائق التي لا تخطئها الذات القارئة؛ بنحو من الاجمال والعموم، وهو وصف لا علاقة له بمضمون ما يريد النص اثباته، سواء كان على صواب او خطأ. وبالتالي يمكن ان نطلق على مثل هذه الحقائق: الحقائق الاصلية او (الموضوعية)، اذ يعبّر الموضوع - في انكشافه - عن حقائقه الاصلية، وهو كونه على ما هو عليه من الخصائص المنكشفة.
وعندما يكون العقل هو الموضوع، يحصل نوع من الاتحاد بين الكاشف والمكشوف، او العاقل والمعقول، اذ يصبح العقل كاشفاً عما في نفسه، وهو من الحضور المباشر، خلافاً للموضوعات الأُخرى غير العقلية، اذ يكون الكاشف فيها غير المكشوف، او ان العلاقة بينهما هي علاقة غير مباشرة.
لكن ماذا لو قيل ان تركيبنا الذهني يرى الأشياء متسقة هكذا، ولو تغير هذا التركيب - كإن تتغير طبيعة ما عليه الجهاز العصبي مثلاً - لكُنا نرى الموضوع رؤية أُخرى مختلفة؟
في الجواب نقول: ان تغير التركيب الذهني لا يبعث على رؤية أُخرى متسقة، صحيح ان الرؤية عندها قد تتشوش وتضطرب او تنعدم، لكن من المستبعد تماماً ان يؤدي ذلك الى تكوين صورة نسقية. ففي أحسن الأحوال قد تبدو لنا الأشياء بأشكال مختلفة كذوات، او يظهر لنا عالم متسق آخر ما كان ظاهراً من قبل، لكن يُستبعد ان تبدو علاقات الأشياء متسقة بشكل مغاير للحال الأول. فمثلاً لا يمكن توقع أن تنقلب صورة المعلول الى علة، وصورة العلة الى معلول، وصورة الأب الى الإبن، وكذا العكس، ما لم يتغير الموضوع ذاته. والشيء نفسه يجري مع النص، إذ إن احتمالات الحصول على معان متناسقة وعمومية يتفق عليها جميع من شملته هذه الحالة هي احتمالات ضعيفة للغاية. وهو أمر يعزز اعتبار فهمنا للنص محصوراً ضمن المجال المفترض. ففي حدود هذا المجال يمكننا الاقتراب من المعنى الذي يتضمنه النص طبقاً للقرائن الاحتمالية.
فمعرفتنا كاشفة كالمرآة، مع ما لطبيعة المرآة من دور في اظهار الصورة المنعكسة، بحيث تتحدد الصورة بفعل أمرين: المرآة والشيء الخارجي، ولا وجود لها عند حضور احد هذين الأمرين دون الاخر. فالصورة في المرآة لا تطابق الشيء الخارجي، لكنها تقترب من حقيقته. وكذا يقال بخصوص النص، حيث ان ما يحدد الإشارة فيه، كالظاهر مثلاً، ليس النص المجهول (كشيء في ذاته) فقط، بل القبليات المعرفية أيضاً. فبفعل الأمرين معاً يتجلى الظاهر ضمن المجال. لكن مع أخذ اعتبار الفارق في القيمة الاحتمالية بين الظاهر والمجال، حيث لما كان الأخير يعبر عن اقصى حدود الاجمال؛ فذلك يعطي المبرر للتطابق مع ما عليه النص كشيء في ذاته، طالما انه يحظى بكثرة القرائن الاحتمالية الدالة عليه. أما الظاهر او الإشارة فهو لا يحضى بتلك القوة والقيمة من القرائن التي يحظى بها المجال، لذلك فلا مبرر لحالة القطع الذهني بالتطابق ما لم يكن ذلك محمولاً على المجملات العامة، طبقاً لنفس الاعتبار من التنمية الاحتمالية. فالأمر يعود في النهاية الى ما عليه هذه التنمية من قوة وقيمة، لكنها تتعاظم عند القضايا المجملة مقارنة مع القضايا المفصلة، ومنه يتبين الفارق بين القيمتين الاحتماليتين لكل من المجال والظاهر او ما على شاكلته من انماط الإشارة.
أو قل: ان كل معنى اجمالي لا بد ان يحظى على الدوام بالعدد الاكبر من القرائن الاحتمالية مقارنة مع المعنى المحدد او المفصل. وبالتالي لا مانع من تحصيل القطع الوجداني بالتطابق مع النص المجهول ضمن حدود المعنى المجمل، وذلك عند تضافر القرائن الاحتمالية الدالة عليه. فمن شأن المجمل انه يبعث على القطع بخلاف المفصل، لكن قد يكون المفصل مجملاً لما تحته، وهنا قد يتفاوت القطع، وقد يصل الحال الى وجود مفصلات يمكن انتزاع المجملات منها دون ان يفضي ذلك الى القطع في المعنى. ولا شك ان من ابرز مصاديق القطع للمعنى المجمل هو الظهور المجالي.
هكذا عندما نتحدث عن المطابقة بين الفهم والنص؛ لا نريد بذلك المطابقة التامة الجامعة المانعة، فذلك غير ممكن اذا ما نظرنا الى مقصد صاحب النص، اذ في جميع الاحوال تتجدد التساؤلات إن كان معنى النص يشتمل على ما نطرحه من تساؤل ام لا؟ وعليه لا يمكننا بأي شكل من الاشكال ان نثبت التطابق، فالنص في هذه الحالة قابل لعدد غير محدود من القراءة والافتراض، انما نقصد بالتطابق امكانية حصول ذلك من حيث الحد الادنى، كالتطابق الاجمالي، سواء كان هذا الاجمال كافياً في تحصيل المعنى أم غير كاف؟
أربعة أنواع للقارئ والفهم
وهنا لا بد من التمييز بين أربعة انواع للقارئ، وكذا الفهم: فهناك القارئ المغالي والمقصر والمسيئ والمتواضع، وهي أنواع تنتج أربعة أنماط من الفهم طبقاً لهذه المسميات. وجميعها لها علاقة بالنص، سواء كان دينياً او بشرياً، ويمكن اجمالها كالتالي:

القارئ المغالي
فبحسب منظور القارئ المغالي أن من الممكن التعبير عن دلالات النص كما يريدها النص او صاحبه بالضبط، وأن القارئ في هذه الحالة يكون مستنسخاً للمقروء دون ان يضيف او ينقص شيئاً مما تقتضيه القراءة والفهم. ويكثر هذا النوع من القرّاء في التيارات التقليدية والتراثية من تاريخنا. وعيبه هو أن من المستحيل تحقيق الهدف الذي ينشده، فمن الناحية الواقعية ليس هناك قارئ يمكنه تحقيق الحد المغالي من الفهم، بمعنى انه لا يوجد فهم بهذا الشكل الذي تتحقق فيه حالة التطابق المطلق بين فهم القارئ وما عليه النص كما هو في ذاته. لكن يظل هذا الفهم هدفاً ينشده القارئ عموماً مهما كانت قراءته؛ سواء قريبة عن مقصد النص وصاحبه او بعيدة عنه. فمهما اقترب القارئ في فهمه من مقصد النص، ومهما ادعى ان فهمه يتطابق كلياً مع مراد صاحبه فانه لا يصل الى حد التطابق الفعلي، فليس بامكانه ان يتجاوز - كلياً - قبلياته وثقافته وتطلعاته الايديولوجية، ولا بامكانه ان يتجاوز كافة الابعاد المعرفية التي يتضمنها النص بما فيها حل المشاكل الخاصة بالاختلال والنقص الذي يعتري النسق الدلالي للنص. اذ يفترض في القارئ المغالي انه لا يتأثر بميوله الذاتية وظروفه العصرية التي يستمد منها الكثير من قبلياته ومفاهيمه، بل وفهمه لمعاني النص.
فهذا هو الفهم المغالي.

القارئ المقصر
أما القارئ المقصر فهو على العكس تماماً من القارئ المغالي، فهو يعتبر ان من غير الممكن التحرر كلياً عن هذه الشروط الخاصة بالقراءة، اذ لا يمكنه التجرد عن معايير عصره وثقافته وايديولوجياته، وكل ذلك يقف عقبة أمام التعرف على حقيقة النص كما هو. وبحسب هذه النظرية ان كل قراءة تمهد لقراءة أُخرى تتجاوزها، سيما عند توالي الأزمان والشروط التاريخية. فالمعاني تأتي دائماً بما يخلعه القارئ على النص من لباس، وتتفاوت الألبسة بتفاوت القرّاء، وبالتالي يكون الفهم بعيداً – على الدوام - عن حقيقة ما عليه النص. ويكثر هذا النوع من القرّاء لدى أصحاب النزعات (السيسيونصية)، باعتبارها تركز على اثر ثقافة العصر والايديولوجيات، بل وحتى المسلمات التراثية والتاريخية، ومنها الاسطورية، على القراءة، وبالتالي تختلف القراءات والأفهام والتأويلات باختلاف تلك النواحي، بمعنى أن كل شخص يقرأ بشكل مختلف عن الآخر طبقاً لما سبق، وهذا ما يجعل اصابة المعنى الحقيقي للنص بعيد المنال، إن لم نقل أنه مستحيل بالفعل.
وينضم الى هذا النوع من القرّاء ما يذهب اليه غادامير في نظريته في انصهار الآفاق. فرغم انه يؤكد على المعنى الذي يفرضه النص على الذهن، لكنه يضيف الى ذلك ما يفرضه الذهن على النص من معنى اخر له علاقة بذاتية القارئ وظروفه الخاصة، وبفعل اندماج الصورتين، او الأُفقين، يتشكل المعنى النهائي للنص كما يفهمه القارئ. ولا شك أن غادامير يبدي اعتدالاً في تصوره للقارئ، لكنه يحتفظ بالميل الى عدم القدرة على التخلص من فرض الأحكام المسبقة الذاتية، لذلك يدعو الى تقصي الوعي بها لتصحيحها وتغييرها باستمرار، ومنه تتشكل القراءة والتأويل بلا حد ولا نهاية . ومع أنه يعد عمليات الفهم الجديدة اضافات مثرية تعبّر عن نتاج ذاتية القارئ في تفاعلها مع موضوعية النص، ومع أن هذه الممارسات التأويلية لا تستنفد كامل طاقات القراءة والنتاج الإبداعي، لكن لا شيء يمكنه أن يعرفنا على حقيقة النص الموضوعية كما هو في ذاته، وكل ذلك يعود الى التأثير الخاص بقبلياتنا الذاتية، وهي قبليات تبقى ملاحقة لكافة القراءات عبر الأجيال، مما يجعل الفهم والتأويل مستمراً من غير انقطاع، وتبقى هذه الممارسات نسبية لا يمكنها الإمساك بالنص كما هو في ذاته.
وهذا هو الفهم المقصر.
القارئ المسيء
في حين يعتقد القارئ المسيء بأن من الممكن أن يجد في النص كل شيء، تعويلاً على ما يحمله من اسقاطات ذاتية، كالذي تمتاز به القراءات الباطنية. او يعتقد بأن النص لا يمتلك حقيقة محددة، او حتى بلا معنى، وبالتالي فالقارئ يفهم ما عنده من معان دون النص، وكما صرح (بول فاليري) بأنه لا وجود لمعنى حقيقي للنص . ومن أبرز ممثلي هذا النوع من القرّاء كل من النزعتين: النقائضية لدريدا والبراجماتية لرورتي. وعلى رأي الناقد الأدبي عبد العزيز حمودة فإن هذه القراءات السائدة اليوم تدعو الى (التيه النقدي) والفوضى العبثية .
فالنص لدى دريدا عبارة عن أداة لإنتاج سلسلة من الإحالات اللامتناهية. وبذلك فليس للنص معنى نهائي، او هو بلا معنى، اذ كل معنى يجد نقيضه في النص ذاته، او انه يحيل الى معنى اخر لا علاقة تربطه بالاول، ويظل معنى النص مرجأً . فالعملية هي أشبه بحالة “القبطان (أشاب) الذي يقوم بمتابعة حوت بال أبيض تبدو إمكانية اصطياده دوماً مؤجلة” . ويُعبََّر عن هذا النوع من القراءة بأنه قراءة انتظار، اذ من المحال فيها الوصول الى معنى النص، وهكذا تبدو سلسلة الإحالات اللامتناهية وما تتضمنه من تنافرات المعنى وتناقضاته، دون امكانية الحفاظ على معنى محدد، بل ولا امكانية التواصل . وتنتهي هذه النظرية الى ان كل القراءات متساوية، فإما أنها قراءات مقبولة بتقويلها النص كل شيء ممكن بلا ترجيح، او كلها قراءات مرفوضة ومغلوطة بالمرة. لكنها في جميع الأحوال توصي القارئ بأن “يتخيل أن كل سطر يخفي دلالة خفية، فعوض أن تقول الكلمات فإنها تخفي ما لا تقول، ومجد القارئ يكمن في اكتشافه أن بإمكان النصوص أن تقول كل شيء باستثناء ما يود الكاتب التدليل عليه. ففي اللحظة التي يتم فيها الكشف عن دلالة ما؛ ندرك أنها ليست الدلالة الجيدة، إن الدلالة الجيدة هي التي ستأتي بعد ذلك، وهكذا دواليك. إن الأغبياء، أي الخاسرين، هم الذين ينهون السيرورة قائلين: (لقد فهمنا). إن القارئ الحقيقي هو الذي يفهم أن سر النص يكمن في عدمه” .
