أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - الفهم الديني: سننه وقوانينه وقواعده ومستنبطاته















المزيد.....



الفهم الديني: سننه وقوانينه وقواعده ومستنبطاته


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3068 - 2010 / 7 / 19 - 16:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يخضع الذهن البشري لعدد من القوانين العامة، سواء في علاقته بمعرفة الواقع الموضوعي، او بعلم الطبيعة، او الفهم الديني. وتتصف هذه القوانين بكونها ترتبط بتلك العمليات ارتباطاً ذاتياً، فيكون كل من الادراك والعلم والفهم محكوماً من الناحية الذاتية بالقوانين المشار اليها، لهذا فهي ثابتة غير قابلة للتغيير، وبدونها ليس بمستطاع الذهن ممارسة دوره الوظيفي الانف الذكر.
كما هناك عدد من السنن تؤثر على الذهن تأثيراً عارضاً. وهي وإن كانت لا تتحكم في الادراك والعلم والفهم ذاتياً؛ لكنها تُلقي عليها نوعاً من التأثير.
يضاف الى ذلك هناك قواعد للفهم يختارها الذهن البشري كإجراءات عملية وسط عدد غير محدد من الاجراءات، سواء جرى ذلك بوعي او دون وعي. وكما يتم اختيار القواعد او ابتداعها، كذلك يمكن استبدالها بغيرها حسب المطلوب. لكن من المحال ان يجري ذلك خارج نطاق ما تحدده القوانين، لان هذه القواعد انما تعمل وفقاً لطبيعة القوانين.
إذاً، سواء في حالة الفهم او الادراك او العلم، فان هذه الحالات تخضع للمحددات الذهنية من القوانين والسنن والقواعد. لكن مع لحاظ الفارق بين القواعد من جهة، والقوانين والسنن من جهة أُخرى، فقد تختلف القواعد من مجال لآخر؛ باعتبارها تخضع لخيارات الذهن بما يناسب الموضوع المبحوث، خلافاً للقوانين والسنن، فهي تعمل على تحديد النشاطات الذهنية الانفة الذكر والتأثير عليها دون فرق وتمييز.
وللتعرف على المحددات الثلاثة الانفة الذكر؛ نبدأ اولاً ببحث السنن، ثم القوانين، وبعدها القواعد، وذلك كالاتي..
أ ـ سنن الفهم
يتأثر الذهن البشري بعدد من العوامل التي تُحدِث مفعولها في نشاطه، فتحدد بذلك مسار ادراكه وعلمه وفهمه. وقد تكون هذه العوامل داخلية ضمن طبيعة الانسان من حيث تكوينه البايولوجي - ومنه الاثر الجيني - والنفسي، كما قد تكون خارجية تتمثل بتأثير البيئة والمحيط والزمان.
ويعد الواقع من أهم هذه العوامل المؤثرة على الفهم، الى الحد الذي يفضي تغيره الى تغير الفهم. فبتغير الواقع تتغير الثقافات والعلوم والايديولوجيات، وكل ذلك يؤثر على الفهم. فمثلاً ظهر الكثير من التفاسير العلمية للقرآن بفضل تغير الواقع، ولولا هذا التغير ما شهدنا مثل هذه الكثافة. كما ان الكثير من المفاهيم التي كان يفهمها القدماء بصورة معينة قد تغير فهمها اليوم، ومن ذلك ما يتعلق بالاحكام الشرعية، مثل مفهوم القوة وحكم رباط الخيل، واعتبارات توزيع الغنائم والرق وما اليها، وكل ذلك نتج بفعل تغير الواقع، ولولاه ما حصل ذلك، او قلما يحصل.
وعليه نستخلص السنة الطبيعية التالية:
»كلما تغير الواقع؛ كلما دعى ذلك الى تغير الفهم معه باضطراد« . وعلى هذه الوتيرة كلما اشتد تغير الأول كلما افضى ذلك الى زيادة تغير الثاني بالتبع.
ويمكن دراسة هذه السنة وفق الفقرات التالية:
1 ـ ان تأثير السنن، ومنها السنة المذكورة انفاً، لا يعد تأثيراً محتماً على الفهم والقراءة. فقد يتأثر بعض القراء في موضع ما دون البعض الاخر. لكن من المحال تجاوز هذه السنن، فمع انه يمكن تجنب التأثير الخارجي لها في بعض الموارد؛ الا انه يستحيل تجنبها على طول الخط. فحتى لو كان بعض القراء بمأمن منها فانها تؤثر على البعض الاخر، كثيراً او قليلاً. فهي اشبه بقانون دوركايم في الانتحار الأناني، حيث الاضطراد الحاصل بين العلاقتين: العزلة الاجتماعية والانتحار، اذ لا يُفهم من صدق هذا القانون تعرّض كل انسان للانتحار لمجرد أنه يعاني من العزلة، كما لا يعني أن من غير الممكن تجنب هذه النتيجة عند الوعي بها.
ورغم ان من المستحيل تجنب تلك السنن وتجاوزها، الا ان من الممكن تخفيف ضغوطها وآثارها، كالذي اطلعنا عليه عند بحث القبليات غير المنضبطة.
فعندما نقول - مثلاً - بأن الواقع المعاصر قد أثر على تفسير القرآن في مجال علوم الطبيعة، او في مجال الاحكام، لا يعني ذلك ان جميع المهتمين بالفهم قد وقعوا تحت وطئة هذا التأثير، وإلا ما كان للباحث سعة في الإبداع خارج حدود ما تفرضه البيئة والروح العامة للعصر. وعليه يمكن رصد تأثير الواقع ضمن هذا الاطار من الروح العامة. اذ لكل عصر روح عامة تؤثر على فهم الانسان وادراكه. وهي سنة لا علاقة لها بالقواعد المنضبطة والخيارات الاجرائية. لكن من الممكن استخلاص القواعد المنتزعة منها وتوظيفها في عملية الفهم.
وبالتالي لا يخلو الحال من وجود التأثير المزدوج بين الإبداع والإتباع. اذ ليس كل ما نجده من نتاج يمثل إبداعاً، ولا كله يعبر عن تقليد وإتباع، بل كلاهما وارد وصحيح.
هكذا يتبين ان السنن تؤثر على الفهم، وقد يزداد التأثير هنا فيما يقل هناك، كما قد يتفاداه البعض قدر الامكان دون البعض الاخر، لكن مفعوله العام يظل سارياً دون انقطاع.
2ـ يمكن ارجاع تأثير السنن الى القبليات غير المنضبطة، اذ يتولد هذا التأثير عن اسباب مختلفة، بعضها تكويني كالتأثير النفسي والبايولوجي، والبعض الاخر مكتسب كالتأثير البيئي باصنافه المختلفة: الطبيعية والاجتماعية والسياسية والايديولوجية وما اليها. ويتصف التأثير الذي تمارسه هذه الاسباب بالازدواج، فهو يجمع بين عاملين: معرفي ونفسي، وهو بالتالي يعبر عن الميول النفسية للمعرفة، مما يجعله من القبليات غير المنضبطة. فكلما كان الفهم متأثراً بالعامل النفسي؛ كلما كان هذا الفهم يعود الى القبليات غير المنضبطة، سواء كان بفعل الاسباب التكوينية، او المكتسبة، اذ في كلا الحالين تكون القبليات غير ممنهجة، او انها لا تخضع للقواعد الدقيقة كما هو الحال مع القبليات المنضبطة. لذلك قد تتولد عبر التأثيرات المكتسبة صور ايديولوجية تجعل من الفهم يتخذ قالباً تبريرياً.
والميزة التي تمتاز بها هذه السنن هو أنها تؤثر على الفهم تأثيراً غير ذاتي، خلافاً للقوانين. فهي تخضع لعوامل عارضة، ولا تفرض نفسها على الفهم فرضاً محتماً. فمن الصحيح - مثلاً - ان تغير الواقع يبعث على تغير الفهم، لكن هذا التأثير ليس محتماً، بدليل ان الفهم جارٍ حتى مع فرض ثبات الواقع من غير تعطيل. فالفهم قائم سواء تغير الواقع او ظل ثابتاً، رغم انه في كلا الحالين يتأثر بالواقع قليلاً او كثيراً.
3ـ يمكن الاستفادة من سنة الواقع بتحويلها مما هي سنة لا علاقة لها بالخيارات المنهجية، الى قواعد منهجية منضبطة، وذلك بمعرفة حدود اثر الواقع على فهم النص، ودور العلوم البشرية في الفهم وحجم الاستفادة منها. وعليه يمكن تحويل القبليات غير المنضبطة - الناشئة عن تأثير الواقع على الفهم - الى قبليات منضبطة، بانتزاع القواعد المناسبة التي تساعد على صياغة الفهم بدقة ضمن الخيارات المتاحة. ومن ثم يمكن تحويل ما هو ايديولوجي ووجودي تكويني الى معرفي ابستيمي. بل يمكن التعبير عن ذلك باختراق ما يطلق عليه العقل المكوَّن بالعقل المكوِّن، اذ يتصف الأول بثقافة التقليد الراكدة، في حين يمتاز الأخير بإبداع الفكر الجديد الذي يتقدم به العلم، وهو ما يحتاج الى القواعد الإجرائية كتلك المستلهمة من الواقع، او من العقل المكوَّن ذاته بعد اجتراحه وانتزاع العقل المكوِّن منه.
وبذلك يصبح الواقع مرتبطاً بكل من القبليات غير المنضبطة والقبليات المنضبطة، او قل ان له تأثيراً مختلفاً؛ تارة بعنوان السنن، وأُخرى بعنوان القواعد.