لكن اذا عولنا على هذه النزعة فإنه يمكن تطبيقها – من باب أَولى – على نصوص الاتجاه النقائضي ذاته، وفي مقدمتها نصوص دريدا، ومنها الإدعاءات السابقة، وهو أمر لا يمانع به دريدا واتباعه، مما يشير الى عبث الكتابة والتواصل. فمثلاً تعليقاً على قول فرويد: “ان الفكر في مجمله ليس سوى طريقاً للف والدوران” أحال (لابورت) تلخيص فكر صاحب النظرية النقائضية المعروفة بالتفكيكية، ليس فقط لأن دريدا مثل نيتشه يعارض كل تلخيص، لكن الأهم هو لأن المفاهيم المستعملة من طرف دريدا، وبعيداً من أن تقدم الأمن والطمأنينة ووحدة المفاهيم التقليدية، فانها تجمع معاني مختلفة بل متعارضة، مفاهيم ليست اذن بمفاهيم، ولكن ضد مفاهيم، او كما يسميها (باتريس لورو) مفاهيم مضادة. وهي أن تخفي لفظة نقيضها وتكون بالتالي مسرحاً لحرب داخلية .
أما المفكر البراجماتي (رورتي) فهو الآخر يعتقد بأن النص لا ينطوي على حقيقة محددة، وهو يعبّر عن عملية الفهم والتأويل باستعمال النص، أي أن القارئ لا يقوم بفهم النص بقدر ما يقوم باستعماله لأغراضه الخاصة، فكل فهم وتأويل يعبر عن استعمال للنص لبلوغ الغايات النفعية، وبالتالي جاز القيام بأي فعل من هذا الاستعمال، طالما أن حقيقة النص معدومة.
وقد تعرّض هذا الموقف الى نقد من قبل المفكر إيكو الذي سعى للتمييز بين استعمال النص وبين فهمه وتأويله، معيباً على النزعات المتطرفة في كل من الأدبيات البراجماتية والأدبيات النقائضية او التفكيكية محاكاتها ذات الاسلوب الذي استخدمته النزعة الغنوصية والهرمسية القديمة اتجاه النص والعالم. فبينهما سلسلة من الأفكار المتشابهة، منها ما يلي :
- النص مفتوح بإمكان المأول أن يكتشف داخله سلسلة من الروابط اللانهائية.
- إن اللغة عاجزة عن الإمساك بدلالة وحيدة، بل على العكس لا تتجاوز اللغة إمكانية الحديث عن اظهار التناقضات.
- إن اللغة تعكس مفارقات الفكر، وأن وجودنا في الكون عاجز عن الكشف عن دلالة متعالية.
- إن النص يشكو من الاختلال، فهو يريد أن يقول شيئاً، لكنه ينتج سلسلة لامتناهية من التناقضات.
ومع أن هذه المقاربة بين الهرمسية وبين النزعة المتطرفة في النقائضية والبراجماتية مبالغ بها، او أن ما صوّرته هذه المقاربة يليق بالنزعتين النقائضية والبراجماتية أكثر مما يليق بالهرمسية وطريقتها، لكن حتى لو سلمنا بأنها مقاربة دقيقة فمع ذلك يمكن القول بأنه اذا كان الهدف من النزعات القديمة للغنوصية والهرمسية كونها تريد أن تؤكد بأن أي شيء يشابه كل شيء ويدل عليه؛ لاعتبارات وحدة الوجود، وهو ما يجعلها تسترسل بالإنزلاقات والإحالات من صورة الى أُخرى، فان الحال مع النزعة البراجماتية المعاصرة لا تبرر فعلها لاعتبارات عقدية وجودية، بل انها تمارس نوعاً من اللعب والبحث عن جماليات الاسترسال فحسب. واذا كان هذا الأمر مبرراً في الممارسات الأدبية رغم تحفظنا، فان الأمر مع النصوص الدينية شيء مختلف تماماً، لسبب واضح هو ان هذه النصوص تحمل رسالة مقدسة لا يمكن الاستهانة بها واعتبارها لا تنطوي على معنى محدد.
وهذا هو الفهم المسيء.
القارئ المتواضع
يبقى القارئ المتواضع، وهو يتوسط بين الاتجاهين الأولَين، اذ لا يدعي ان بإمكان الفهم أن يتطابق كلياً مع النص، كما لا يدعي انه لا يمكن التعرف على معنى النص بأي شكل من الاشكال. بل يقر ان بالإمكان حيازة الحد الادنى من التطابق مع النص، بمعنى انه يتحرك ضمن حدين متفاوتين: أدنى واقصى، فهو يقر بإمكان تحقيق الحد الادنى من التطابق في الفهم، ويعترف انه لا يمكن بلوغ الحد الأقصى منه، أي ذلك الذي يتمثل بالتطابق الكلي، بل يتحرك ضمن هذين الحدين بدرجات متفاوتة، تعتمد على طبيعة النص ونوع القارئ.
واقرب مراتب القارئ المتواضع فهماً للنص هو من يتصف بانتمائه لصاحب النص، فهو القارئ المنتمي، ويتحدد هذا الانتماء بمختلف المستويات الثقافية والروحية والاجتماعية. فمثلاً ان تلاميذ المؤلف هم أعرف – عادة - بمقاصد نص المؤلف لكونهم قد عاشروه واطلعوا على طريقة تفكيره وتوجهاته ومقاصده. ويؤدي بنا هذا التصور الى الاعتقاد بأن أهل بيت النبي وأصحابه المقربين هم أعرف بمقاصد النبي ومقاصد الخطاب الذي جاء به من الله تعالى، لأنهم عاشروه وتولّوه وعرفوا مقاصده عبر سيرته العملية، فهم بذلك أعرف من غيرهم بهذه المقاصد.
أما نحن فبعيدون عن معرفة تلك المقاصد مقارنة باولئك الكرام، لكن اطلاعنا على سيرة هؤلاء وكيف عالجوا المشاكل التي واجهتهم قد يقرّب من فهمنا لفهمهم للخطاب، وبالتالي يقرّبنا من فهم الخطاب ومقاصده، ولو من حيث الإجمال والكليات.
وهذا هو الفهم المتواضع.
***
وعلى ضوء ما تقدم هناك عدد من الاتجاهات التي عالجت العلاقة بين القارئ والنص، او بين ذاتية القارئ المتمثلة بقبلياته ومسلماته، وبين موضوعية النص كطرف مقابل. ويمكن تعداد هذه الاتجاهات باختصار كالتالي:
الاتجاه التقليدي:
يرى هذا الاتجاه أن للنص معنى محدداً موضوعياً، وأن ذات القارئ تعكس هذا المعنى وتكشف عنه كما هو، وهي النظرة التي تجسدت في الاتجاه التقليدي القديم.
الاتجاه الوسطي:
ويسلّم هذا الاتجاه مثل سابقه بأن للنص معنى محدداً موضوعياً، لكن ذات القارئ لا تعكس هذا المعنى بتمامه وكليته، بل هناك حد أدنى يمكن التوصل اليه، كما هناك حدود أُخرى تتفاوت في القرب والبعد من معنى النص وقصد صاحبه. وفي جميع الأحوال إن المعنى المحصل هو نتاج يشترك في تحصيله كل من النص وذات القارئ.
الاتجاه التعددي:
ويرى هذا الاتجاه أن للنص معان متعددة موضوعية وأن الذات كاشفة عن هذه المعان بتوجيه منه. والبعض يُدخل ضمن عملية الفهم هذه معرفة حياة المؤلف ومقاصده والظروف التي تكتنفه، كالذي يذهب اليه شلايرماخر ودلتاي. في حين يقتصر البعض الآخر على النص دون اعتبار للمؤلف ومقاصده وظروفه، كالذي عليه إيزر وإيكو.
الاتجاه الذاتي:
وعلى العكس من الاتجاه السابق يرى الاتجاه الذاتي أن للنص معان متعددة ذاتية تظهر بفعل غلبة اسقاطات ذات القارئ على النص، فالتوجيه مستند الى ذات القارئ وخلفياته الثقافية باتجاه النص وليس العكس، وكثيراً ما يشير أصحاب سيسيولوجيا النصوص الى هذا المعنى، ومثلهم أصحاب السايكولوجيا الثقافية، وهو أن القراءات الأدبية محكومة بجملة من المعايير؛ مثل ثقافة المجتمع وايديولوجيته وظروفه التاريخية، ومثل الدوافع والعوامل النفسية الخاصة بالقرّاء انفسهم.
الاتجاه التوفيقي:
يعتبر هذا الاتجاه أن للنص معان متعددة نسبية تظهر بفعل مشاركة ذات القارئ للنص، فهذا الاتجاه يجمع بين النزعتين الموضوعية والذاتية، كالذي يذهب اليه غادامير وريكور.
الاتجاه العدمي:
ليس للنص بحسب هذا الاتجاه أي معنى تماماً، طالما انه يحمل تناقضاته، وأن القارئ مهما أراد الوصول الى معناه فإنه سيجد ما يناقض ما استفاده من معنى، وكل معنى يصل اليه فإنه يحيل الى معنى اخر لا علاقة له بالأول، وهكذا دون أن تحقق الممارسة والقراءة شيئاً محصلاً كالذي يذهب اليه دريدا. او يمكن القول أن تحديد معنى النص يعتمد على حرية ذات القارئ واستعماله له، فالاستعمال والفهم متحدان ومتماهيان، كالذي يراه رورتي.
القبليات: صورية وتصديقية
في الفهم يتعامل الذهن مع معنى النص بعنوانين؛ احدهما «تصور المعنى» والاخر «حكم المعنى». فللمعنى تصور وحكم (تصديق)، ولكل منهما قبلياته، كالذي يجري مع الادراك والعلم. فلا يخلو الحال - في الجميع - من وجود قبليات بعضها صورية بسيطة، والبعض الاخر تصديقية، كما يتضح أدناه:
اعتاد المناطقة تقسيم الادراك الى تصور وتصديق. فالتصور هو ادراك بسيط لا يتضمن في حد ذاته حكماً او تصديقاً، كإحساسنا وتصورنا للأشياء الخارجية مثل الطاولة والقلم والناس وغيرها. وقد تكون بعض تصوراتنا خيالية او وهمية ومع ذلك نتصورها وكأنها موجودة، مثل تصورنا لجسم نصفه انسان ونصفه الاخر سمكة، او تصورنا للحيوانات وهي تتكلم... الخ. أما التصديق فهو تصور يجري عليه ما يجري على التصور البسيط، لكنه ينطوي على حكم او تصديق بخلاف الادراك السابق.
والعملية الادراكية سواء في حالة التصور او التصديق لا تتحقق من غير قبليات. فرؤيتنا للعالم وادراكنا للأشياء وكذا الحكم عليها، كل ذلك انما يتم بمساعدة القبليات. وللذهن البشري نوعان منها؛ هما: القبليات الصورية، والقبليات التصديقية.
وللقبليات الصورية شكلان، كما يلي:
الشكل الاول:
ويعبر عن الحساسية الصورية كما تتمثل بقالبي الزمان والمكان، اذ لا يمكن ادراك الحوادث الخارجية بلا زمان ومكان. وبالتالي فهما من القبليات الصورية، لان اي تصور للحوادث لا يتم الا من خلال تضمنهما، كالذي تحدّث عنه (عمانوئيل كانت) معتبراً الزمان والمكان صورتين قبليتين دون ان ينتزعهما الذهن البشري من الأشياء الخارجية.
الشكل الثاني:
ويعبر عن الاطار العام للجهاز الصوري الذي يتم به تشكيل الصور المدركة بهيئة معينة دون أُخرى، سواء تم تشكيل هذه الصور ابتداءً عبر المعطيات الحسية المتفرقة، او بعد تجميعها وتشكيلها وفق صورة شخصية واحدة. اذ يستلم هذا الجهاز معطيات حسية متفرقة عبر الحواس، فبحاسة البصر يستلم عن الشيء الخارجي إشارة يحولها الى صورة لونية وشكلية، وبحاسة اللمس يستلم عن هذا الشيء إشارة أُخرى يحولها الى صورة لمسية، وهكذا مع سائر الحواس، حيث يحول كل ما يستلمه من اشارات الى صور مناسبة، ثم يعمل على التوفيق بين هذه الصور في صورة شخصية واحدة تعبر عن الشيء الخارجي، كإن يكون المدرَك تفاحة مثلاً، فادراكنا لها يتم عبر احساسات متفرقة ومختلفة، لكن الجهاز الصوري يعمل على تجميع هذه الاحساسات بعد اضفاء الصور الخاصة عليها، ومن ثم يجعلنا نتصورها كجوهر واحد يعبر عن التفاحة. بل إنه يعمل على توحيد الصورة حتى في حالة ما يحصل من تفرق واختلاف في الحاسة الواحدة، كما في البصر، اذ ما تراه إحدى العينين لا يطابق تماماً ما تراه العين الأُخرى، لذا تتكون الرؤية البصرية وفق حالة من التوفيق بين رؤيتي العينين، ومن الطبيعي إن ذلك يدعم فكرة الاختلاف الحاصل بين الإحساس بالرؤية وبين الموضوع الخارجي كشيء في ذاته.