وبعبارة أُخرى، إن للواقع دوراً فاعلاً في تحديد مسار الفهم، سواء من حيث ارتباطه بالقبليات غير المنضبطة، وهو ما يدخل ضمن السنن، او من حيث ارتباطه بالقبليات المنضبطة، كالذي يدخل ضمن القواعد الممنهجة.
4ـ ينطبق ما ذكرناه على حالة الادراك والعلم معاً. فادراكاتنا متأثرة بالسنن التكوينية والمكتسبة، ومن ذلك الصور والتمثلات التي ندرك بها العالم والوجود، بحيث يمكن القول ان كل فرد منا يدرك عالمه بما لا يطابق ما يدركه الاخر تمام المطابقة، وإن حصلت تشابهات بين هذه الصور والتمثلات. فاحساسي بلون المنضدة التي امامي لا يطابق احساس غيري بلونها، وكل ذلك يعتمد على تركيبة الجهازين الحسي والعصبي، وهما ليس على تطابق تام بين الافراد، رغم التشابه الكبير. الأمر الذي يجعل من هذه الادراكات - المتولدة عن خبرتنا الشخصية - مرجعاً للرفض والقبول. فغالباً ما تصبح هذه الادراكات أداة للرفض والقبول عبر ما نطلق عليه (التنقية) او (الفلترة)، اذ يخضع كل ادراك لاحق او جديد الى فحص هذه الأداة، بوعي وبغير وعي، فتقبل من الادراكات ما يتفق معها، وترفض ما سواها. وعندئذ تصبح من المسلمات التي يصعب تجاوزها او هدمها، كما انها تشكل قبليات في الفهم الديني، سواء كان هذا الفهم منضبطاً او غير منضبط.
والحال ذاته ينطبق على العلم. فالعلم يتأثر بالنواحي النفسية والبيئية، وتصورات العلماء إزاء العالم الخارجي متباينة، ولا وجود لموضوعية مطلقة، وكثير من الاحيان يراد من النتاج العلمي أن يكون على شاكلة ما نألفه من الأشياء الحسية.
ب ـ قوانين الفهم
للبحث في قوانين الفهم اهمية خاصة؛ وهي انها تتيح لنا ادراك كيف تجري عملية الفهم وحدودها، وكيف يتم مجال السير عبر قواعد الفهم، وهل يمكن الاستغناء عنها ام لا؟ كذلك فهي تكشف لنا عن طبيعة العلاقة بين الفهم والنص، ومن ثم تحديد الشروط الكفيلة بتحقيق التطابق بينهما.
ويمكن التعرف على ما أمكن استكشافه من هذه القوانين كما يلي:
القانون الاول:
قانون العلاقة العكسية
ويشير هذا القانون الى وجود علاقة عكسية في التأثير على الفهم بين النص والقبليات، فكلما زاد تأثير النص كلما ضعف تأثير القبليات، والعكس بالعكس.
فالفهم هو نتاج عاملين: النص والقبليات، حيث لا يمكن توليد فهم من غير قبليات، مثلما لا يمكن ذلك بدون نص. وبالتالي لا غنى عن هذا التفاعل والتأثير، مما يجعل العلاقة بينهما متغايرة، طبقاً لحجم تأثير كل منهما على الفهم. مع اخذ اعتبار تقسيمنا السابق للقبليات، فهي إما أن تكون منضبطة او غير منضبطة، وكلا الحالين ينطبق على المقام. لكن مع لحاظ ان التأثير الذي تؤثر به القبليات غير المنضبطة هو تأثير عارض ليس متأصلاً في صميم عملية الفهم، مما يعني ان من الممكن تخفيف أثرها عند الوعي بها، وفي حالات معينة يمكن تجنبها بشكل نسبي. وقد سبق ان جعلناها ضمن السنن لا القوانين. في حين يحال على الفهم التجرد عن القبليات المنضبطة. وبالتالي أنها اكثر معنية فيما نبحث فيه.
ومن حيث الدقة، ينحصر عمل القوانين في القبليات المنضبطة، خلافاً لسنن الفهم المرتبطة بالقبليات غير المنضبطة، كما اسلفنا.
وطبقاً للقانون الاول لا غنى عن العمل ببعض القواعد الاجرائية لهذه القبليات، سواء كان ذلك بوعي كما في الثقافة العلمية، او دون وعي كما في الثقافة الشعبية. مما يعني ان قوانين الفهم تتماهى مع القواعد الاجرائية، حيث يحال على الفهم تجاوز سلطة الخيارات الممكنة للقواعد القبلية، رغم أن هذه الخيارات مفتوحة. بمعنى ان من الممكن للذهن اختيار قاعدة او اكثر من القواعد القبلية، لكن من المحال التفكير خارج حدود القواعد والاجراءات الممكنة، وبالتالي من المستحيل أن تتم عملية الفهم من غير قواعد قبلية، بوعي او دون وعي.
وعليه فان للقواعد القبلية زاويتين من النظر، فهي من جهة تعبر عن قانون للفهم من حيث العموم، لكنها من جهة أُخرى تعبر عن اجراء حر للفهم من حيث الخصوص، لأنها منتخبة ضمن جملة من الخيارات الممكنة، وإن كان من المحال تجاوز جميع هذه الخيارات، لهذا فهي تعد - من هذه الناحية - ضمن قوانين الفهم.
وبعبارة أُخرى، لا تناقض في الجمع والاتحاد بين قوانين الفهم التي تتصف بالحتمية والذاتية، وبين القواعد الاجرائية الحرة غير الذاتية، وذلك اذا ما حُملت هذه الأخيرة على أنها مجموعة خيارات ممكنة. وبالتالي تصبح هذه القواعد محتمة وغير محتمة، وكذا ذاتية وغير ذاتية. فهي محتمة من حيث ان الخيار لا بد ان يجري ضمنها دون تعديها، لكنها غير محتمة باعتبار ان امكانات الخيار متعددة بتعددها. وهي ذاتية من حيث ان الفهم ملتصق بها لا على التعيين والخصوص، وغير ذاتية باعتبار ان هذا الفهم ليس ملتصقاً بها تعييناً وخصوصاً.
مع لحاظ ان الفهم لا يتجرد عن بعض القواعد، كالذي يحصل مع الادراك والعلم ايضاً، حيث إن جميع هذه النشاطات الذهنية تستند الى قاعدة الاستقراء ومنطق القرائن الاحتمالية. وبالتالي يمكن اعتبار هذه القاعدة تتضمن القانون دون ان يتنافى ذلك مع كونها خياراً اجرائياً.
أما بخصوص النص فلنتذكر ان فيه ثلاثة عناصر تتحكم في الفهم، ليست عائدة الى القبليات، وهي: اللفظ والسياق والمجال، وطبقاً لهذه العناصر، وبالتعاون مع القبليات، يتشكل الفهم بصور ثلاث، هي: الإستظهار والتأويل والإستبطان. ويكون للفهم بهذه الصور الثلاث مظهران من التعمق، احدهما على نحو الإشارة، والاخر على نحو التفسير.
وعليه اذا كان الفهم هو نتاج مشترك لكل من القبليات والنص، فإن هذا النتاج حسب القانون المشار اليه يحدث بفعل التأثير المتفاوت للعلاقة بين الطرفين، فهو قد يحصل نتيجة تأثير قوي للقبليات قبال تأثير ضعيف لدلالة النص اللفظية، والعكس بالعكس. وتتحدد حالة القوة والضعف للقبليات بما تتصف به من مضامين عند اجراء عملية الفهم، فاذا كانت هذه المضامين حيادية، كما في قاعدة الاستقراء، فان ذلك يجعل من القبليات ضعيفة التأثير، حيث انها لا تفرز مضامين واضحة الدلالة على الفهم. أما اذا كانت هذه المضامين قوية، كما في القبليات المنظومية، فان ذلك يجعل منها قوية التأثير، اذ تظهر بصماتها واضحة على الفهم، خلافاً للحالة الاولى. ومن حيث التفاوت تترتب القبليات في مقدار التأثير كالاتي:
تقع القبليات المنظومية في قمة الهرم من حيث القوة، وهي على عكس القبليات المطلقة التي تقع في قاعدة الهرم من حيث التأثير، في حين تتوسط القبليات العامة بين المرتبتين. مع لحاظ ان بعض القبليات المطلقة تتصف بالحيادية الكاشفة، ولها ادنى حد من التأثير مقارنة مع غيرها من القبليات المضمونية.
وعليه نصادف أنواعاً ثلاثة من العلاقة في القانون المشار اليه كما يلي:
1ـ قانون العلاقة الضعيفة:
ويعني ضعف ما تؤثر به القبليات على الفهم، مما يتيح لدلالة النص اللفظية ان تقوم بدورها القوي في التأثير.
2ـ قانون العلاقة القوية:
ويعني قوة ما تؤثر به القبليات على الفهم، مما لا يدع للنص او دلالته اللفظية ذلك التأثير.
3ـ قانون العلاقة المتوسطة:
ويعني توسط تأثير القبليات على الفهم، فلا هو بالقوي، ولا بالضعيف، وذلك مقارنة مع ما قبله من العلاقتين القوية والضعيفة. الأمر الذي يفسح لدلالة النص اللفظية ان تقوم بدورها المتوسط في التأثير.