وبهذا فنحن لا ندرك الشيء الخارجي ابتداءً الا ادراكاً مشتتاً تبعاً للاحساسات المتفرقة، لكن الجهاز الصوري هو الذي يعمل على جمع هذا الشتات في صورة جوهرية واحدة، فيبدو لنا الشيء الخارجي جوهراً واحداً.
ونشبّه ما يقوم به هذا الجهاز في تشكيله للصور الذهنية بالمرآة التي تُشاهد فيها صورة الشيء، اذ تظهر الصورة بالشكل الذي تظهر فيه اعتماداً على الشيء الخارجي وعلى هيئة المرآة؛ إن كانت مستوية او محدبة او مقعرة او مكبّرة او مصغّرة او زرقاء او حمراء... الخ. لذا فالصورة لا تعبر بالضرورة عن حقيقة الشيء الخارجي، حيث يعتمد كل ذلك على طبيعة الجهاز الصوري للذهن. ولو ان هذا الجهاز تعرض الى بعض التغيير لأدى ذلك الى تغير هيئة الصور المدركة، آخذين بنظر الاعتبار التباين النسبي لهذا الجهاز بين فرد واخر، مما يجعل الاحساس بالصور الذهنية بين الافراد مختلفاً بعض الشيء، كالاختلاف الحاصل في الدرجة التي نتصور بها لوناً معيناً، كاللون الاحمر مثلاً.
على ان الصورة التي نتصورها للشيء الخارجي قد لا تكون الوحيدة عند ادراكنا له. فقد تظهر لنا صورة وتتوارى أُخرى، بدليل انه قد تظهر هذه الصورة المختبئة - في بعض الحالات - عند تركيزنا على المختبئ او تغييرنا لزاوية الادراك، كالذي يُشاهد في الصور التي تعرضها مدرسة علم النفس الجشطالتي. اذ يظهر المشاهَد بأكثر من صورة، استناداً الى زاوية الادراك والتركيز، فتظهر بعض الصور عندما يركز عليها الادراك، او لكونها الظاهرة ابتداءاً، وإن توارت خلفها صورة أُخرى لا تدرك تفاصيلها، بل تُدرك الأخيرة عندما تتغير زاوية الادراك بنحو مناسب فيتبادل الظهور والاختباء، كما يبدو من تبادل الظهور في الشكل الفوتوغرافي لكل من الكأس والوجهين، والبطة والارنب، وغيرهما من الاشكال التي تعرضها تلك المدرسة.
وقد تعبّر رؤيتنا للعالم عن تلك الظاهرة من تبادل الظهور والاختباء للصور. ولعل العرفاء هم ابرز من أكد هذا المنحى، كالذي صرح به ابن عربي، اذ اعتقد ان الناس يشاهدون العالم ويؤمنون بالله غيباً، خلافاً للعرفاء الذين يشاهدون الله ويؤمنون بالعالم غيباً ً. فكل منهما يمتثل صورة غير الأُخرى ، او ان كلاً منهما يتعامل مع احدى الصورتين كظاهر، ومع الأُخرى كمختبئ.
أما القبليات التصديقية للأشياء فهي على قسمين: قبليات منطقية محايدة، وقبليات مضمونية (غير محايدة). فالاولى تعبر عن جهاز مركب للادراك بعضه موظف للكشف عن العالم الخارجي دون تحديد مسبق، اذ تتصف الممارسة الكشفية بالمنطقية والحياد، كما هو الحال مع مبدأ الاستقراء واعتباراته الاحتمالية، فهو كاشف عن الأشياء دون تحديد مسبق، لهذا يعد من المبادئ المنطقية. في حين تتصف القبليات المضمونية بكونها كاشفة عن غيرها، لكنها ليست من المبادئ المنطقية، باعتبارها تحمل مضامين خاصة قبلية دون حياد، ومن ابرز نماذجها مبدأ السببية العامة، اذ ان هذا المبدأ يفترض سلفاً وجود تضايف بين السبب والمسبب، فاذا ما رأينا مسبباً فان ذلك يدعو الى الاعتقاد بأن له سبباً ما. كذلك فيما يتعلق بالكشف الوجداني، مثل الكشف الخاص بالعالم الموضوعي ككل، اذ انه مفترض سلفاً، ولم يستنتج بالدليل من الخارج، وبالتالي فانه يعد من القبليات المضمونية غير المحايدة.
وبذلك يتضح ان القبليات الصورية هي غير القبليات التصديقية، وان الأخيرة عبارة عن صور تنطوي على احكام قبلية. في حين ان الاولى بعضها يعبر عن قوالب صورية يتحقق من خلالها تصورنا للأشياء الحسية، كقالبي الزمان والمكان، في حين ان البعض الاخر عبارة عن جهاز صوري تتأثر به احساساتنا الحسية؛ فتظهر بالشكل الذي نتصورها، وكان من الممكن ان تظهر بشكل اخر لو ان هذا الجهاز طرأ عليه بعض التغير.
وينطبق ما ذكرناه على العلم جملة، اذ له قبليات صورية ينتجها العقل العلمي، ولو لم يكن لها مقابل في الخارج، حيث الواقع مجهول، وكأنه «الشيء في ذاته» العصي عن الادراك. فالنظريات العلمية العالية التعميم هي نظريات صورية لا يفترض مطابقتها للواقع الموضوعي، بل انها اصطلاحية وذات صياغة عقلية محضة، وعلى حد قول فتجنشتاين: «نحن نصنع لأنفسنا صوراً للحقائق، فالصورة هي التي تظهر الحقائق في شكل منطقي». وعلى هذه الشاكلة صرح الاستاذ (تريكر) بأن الصورة هي نموذج للواقع، ونحن الذين نصنع هذه الصورة كنموذج نألفه لنطبقه على الواقع، وإن كنّا لا نعرف عن هذا الأخير شيئاً، انما نكيف انفسنا مع الخبرات الجديدة بتصويرها عبر مساعدة الخبرات الماضية التي نألفها . وقد اصبح من المعروف علمياً - اليوم - ان تصور العالم قائم على افتراض عشرة أبعاد او أكثر أغلبها لا يمكن تخيله بأي شكل من الأشكال.
هذا فيما يتعلق بقبليات العلم الصورية، أما قبلياته التصديقية فتستند الى مبدأ الاستقراء واعتباراته الاحتمالية، كما تستند الى السببية العامة وافتراض ان هناك واقعاً موضوعياً يُجرى عليه البحث، الى غير ذلك من القبليات التي تساعد على الكشف العلمي. ويلاحظ انه ليس هناك اختلاف بين القبليات التصديقية للعلم عن تلك الجارية في الادراك، ذلك انه في كلا الحالين توجد قبليات منطقية محايدة وأُخرى مضمونية، وكلاهما يعد من القبليات الكاشفة.
كما ينطبق الحال السابق على الفهم الديني، فله قبليات صورية وأُخرى تصديقية، وان هذه الأخيرة لا تختلف عما عليه الحال في الادراك والعلم، اذ تنقسم الى قبليات منطقية محايدة، وأُخرى مضمونية. وإن كانت هذه الأخيرة تتلون بالوان مختلفة بحسب المشارب الفكرية والمنظومات المعرفية. بل يمكن القول ان القبليات التصديقية المضمونية، سواء في الفهم او العلم او الادراك، تتخذ شكلين بارزين، احدهما منضبط والاخر غير منضبط، كما سنعرف. أما القبليات التصديقية المحايدة فتتخذ الشكل المنضبط، ويعد مبدأ الاحتمالات العقلية او الاستقراء ابرز ما يمثلها، وهو مبدأ عام يستفاد منه في العمليات الذهنية الثلاث: الفهم والعلم والادراك.
لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ان موضوع الفهم الديني هو أمر معرفي معبر عنه بلغة النص، وهو بذلك يختلف عن موضوع الادراك والعلم، اذ في كلا الحالين الأخيرين يكون الموضوع ذاتاً وكينونة وليس معرفة كما هو الحال مع موضوع الفهم الديني. لذلك يرد السؤال بصدد الفهم: كيف نتعرف على المعرفة التي يتضمنها النص من وراء حجاب اللغة؟ كما كيف نكشف عن محددات الذهن لهذه المعرفة؟
اذ نواجه - هنا - أمرين يتعلقان بالقبليات الصورية والتصديقية. فالمعرفة التي ينطوي عليها النص تتحدد بفعل هذين النوعين من القبليات. وإذا كنّا قد تعرفنا مجملاً على أشكال القبليات التصديقية التي تؤدي دورها في تحديد المعرفة التي ينطوي عليها النص اللغوي؛ بقي ان نتعرف على ما يتعلق بالقبليات الصورية، فهي تحدد المعنى الديني بغض النظر عن الأحكام التصديقية، لأنها مجرد تصورات لمعنى النص، سواء جرى التصديق بها ام لم يجر.
فأول ما يلاحظ ان تصوراتنا لمعاني النص كتبادر اولي متأثرة سلفاً بثقافة العصر والاستخدام الحي للغة، وهي لا تتشكل بمعزل عن ذلك، طالما اننا نتعامل مع نص قد تجرّد عن واقعه الخاص. فحيث ان العرف اللغوي يتغير بفعل تغير الظروف، فسوف يرسم لنا ذلك تصورات نسبية للمعنى، شبيه بتصوراتنا الحسية عن الشيء الخارجي، لأنه واقع بين تأثيرين: الموضوع الخارجي والذات الكاشفة.
وكدليل على ذلك نشير الى ان المعاني اللفظية حينما ترِد ذهن السامع فانها لا تكون جامعة مانعة في التعبير عن حقائق الأشياء، كالذي فصلنا الحديث عنها في دراسة مستقلة . وبالتالي فالمعنى المنتزع من النص لا يمكن ان يكون جامعاً مانعاً، وان تصوره يبقى أسير عوامل عديدة؛ منها الاعتبارات الحسية والثقافة العصرية، آخذين بنظر الاعتبار صور المعاني المختلفة نسبياً لدى الاذهان، حيث ان معنى اللفظ الذي يظهر في ذهن البعض وإن كان له مثيل في ذهن البعض الآخر، لكن درجة ذلك لا تتطابق، إذ لا بد من حدوث تفاوت في المعنى عند التبادر والتصور، فقد يتبادر للبعض زيادة في المعنى دون البعض الآخر، كما ان اللفظ لا يخلو من التأثير النفسي على الذهن، فتبادر المعاني يخلق حالة نفسية مؤثرة على الأذهان؛ طبقاً لاختلاف العوامل البيئية والثقافية والنفسية والبايولجية، وكل ذلك يخلق في الذهن صورة للمعنى لا تتطابق مع ما يحدث في سائر الأذهان الأُخرى .
كما قد يتبادر للذهن صور للمعنى ما لا يتبادر للآخر، كالذي تحدّث عنه علماء النفس الجشطالتي بخصوص ادراك الأشياء. فقد يتبادر للقارئ القديم معنى بحسب ثقافة عصره ما لا يتبادر للقارئ المعاصر، والعكس صحيح ايضاً، وقد لا يتنافى التصوران فيظهر احدهما ويختبئ الاخر لاعتبارات الثقافة العصرية او لاعتبارات أُخرى؛ كاختلاف القبليات المنظومية وما اليها كما سنعرف.
ومن الامثلة المفيدة في هذا التباين (الجشطالتي) - سواء على نحو التصور او التصديق - ما ورد في تصور معنى قوله تعالى: ((كل شيء هالك الا وجهه)) القصص/88، فالبعض يتصور ان معناه كما يبدو ظاهراً من غير توجيه، وهو ان كل شيء هالك حقيقة لا ان مآله الهلاك، خلافاً لما يراه البعض الاخر من معنى يشير الى المآل. وكلا المعنيين يستبطنان الظهور رغم تضادهما طبقاً لتعارض المنظومتين المعتمد عليهما في الفهم.
وحتى الرجوع الى المعاجم اللغوية لا يعفي كونها متأثرة بتلك الصور المذكورة في تحديدها لمعاني اللغة، ومنها ثقافة العصر. ولو قيل انه يمكن الرجوع بذلك الى ما ورد من اشعار الجاهلية لتحديد معاني الألفاظ ومن ثم النص؟ قلنا ان استخدام اللفظ يرد بمعاني عديدة، وان الاشعار طافحة بذلك، وبالتالي فإن ترجيح بعض المعاني على البعض الاخر قد يتأثر بالثقافة العصرية. كما ان معاني ألفاظ النص لا تعبر بالضرورة عن معاني الاشعار الجاهلية، سيما اذا اخذنا بالاعتبار الاختلاف الحاصل بين الثقافتين الشعرية والدينية، والظروف الاجتماعية التي اكتنفت كلاً منهما.
وكما يرى (لوسركل) فان الموسوعة اللغوية «قد تغني معرفتنا لهذه اللفظة، ولكن تبقى هناك تداعيات وارتباطات لهذه اللفظة متأتية من ظروف تاريخية واجتماعية وثقافية معينة لا يمكن لا المعجم ولا الموسوعة ان تلقي عليها الضوء. ويتعين علينا ان نلم بهذه التداعيات لكي نتمكن من فهم هذه اللفظة وفهم عملها في الجملة فهماً شاملاً صحيحاً» .
وفي جميع الأحوال ان المعاجم والموسوعات اللغوية لا تملك القدرة على وضع المعاني الجامعة المانعة، كما انه ليس بوسعها ان تحدد حجم التأثير النفسي على الاذهان عند تبادر المعاني.