***
وعلى العموم لا يفهم القارئ من تقسيمنا لقوانين العلاقة العكسية اننا نميل الى الأخذ بالعلاقات الضعيفة قبال القوية دائماً؛ رغم تحفظنا من القبليات المنظومية، سيما التجريدية او المتعالية، كحال المنظومات الوجودية والكلامية. ففي حالات معينة قد ترجح العلاقة القوية للقبليات على الضعيفة. فمثلاً قد ترجح القواعد المنحازة ضمن القبليات المطلقة على ما دونها، رغم ان هذه الأخيرة قد تتضمن التأثير الأقوى للنص مقارنة بالقبليات. فمثلاً بحسب الفهم اللغوي والبياني قد يبدي النص تأثيراً قوياً مقارنة بالقبليات، لكن مع ذلك قد لا يصح التعويل عليه، سيما عندما يتنافى مع بعض القبليات العقلية الوجدانية او الحسية، وبالتالي قد يرجح مضمون هذه القبليات على التأثير القوي الذي تبديه الدلالات اللفظية للنص. لذلك ليس التعويل على قوة الدلالات اللفظية للنص بالأمر الضروري لمعرفة قصد الخطاب، فهناك عناصر من القبليات قد تحول المعنى المستوحى من النص الى معنى اخر مخالف او معدّل. ومن بين اهم العناصر القبلية المؤثرة على الفهم ما يلي:
قد يضمر النص معان عقلائية يحتاجها الفهم دون حاجة للذكر والتنبيه، فبدون اخذ اعتبارها يصبح النص مخالفاً لأبسط الوجدانيات والبديهات. فلا يحتاج النص لذكر ما يمكن فهمه مباشرة عندما يقرر بعض الحقائق او الوصايا، فمثلاً عندما يرد قوله تعالى: ((انك ميت وانهم ميتون)) لا يحتاج الى ايضاح المعنى الخاص بهذا النص، طالما ان القارئ او السامع يفهم طبقاً لقبلياته الحسية ان المقصود به هو ان الكل سيموت، لا انهم ميتون فعلاً عند تنزيل هذا الخطاب، وبالتالي لا داعي للتنصيص على هذا المعنى.
فما من نص الا ويستهدف نوعاً محدداً من القراء والمتلقين، وهو عند استهدافه لجماعة من المخاطبين يوظف جملة من دلالات السياق اللغوي المتعارف عليها، بحيث يفهمها القارئ والمتلقي المستهدف، وبذلك لا يكون معنياً بذكر كل شيء يريد قوله، فقد يضمر أشياءاً لا تحتاج الى الذكر الصريح باعتبارها معلومة ومفهومة لدى المتلقي. او انه يضمر أشياءاً تعد حاضرة سلفاً لدى ثقافة المتلقي، سيما تلك المتعلقة بقيمه وظروفه الاجتماعية. ويعد هذا التبليغ والتواصل عقلائياً، بمعنى ان المتلقي الذي يتلقى الخطاب يفهم هذا التبليغ وإن لم يُصرَّح به لغوياً.
ونسمي هذه الظاهرة في الاضمار بقاعدة (الاضمار المفهوم)، وعلى خلافها قاعدة الاضمار غير المفهوم، وذلك عندما يضمر النص أشياءاً لا يفهمها القارئ والمتلقي، مما يحتاج الى افتراضات مناسبة تغطي مثل هذا النقص. وقد يكون الاضمار المفهوم عقلياً لا يحتاج الى التنصيص اللغوي. كما قد يكون عرفياً يفهمه كل من تعارف على نمط الكلام الدائر بين المخاطب والمتلقي، وكذا النص والقارئ، كالنصوص القرآنية التي تتحدث عن تحليل أشياء او تحريمها دون ذكر مواضع التحليل والتحريم باعتبارها مفهومة عرفاً لدى القارئ والمتلقي، كقوله تعالى: ((حُرمت عليكم أُمهاتكم)) حيث فيها أمر محذوف، وهو بحسب الفهم العرفي يقدر بالنكاح. ومثل ذلك ما جاء في آية ((أُحلت لكم بهيمة الأنعام)) حيث يقدر فيها «الأكل». ومثلها آية ((وأنعام حُرمت ظهورها)) اذ المقدر فيها «الركوب»، ومثل ذلك ((النفس التي حرم الله)) حيث يقدر فيها «القتل» .
ونشير ايضاً الى أن التأثير القوي او الضعيف لدلالة النص اللفظية انما يعود الى علاقتها بالفهم، حيث يمكن تصور هذه العلاقة بحسب مرتبتين متعاكستين. فعلى ضوء تقسيم الادراك الى فاعل ومنفعل؛ يمكن فعل الشيء ذاته مع النص او دلالته اللفظية. وطبقاً لهذا التقسيم تكون العلاقة بين الادراك والنص عكسية. اي كلما كان النص فاعلاً كان الادراك منفعلاً، والعكس بالعكس. وكل فاعل مؤثر، وكل منفعل متأثر.
والمقصود بكون النص فاعلاً هو ان تتخذ الصورة الذهنية شكلاً منعكساً لمظهر النص او مقارباً له. وهو ما يطلق عليه الأصوليون ظاهر النص. أما ما نقصده من كون الادراك او المدرِك هو الفاعل فهو أن تتشكل الصورة الذهنية للنص بحسب ما يريد لها الادراك من معنى طبقاً للقبليات. وهنا يكون الادراك - تارة - فاعلاً بنحو المغالبة والتأثير في علاقته مع النص، فيعمل على تحجيم فعل النص المعرفي قليلاً او كثيراً، وذلك عندما يجعل المدرِك الصورة الذهنية المبتدعة على خلاف الظاهر من النص، او خلاف صورة النص المنعكسة في الذهن، مثلما يلاحظ ذلك في حالات التأويل. كما يكون الادراك - تارة أُخرى - فاعلاً لا بنحو المغالبة وتحجيم الفعل المعرفي للنص او ابطاله كالسابق، وانما بنحو تقييد ذلك الفعل وتضييق سعته .
لكن اذا كانت العلاقة بين القبليات والنص هي علاقة عكسية؛ فأي من هذين العاملين يسبق في تحديد الدور المعرفي للاخر؟ فهل يبدأ التحديد من قبل القبليات ام النص؟ ذلك ان البداية تحدد النهاية دون عكس، وان ما يسبق اليه احد هذين العاملين من الفعل المعرفي سوف يلقي بتبعاته على الاخر.
للجواب على هذا السؤال نشير الى اننا نتعامل مع القبليات كأمر ذاتي يخص اذهاننا، وذلك بخلاف التعامل مع النص، حيث له وجوده الموضوعي بما عبرنا عنه بالشيء في ذاته. ومن ثم فالعلاقة بينهما هي علاقة الذاتي بالموضوعي، وبالتالي من المحال ان يحدد الموضوعي ما هو ذاتي، بل العكس صحيح، اذ يخضع الأمر للارادة الذهنية المتعلقة بما هو ذاتي مباشرة، مما يصدق على القبليات دون النص، باعتباره امراً موضوعياً بعيد التعلق بالارادة.
وبعبارة أُخرى، ترتبط الارادة الذهنية بالأمر الذاتي على نحو الحضور لا الاكتساب، بخلاف الارتباط بالأمر الموضوعي، اذ يجري الارتباط به عبر الاكتساب لا الحضور. ولكي تتحقق عملية الاكتساب لا بد من الاستعانة بالأمر الذاتي، فبدونه لا سبيل للتعلق بالأمر الموضوعي، سواء كان نصاً او شيئاً خارجياً. في حين ان العكس ممكن، اي ان الارتباط بالذاتي والتعامل معه ممكن بسبب حضوره - مباشرة - دون التوقف على شيء اخر من الاكتساب ونحوه.
هكذا يتبين ان التعامل مع النص متوقف على الارتباط بالقبليات، في حين ان العكس غير صحيح، اي ان التعامل مع القبليات لا يتوقف على شيء اخر موضوعي او مكتسب، كالنص وما اليه. وبالتالي ففعل القبليات هو الذي يحدد فعل النص من غير عكس، الأمر الذي جعلنا نحدد قوانين العلاقة الثلاثة طبقاً للقبليات لا النص. فالعلاقة بينهما هي علاقة فعل وانفعال، فالفعل نتاج القبليات وعليه يتحدد انفعال النص عكسياً طبقاً للقانون المشار اليه. فنعرّف قانون العلاقة الضعيفة - مثلاً - انه عبارة عن التأثير الضعيف للقبليات على الفهم، وعليه يتحدد التأثير القوي للنص. ولا يصح عكس هذه العلاقة، طالما ان الفعل يبدأ - دائماً - من القبليات لا النص.
ويصدق هذا الحال على ما يخص علاقة القبليات بادراك الأشياء الخارجية وتفسيرها، فالتأثير الاولي في التفسير يتحدد بالقبليات وليس بالأشياء، وكلما كان التأثير الاول ضعيفاً، كلما قوي تأثير الاخر، والعكس بالعكس، وذلك وفقاً لقوانين العلاقة العكسية الانفة الذكر. ويمكن ان يتضح هذا المعنى من حيث الفارق بين التفسير الذي يتبناه الفلاسفة والعرفاء للواقع الخارجي، مقارنة مع التفسير المبني على قاعدة الاستقراء والاحتمالات العقلية، حيث التفسير الاول متخم بالعلاقة القوية، بخلاف التفسير الثاني.
لكن اذا كان التحديد الاولي رهين القبليات، وان فعل النص يأتي بناء على حجم تأثير هذه القبليات، فالسؤال الذي يطرح بهذا الصدد هو: كيف يمكن ان يكون الفهم مطابقاً للنص اذا ما كانت القبليات هي المحددة الاساس للفهم؟
وهو ذات السؤال الذي يمكن ان يثار حول العلاقة بين الادراك والواقع؟
ويعتمد الجواب - هنا - على طبيعة هذه القبليات، فالتطابق ممكن عندما تكون القبليات من نوع قانون العلاقة الضعيفة، فلو تحكم هذا القانون في الفهم لأمكن انتاج نوع من التطابق بقدر ما يحمل هذا القانون من ضعف، كالذي عليه القبليات المحايدة، فهي لا تضيف الى الفهم شيئاً سوى كشفها عن احوال النص. والشيء نفسه يصدق حول العلاقة بين الادراك والواقع.
يبقى أن نشير الى أن للقبليات قواعد كلية تتحكم فيها، في حين يعبّر النص عن مفاهيم جزئية، لذا تتحقق العلاقة بينهما عبر تحكم الكلي بالجزئي. فالفهم على الدوام هو نتاج تحكم الكلي بالجزئي دون عكس. وينطبق هذا الحال على جميع الدوائر المعرفية التي تزاول عملية الفهم، بما فيها الدائرة البيانية التي تعتمد على الظهور اللفظي، فهي مدينة الى القاعدة القبلية الكلية المتمثلة بالفهم العرفي للنص. بل حتى هذه القاعدة ترجع من حيث الاصل الى قاعدة الاستقراء واحتمالاتها العقلية. فبهذه الأخيرة يتبين المعنى العرفي للنص غالباً او اجمالاً، ومن ثم فان هذا المعنى يتحكم في تحديد معنى الجملة النصية.
هكذا يتحدد معنى الجملة النصية عبر قاعدة العرف اللغوي، وهي بدورها مدينة الى قاعدة الاستقراء. والأمر ذاته ينطبق على ادراك الموضوع الخارجي للأشياء، حيث لا يمكن التصديق باي شيء من الأشياء دون تحكم قاعدة الاستقراء واحتمالاتها العقلية. وبالتالي فان الكلي سابق ومتحكم بالجزئي، سواء كان ذلك على صعيد العلاقة مع النص، او العلاقة مع الشيء الخارجي.
وبذلك يتبين وجه الشبه بين فهم النص وادراك الشيء الخارجي، حيث في كلا الحالين تكون القبليات هي التي تحدد فعل الظهور، كما انها ككليات تتحكم في فهم وتفسير الجزئيات التابعة للنص والشيء الخارجي، ولولاها ما كان بالامكان ان نعرف شيئاً، ولا ان نفهم نصاً.
مع هذا يمكن أن نتساءل: هل من الممكن أن يؤثر النص على تغيير قبلياتنا؟ فلحد الآن نحن نبدي التأثير الفعلي للقبليات، وليس للنص من تأثير سوى ردة الفعل التي يمارسها على الفهم بعد تأثير القبليات. فهل يمكن لردة الفعل هذه أن تؤثر على تغيير قبلياتنا وقناعاتنا السابقة؟
حقيقة الأمر أن للنص تأثيراً مقابلاً على تغيير قبلياتنا، ولكن بنحو جزئي. فهو يعمل على تحويل بعض من هذه القبليات واستبدالها بأُخرى او بنتائج الفهم. ومن أهم العوامل التي تساعد على جعل النص مؤثراً على قبلياتنا هو اندماجنا وخضوعنا لتوجيهات النص ضمن مساره العام. فقد يعمل النص على تغيير الكثير من نواحينا الذاتية وقبلياتنا ومسلماتنا، وذلك عندما نجد أنفسنا مدفوعين في القراءة نحو معان مؤثرة هي غير تلك التي كنّا نحتفظ بها قبل القراءة. ومع ان القراءة ذاتها واندماجنا في النص انما يأتي بفعل توجيه بعض القبليات، لكن ما يستفاد من هذه الممارسة يدفع الى تغيير بعض اخر من قبلياتنا الذاتية. وبالتالي يصبح الفهم مغيراً لقبلياتنا بعد أن كان نتاج هذه القبليات. وتعرف هذه العلاقة الجدلية بين القبليات والنص بالدائرة الهرمنوطيقية ، ذلك أن الفهم ينطلق من خلال تحكم المفاهيم القبلية الكلية بالنص، لكن جزئيات النص في القبال تعمل على إعادة بناء هذه المفاهيم، وهكذا يدور الحال بين الأمرين فيحصل الإثراء والإضاءات الجديدة لدى القراء، او كما يقول ريكور: “إن مسلّمات من نوع ما عن الكل تُضمّن عند التعرف على الأجزاء، والعكس صحيح أيضاً، فعند تفسير التفاصيل نفسر الكل” . وسبق لهايدجر أن اعتبر الفهم يجري بصورة دائرية دائماً، فأي تفسير يحمل فهماً سابقاً له، وهكذا . وأول ممارسة تعميمية وتوقعية للفهم الكلي تبدأ عند الاطلاع على العنوان الأول للنص، او عبر تلقي المقاطع الأولى له، ومن ثم تبدأ عملية التأثير والتغيير فعلها كلما طالت ممارسة القراءة والفهم.
وعموماً أننا قبل ممارسة القراءة نحمل لغة نتوجه بها الى فهم النص، وهذه اللغة او معانيها وليدة ثقافتنا الحاضرة، وهي بالتالي من القبليات، اذ تختزن اللغة تصوراً منظومياً للعالم، مثلما تختزن الكلمة المعنى المعرفي للفظ، وهي بهذا الشكل تجعل رؤية العالم رؤية تأويلية تختلف من مجتمع لآخر، بل ومن فرد لآخر أيضاً، وكل ذلك ينعكس على فهم النص. فمع أن اللغة تساعدنا على هذا الفهم، لكنها عند القراءة والمتابعة تتحول الى معان أُخرى مخالفة بفعل ما يظهره النص من دلالات جديدة ضمن مقاطعه المختلفة، وتصير مثل هذه المعاني هي الموجهة لفهمنا للنص بدل المعاني السابقة التي كنّا نحتفظ بها قبل القراءة ونعمل على تطبيقها وإسقاطها. وبذلك يتم الشذب والتهذيب، او تصبح لغة النص ومعانيه حاكمة على اللغة القبلية التي بدأنا من خلالها فعل القراءة بعد أن كانت محكومة بهذه الأخيرة.
ولا بد من التمييز - هنا - بين القبليات الثابتة والمستقرة من جهة، والقبليات المتغيرة وغير المستقرة من جهة أُخرى . فالقبليات الاولى تتصف بالموضوعية وهي لا تقبل التغيير والتحويل، مثل قاعدة الاستقراء وما اليها من القبليات المطلقة، في حين تتصف الثانية بالذاتية وانها تقبل التغيير والتحويل، مثل القبليات المنظومية والقبليات غير المنضبطة؛ كتلك المستمدة من العادة والتقليد، فمثل هذه القبليات يمكن ان تتحول وتتغير بعد القيام بقراءة النص والخضوع لتوجيهاته، وذلك اذا ما كان النص يبعث على معان مخالفة لما استقرت عليه ذات القارئ من افكار. وبهذا تبدأ عملية تصحيح القبليات بفضل البعديات من الفهم، كما تبدأ عملية التكوين المعرفي المؤسس على النص، ولو بفعل جملة من القبليات الثابتة والمستقرة، ولولاها ما كان بالامكان قراءة النص وفهمه، فضلاً عن الاندماج فيه.

القانون الثاني:
قانون تحكم فهم الكل بفهم الجزء
تعد الجملة النصية وحدة اساسية يتشكل منها النص، وتتألف من ألفاظ وحروف، وبمجموعها تفيد المعنى التام، وعند تجزئتها لا تفيد هذا المعنى. لذلك اعتبرناها وحدة النص الاساسية. والاهم من ذلك ان بارتباط ألفاظها وحروفها يتحدد معنى كل جزء منها، اي ان فهم الكل للجملة النصية يسبق فهم الاجزاء اللفظية ويعمل على تحديد معناها. وقد كان البلاغي المعروف عبد القاهر الجرجاني يرى أن الكلمة ليس لها عطاء واضح في المعنى، بل يُفهم المعنى الواحد من مجموع الكلمات التي ينتظمها الكلام، فلا تعرف الأغراض الا من مجموع الكلام كمعنى حاصل، وكما قال في (دلائل الإعجاز): “واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة، وذلك أنك إذا قلت ضرب زيد عمراً يوم الجمعة ضرباً شديداً تأديباً له فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معان كما يتوهمه الناس، وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما عمل فيه والأحكام التي هي محصول التعلق” .
واذا كانت الجملة النصية هي الوحدة التي يتشكل منها النص، فان هذا الأخير قد يعبر عن هذه الوحدة فحسب، كما قد تكون له مجموعة من الجمل النصية المترابطة بلا تحديد.
وينطبق ما قررناه سابقاً على علاقة الجملة النصية بالنص كله. فالتحديد النهائي لفهم الجملة النصية يتوقف على فهم النص كله بنحو من الاجمال. ففهم الجملة النصية معتمد على ما موجود من قرائن لفظية وسياقية في النص كله. فهذه القرائن هي التي تحدد المجال المجمل في الجملة النصية، كما انها تحدد المعنى اللفظي المجمل (الإشارة) لهذه الجملة. وبالتالي لا يمكن تحديد فهم الجزء تحديداً نهائياً دون لحاظ فهم الكل.
ولعل سائل يسأل: لِمَ لا يمكن فهم اجزاء النص جملة جملة، من غير لحاظ الكل، والانتهاء من ثم الى فهم الكل بنفس اللحاظ الاول للجمل، اي التحول في الفهم من الجزء الى الكل لا العكس؟
وللجواب نقول: يتأثر فهم الجمل النصية بعضه بالبعض الاخر، وبالتالي فما لم يتشكل فهم الكل على نحو الاجمال فانه لا يمكن تحديد فهم الجزء. فأول ما يتحدد عند فهم الكل هو مجال الجملة النصية، ثم بعد ذلك يتحدد مستوى الإشارة المجملة، وذلك قبل فتح باب الفهم المفصل للجملة عبر التفسير. وأول ما يرد في الفهم هو توقع مجال الكل من خلال عنوان النص، او مقاطعه الأولى، وعليه يبتنى فهم سائر المقاطع عبر عملية جدلية يتأثر بها الجزء بالكل، والعكس صحيح أيضاً.