القبليات: منضبطة وغير منضبطة

القبليات غير المنضبطة
عرفنا ان صنع صور الأشياء الخارجية يتم عبر الجهاز الصوري للذهن، كما ان صياغة معنى النص يتم عبر الاطار المعنوي للذهن، مع الأخذ بعين الاعتبار ان النص ينطوي على أمر معرفي، الأمر الذي يجعل من التماس المعرفي متأثراً بذلك الاطار فيظهر كمعنى متبادر. وقد يفرض هذا المعنى نفسه ويتحول من مجرد تصور بسيط الى معنى تصديقي طبقاً لتداول اللفظ واستخدامه. وبما ان اللفظ لا يحافظ على معناه الاصلي عبر تغاير الواقع والزمان عادة؛ فان ذلك يجعل من معنى النص مصاغاً بفعل ما اكتسبه الذهن من معنى في الخارج.
فرغم حركية النص الديني وتفاعله مع الواقع حال نزوله وتداوله؛ لكننا نعلم ما يترتب عليه من اختلاف المعنى وتفاوته. فكيف الحال حينما ذهبت هذه الحركية الكاشفة؟! فالذين عاصروا النص تعاملوا معه كعنصر حركي فاعل وجدلي مع الواقع، مما جعل فهمهم مقارباً لمقاصده، طالما اقترن بالعناصر المساعدة على الفهم، كالحركية والجدل، خلافاً لتعاملنا معه، فنحن نتعامل مع نص مجرد يفتقر الى هذه العناصر المساعدة، مما يصعّب علينا فهمه بالدرجة التي يكون فيها مقارباً لمقاصده. بل يعمل الذهن على تقديم البدائل لملئ الفراغات الخاصة بالجهل عبر المعاني المكتسبة من الخارج. وبذلك يظهر تأثير الواقع على الفهم كأبرز السنن الفاعلة. فتارة ان تغير الواقع يبعث على تغير الفهم بالشكل المطروح، وأُخرى يبعث على تغير الفهم طبقاً للآيديولوجيا، كما سنعرف.
هكذا فإن ما يتحقق من معنى النص هو صنع مشترك بين ما يحمله النص من معنى كما يتمثل في نشأته الخاصة، وبين ما يضيفه ذهن القارئ من معنى. او انه نتاج مشترك بين المعنى الذي عليه العرف الخاص بالنزول، وبين المعنى المتحول عبر الزمان، او بين الماضي والحاضر، حيث تعاد صياغة المعنى بما يناسب الحاضر. ومن حيث الدقة فإن الحاضر يؤثر على فهم الماضي، كما أن الماضي يؤثر على فهم الحاضر، فأحدهما يؤثر على الآخر، لكن في المحصلة فإن كلاً من النص والحاضر والماضي يساهم في التأثير على ذات القارئ، فهذا الأخير ليس معزولاً عن تقاليد الماضي عبر العصور، مثلما انه غير معزول عن الحاضر، لكن اندماج الماضي في الحاضر يجعل منهما وحدة مؤثرة على القارئ كتأثير النص عليه.
لذا فقد كان غادامير يرى بأن الحصيلة المعرفية من عملية الفهم هي دمج أُفقين معاً: أُفق النص، وأُفق القارئ، اي دمج أُفقي الماضي والحاضر، او ما يعبر عنه بإنصهار الآفاق، لأن لكل جيل تاريخي أُفقه الخاص والذي يمكن أن يؤثر به على ما بعده من أجيال .
ويشاطر ريكور مذهب غادامير في إنصهار الآفاق بوجهة نظر مشابهة . وهو يرى بأن هناك شراكة بين النص والقارئ لانتاج الفهم والتأويل، يكون فيها “النص أخرس لا صوت له”، أما القارئ فهو الذي يتحدث بلسانه نيابة عنهما معاً. فالنص أشبه بقطعة موسيقية، والقارئ أشبه بعازف الأوركسترا الذي يطيع تعليمات النغم .
وعلى العموم، إن الفهم لدى غادامير يتحقق بفعل مشترك لكل من التأثير الموضوعي المتمثل بالنص وأُفق الماضي من جهة، والتأثير الذاتي المتمثل بأُفق القارئ وثقافته العصرية من جهة ثانية. فالفهم بهذا الاعتبار لا يتضمن منهجاً محدداً استناداً الى البعد الذاتي من عملية الفهم، وهو البعد المتعلق بالقبليات غير المنضبطة التي من المحال ان تدخل ضمن اطار منهجي، وبالتالي فلا جدوى من الحديث عن وجود قواعد مناسبة تحدد عملية الفهم بما يجعلها تقترب او تطابق ما عليه النص كشيء في ذاته.
لهذا الاعتبار؛ فقد اعتقد غادامير بأن الهرمنوطيقا حاضرة - على الدوام - عندما يبدأ البشر بالفهم، وذلك دون مخطط لعلم المنهج. بل ان الهرمنوطيقا تقف ضد طبيعة العلم المنهجي. وقد تأثر فيلسوفنا هذا بقاعدة استاذه هايدجر الخاصة بتحكم الأحكام القبلية على الفهم، وهي القاعدة التي عُدّت غاية في الأهمية لدى مفكري القرن العشرين . وتأكيداً لذلك اعتبر غادامير أننا في عملية الفهم نسقط ابتداءاً وعلى الدوام نظرتنا اللغوية للعالم على النص. فنحن نجد اللغة جاهزة أمامنا وهي تحمل المعاني الخاصة بالعالم، وكل ذلك يتم اسقاطه على فهمنا للنص، طبقاً للمعاني اللغوية المألوفة لدينا سلفاً. وكما يقول: هناك دوماً وساطة تضمن التواصل بين نظرتنا اللغوية للعالم ولغة النص .
مما يعني أنه سواء بتصورنا للعالم، او فهمنا للنص هناك شيء من النزعة الهرمنوطيقية او التأويلية التي لا يمكن تجنبها بفعل نظرتنا اللغوية المألوفة، وكل ذلك يجري دون مخطط لعلم المنهج.
وقريب من رؤية غادامير ما عبر عنه المفكر الصدر في (اقتصادنا) بقوله: «وحتى لو تأكدنا احياناً من صحة النص، وصدوره من النبي او الامام، فاننا لن نفهمه الا كما نعيشه الآن، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، وإستبطان بيئته التي كان من الممكن ان تلقي عليه ضوءاً» .
ويلاحظ انه عندما يؤكد غادامير على عدم امكان تجاوز حقيقة تدخل ذات القارئ او المأول في عملية الفهم، ومثله التفكير في مختلف مجالات العلوم، فإن ما يحضر في باله تلك المفاهيم والنوازع الذاتية الخاصة، سيما تلك المتعلقة بالقبليات غير المنضبطة، باعتباره يركز على أثر العصر على النوازع الذاتية بكل ما يحمله من لغة وثقافة وروح ونزوع. لكن اذا قدّرنا بأن القارئ يمكنه الاستعانة في بعض درجات الفهم بالقبليات المنضبطة المشتركة، والتي منها ما تكون ضرورية، كما منها ما تكون محايدة منطقية، فان ذلك سيلغي التعميم الذي افاده باستحالة تجاوز النواحي الذاتية، فإثبات جزئية واحدة موجبة يفضي الى اثبات القضية على النحو الكلي كما يقول المنطقيون. فمثلاً لو أننا سلّمنا بأن الواحد المضاف الى واحد مثله لا يكون الا اثنين، فان ذلك يكفي للاعتقاد بوجود أحكام ضرورية تحمل الوجوب والاستحالة. وكذا هو الحال في الفهم، فلو اننا تمكنا من أن نصل الى فهم موضوعي مهما كان محدوداً وضيقاً فذلك يبرر الاقرار بوجود أحكام موضوعية تتجاوز الإنزلاقات الذاتية والتسربات المرتهنة بالقبليات الخاصة ومنها تلك المتصفة بكونها غير منضبطة، بما فيها القبليات اللغوية المألوفة، رغم أن من المحال تجاوز القبليات على اطلاق. وهذا هو الفارق فيما ندعو اليه قبال النزعات الحديثة التي تقر عدم امكان تجاوز المسلمات الذاتية الخاصة، ومنها طريقة غادامير. فلا بد من التمييز بين الأنواع الخاصة بالقبليات المعرفية، فمنها ما لا يمكن تجاوزه بأي شكل من الأشكال، باعتبارها منطقية محايدة، او مشتركة، كما منها ما يمكن تجاوزه ضمن حدود نسبية مثلما سبق أن عرفنا.
وعلى العموم ان القبليات غير المنضبطة هي قبليات ذاتية (نفسية) لِما تتأثر به الذات بمختلف التأثيرات التكوينية والمكتسبة، اي تلك الناتجة عن العوامل النفسية والفسلجية والجينية والبيئية. فاغلب المعارف البشرية، ومنها الدينية، ليست محصنة من هذه التأثيرات. فبفعلها تتكون الميول النفسية وتمتزج مع القضايا المعرفية بغض النظر عن الطبيعة العلمية لهذه القضايا. وهذا الامتزاج او الاتحاد يخفي - عادة - مظاهر تلك التأثيرات على المعرفة. ومن الأمثلة عليها تأثير الحرب العالمية الاولى على نظرية هايزنبرج في مبدأ اللاتحدد الالكتروني ، وتأثير البلدان على المدارس الفقهية. وحول هذه القبليات يدور ما أطلق عليه بيكون أوهام الكهف، وعليها تتشكل القراءة البرانية، خلافاً للقبليات المنضبطة التي تتأسس عليها القراءة الجوانية.
وأهم ما في الأمر إنه قد تتحول المعرفة بسبب الميول النفسية – المشار اليها - الى عقائد جامدة، فتكون حجاباً للعلم، بل إن القبليات ما لم تكن قطعية او بديهية فإنها تترشح لتصبح عقائد تمنع من نفاذ العلم والمعرفة الصحيحة. وليس من الممكن التخلص من هذه السدود المانعة ما لم يتم التدرب والتربّي على ممارسة منهج الشك وتفعيل القبليات المنطقية المحايدة والكاشفة، واختبار ما هو عقيدة وتحويله الى مجرد رأي قدر الإمكان.
فمع أنه من الناحية المبدئية او المنطقية، ينبغي ان تتأسس العقيدة على الفكر، ويتحول الفكر الى عقيدة، لكن ما نشاهده واقعاً عكس ذلك في الغالب. اذ تكون العقيدة نتاج تجربة عملية او نفسية يتأسس عليها الفكر فتكون حجاباً للعلم والحقيقة، او تمنع بذلك ما يسمى بالفطرة الثانية، ولا يستثنى من هذا الأمر ما يُعرف بالعلماء لدى مختلف الإختصاصات، وعلى رأسهم – بالطبع – علماء الدين.
فمثلاً ينقسم الفكر الديني الى مجرد رأي وعقيدة، وتتألف هذه الأخيرة من جماع الرأي وما يرتبط به من إحساس وجداني وعاطفي قوي، وهو ما يشكّل أساس التجربة الدينية، فتكون العقيدة ليست مجرد رأي ولا أنها تجربة فحسب، بل مزيج مركب من الأمرين معاً. وقد تكون التجربة الدينية ابداعية كما هو الحال مع تجارب الأنبياء والأولياء، لكن الغالب فيها هو الإتباع؛ كالذي يتمثل بتجارب الناس. واذا كانت التجربة من الصنف الأول لا تقوم على الرأي، بل تقع في موازاة له، فإن الثانية ترتبط بالرأي ارتباطاً صميماً، لكن المشكلة أنها غالباً ما تكون أساس الفكر لا العكس، لذلك ينشأ التعصب والدوغمائية وغياب الأساس الفكري المتين، اذ لا يصبح للفكر وظيفة سوى تبرير التجربة الدينية المسلم بها سلفاً، وهو ما يقع ضمن منطق الدفاع عن القبليات غير المنضبطة.
على ذلك يصبح من الواجب منطقياً تصحيح الصورة والقيام بقلبها رأساً على عقب، أي تفريغ العقيدة من محتواها النفسي وتحويلها الى مجرد رأي. والغرض من ذلك ليس نسف العقائد جميعاً، لكن تناقض هذه العقائد وتضاربها يفرض علينا العمل على تقليصها الى أقصى حد ممكن، ولا يتم ذلك الا بممارسة النقد الذاتي، وانتهاج منهج الشك، مع تفعيل دور القبليات الكاشفة في البحث العلمي.
وعموماً،كما سنرى، إنه لا يمكن التحرر كلياً من تأثير القبليات غير المنضبطة او النزعات الذاتية على الفهم. فسواء كان الأمر يخص الثقافة العصرية او الاعتبارات الذاتية المتعلقة بالقارئ نفسه؛ فكل ذلك له تأثيره على فهم المعنى بالشكل الذي يراه، بحيث ان هذا التأثير يزداد كلما أوغل الفهم بالتفصيل دون اجمال. وينطبق هذا الحال على كل من العلم والادراك.
القبليات المنضبطة
ليس الذهن صفحة بيضاء خالية ليملى عليه النص. والحال ذاته ينطبق على كل من الادراك والعلم. فالادراك لا تقوم له قائمة من غير قبليات. والمعرفة التصديقية لا تتأسس بدونها. والمنهج المحض يعجز عن ايضاح كيف تبنى المعرفة من غير مبادئ اساسية؛ كمبدأ السببية العامة ومنطق الاحتمالات العقلية التي تتأسس عليها قاعدة الاستقراء وما الى ذلك من القبليات المنضبطة.