فالأمر أشبه بعلاقة البنّاء بالبناء، فهو لا يضع أجزاء البناء قطعة قطعة دون تصور مسبق للكل، ولو فعل ذلك لكان بناءه بناءاً اعتباطياً ليس للارتباط بين أجزائه معنى ولا غاية. لذا فلكي يحصل الارتباط المنظّم وتكون كل قطعة في موضعها المناسب لا بد أن يرتكز سلفاً على تصوره المسبق وتخطيطه الكلي للبناء.
وكذا هو الحال في علاقة فهم الجملة النصية بفهم الكل. فمثلاً لو أبدت الجملة النصية نوعاً من الفهم العرفي عند عزلها عن الكل، وتبين بلحاظ الكل ان المراد هو الفهم الرمزي لا العرفي، لأفضى ذلك الى تغيير الفهم الاول وابداله مما كان يحمل المعنى العرفي الى المعنى الرمزي، ولتحول فهم المجال مما هو مجال حقيقي الى مجال رمزي او إستبطاني. وكذا لو أبدت الجملة فهماً بحسب الظهور الحرفي، وتبين بحسب فهم سائر الجمل ان المراد هو التأويل لا الفهم الحرفي، فان ذلك سيجعل من فهم الكل متحكماً بفهم الجزء لا العكس. كما لو كانت الجملة النصية تفيد المعنى المجاز، وتبين من فهم الكل انها تدل على المعنى الحرفي، فان فهم الجملة سيتغير.
هكذا يظهر ان ما يحدد المعنى إن كان رمزياً او مجازياً انما هو فهم الكل لا الجزء.
ويخضع هذا القانون للعملية الاستقرائية، حيث من خلالها ينتزع عدد من الكليات التي يستفاد منها في تحديد معنى الجملة النصية.
وتتخذ العملية الاولى في الفهم تحديد مسار النص الاجمالي إن كان مساراً قائماً على الفهم العرفي ام لا. وهذا التحديد يساعد على فهم الجملة النصية طبقاً للمعنى الإستظهاري او التأويلي او الإستبطاني. اذ لا يمكن تحديد معنى الجملة النصية ما لم يعرف قبل ذلك المسار المشار اليه. فمن خلاله يمكن تحديد المجال الخاص بالجملة ومن ثم الإشارة فالتفسير.
ولا تتوقف العملية الاستقرائية عند هذا الحد، فبفعلها يمكن انتزاع عدد من القضايا والنظريات العامة التي لها دورها في تحديد معنى الجملة النصية، مثل انتزاع ما اذا كان خطاب النص متوجهاً الى المشافهين به فحسب، ام يشمل الغائبين ايضاً؟ وكذا فيما اذا كان يمكن لعامة الناس تحديد معاني الخطاب، ام ان ذلك مقتصر على خواصهم فقط؟ وهل ما يحدد فهم النص ظاهره فحسب، ام هناك امور أُخرى تساعد على فهمه؟ وهل غرض النص الكشف عن الطبيعة حينما يتحدث عنها، ام جعل ذلك متروكاً لعقل الانسان؟ وكذا يقال حول خصوصية الدين ان كان متسامحاً او متشدداً؟ ومثله ان كان دين انفتاح ام انغلاق؟... الخ.
فباستقراء النصوص يتبين للقارئ عدد من الأنساق المعرفية، وهي كليات تتحكم بفهم الجملة النصية. وقد يفضي الأمر احياناً الى تأويل بعض الجمل النصية تبعاً لاعتبارات فهم الكل. وحتى عندما تؤثر الجملة النصية على تغيير فهم الكل، فان ذلك يحدث بفعل فهم الكل ذاته، إذ يعاد ترتيب فهم الكل من جديد ليتم على ضوئه تفسير الجملة النصية الشاذة، وتجنب ما قد يبدو من تناقض في الفهم. وفي جميع الاحوال ان فهم الكل يسبق فهم الجزء ويتحكم به.
على أن قراءة أي جملة من جمل النص ومقاطعه تبدي نسقاً دلالياً معيناً، وعندما يكون القارئ معتقداً بقداسة النص فان ذلك يدفعه الى البحث عن ايجاد روابط الاتساق في كافة الأنساق الدلالية لهذه الجمل والمقاطع. فهو إما أن يجد الاتساق واضحاً في الأنساق المشار اليها دون عناء، بمعنى أن هناك قرائن دلالية كثيرة باعثة على الاتساق فيكون بذلك موضوعياً، او أن ذاتية القارئ تفرض حالة الاتساق - بشكل ما من الأشكال - على تلك الأنساق عبر قبلياته المفترضة. وكثيراً ما يجد القارئ نفسه عند تقدمه في القراءة أنه يصطدم باختلالات في بعض الأنساق الدلالية للجمل التي تمت قراءتها من قبل، والتي كان يظن بأنها متسقة، وذلك بسبب ما تضيفه الجمل الجديدة من معان مخالفة ومعارضة لما سبق. وهذا ما يدعوه الى تعديل صورة النسق الكلية طبقاً لافتراضاته وقبلياته.
وغالباً ما تكون القراءة الفاحصة استرجاعية، بمعنى ان من يقرأ النص (المميز) يكثر المعاودة على قرائته، وفي كل مرة غالباً ما يكتشف القارئ ضوءاً جديداً، وربما مغيراً للفهم السابق، وبالتالي قد تعمل القراءة الاسترجاعية على تشكيل الصورة والفهم من جديد، لكنها مع ذلك لا تؤثر على المبدأ العام في تحكم فهم الكل بفهم الجزء، فالصدام مع الفهم الجزئي ينبّه على ضرورة تغيير فهم الكل، لكنه لا يحكمه، فالفهم الجزئي لا يحكم الا ذاته فحسب، انما قد يشكّل صورة من التمرد والمعارضة للفهم الكلي المقرر، وهذا كل ما يمكن فعله، وهو عدم الخضوع لحكم فهم الكل مما يقتضي تبديله بفهم كلي اخر له القدرة على استيعابه، وربما تعاد صياغة فهمه بما يتسق مع الفهم الكلي. وفي جميع الأحوال لا بد من اعادة تشكيل الصور وتوليد أفهام جديدة ناسخة كلما اصطدم الفهم الكلي بمعارضة الجزء له.
وبهذا فإن قراءة الجمل والأجزاء قد تغير من طبيعة فهمنا للنص شيئاً فشيئاً، وان كل اتساق للنسق الدلالي السابق قد يجد خرقاً بفعل ما نكتشفه من معان مخالفة في المقاطع الجديدة، وكل ذلك يعمل على إعادة تشكيل وتفسير ما تمت قراءته بدمج المقاطع القديمة والجديدة تحت مظلة ما يفترض من الفهم الكلي الجديد. ففي كل تغيير هناك فرض جديد كلي يعمل على تفسير ما تمت قراءته بنوع من الاتساق، بحيث يظن القارئ انه يعبر عن حقيقة مقصد النص او قريب منها، او كونه أفضل الفروض المرجحة بفضل اتساقه وتماسكه. وبذلك يقع القارئ في ما يطلق عليه في النقد الأدبي بأُفق التوقع والانتظار. اذ في كل مرة يكون القارئ حاملاً لنسق من الفهم المتوقع للنص عند القراءة، وتتبين حقيقة هذا التوقع بعد حين من الانتظار.
وتعبر جميع صور الأنساق الدلالية المتنازعة عن أفهام كلية مختلفة، بعضها يعمل على زعزعة البعض الآخر وازاحته، فكل فهم كلي جديد قد يصير بالياً أثناء القراءة عندما يحل عوضاً عنه فهم آخر أجد منه، حتى تتبلور اخيراً جملة من الأنساق الدلالية الكلية المتسقة التي تعبر عن مقاصد النص. ولما كان النص محدوداً فان من الممكن تحقيق فهم كلي شامل ونهائي بالنسبة للقارئ الشخصي، ويختلف الأمر من قارئ الى آخر لاعتبارات عديدة، سيما ما يتعلق بقبلياته المنضبطة وغير المنضبطة. ولولا ان النص محدود ومحصور لجرت العملية بلا نهاية، فكل نسق من الفهم الكلي قابل لأن يتزعزع ويزاح بفعل ما يمكن ان يصطدم به من مقاطع جديدة أُخرى لم يتم التعرف عليها بعد، وكل توقع يأخذ دوره ضمن أُفق الانتظار.
اذاً في كل مرة تتولد صورة للفهم الكلي يتحدد بها فهم الجزء، وفي كل مرة تعاد صياغة الفهم الكلي بطريقة أُخرى متسقة بفعل الاصطدام مع الأجزاء النصية ذات الأنساق المخالفة للمعنى الكلي السابق، حتى يتحقق في الأخير حالة من الإتساق في النسق الكلي للفهم، وبه تُفسر مختلف المقاطع النصية، وكل ذلك يحدث بفعل العديد من الافتراضات القبلية التي تدفع اليها الجمل النصية المخالفة لأنساق الفهم السابقة.