والشيء ذاته يمكن قوله بخصوص العلم. فقد لوحظ ان هناك نظريتين في المنهج العلمي؛ احداهما ترى الذهن لا يضيف للمعرفة شيئاً، بل يسجل ما يملى عليه من كتاب الطبيعة. وتعتبر هذه النظرية ان كل فاعلية ذهنية انما هي تشويه وتحريف للمعرفة الحقيقية. واغلب تابعي هذه المدرسة هم عبارة عن التجريبية التقليدية. أما النظرية الأُخرى فتسلّم بأن من غير الممكن قراءة كتاب الطبيعة دون النشاط الذهني. اي ان تفسير الطبيعة لا يكون الا في ضوء توقعاتنا ونظرياتنا. فقد ولدنا - اساساً - مع هذه التوقعات (expectations)، اذ بها أدركنا العالم الخارجي في عالمنا الذاتي كسجن محتم.
ان فكرة كوننا نحيا ونموت في سجن التركيب الداخلي لذاتنا قد ظهر ابتداءاً مع (عمانوئيل كانت)، وأن الكانتيين المتشائمين مالوا الى استحالة معرفة العالم بسبب هذا السجن الذاتي. في حين اعتقد الكانتيون المتفائلون بان الله خلق تركيبتنا العقلية لتطابق ما عليه العالم الخارجي. لكن المنظرين ذوي النشاط الثوري ذهبوا الى امكان ان تتحسن هذه التركيبة وتتطور بل وتستبدل بأُخرى جديدة افضل. فنحن الذين نخلق سجوننا الذاتية، لكن يمكننا هدمها من خلال النقد ايضاً .
مهما يكن فالعلم يعتمد على مسلمات اساسية دونها لا تقوم له قائمة، كتسليمه بوجود واقع موضوعي خارجي يقام عليه البحث والكشف. وكذا تسليمه بمبدأ السببية العامة كمبدأ ميتافيزيقي. اضافة الى المبادئ القبلية المحايدة مثل منطق الاحتمالات العقلية ودور الاستقراء في الكشف.
والحال ذاته ينطبق على مسألة الفهم الديني، اذ يستحيل أن تمارس عملية الفهم من غير قبليات منضبطة حاكمة عليها. وسنعرف ان للقبليات أنواعاً وأصنافاً مختلفة يتقوم بها الفهم، مثلما يتقوم بها الادراك والعلم.
أقسام القبليات المنضبطة
يمكن تقسيم القبليات المنضبطة، سواء المتعلقة بالادراك والعلم، او المناطة بفهم الدين والنص، باعتبارات مختلفة كما يلي:
فباعتبار الحياد وعدمه تنقسم هذه القبليات الى منطقية محايدة كمنطق الاحتمالات العقلية التي يقوم عليها مبدأ الاستقراء مثلاً، ومضمونية غير محايدة كالسببية العامة وما اليها، مثلما عرفنا من قبل.
وباعتبار التكوين والاكتساب تنقسم القبليات المشار اليها الى قبليات تكوينية مثل السببية العامة والاستقراء، والى قبليات مكتسبة بالتعلم والتفكير كالذي يخص الفهم الديني، مثل قاعدة السنخية ووحدة الوجود كما لدى الفلاسفة والعرفاء، او قاعدة اللطف والحسن والقبح العقليين كما لدى بعض المنظومات الكلامية.
كما باعتبار التأسيس والتوليد، تنقسم تلك القبليات الى قبليات شرطية، حيث تكون شرطاً لصحة الادراك والعلم والفهم دون ان تنتج شيئاً معيناً، كمبدأ عدم التناقض، والى قبليات تأسيسية مولدة، نطلق عليها الأصول المولدة او الفعالة، لما لها من دور فعال في التوليد والتوجيه. ففي الفهم الديني - مثلاً - تعد قاعدة السنخية اصلاً مولداً لدى المنظومتين الفلسفية والعرفانية، حيث تتوقف عليها مختلف القواعد والقضايا الفلسفية والعرفانية المناطة بمعرفة الوجود الخارجي العام. وقد تكون القبليات في الفهم الديني من النتاج المعرفي، وكذا قد تكون مولدة نسبياً، اي مولدة لعدد من القضايا، وان كانت بدورها متولدة بفعل غيرها، فقاعدة الصدور (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) مثلاً تعد من القبليات - في الفهم الديني - ذات التوليد النسبي، فهي مولدة لقضايا فلسفية كثيرة، كمراتب العقول وتبرير الكثرة وما الى ذلك، لكنها قائمة من حيث التأسيس على قاعدة السنخية.
كذلك تنقسم القبليات بحسب الخصوصية والاشتراك، فبعض القبليات في الفهم الديني يعتنقها جماعة دون أُخرى، وهي بالتالي خاصة غير مشتركة، مثل القواعد الفلسفية والكلامية، في حين توجد قبليات أُخرى عامة يشترك في اعتناقها الكل، كمبدأ الاستقراء. وعلى العموم ان التقسيم بهذا الاعتبار يجعل من القبليات على أصناف خمسة كالتالي:
1 ـ قبليات مطلقة:
وهي معارف لا يخلو منها انسان قط، وبعضها يتوقف عليه النظام المعرفي الانساني برمته. ومن الأمثلة عليها المعرفة الخاصة بمبدأ السببية العامة ومبدأ عدم التناقض ومنطق الترجيحات الاحتمالية والضرورات الحسية وغيرها. ولا شك ان لهذا النوع من القبليات دوره المميز في فهم النص، سواء على مستوى الإشارة او التفسير. فمثلاً كثيراً ما يتحول المجاز الى نوع من الظهور لا التأويل بسبب بعض القبليات المعرفية القائمة على الضرورة الحسية، كما عرفنا.
2 ـ قبليات عامة:
وهي قبليات تغلب على معرفة الناس، لكن دون أن يصل فيها الأمر الى حد الاطلاق التام. فأغلب الناس يتمسكون - مثلاً - بظاهر النص استناداً الى ما لديهم من المعرفة القبلية الخاصة بالدلالة الاستعمالية للفظ على المعنى، او ما يطلق عليه الفهم العرفي للنص، فحيث يكثر استخدام اللفظ على معنى محدد، فان ذلك يشكل ركيزة ذهنية قبلية يلجأ اليها القارئ لحمل معنى النص على الظاهر المتبادر.
3 ـ قبليات منظومية:
وتعد هذه القبليات عين ما يسلّم به القارئ والباحث بنظام ما او منهج ما من الأنظمة والمناهج الفكرية، الأمر الذي يؤثر فيه على فهم النص وقراءته، سواء كان ذلك من حيث الإشارة، او من حيث التفسير. وهذه القبليات هي التي يكثر فيها النقاش والجدل بين الباحثين، او انها ليست موضع تسليم لدى جميع الأنظمة الفكرية، لذلك فان ما ينبني عليها من الإشارة والتفسير يخضع هو الآخر الى المماحكة الجدلية. وعلى هذا النوع من القبليات تتأسس آليات التأويل والإستبطان عادة. وقد يصادف - احياناً - ان الإشارة لدى القبلية المنظومية قائمة على الآلية الإستظهارية لكنها من حيث التفسير تنحو الى التأويل والمباطنة، فيتشكل لدينا ما أطلقنا عليه الإستظهار الجدلي. حيث تكون القراءة من حيث التفسير بعيدة عن أجواء النص وسياقه، رغم أنها من حيث الإشارة تبدي المحافظة على الظهور اللفظي للنص. لذلك فإن هذه القبليات رغم أنها منضبطة الا أنه قد تتم ممارستها بنوع من الإسقاط التعسفي على الفهم لأدنى مناسبة، فيكون توظيفها غير منضبط؛ لتأثره بالنواحي الذاتية وعدم الالتفات الى المعطيات الموضوعية للنص.
يضاف الى ما سبق هناك صنفان آخران من القبليات؛ قد ينضمان ضمن القبليات السابقة، كما قد ينفصلان أحياناً. كذلك فانهما قد يتحدان وقد ينفصلان، وهما كما يلي:
4 ـ قبليات محايثة:
وهي قبليات تحايث النص وتزامنه، باعتبارها ترتبط بواقع التنزيل، فيفهم النص على ضوء ما يفيده هذا الواقع، سيما عند الإحساس بعدم وجود اتساق في النسق الدلالي للنص ما لم يؤخذ هذا الواقع بعين الاعتبار. ومن ذلك ما ورد فيما أشكل على مروان بن الحكم في قوله تعالى: ((لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم)) آل عمران/188، اذ قال لئن كان كل امرئ فرح بما أُوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذَّبن أجمعون، حتى بيّن له ابن عباس بأن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي (ص) عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك اليه. كذلك جاء في قوله تعالى: ((الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الأمن وهم مهتدون)) الانعام/82، فقال البعض أينا لم يظلم؟ فأوضح النبي بأن الأمر خاص بالشرك، حيث ((ان الشرك لظلم عظيم)) (لقمان/13). كما حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معدي كرب أنهما كانا يقولان بأن الخمر مباحة، ويحتجان بقوله تعالى: ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا اذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين)) المائدة/93، فعلق على ذلك البعض بأنهما لو علما سبب نزول هذه الآية لم يقولا ذلك، وهو ان ناساً قالوا لما حُرمت الخمر: كيف بمن قُتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس؟ فنزلت تلك الآية .
5 ـ قبليات مفترضة:
وهي قبليات يفترضها الذهن ضمن سياقات معينة. فمثلما أن هناك قبليات جاهزة وحاضرة في الذهن سلفاً، وهي مستعدة للإسقاط، كالذي عليه القبليات المنظومية، فإن هناك قبليات أُخرى غير حاضرة في الذهن، بل يقوم هذا الأخير باحضارها عند الاحساس بأن النسق الدلالي للنص لا يمكنه ان يكون متسقاً او تام الدلالة الا بفرض بعض الافتراضات القبلية المناسبة. فلكل نص نسق من الدلالات المترابطة، لكن قد تشكو هذه الدلالات من النقص او الاختلال في المعنى المتسق، وكل ذلك يهيء المجال للافتراضات الذهنية المناسبة، ولولا هذه الافتراضات فإن تلك الدلالات لا تكتمل، او أنها تظل تشكو من اختلال المعنى عند قراءته قراءة بيانية وعقلائية، لذا كان لا بد من إكمال النقص واصلاح اختلال النسق الدلالي طبقاً للافتراضات الذهنية. فهي قبليات ليست اسقاطية كالقبليات المنظومية، بل انها مفترضة للتعويض عما ينتاب نسق الدلالات من ذلك النقص والاختلال.
ومن الاختلالات ما هو ذاتي في النسق، ومنه ما قد يكون اختلالاً بالقياس الى (الآخر)، كالعقل والواقع مثلاً.
وللاختلالات الذاتية أشكال متعددة: فقد تعبّر عن التعارض في الدلالات الظاهرة، كالذي يبدو من موقف القرآن الكريم من أهل الكتاب والمشركين، او موقفه من مسألة القضاء والقدر، وكذا مسألة الصفات الالهية، ومثل ذلك مسألة الزمن المقدر لخلق السماوات والأرض، ففي بعض الآيات القرآنية يُقدر هذا الزمن بستة أيام، كما في قوله تعالى: ((إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش)) (الأعراف/54)، لكن جاء في سورة (فصلت) ما ظاهره أن الزمن المقدر لخلقهما ثمانية أيام، كما في قوله تعالى: ((قل أئنّكم لتكفرون بالّذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك ربّ العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيّام سواء للسّائلين، ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين، فقضاهنّ سبع سماوات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم)) (فصلت/9ـ12)، لذلك أخذ المفسرون وضع الافتراضات التفسيرية لإزالة مثل هذا التعارض الظاهر، ومن ذلك ما ذكره الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) بأن المقصود من الآية (في أربعة أيام) أي في تتمة أربعة أيام من حين ابتداء الخلق، فاليومان الأولان داخلان فيها، كما تقول خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً، أي في تتمة خمسة عشر يوماً .
كما قد تعبر هذه الاختلالات عن الغموض وعدم الوضوح فيما يريد النص ابلاغه وايضاحه. وابرز الأمثلة على ذلك ما جاء في قصة هاروت وماروت؛ كالذي تبديه سورة البقرة في قوله تعالى: ((ولمّا جاءهم رسول من عند اللّه مصدّق لّما معهم نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون، واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرّين به من أحد إلاّ بإذن اللّه ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)) (البقرة/101ـ102). فدلالات النص القرآني - هنا - غير واضحة فيما تبديه من المعنى المتسق، لذلك كانت محل الكثير من الافتراضات القبلية لدى المفسرين، وهي مع ذلك تعاني الكثير من الاضطراب والنقص. وقد ذكر الشيخ محمد جواد مغنية بهذا الصدد: “تكلم المفسرون هنا واطالوا، ولا مستند لاكثرهم سوى الاسرائيليات التي لا يقرها عقل ولا نقل، وسوّد الرازي حوالي عشرين صفحة في تفسير هذه الآية، فزادها غموضاً وتعقيداً، ونفس الشيء فعل صاحب مجمع البيان (الطبرسي)، أما السيد قطب فأخذ يشرح التنويم المغناطيسي والأحلام والتأثير والانفعالات بالايحاء وما اليه، وهذا هو الهروب بعينه. وبقيتُ أمداً غير قصير أبحث وأنقب في الكتب والتفاسير، فما شفى غليلي شيء منها، حتى تفسير الشيخ محمد عبده وتلميذيه المراغي وصاحب المنار (رشيد رضا)، وخير ما قرأته في هذا الباب ما جاء في كتاب (النواة في حقل الحياة) للسيد العبيدي مفتي الموصل، لأنه قد اعتمد على قول جماعة من علماء الآثار”. ومما ذكره هذا المفتي قوله: “ما زلت اجهل معنى الآية الكريمة، لا يشفي غليلي فيها مفسر، حتى وقفت على تاريخ جمعية البنائين، فتبينت معناها. وحيث اضطربت كلمة المفسرين، حتى عرضوا الآية للجمع بين النقيضين، وحتى دخلها شيء من الأساطير التي تنبو عنها مغازي الشريعة الغراء رأيت من واجب الخدمة لكتاب الله أن أثبت هنا كلمة في ذلك...” . لكن حتى ما ذكره السيد العبيدي من رأي لا يخلو من افتراضات بعيدة لسنا بصدد بحثها.