وبذلك فإن هناك عوامل متعددة تعمل بشكل مشترك على تحديد فهم الجزء، وهي من حيث التحديد عبارة عن كل من القبليات بمختلف أنواعها، مضافاً الى فهم الكل. لكن هذا الأخير متوقف على نشاط القبليات، رغم استقلالها عن النص، فهي التي تعمل على صياغته بفعل احتكاكها بالنص، وبالتالي يكون كل من القبليات والنص مسؤولاً عن توليد هذا الفهم، وهو بدوره يصبح بمعية الاعتبارات الخاصة بكلا هذين العاملين متحكماً بفهم الجزء. وهو أمر لا يتنافى مع حصول التأثير المعاكس، وذلك عندما يعمل فهم الجزء على تغيير فهمنا للكل، ومن ثم فإن هذا الأخير قد يغير من قبلياتنا المتحكمة غير المستقرة.
وبعبارة أُخرى، تتصف سلسلة بناء الفهم العادي للنص بالتنازل؛ بدءاً بالقبليات، ومروراً بفهم الكل، ومن ثم انتهاءاً بفهم الجزء. لكن حالة الاصطدام بفشل التوقع – او ما يسمى بالخيبة - يجعل السلسلة تعمل على بناء ذاتها بشكل معكوس، وهو ما نسميه (تصاعد الفهم)، اذ أن فهم الجزء يصبح عائقاً أمام فهم الكل، فيعمل الأول على تغيير الثاني لينضم تحت لوائه، كما أن الثاني قد يصطدم بالقبليات غير المستقرة، فيعمل بدوره على تغيير هذه القبليات ليتقبل حاكميتها.
لكن هل يمكن لفهم الجزء أن يغير القبليات مباشرة دون مرور بفهم الكل؟ وهل يمكن للقبليات أن تتحكم بفهم الجزء دون وساطة فهم الكل؟
نرى أن ذلك يستحيل فعله، فلا بد من وساطة فهم الكل، سواء في التغيير او في البناء والتحكم.
وتجدر الإشارة الى أننا نفترض – فيما نحن بصدده من علاقة فهم الكل بالجزء - أن يكون القارئ قارئاً (متميزاً) يراعي كل خصوصيات النص اللغوية من غير ابتسار، والا فقد يمارس بعض المثقفين قراءات مبتسرة انتقائية يُسقطون خلالها مفاهيمهم الآيديولوجية دون اهتمام بمسار النص وجزئياته. فهم – في واقع الأمر – يقرأون ذواتهم لا النص.
على أن الجمل النصية تختلف - فيما بينها - في التأثير على الفهم، فبعضها اقوى من البعض الاخر ايضاحاً وتصريحاً. وتجمّع دلالاتها على فهم الكل يعبر عن حاصل تفاوت القوة والتأثير الذي تتضمنه القرائن الإحتمالية للجمل والمقاطع، كالذي يحصل مع ظواهر الطبيعة، اذ تختلف دلالاتها على كشف الحقيقة والتفسير طبقاً لاختلاف قرائنها الاحتمالية، وذلك اعتماداً على الاحتمالات المتباينة غير السوية، كالذي كشفنا عنه في دراسة مستقلة .
لهذا فقد تكون لبعض الجمل قدرة على تحويل فهم الكل من مسار الى اخر، رغم وجود العدد الكبير من القرائن الاحتمالية الدالة على المسار الاول. فكل ذلك يعود الى ما تحمله كل جملة من تفاوت في القوى الاحتمالية على الفهم والوضوح. ومع انه يمكن لجملة واحدة أن تدل على نفي المسار او الفهم الكلي؛ لكن ذلك لا يمكن أن يحدث دون ارتباطها بسائر جمل النص. وبالتالي فان تحويلها للفهم الكلي انما يعتمد على فهم كلي. بمعنى أنه ما كان للتحويل ان يكون لولا لحاظ المقارنة بين فهم الجملة وسائر الجمل الأُخرى .
والملاحظ ان النص يختلف عن الطبيعة في هذه الناحية، فجمل النص محدودة بخلاف حوادث الطبيعة وظواهرها. وعليه كان من الممكن لجملة واحدة نفي الفهم الكلي المستمد من سائر الجمل، خلافاً لما يحصل في علم الطبيعة. اذ لو اعتبرنا النص غير محدود، وان هناك جملاً نصية لم نطلع عليها بعد؛ فسيكون حال النص كالطبيعة، حيث ليس بمقدور الجملة النصية على نفي المسار والفهم الكلي المدعم بالقرائن الكثيرة، مثلما ليس بمقدور الحادثة الطبيعية الشاذة على تكذيب النظرية المدعمة بالشواهد الكثيرة. اذ يرد احتمال ان تكون هناك جمل نصية تفنّد الفهم المنتزع من الجملة المعارضة، وتؤيد ما عليه المسار والفهم الكلي السابق. ويظل المجال مفتوحاً.
فمثلاً لو كانت الجمل النصية تعبر عن الفهم العرفي، ثم ظهرت بعد ذلك جملة معارضة دالة على المعنى الرمزي، فقد يتحول الفهم في هذه الحالة من المسار العرفي الى المسار الرمزي. لكن هذا التحول يعتمد على ما للنص من حدود. اذ لو كان النص محدوداً فان التحول يمكن ان يكون ذا دلالة معنوية كافية على المسار الرمزي. أما لو كان النص غير محدود، بمعنى ان هناك جملاً لم نطلع عليها بعد، ففي هذه الحالة يظل الاحتمال وارداً حول قوة ما تحمله تلك الجملة المعارضة ازاء الفهم الكلي. والمثال الشاخص على ذلك ما جرى في علم الطبيعة حول النظريات المتعلقة بالفيزياء، وما اصاب علم الفلك من شذوذ، كما في نظرية نيوتن، وكيف ان من الممكن الدفاع عنها استناداً الى نقص معلوماتنا بوقائع الطبيعة غير المحدودة، وهو ما يشكل رداً على نظريات التكذيب القطعية.
وقد يفسر ما يحصل في الفهم والعلاقة بين الجزء والكل بأنه يفضي الى الدور. فالعملية الاستقرائية تعتمد على الجملة النصية ليعرف مسار النص إن كان قائماً على الفهم العرفي مثلاً او لا، وفهم الجملة النصية محكوم بدوره بذلك الفهم، فيصبح الكلي منتزع من الجزئي، والجزئي محكوم بالكلي، وهو دور، لتوقف كل من الفهمين على الاخر. وكذا يقال الأمر ذاته عند تحديد الأنساق الكلية والنظريات العامة للنص، فهي منتزعة من الجمل النصية، في الوقت الذي تتحكم في تحديد معاني هذه الجمل.
والجواب على ذلك يتلخص بوجود نوعين من الفهم للجملة النصية، احدهما لذاتها وبغض النظر عن غيرها من الجمل، والاخر مرتبط بغيرها. فالمعنى المتولد عن الاول، هو غير المعنى المتولد عن الثاني، بل ان المعنى الثاني يؤثر على الاول. وما يحصل في العملية الاستقرائية هو من النوع الثاني، اي من حيث ارتباط الجمل بعضها بالبعض الاخر ضمن السياق العام، ومنه يتبين عند كثرة القرائن ان المسار العام للنص مثلاً هو مسار دال على الفهم العرفي. ولا شك ان هذا المسار لا يمكن معرفته وتحديده من خلال جملة واحدة فقط، اذ قد تكون هذه الجملة رمزية المعنى، او لها معنى مجاز، وهي كجملة واحدة تبدي احتمالاً ما نحو المعنى العرفي مثلاً، لكن تواجد امثالها من الجمل يعطي انطباعاً عن المسار العام للنص إن كان محدداً بالمعنى العرفي او غيره. وكلما زادت النصوص زاد فهمنا للمسار باضطراد. ويصبح المعنى الدال على المسار منتزعاً من جمل نصية متعددة، اذ يضيف كل منها بعض القرائن الخاصة بالمسار، لكن مع اجتماع الجمل وكثرة القرائن يتولد المسار العام ويصبح معناه غير المعنى الخاص بكل جملة نصية على حدة، ذلك لأنه يفيد معنى عاماً مشتركاً للكل، او لدى الغالب الاعظم من النص بحسب دلالة القرائن عليه، فيكون المسار دالاً مثلاً على الفهم العرفي دون غيره من الافهام. وهو ما لا يمكن لجملة بذاتها ان تحدده. فاذا أشارت هذه الجملة الى احتمال ما ازاء هذا المعنى؛ فانها لا تفيد القطع بذلك. والعلة ان القرائن الدالة على المعنى لا تفيد القطع في جملة واحدة فقط، انما ذلك يعتمد على عدد من الجمل المترابطة لينتزع منها ذلك المعنى بكثرة القرائن الاحتمالية الدالة عليه. لذا يصبح تحديد الجملة النصية وارداً بعد تحديد المعنى المشترك العام، كالفهم العرفي، حيث يكون من السهل تفسير الجملة وفهمها وفقاً لذلك الفهم دون الفهم الرمزي مثلاً، والاخذ بالإستظهار دون المجاز او الإستبطان مثلاً. وفي هذه الحالة ينتفي الدور، وتكون الاسبقية لفهم الكل دون الجزء، وللارتباط المعرفي الخاص بالجمل ككل دون الجملة ذاتها.
كذلك يصبح واضحاً ان فهم الكل متحكم بفهم الجزء، فلولا الاول ما كان يمكن تحديد الثاني، في حين ان فهم الكل لا ينتزع عن فهم الجزء لنقع بالدور، انما هو منتزع من الارتباط المعرفي المشترك للكل، وهو ارتباط لا علاقة له بالجزء كجزء. ذلك ان ما يدل على الكل هو القرائن الاحتمالية لدى الجمل، حيث ينتظمها ناظم مشترك للمعنى، وهو المعنى المستمد من العلاقة بين الأجزاء لا الأجزاء ذاتها.
وينطبق هذا الحال على انتزاع الأنساق والنظريات العامة عبر القرائن الاحتمالية المختلفة، وذلك بعد تحديد المسار العام للنص، حيث تصبح هذه الأنساق والنظريات متحكمة بفهم الجملة النصية، وإن كان لهذه الجملة من حيث ارتباطها بغيرها لا ذاتها دور في تحديد المعنى العام للنسق والنظرية كما اسلفنا.
وما سبق ينطبق على ادراكنا لظواهر الطبيعة، حيث لا يمكننا تفسير الظاهرة الطبيعية دون العودة الى القوانين العامة والنظريات الكلية. فالحادثة الفردية لا تفسر الا من حيث افتراض بعض القوانين العامة التي تتحكم بها.
مع ذلك يلاحظ ان القوانين العامة والنظريات الكلية تقوم على لحاظ الوقائع المفردة، وان هذه الوقائع محكومة بدورها من حيث التفسير بتلك القوانين والنظريات، فيصبح الجزئي معتمداً على الكلي، وكذا العكس، وهو دور. فمثلاً اذا اردنا ان نعرف خاصية معدن معين إن كان يوصل التيار الكهربائي ام لا، فانه يمكن اختباره، وعبر ذلك قد نصل الى نتيجة مؤداها ان له تلك الخاصية. لكن السؤال هو: كيف يصح لنا هذا الاستنتاج، مع اننا لا ندري إن كانت صفة التوصيل للمعدن سوف تظل ام تزول؟ لذا لكي نثبت النتيجة ونتأكد من أن للمعدن تلك الخاصية على الدوام؛ لا بد من ان نستعين بقاعدة عامة تخول لنا امضاء هذه النتيجة، وبدونها لا يمكن الحكم على المعدن بشيء، وتنص القاعدة بأن الحالات المتشابهة تفضي الى نتائج متماثلة، وهي ما تعرف بقاعدة التناسب او الانسجام. ومع ذلك فان هذه القاعدة هي بدورها نتاج ملاحظات سابقة لظواهر الطبيعة كشفت عن كونها مضطردة لا تتغير. في حين يلاحظ في القبال ان قبول اعتبار ظواهر الطبيعة مضطردة لا تتغير، وهو المعبر عنه بقانون الاضطراد، محكوم للقاعدة الانفة الذكر، بمعنى اننا لكي نقبل كون الطبيعة مضطردة على الدوام لا بد من ان نفترض قبل ذلك صحة قاعدة التناسب، والا كنا على شك من قانون الاضطراد، وهكذا يدور الدور.
أما الجواب على ذلك كله فيعتمد على ما للاحتمالات العقلية من دور في تأسيس تلك القاعدة، سواء من حيث صدق انطباقها او ترجيحها. فهذه الاحتمالات ليست مستمدة من القاعدة ولا من التجارب والخبرات الماضية كي نقع في الدور، على ما فصلنا ذلك في (الاستقراء والمنطق الذاتي). وفي جميع الاحوال يلاحظ ان الكلي متحكم بالجزئي ومقدم عليه.
القانون الثالث:
قانون تداخل المناهج المعرفية
ليس هناك منهج معرفي خالص عند ممارسته عملية الفهم، فكل منهج معرض للزيادة والنقصان عبر تطفل بعض العناصر الاجنبية التي تُحدِث مفعولها في عملية الفهم ولو على حساب عناصر أُخرى ضمنية تعود الى ذات المنهج المعول عليه. لكن هذا التطفل والتداخل لا يمنع من غلبة ذلك المنهج وقوة تأثيره على الفهم والتوليد. فالمنهج الاحادي في الفهم محال، اذ لا يمكن بناء منهج جامع مانع من غير ان يتداخل معه منهج اخر او اكثر، مهما كان تأثير هذا الأخير قوياً او ضعيفاً. وبذلك يتحدد كل منهج بحسب اعتباراته النسبية الانفة الذكر.
ويتفرع عما سبق العديد من القضايا. فمن ذلك نحن نعلم وجود نوعين مختلفين من الفهم بحسب ما عليه طبيعة الاعتبارات القبلية التي تفرض على الفهم صيغته المحددة. فهناك الاعتبارات الذاتية للفهم، كما هو الحال مع الطريقة التي تتبعها الدائرة البيانية. كما هناك الاعتبارات العارضة، كما تتجلى في المناهج والدوائر المعرفية الأُخرى . ففي الاعتبارات العارضة ان الفهم لا يتسلح بالمناهج العارضة من غير لحاظ دلالات النص وسياقاته اللغوية، وبالتالي فهو يعتمد على درجة ما من درجات المنهج البياني، حيث ان خاصية المنهج الأخير هو الاعتماد على دلالات النص وسياقاته اللغوية. ومن ثم فليس بوسع المناهج الأُخرى التنصل من الاثر المنبعث من تلك الدلالات.
فالدائرة العقلية مثلاً تطوع دلالات النص لاحكامها القبلية، وهي بالتالي تستند الى البيان اللغوي لتطويعه بشكل ما من الاشكال، وإن غلب عليها الاثر العقلي. وكذا الدائرة الفلسفية فانها تطوع كسابقتها الدلالات اللغوية لاحكامها الفلسفية، مما يعني انها تعتمد الى حد ما على تلك الدلالات فتوظفها لصالح منظومتها القبلية. ومثلها الدائرة العرفانية.
وحتى الإستبطان الذي تزاوله بعض الدوائر الفلسفية والعرفانية فانه لا يخلو من الاثر الخاص للدلالة اللغوية للنص، عبر ما يعرف بالمناسبة، وهي درجة ضعيفة من البيان اللغوي.
وينطبق الأمر ايضاً على ما تمارسه الدائرة البيانية من فهم طبقاً للاعتماد اللغوي، اذ يستحيل عليها الاكتفاء بالاعتبارات اللغوية الصرفة بعيداً عن مصادر المعرفة الأُخرى ، كالعقل والواقع. فهي وإن اتخذت الاعتبارات الذاتية في الفهم؛ لكنها لا تستغني عن الاعتبارات العارضة، فتكون مطعمة بغيرها من المناهج الأُخرى .
فمثلاً عندما يحاول البياني ان يقرأ النص القرآني: ((إنّك ميّت وإنّهم ميّتون)) الزمر/30، فانه لا يعول على اعتبارات حقيقة اللفظ كلفظ، بل يستعين بالواقع الذي يشهد بأن النبي والاخرين كانوا على قيد الحياة عند نزول هذا النص، لذا يرى ان المقصود به هو ان الموت محتم عليهم ولكن بعد حين، استناداً الى كل من البيان اللغوي والواقع.
ويتجلى الحال اكثر عند لحاظ الفارق في القراءة بين النصين القرآنيين التاليين: ((وهو على كلّ شيء قدير)) المائدة/120، ((وهو بكلّ شيء عليم)) البقرة/29، حيث يقدر البياني في النص الاول ان المقصود في المقدور عليه ليس كل شيء باطلاق، ويرى انه يُستثنى من ذلك امور؛ مثل القدرة على إعدام الذات الالهية لنفسها، او خلق الشريك المكافئ، وما الى ذلك. وهو يلجأ الى مثل هذه الاستثناءات بدعوى ان العقل يحيلها، وبالتالي فانه يعترف - هنا - بمشاركة العقل للبيان في فهم النص. في حين انه في النص الثاني يأخذ بالظهور الاطلاقي دون استثناء، خلافاً لما حصل مع النص الاول. اي انه استدرك حكم العقل الاستثنائي فيما يخص النص المتعلق بالقدرة الالهية، ولم يستدرك مثل ذلك فيما يتعلق بالعلم الالهي، للفارق بين القدرة والعلم. فمع ان البياني يفرق بين القراءتين للنصين الانفي الذكر، حيث استدرك حكم العقل في الاول دون الثاني، لكن حقيقة الأمر انه في كلا الحالين قد اعتمد على العقل بمشاركة البيان اللفظي. فاذا كان اعتماده على العقل في النص الاول واضحاً على نحو الايجاب، فانه كذلك قد اعتمد على العقل في النص الثاني على نحو السلب لا الايجاب. فهو يعرف أن العقل لا يمانع من الظهور الاطلاقي للنص الثاني مثلما مانع في حالة النص الاول. وبالتالي فهو يعول على العقل في كلا الحالين، ويأخذ بالظهور الاطلاقي عند الموافقة مع العقل كما في النص الثاني، وينفي الظهور عند المخالفة معه كما في النص الاول.
كذلك يرى البياني ولدواعي لغوية وعقلية ان الاصل في قصد المتكلم لكل نص سماوي هو ارادة تفهيم كل من الحاضر المشافه بالخطاب والغائب غير المشافه به. وهو لا يتخلى عن هذا الاصل ما لم تكن هناك دلالة صريحة او قوية في اعتبار النص قد قصد الاول دون الثاني. كما يدرك عقلاً إحالة كون المتكلم قد قصد تفهيم الغائب دون الحاضر.
ويمكن القول انه لا فارق بين البياني وغيره من اصحاب الدوائر المعرفية الأُخرى في حمله لجملة من القبليات المعرفية، وانه يستعين بالواقع والعقل كما يستعين غيره بذلك، لكن ما يمتاز به عن غيره هو انه لا يغلّب القبليات على الظهور اللفظي في الغالب، خلافاً لغيره من اصحاب تلك الدوائر، ويرى طريقته تتماهى مع موضوع فهمها بخلاف سائر الطرق الأُخرى . فمثلاً لو قارنا بينه وبين من يستند الى القبليات المنظومية، كالدوائر العقلية والفلسفية والعرفانية، وذلك طبقاً للقانون الاول في العلاقة العكسية لأثر القبليات والنص على الفهم، سنرى ان البياني يغلّب النص على القبليات، بخلاف اولئك الذين يغلّبون القبليات على النص. بمعنى ان البياني لا يعول على قانون العلاقة القوية، مثلما يعول عليها اصحاب الدوائر المنظومية.