أما اختلال النسق بالقياس الى الآخر، فمثل الدلالات النصية التي تشير الى وجود شياطين في السماء الدنيا تكون عرضة للقذف بالشهب لدحرهم، كالذي تبديه الآيات الخمس من أوائل سورة الصافات كالتالي: ((إنّا زيّنّا السّماء الدّنيا بزينة الكواكب، وحفظًا من كلّ شيطان مارد، لا يسّمّعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كلّ جانب، دحوراً ولهم عذاب واصب، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب)) (الصافات/6ـ10)، وهي دلالات لا تتسق مع الظاهر الحسي، كما تفيده النتائج العلمية الفلكية، الأمر الذي يتطلب بعض الافتراضات القبلية لإزالة مثل هذا التعارض وجعل النسق الدلالي متسقاً. ومن ذلك ما قام به العلامة محمد حسين الطباطبائي من ابداء بعض الافتراضات الذهنية وتأويل النص القرآني؛ بغية اضفاء الاتساق على النسق الدلالي وازالة التعارض الظاهر. فهو لم يقتنع بما ادلى به المفسرون القدماء من تصوير لمعنى تلك الآيات بحسب ما يبدو منها ظاهراً، وكذا ما ورد حولها من أخبار وأحاديث تؤكد بأن هناك أفلاكاً محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة، ولا يمكن دخول هذه الأفلاك الا عبر أبواب مهيئة للولوج، وأن في السماء الاولى جمعاً من الملائكة يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب. فهذه الفكرة المستمدة من الأحاديث لم يوافق عليها الطباطبائي طبقاً لما اتضح اليوم بطلانها وما تفرع عنها مما هو مذكور في كتب التفسير. لهذا فهو يحتمل ان البيانات الواردة في الآيات السالفة الذكر تفيد (التمثيل)؛ لتصوير الحقائق المجردة بصورة محسوسة وبالتالي تقريبها للأذهان، فالله تعالى هو القائل: ((وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون))، وذلك على شاكلة ما ورد في كلامه تعالى عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وما اليها. وبالتالي فانه يذهب الى ان المراد من السماء التي تسكنها الملائكة ليست هذه المحسوسة، بل هي عبارة عن عالم ملكوتي ذي أُفق أعلى؛ نسبته الى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها الى الأرض، وان المراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب هو اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلق والحوادث المستقبلية ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت . وبذلك فان الطباطبائي قد استعار القبليات التي عوّل عليها الفلاسفة التقليديون من أمثال ابن سينا وأتباعه في نظرية التمثيل ليعالج بها الاختلال الآنف الذكر ، رغم تأكيده في مقدمة تفسيره على إتباعه لمنهج تفسير القرآن بالقرآن، لكنه اضطر الى مثل تلك الاستعارة والتأويل اذعاناً للاعتبارات المستمدة من الواقع وحقائقه الخاصة والتي تعارض النسق الدلالي للنص، كما اشرنا.
كذلك الأمر بخصوص الآيات التي مرت علينا من سورة (فصلت)، اذ ورد أن الزمن الذي خلق الله فيه الأرض يفوق الزمن الذي خلق فيه السماوات السبع، كما ورد بأن خلق الأرض بما فيها من رواسي وأقوات سابق لخلق السماوات، وهو غير متسق مع ما يبدو من الواقع العلمي، مما يحتاج الى بعض الافتراضات التي تزيل مثل هذا التعارض وعدم الاتساق، او الذهاب الى التشكيك بالتقديرات العلمية التي تجعل من صيرورة الأرض وما فيها لا تقاس بشيء مقارنة مع أُفق السماء.
وقد يميل البعض الى العمل في مثل هذه الحالات بأُفق الانتظار، شبيهاً بما يحدث في الدراسات العلمية الطبيعية.
أما نسق الدلالات الذي يشكو من النقص والانقطاع، فهو الغالب في النص، من قبيل ما يبدو على الأنساق النصية من الإجمال تارة، ومن التفرقة والانفصال او الانقطاع في الدلالات تارة ثانية، وفي كلا الحالتين ليس من الممكن إكمال النسق وإتمام ترابطه بشكل متسق الا عبر الافتراضات الذهنية التي تعمل على تفصيل ما هو مجمل، او الجمع والتوفيق فيما هو مشتت ومنفصل الدلالات. فمثلاً وردت قصة موسى في العديد من السور القرآنية، كما كثر ذكرها في سورة البقرة، ولكن بأشكال متقطعة، ومجملة، وبعضها يبدو عليه التقديم والتأخير، وكل ذلك يحتاج الى نوع من الافتراضات وظيفتها الجمع والتوفيق لمعرفة القصة باتساق كما وردت في القرآن الكريم. كما ان إجمالية القصة خلّفت مساحات فارغة تحتاج الى أن يملأها المفسر عبر افتراضاته القبلية، من قبيل معرفته التاريخية والروائية.
وننبه الى أن مفهومنا عن المساحات الفارغة لا يطابق المفهوم المتداول في النقد الأدبي والدراسات السيميائية التي تفترض في النص نقصاً حقيقياً، وقد يكون غائباً عن ذهن المؤلف، وبالتالي كان للقارئ أن يملأ هذا الفراغ او الفجوة. فالمساحات الفارغة التي نتحدث عنها هي مساحات تتعلق بالنسق الدلالي بغض النظر عن النص ذاته. فنحن نسلّم بأن الله تعالى أراد هذا النص بالشكل الذي هو عليه لحكمة غائبة عنا، وهو أمر يختلف مع المقولات الأدبية في فراغات النص وفجواته.
كما نشير - بهذا الصدد - الى نقطتين كالتالي:
الاولى: ينبغي أن نعرف بأن اتساق النسق الدلالي على نوعين: افتراضي وموضوعي، فأما الأول فيتصف بكونه محكوماً بالقبليات المفترضة كما بيناه سلفاً، في حين يتصف الاخر بكونه ظاهراً في النسق النصي بفعل العملية الاستقرائية، ولا علاقة له بالقبليات الآنفة الذكر، لذلك يمكن أن ينسب الى النص خلافاً للأول (الافتراضي).

الثانية: يعد البحث في الاتساق المضفى على النص المقدس ومجمل الموضوع الخارجي – المسلّم به - حاجة عقلية. فهو ممارسة تبين بأن العقل لا يتقبل وجود مفارقة وتناقض في الموضوع المبحوث، وكل مفارقة يجدها ستعبّر عنده عن خطأ محتم، فإما ان يكون الخطأ راجعاً الى الموضوع او الى اكتشاف العقل ذاته، وبالتالي كان لا بد من البحث عن الاتساق الذاتي وإبعاد المفارقة.
والسؤال الذي يرد بهذا الصدد: لماذا لا يقنع العقل بالمفارقات والتناقضات، ومنها تلك المتعلقة بالموضوع الخارجي اذا ما كان من المسلمات المفترض صحتها، كالواقع الموضوعي والنص المقدس؟ اذ لو لم يكن هذا الموضوع من المسلمات فإن العقل لا يبالي بمفارقته، اذ يمكن تفسير هذه المفارقة طبقاً للخطأ الذي ينطوي عليه هذا الموضوع. لكن الأمر مع المسلمات شيء مختلف. وبالتالي يطرح السؤال عن تبرير السلوك العقلي بهذا الخصوص، فقد يقال ما شأن العقل بالموضوع الخارجي - المسلّم به - إن اكتشف الاول مفارقة في الثاني؟ وبعبارة أُخرى ما الذي يمنع أن يكون هذا الموضوع حاملاً للمفارقات، وأن تكون الوظيفة الملقاة على العقل هي تسجيل هذه المفارقات والتصديق بها وجعلها من المسلمات ايضاً عوض رفضها وإبعادها؟ أي لماذا كان على العقل أن يبعد التناقضات من الموضوع الخارجي، ولمَ لا يكون هذا الموضوع مشحوناً بها – فعلاً – دون أن يقلل ذلك من حقانيته ومصداقيته؟ هل هي حاجة عقلية صرفة، ام انها كاشفة عن الأمر الخارجي؟
والجواب على ذلك هو أن العقل لا يحتمل اطلاقاً أن تكون هناك مفارقة في الموضوع الثابت التصديق، سيما تلك المتعلقة بالتناقض. فهو يرى أن نفي التناقض من الحقائق يعد من الضرورات (العقلية)، وأي سياق معرفي يحمل المفارقة يعد سياقاً كاذباً، او انه يتضمن المضمون الكاذب. وهنا لا بد من إبراز الفارق - في الموضوع الخارجي - بين النص من جهة، والواقع والوجود من جهة ثانية. فلكون النص يتضمن تكويناً معرفياً فإن حمله للمفارقة تفضي الى تكذيبه؛ ما لم يكن بالامكان اجراء التأويل عليه لإبعادها. في حين إن حمل الواقع او الوجود للمفارقة لا تفضي الى تكذيبه؛ باعتباره ليس من الأُمور المعرفية التي يجري عليها التصديق والتكذيب، بل لو ثبت أن هناك فعلاً مفارقة في الواقع او الوجود؛ فسيضطر العقل الى التسليم بها، وإن كان من الناحية العملية أن العقل يستخدم في هذه الحالة سلاح التأويل لإبعادها، فهو لا يتوقف عن الاعتقاد بنفي التناقض والمفارقة عن الواقع والوجود طبقاً للضرورة الوجدانية. أي أن الكشف الذي يمارسه العقل في هذه الحالة ليس كشفاً منطقياً، بل هو كشف وجداني. وبالتالي فنحن إزاء عدد من المسلمات كالتالي:
مسلمات منطقية: وفيها أن العقل يكشف بذاته عن إبعاد المفارقات في قضاياه المنطقية والعقلية، لأن كل اعتقاد بمصداقية المفارقة بمعنى التناقض، سوف يجر الى سائر القضايا العقلية، فتكون المعرفة بذلك مستحيلة. فمثلاً لا يمكن الاعتقاد بأن الواحد المضاف الى اخر مثله يساوي ثلاثة مثلما يساوي اثنين، لأن ذلك يبعث على الاعتقاد بالتناقض، والاعتقاد بالتناقض المنطقي يجعل جميع القضايا معرضة للهدم واستحالة المعرفة، فحتى ذات الاعتقاد بتناقض القضية المنطقية يصبح في هذه الحالة اعتقاداً متناقضاً.
مسلمات ميتافيزيقية: وفيها أن العقل يبعدها عن المفارقة وإن لم يمتلك دليلاً على ذلك. فمثلاً بامكان العقل أن يستبعد الاعتقاد القائل بأن وراء هذا العالم آخرة تنتظر البشر، وانه في ذات الوقت لا توجد آخرة وراء هذا العالم. فالعقل في هذه الحالة يرى من البداهة إما ان تكون هناك آخرة وراء هذا العالم او لا تكون، ولا يمكن الجمع بين الاعتقادين. لكن هذه البداهة لا يمكن الاستدلال عليها.
مسلمات تجريبية وحسية: وفيها أن العقل بامكانه أن يكشف عن صدق ما يعتقده من نفي التناقضات. فمثلاً لو أن شخصاً أخبرنا بأن زيداً الذي نعرفه قد مات بالأمس وانه لم يمت أمس، ففي هذه الحالة أن بالامكان تكذيب هذا الاعتقاد بالكشف عن أن زيداً إما ان يكون قد مات فعلاً فهو ليس بحي، او العكس.
مسلمات الواقع الموضوعي: وفيها أن العقل يستبعد المفارقات فيه، وهو وإن لم يمتلك الدليل على تعميمه، لكنه يجعل من استبعاده مجالاً للتحدي. وتعد هذه المسلمات الوحيدة التي تنطوي على التحدي، لكن لو ظهر للعقل أن الواقع يتصف بالتناقض والمفارقات، فلا بد أن نتصور بأن العقل ليس من السهل عليه الإذعان لهذا الظهور، لذلك نقدّر بأن أول فعل يتخذه هو تأويل الواقع بما يبعد المفارقة عنه. أما لو تبين أن الواقع يحمل - فعلاً وحقيقة - التناقضات واصبح العقل عاجزاً عن تقديم التأويلات – وهو ما لا يمكن تصوره - فعندئذ سوف يذعن لهذا الأمر مضطراً، وتصبح التصورات العقلية الاولى عن الواقع تصورات خاطئة. لكن ذلك سيعطي احتمالاً مبرراً لامكانية أن يتصف العالم الميتافيزيقي المجرد بالمفارقات. أما المسلمات العقلية فستبقى بحسب النظر العقلي نائية ومصونة عن هذه المفارقات، باعتبار أن ذلك يفضي كما قلنا الى استحالة المعرفة او انهيارها كلياً.
في حين سيكون النص المتصف بالمفارقات نصاً كاذباً لدى العقل إن تعذّر إنقاذه عبر التأويلات التي تعيد له اتساقه وتنأى به عن هذه التناقضات.
***
إذاً فهناك خمسة أصناف للقبليات المنضبطة، وهي قد تتعارض فيما بينها، مما يدعو الى ترجيح بعضها على البعض الاخر. وبالتالي يأتي الاختلاف بين الدوائر المعرفية من حيث مصادرها المعرفية واختلاف قبلياتها المعتمدة واصولها المولدة.
ونشير الى ان فهم النص قد يتأثر بفهم نصوص أُخرى، فقد يعد مثل هذا التأثر من القبليات النسبية، بمعنى ان آلية الفهم وقراءة النص تتأثر بما عليه النصوص الأُخرى التي تناظرها في القيمة، كإن يتم التعويل في فهم نص قرآني على حديث نبوي او العكس. ولا شك ان لهذا النوع من القبليات سمة نسبية. لذلك لا يصح لنا ادراجه ضمن القبليات اذا ما اعتبرنا النص وحدة جنسية قبال ما سبق من الوحدات الجنسية لسائر القبليات.
التمييز بين القبليات المنضبطة وغير المنضبطة
قلنا إن الذهن يعجز عن ممارسة وظيفته من الادراك والعلم والفهم من غير قبليات، على الاقل فيما يخص القبليات المنضبطة. فكل معرفة تتعلق بالموضوع الخارجي لا بد ان تتولد عبر عدد من القبليات المنضبطة، سواء كان ذلك بوعي او دون وعي، وسواء كانت هذه المعرفة صحيحة ام خاطئة. وينطبق هذا الحال على كل من الفهم والعلم والادراك. لكن في الوقت ذاته تكون اغلب معارفنا غير محصنة من تأثير القبليات غير المنضبطة. فقد تتعارض قبليات الفهم المنضبطة مع القبليات غير المنضبطة، وتعمل الأخيرة على تجاوز وهدم القبليات المنضبطة، مثلما يقوم «المتبقي» بتجاوز نظام اللغة وهدمه؛ كالذي يراه فيلسوف اللغة (لوسركل) في كتابه (عنف اللغة).
كما قد يتحد تأثير كل من النوعين من القبليات على التوليد والفهم المعرفي، فتكون النتائج المعرفية مصنوعة بفعل عاملين، أحدهما موضوعي، وهو فعل القبليات المنضبطة، والآخر ذاتي، وهو فعل القبليات غير المنضبطة. وبذلك نواجه أزمة تتعلق بكيفية التخلص من العوامل الذاتية، والتمييز بينها وبين نظيرتها الموضوعية، ومن ثم الاطمئنان بأن ما نفعله انما يتم بمعزل عن التأثير الذاتي الخاص بالقبليات غير المنضبطة، سواء في الفهم او العلم او الادراك.
ولتمييز القبليات المنضبطة عن غيرها؛ نقول ان للاولى الدور الاساس في تحديد المعرفة، أياً كانت، سواء جزئية او كلية، وبها تتأسس عوالم الادراك والعلم والفهم، خلافاً للقبليات الأُخرى التي تتشكل وفق الصيرورة المعرفية دون ان يكون لها الدور الاساس في بناء العوالم المذكورة، اذ يمكن تجنبها هنا وهناك، وان كان يستحيل تجنبها على طول الخط. وقد يعتمد الأمر على نوع القضايا المبحوثة وعلاقتها بدوافع الباحث، فغالباً ما تتأثر الدراسات الانسانية، ومنها الفهم الديني، بالعوامل الذاتية والايديولوجية، في حين يقل ذلك في الدراسات العلمية الطبيعية. لذا فمن حيث المبدأ يمكن تجنب التأثير الذاتي في بعض القضايا البعيدة عن النوازع والأهواء البشرية. وإن كان من المحال مسح الطاولة من التأثير الذاتي على الفهم والعلم والادراك كلياً.
أما التمييز بين هذين النوعين للقبليات من حيث الوظيفة، فيلاحظ ان للقبليات المنضبطة وظيفة تحديد الفهم العلمي، سواء حصل ذلك بوعي منهجي او دون وعي. فحتى لو كانت هذه القبليات تفضي الى نتائج بعيدة كلياً عن المطلوب فهي تعد علمية طالما أنها تحتفظ بالقواعد المنهجية المتبعة في تعاملها المتسق مع النص. وعلى العكس منها القبليات غير المنضبطة، فهي لا تحدد الفهم العلمي، اذ لا تستند الى قواعد محددة، وانما تتأثر بعوامل خارجية متعددة، كالدوافع الايديولوجية والنوازع الذاتية البعيدة عن غرض الكشف العلمي، كما يظهر في حالات الدفاع عن المذهب او الطبقة، او حالات كسب المصالح السياسية او الاجتماعية او الشخصية او غيرها.
وقد يكون هذا التمايز ذاته مصدر الخلاف بين غادامير المتأثر بهايدجر وبين دلتاي وقبله شيخ الهرمنوطيقا (شلايرماخر). فقد كان الاول يبحث في الخصائص الوجودية للفهم، او في المعنى الانطولوجي للهرمنوطيقا، في حين كان الاخر يبحث في قواعد الفهم المنضبطة لتوظيفها نحو الفهم الصحيح في قبال غيره من الافهام. لذلك عُرف بأن هناك تصورين للهرمنوطيقا مختلفين في الشكل والغرض، وهو ما يظهر من الخلاف بين غادامير وناقده بتي. فهذا الأخير اتبع دلتاي في بحثه عن الجانب العملي المفيد للفهم والتفسير، فكان غرضه طلب المعايير المعتمدة للتمييز بين التفسير الصحيح والتفسير الخاطئ. أما غادامير فقد اتبع هايدجر وكان يبحث عن الصفة الوجودية لعملية الفهم، وكيف يدخل التراث في هذه العملية . وهو أمر يتعلق بالقبليات غير المنضبطة، عبر التأثير الذاتي للعوامل التكوينية والمكتسبة.
واذا كان هناك تضاد في المنهج المتبع لدى بتي وغادامير، او لدى من كان يرى الهرمنوطيقا هو التفسير، ومن يرى انه حالة وجودية، فإن ما يسفر عن عملية الفهم هو نتاج التأثير المتداخل بين الحالتين في الغالب. فيكون الفهم مزيجاً بين الشكلين العلمي وغير العلمي، فالأول نتاج تأثير القبليات المنضبطة، والثاني نتاج تأثير القبليات غير المنضبطة، سواء حصل ذلك بفعل ايديولوجي، او بفعل وجودي تكويني او مكتسب. وبالتالي يمكن للمجموعتين الاندماج سوية، فيختلط العلم والفهم بغيره، وهو الأمر الغالب في التفكير البشري، خاصة فيما يتعلق بالفهم الديني، مثلما قد يؤثر هذا الاندماج على البحث العلمي، ومن ذلك ما قيل عن نظرية هايزنبرج بأنها ظهرت بفعل تأثير الحرب العالمية الاولى على نفسية هذا العالم الفيزيائي. وفي الفهم الديني شواهد كثيرة دالة عليه، كما هو حال الصراع المذهبي والكلامي. وكما يشير الغزالي الى ذلك في بعض نصوصه الدالة على رفض وقبول العلماء للقضايا العلمية طبقاً لما هو المألوف من التقليد والتلقين . والشيء ذاته حاصل لدى علماء الطبيعة، اذ كثيراً ما تمرر عليهم النظريات الخاطئة بعدوى التلقين، وقد يقومون بتجارب لإثباتها فيقعون فريسة الوهم بصدقها بسبب هذا العامل النفسي، كالذي يشير اليه (غوستاف لوبون) في عدد من الشواهد العلمية، وعلى رأسها ما يتعلق بأشعة (N) .
ويلاحظ أن الفكر الغربي الحديث يركز على القبليات ذات العلاقة بالنزعات الذاتية، وهي نزعات يمكن أن تتلبس بلباس القبليات المنضبطة، او أنها توظف هذه الأخيرة توظيفاً لدواع ذاتية غير موضوعية، فهي في كل الأحوال عبارة عن جميع المعارف الذهنية التي يتم اسقاطها على مادة البحث، سواء كان ذلك عن وعي او بلا وعي، وكذا سواء نتج ذلك عن قواعد متقنة ومقصودة، او كان الأمر من غير قواعد محددة. وأصبحت المشكلة التي تواجه هذا الفكر تتحدد بالتفرقة الخاصة بين العلوم الطبيعية الدقيقة والعلوم الانسانية المتمشكلة بالنزعات المشار اليها. فمع أن المدارس الوضعية تسعى لجعل العلوم الانسانية على شاكلة العلوم الطبيعية من حيث خضوعها للمناهج الدقيقة الصارمة، لكن أغلب التيارات الحديثة تجد فارقاً كبيراً بين هذين النوعين من العلوم، وغالباً ما يحضر في بال هذه التيارات هو أن العلوم الانسانية لا يمكنها ان تخضع للمناهج الدقيقة باعتبارها مبتلاة بالنزعات الذاتية للباحث او القارئ. وكان على رأس من ميّز بين هذين النوعين من العلوم المفكر دلتاي. وظلت هذه الاعتبارات قائمة؛ حتى أن غادامير وانطلاقاً من النزعات الذاتية نفى وجود منهج للفهم والتأويل، خلافاً لما هو معهود لدى الدراسات العلمية الدقيقة. وبذلك فهناك اتجاه للهرمنوطيقا تلعب النزعات الذاتية فيه دورها الأعظم في الفهم والقراءة، وفي قباله اتجاه للابستمولوجيا يتصف بالاعتبارات الموضوعية كما هو الحال في البحث العلمي الدقيق لقضايا الطبيعة.
ومع ان الاتجاه الثاني يمتاز بالكمال مقارنة مع الأول، فهو دقيق وصارم وجانب الموضوعية فيه عالية، لكن السؤال المطروح: هل يمكن تحويل الاتجاه الأول الى الثاني، على الأقل بحدود القراءة، فتكون القراءة ابستيمية منطقية اكثر منها هرمنوطيقية؟
لا شك أن التيارات الحديثة في القراءة والتأويل تجد ذلك بعيد المنال ضمن ما يعرف بتأثر الفهم والتأويل بالنواحي الذاتية، وبالتالي تظل القراءة هرمنوطيقية وليست أبستيمية. لكن في قبال ذلك نجد العلوم الطبيعية الدقيقة لم تنفصل كلياً عن النزعات الذاتية والايديولوجية، وقد رأى بعض المفكرين في النزعة الهرمسية ما يلابس الكثير من التفكير العلمي لدى علماء الطبيعة، فكما يقول إيكو: “لقد أثبت التاريخ أنه من الصعب أن نفصل بين التيار الهرمسي وبين التيار العلمي، وبين باراسيلس وبين غاليلو. فقد مارست المعرفة الهرمسية تأثيرها على فرانسيس بيكون وعلى كوبرنيك، كما مارست هذا التأثير على كيبلر ونيوتن. ولقد ولد العلم الكمي الحديث عبر حوار مع المعرفة النوعية الهرمسية” . وهذا التصور يقرّب علوم الطبيعة من التأويل الهرمنوطيقي، مما يعني ان من الصعب فصل البحث الأبستيمي عن غريمه الهرمنوطيقي، لكن العكس يحصل ايضاً، وهو ان البحث الهرمنوطيقي يمكن تصعيده الى البحث الابستيمي، ولو ضمن حدود، وذلك ضمن أخذ اعتبار القبليات المنضبطة المشتركة، والتي لم تراعها التيارات الحديثة للقراءة والتأويل أهمية واعتباراً.
وعموماً يمكن تحديد القاعدة العامة للتمييز بين الفهم العلمي وغير العلمي بالشكل التالي:
»كلما كان تأثير القبليات غير المنضبطة كبيراً؛ أصبح الفهم غير علمي بالقدر الذي تؤثر فيه هذه القبليات، سواء عبّرت هذه الأخيرة عن المعنى الآيديولوجي، او عن المعاني الذاتية الأُخرى التي لها تأثيرها على الذهن البشري، والعكس بالعكس. كما كلما كان تأثير القبليات المشتركة كبيراً كلما ازداد الفهم العلمي دقة، وعلى عكسه كلما ضعف تأثير هذه القبليات كلما تقلصت الدقة في هذا الفهم«.
هكذا نخلص الى ان من المحال على الانسان التفكير خارج حدود القبليات المنضبطة، مثلما من المحال عليه اقامة فهم للنص - مهما كان بسيطاً - خارجها، سواء كان ذلك بوعي او دون وعي. أما بخصوص القبليات غير المنضبطة فان تأثيرها عام، لذا يمكن تجنبها احياناً، وان كان من المحال تجنبها على الدوام كلياً. ويبقى على الباحث الموضوعي ان يكون على وعي منها ليتجنب تأثيرها ما أمكنه الى ذلك سبيلاً.
القبليات المنضبطة ومرايا الفهم
عرفنا سابقاً بأن جميع آليات فهم النص وقراءته لا تتحدد الا بحسب ما عليه القبليات المعرفية. فمن المحال على الذهن البشري ان يعمل دونها، سواء في معرفته للقضايا الطبيعية والخارجية، او في فهمه للنص، وما ذلك الا لكون المعرفة الخاصة بهذه القضايا هي معرفة حصولية لا حضورية، اي انها تحتاج الى الوسيط المعرفي الذي يتوسط بين القضية الطبيعية او النصية وبين الذهن البشري، وهو ما اطلقنا عليه القبليات.
فحتى الإشارة الظاهرية لا يسعها ان تستقل في الظهور من غير ان تتحدد سلفاً ببعض من تلك القبليات. وبالتالي فمن الممكن ان يتفاوت الظهور ويتعدد الظاهر تبعاً لاختلاف هذه القبليات. فالظاهر لا يكون ظاهراً الا من حيث ظهوره للاذهان. وهذا الظهور لا يتشكل الا بفعل الرؤية القبلية التي تعمل على تشخيصه بالظهور، كرؤية العين لشيء امامها فتصفه بانه قلم اسود وليس احمر او اخضر، وانه ليس كتاباً او طاولة. لكن لمّا كانت الاذهان تختلف في قبلياتها باعتبارات كثيرة؛ لذا فقد يرى بعضها شيئاً ظاهراً غير ما يراه البعض الاخر. ومن ذلك انه يمكن للنظام المعرفي ان يلعب دوره المميز في تحديد الظاهر.
فمثلاً رأى صدر المتألهين في قوله تعالى: ((إنّك ميّت وإنّهم ميّتون)) عين الظاهر والحقيقة، فالنبي ميت، وكذا الآخرون، بلا حاجة للتوجيه كالذي ذهب اليه بقية العلماء والمفسرين. والذي جعله يرى النص دالاً على الظهور والحقيقة هو قبلياته الوجودية. ومن ثم فقد قام بتفسير النص تبعاً لهذه القبليات التي تعترف بالظهور اللفظي، مؤكداً على وجود الموت والبعث والنشر والحشر الى الله تعالى في كل وقت من اوقات الحياة الطبيعية، فهناك رقي من نشأة الى أُخرى، ومن مقام الى اخر، فالموت هو التحول والكمال في النشآت والمقامات . في حين ان غيره من العلماء الذين ينتمون الى نظام معرفي اخر لا يرون النص دالاً على هذه الحقيقة، وما جعلهم يذهبون الى ذلك هو قبلياتهم المعرفية أيضاً، وبالتحديد القبليات الحسية التي تؤكد بأن النبي والاخرين عند الخطاب بهذا النص كانوا احياءً وليسوا موتى.
وعلى هذه الشاكلة اخذ العرفاء بالظهور الحقيقي لقوله تعالى: ((كل شيء هالك الا وجهه)) القصص/88، وقوله: ((كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام)) الرحمن/26ـ27، فبفعل القبليات الوجودية فان النصين محمولان على الظهور الحقيقي للفظة الهلاك والفناء من غير توجيه، تبعاً لنظرية وحدة الوجود، فلا وجود لغير الله ازلاً وابداً، مثلما قيل: «الباقي باقٍ في الازل والفاني فانٍ لم يزل» . وبالتالي فان المعنى هو ان كل شيء هالك وفان حقيقة وفي كل حال، لا ان الهلاك والفناء عند المآل كما هو الظاهر بحسب القبليات الحسية.
ومن الامثلة على تعدد الظاهر تبعاً لاختلاف القبليات المعرفية؛ ما جاء في فهم قوله تعالى: ((وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون)) النحل/118، فظاهر النص قد يعني بأن النفس هي التي سبق لها الظلم، وذلك كإشارة الى العين الثابتة مثل الذي ذهب اليه العرفاء ضمن النظام الوجودي، وكأن المعنى يقول بأن نفوسهم المتمثلة بحقائق طبائعهم واعيانهم هي التي تظلم، فإليها تعود الحاكمية والجبرية . كما قد يكون المعنى هو ان نفوسهم هي التي تظلم وليس اعيانهم الاصلية. وبالتالي فكما يمكن أن يتشكل الظاهر بالمعنى الثاني؛ فانه يقبل التشكل بالمعنى الاول كالذي تحدده القبليات الوجودية. وعلى هذه الشاكلة قد يرى بعض المفسرين ان لظاهر قوله تعالى: ((قل كل يعمل على شاكلته)) الاسراء/84؛ سمة ارشادية لتوجيه الافراد للعمل بحسب ما يودونه من طريقة. لكن ظاهر هذا النص لدى التصور الوجودي لا يشير الى تلك السمة الارشادية، وانما يشير الى حقيقة ما عليه الافراد، فكل فرد يعمل بحسب ما هو عليه من الاستعداد والحقيقة الاصلية، كإشارة الى الاعيان الثابتة، فالمعنى من حيث التفسير هو ان كل فرد لا بد ان يسير تبعاً لما يقتضيه الاصل والشاكلة التي عليه ماهيته او عينه الثابتة، وكلّ ميسر لما خُلق له مثلما جاء في الحديث النبوي .
ومن ذلك ايضاً، يخضع تحديد الظهور في الحديث النبوي القائل: «خلق الله ادم على صورته» الى ما تحدده القبليات المعرفية، ومنها قبليات النظام الوجودي، فالهاء يمكن ان تؤخذ كضمير يعود الى الله، كما يمكن ان تؤخذ كضمير يعود الى ادم، وكلا الأمرين يقبلان التعيين، ولا شك ان تعيين احدهما دون الاخر قد يتأثر بالمنظومات المعرفية. لذلك فان اصحاب النظام الوجودي لا يُرجعون الضمير الى ادم، بل يرجعونه الى اسم الجلالة، استناداً الى قبلياتهم الوجودية.
هكذا فتحديد دلالة النص وإن كانت تتشكل بحسب الحقيقة والظهور او بغيرها؛ لكن لا يمكنها ان تستقل عن تأثير القبليات المعرفية. فظاهر النص قد يتحدد بحسب ما عليه الانظمة المعرفية، اذ تعمل هذه الانظمة على تشكيل الظاهر الى الحد الذي يكون فيه متعدد الصور والاشكال، كما هو حال توقف الصورة الظلية على طبيعة المرآة التي تظهرها.
ومن الأْولى ان ينطبق ما سبق ذكره على سائر انماط الإشارة الأُخرى التي من الواضح تأثر غالبيتها بطبيعة ما عليه النظام المعرفي. واذا كان الأمر يصدق على نص القراءة الاشارية؛ فمن الاولى ايضاً أن يصدق على نص القراءة التفسيرية؛ باعتبارها قائمة على الاولى ومترتبة عليها. فمثلاً قد نجد حالات يتفق عليها المفسرون من حيث الإشارة والظاهر، لكنهم يختلفون حولها من حيث التفسير، تبعاً لاختلاف منظوماتهم القبلية، وهو ما اطلقنا عليه الإستظهار الجدلي.
فمثلاً يتفق المفسرون على ظاهر الآية القرآنية: ((كما بدأكم تعودون)) الاعراف/29، من حيث ان الخلق كما بدأ سيعود، لكنهم يختلفون في تفسيرها، فهي بحسب نظر بعض اقطاب النظام الوجودي دالة على ان الخلق مثلما بدأ من العقل فالنفس ثم الجسد، فان العودة ستكون على العكس من الجسد فالنفس فالعقل، كالذي اختاره صدر المتألهين . وهو تفسير لا يوافق عليه كل من لم ينتمِ الى النظام الوجودي.
كذلك قد نتفق على الإشارة الظاهرية لمعنى الاية القرآنية: ((وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى))، فمفهوم الاية متفق عليه بين العديد من المذاهب والاتجاهات، لكن العلاقة المصداقية او المعنى التفسيري للاية تجد اختلافاً واسعاً بين المفسرين؛ طبقاً لما تؤول اليه قبلياتهم المعرفية.
وفي التفاسير الوجودية للعرفاء هناك الكثير مما يتفقون به مع غيرهم حول الظاهر او الإشارة، الا انهم يختلفون معهم في التفسير اختلافاً عظيماً تبعاً لاختلاف انظمتهم المعرفية. فمثلاً نجد لابن عربي محاولات عديدة للحفاظ على الظهور اللفظي للنص، لكنه يذهب من حيث التفسير الى ما لا يذهب اليه الاخرون من ذوي الاتجاهات الأُخرى رغم اتفاقهم على الاخذ بذلك الظاهر. ومن ذلك ما جاء في إستظهار قوله تعالى: ((ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله)) الفتح/10، وقوله: ((من يطع الرسول فقد اطاع الله)) النساء/80. فالظاهر معلوم وهو ان مبايعة النبي هي مبايعة لله، وان طاعة الاول هي طاعة للاخر، فهذا المعنى هو موضع الاتفاق بين العلماء، لكن من حيث التفسير فان القبلية الوجودية لدى ابن عربي تجعله لا يرى الثنائية الظاهرة بين النبي والله، انما الموجود واحد، وهو الله المتعين بحسب الصورة المحمدية، وبالتالي فان مبايعة النبي وكذا طاعته هي ذاتها مبايعة الله وطاعته، حيث لا وجود لغيره.
على هذا كان من الميسور ان يستظهر هذا العارف المعنى الحرفي للحديث النبوي القائل: «من رآني فقد رأى الحق»، فظاهر الحديث بيّن في كشفه عن التلازم بين الرؤيتين، لكن تفسير ذلك - عند ابن عربي - نابع من ان رؤية النبي هي ذاتها عين رؤية الله، فمن حيث ان هذا الأخير متعين بالصورة المحمدية - مثلما انه متعين بغيرها من الصور - فهو عين النبي، لذلك فمن رآى النبي فقد رأى الله. مع ان هذا الحديث قد وجد تفسيراً اخر بحسب نظرية المشاكلة بعيداً عن وحدة الوجود الخاصة لابن عربي، تبعاً لمشاكلات الوجود، كالذي يبديه صدر المتألهين ومن قبله الغزالي، والمعنى بحسب هذا التفسير هو ان النبي عبارة عن مظهر من مظاهر الذات الالهية، حيث انه مثالها الاعظم، لذلك فمن رآه فقد رآى الحق استناداً لهذا النوع من المشاكلة، فمثله كمثل الذي يرى الصورة في المرآة ويظنها حقيقة الشخص لا صورته .
وعلى هذه الشاكلة اتفق ابن عربي مع غيره من المفسرين على المفهوم الظاهر لقوله تعالى: ((يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله)) فاطر/15، لكنه اختلف معهم في تفسير العلاقة المصداقية للفقر بين الله والناس، اذ اعتبر الفقراء هم الذين يفتقرون الى صور الاسباب التي هي عين الله، او انه المتجلي فيها. فهم إذاً يفتقرون الى الله في كل شيء، وليس الى غيره حيث لا وجود للغير، طالما ان الله ظاهر في كل شيء .
هكذا إذاً تتحدد القراءات وتتغاير، سواء على مستوى الإشارة او التفسير، وذلك حسب المرايا التي عليها القبليات المعرفية وعلى رأسها القبليات المنظومية.
***
نستخلص مما سبق، ان ما يحدد فهم النص ليس النص وحده، ولا القبليات المعرفية وحدها، بل كلا هذين العنصرين. فلكل منهما بصماته الظاهرة على الفهم. وان العناصر المتفاعلة ثلاثة، هي: القبليات والنص والفهم. والأمر نفسه ينطبق على ادراك الشيء الخارجي، اذ فيه ثلاثة عناصر متفاعلة، أحدها القبليات المعرفية، وثانيها ادراك الشيء، وثالثها الشيء ذاته. وإن الادراك او (الشيء لذاتنا) يتحدد بفعل تأثير العنصرين الآخرين المتمثلين بالقبليات المعرفية والشيء ذاته، وانه يحمل بصمات كل منهما على السواء. ولو غاب أحد هذين العنصرين لما حصل ادراك الشيء بأي نحو من الأنحاء.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القطيعة بين الفكر المغربي والمشرقي (قراءة في مشروع المفكر مح ...
- بين الفهم المقصدي والتعبدي للدين
- النظام الوجودي وتحليل العلاقة الوجودية
- حضارة بين حضارتين(مقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارتين ال ...
- الحركة العقلية الاسلامية وتطوراتها
- الصراع والتكامل بين الفلسفة التقليدية والعرفان
- الجابري والخلط بين مفكري اللحظة المغربية
- آليات قراءة النص الديني
- صدور كتاب جديد ليحيى محمد بعنوان منطق فهم النص
- علم الطريقة وفهم الخطاب الديني
- مقارنة بين العقل المثقف الديني والعقل الفقيه
- منطق السنخية والتنظير الفلسفي داخل الحضارة الإسلامية
- مع مشروع نقد (نقد العقل العربي)
- الفهم الديني: سننه وقوانينه وقواعده ومستنبطاته
- القطيعة بين إبن سينا وأرسطو (قراءة في مشروع المفكر محمد عابد ...
- ابن رشد وعلاقة الفلسفة بالدين


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - القبليات المعرفية وعلاقتها بالفهم الديني