ومن حيث الدقة، لا غنى من التمييز بين البيان العام والبيان الخاص، وكذا بين العقل العام والعقل الخاص. فنقصد بالبيان العام مطلق البيان، سواء كان ضعيفاً او قوياً، فانه بهذا يشمل نواحي التأويل والإستبطان، اذ تدل هذه الحالة على تأثير النص او البيان مهما كان ضعيفاً. وقد نعني بالبيان حداً مخصوصاً، كالذي تمارسه الدائرة البيانية ضمن النظام المعياري، وهو أن له تأثيراً عالياً للبيان اللغوي او النص. كما نقصد بالعقل العام مطلق العقل او التفكير العقلي، سواء كان يمارس من قبل الدائرة العقلية المعيارية او من غيرها، وسواء كانت اعتباراته مشتركة او خاصة. مثلما قد نعني بالعقل ذلك الخاص بالدائرة العقلية ضمن النظام المعياري والتي تحكّم العقل على الفهم دائماً.
وبحسب هذا التمييز لا يمكن الفصل بين التفكيرين العامّين لكل من البيان والعقل عن بعضهما البعض مطلقاً. فلما كان موضوع الفهم عبارة عن نص لغوي، لذا من المحال أن يتحقق هذا الفهم بمعزل كلي عن البيان، أي مطلق البيان ومهما كان ضعيفاً، كما في حالة التأويل والإستبطان. كذلك لما كان الفهم معتمداً على الادراك العقلي في الأساس، لذا كان لا بد لهذا الادراك من التأثير على الفهم، سواء كان التأثير ضعيفاً او قوياً، وسواء كان متعلقاً بحسب اعتبارات بعض الدوائر العقلية كالدائرة العقلية المعيارية او غيرها، او كان يعبّر عن محض الاعتبارات المشتركة لعقول البشر جميعاً.
هكذا فالفهم يتأثر لا محالة بكل من البيان والعقل العامّين كحد أدنى. فمن المحال أن يتأسس الفهم من غير استناد الى هذين العاملين من الاعتبارات. لكن قد تتدخل عوامل أُخرى اضافية على الفهم، كتأثير الواقع والوجود وما الى ذلك. كما انه لا حدود لتأثير اي عامل من هذه العوامل، وأن العلاقة في التأثير هي علاقة عكسية طبقاً لقانون الفهم الأول، فكلما قويت بعض العوامل في التأثير ضعف تأثير العوامل الأُخرى ، والعكس بالعكس.
إذاً فما نقصده من قانون التعدد المنهجي هو قانون العلاقة العامة بين العقل والبيان كحد أدنى، فمصدر ذلك التعدد يعود الى اختلاف العوامل المؤثرة على الفهم. فهذا القانون ليس معنياً بالضرورة بالعلاقة التي تخص الدائرتين البيانية والعقلية ضمن النظام المعياري، او غير ذلك من الدوائر المعرفية الخاصة. فقد لا يتأثر الفهم بالبيان المعياري الخاص، ولا بالعقل المعياري الخاص، رغم انه متأسس على الاعتبارات العامة لكل من البيان والعقل.
وبعبارة أُخرى، يكون البحث في علاقة العقل بالبيان على منوالين، أحدهما يدخل في اطار القوانين الحتمية العامة للفهم، وأُخرى ضمن اطار القواعد والخيارات الذهنية، كإن يكون البحث دائراً حول العلاقة بينهما ضمن الدائرتين البيانية والعقلية للنظام المعياري، فلكل منهما اعتباراتها الخاصة، فمثلما أن الدائرة العقلية ترجح العقل على البيان في الفهم والمعرفة، تعمل الدائرة البيانية على العكس، وهي أنها ترجح البيان على العقل. وتظل العلاقة بين العقل والبيان لدى هاتين الدائرتين هي علاقة تنافس وتحدّ، لأنها تتقوم بالخيارات الذهنية للقواعد المعرفية القابلة للرد والقبول، فهي من هذه الناحية تختلف عن الوضع الخاص لقوانين الفهم، بمعنى أنها تختلف عن العلاقة الدائرة بين العقل العام والبيان العام كقانون، فهذه العلاقة هي علاقة حتمية تعددية ليس للذهن فيها مجال للأخذ والإختيار، او التحدي والتنافس، او الرد والقبول.
***
وبهذا الصدد نتساءل: هل ان ما قدمناه ينطبق على مناهج المعرفة للادراك وعلوم الطبيعة؟ فهل يسعنا القول بأن ادراك الواقع الموضوعي، ومنه الواقع العلمي، يعتمد على عدد من المناهج المعرفية المختلفة، وانه لا يوجد منهج احادي يمكن استخدامه في الادراك المعرفي والعلم؟
لا شك ان ذلك ينطبق على كلا الأمرين: الادراك المعرفي والعلم. فبخصوص ادراك الواقع الموضوعي، يلاحظ ان العملية الحسية لا تفي وحدها في الادراك دون تدخل عدد من القضايا العقلية؛ كمبدأ السببية ومنطق الاحتمالات العقلية الذي تتقوم به العملية الاستقرائية. وبالتالي فإن ذلك يثبت خطأ المنهج التجريبي في نظرية المعرفة (الابستيما). كما ان المنهج العقلي عاجز لحاله عن ان يدل على شيء خارجي دون الاعتماد على الحس والتجربة، وبالتالي فان كلا المنهجين يستخدم العناصر الداخلة في تكوين الاخر.
ويطال هذا الأمر المعرفة العلمية، ذلك انها لا تعتمد على منهج احادي في التفسير والكشف العلمي. واصبح من المسلم به ان المنهج العلمي يستخدم عدداً من المبادئ المختلفة لقبول نظرية ما وترجيحها على أُخرى، كمبدأ البساطة والاقتصاد والجمال وغيرها، يضاف الى انه يزاول عمله طبقاً لقاعدتي التأييد والتكذيب، دون ان يلتزم بواحدة منهما على حساب الأُخرى. حتى ان كارل بوبر الذي كان يحصر دفاعه عن مبدأ التكذيب عند ظهور كتابه (منطق الكشف العلمي) سنة 1934م، أعاد النظر في دفاعه بعد ثلاثين سنة تقريباً، فبعد ان جدد طبع الكتاب (سنة 1963م) لم يلتزم في دفاعه عن الاساس التجريبي المحض، واخذ يطعّم مذهبه بعناصر أُخرى مثل مبدأ البساطة وجدة النظرية وقوة الربط بين الأشياء وتوحيدها، وكذا ما تحمله من مفاهيم جديدة. وقد اعترف بوبر باستحالة ارجاع مبدأ البساطة الى منطق التكذيب، كما كان يفعل من قبل .
لكن في جميع الأحوال، سواء في حالة الفهم، او حالة الادراك المعرفي، او العلم الطبيعي، لا غنى من أن تتم العملية المعرفية بفعل عاملين – على الأقل -، تتشكل من كل منهما أداة لمنهج محدد، أحدهما هو التفكير العقلي العام، او مطلق الاعتبارات العقلية، أما الآخر فهو ذلك المتمثل بالاعتبارات الذاتية للموضوع المبحوث، كالبيان بالنسبة للنص كما في حالة الفهم، والاعتبارات الحسية والتجريبية بالنسبة للواقع كما في حالة الادراك، والاعتبارات التجريبية المعمقة بالنسبة للواقع العلمي كما في حالة العلم الطبيعي.
القانون الرابع:
قانون الإفتقار النسبي
ويشير هذا القانون الى حالة الافتقار التي تخص فهم النص بالقياس الى الخطاب او الكلام المشافه. اذ لا يمكن للأول أن يرقى الى مستوى الثاني، وذلك لمشاركة العديد من الدلالات الأُخرى غير اللغوية في إفهام السامع، وهو ما يفتقر اليه النص، وبالتالي كان فهم النص أقل قدراً من فهم الكلام المشافه، وذلك عند تعادل الأحرف والجمل المستخدمة في النص والكلام، وكذا عند تكافؤ العوامل والشروط المختلفة التي قد يكون لها أثرها في الفهم، مثل أن يكون هناك تكافؤ في المستوى الذهني لدى السامع والقارئ، كذلك أن لا تشارك عوامل طارئة يمكنها أن تضفي على النص او الكلام أبعاداً أُخرى جديدة قد تغير من طبيعة المقارنة المذكورة، سيما عند التعامل مع النص الديني كما سنعرف عما قريب.
وعلى العموم، إن في الكلام المشافه يلعب «الواقع» دوراً مضافاً في تحديد معنى الجملة التي ينطق بها المتكلم. وهو عنصر مفقود في النص المكتوب. ففي الكلام المشافه قد يُفهم المعنى في جملة واحدة وبها يتحدد المراد، وهو ما لا يحصل في النص المكتوب، حيث يساعد الواقع على فهم الجملة في الكلام المشافه، مثلما يساعد سياق الارتباط بين الجمل المكتوبة على فهم كل جملة منها.
فمثلاً اذا ما سأل سائل غريب عن منطقة معينة لإحدى المدن، كإن يسأل عن شارع الرشيد في بغداد، فقال: اين شارع الرشيد؟ ففي هذه الحالة سرعان ما ندرك معنى الجملة لمعرفتنا المجملة بحال المتكلم. فتحديد مراد المتكلم في جملته الشفهية يعتمد سلفاً على معرفتنا بهيئة المتكلم وكيفية نطقه للجملة وما يستخدمه من إيماءات وإيحاءات او إشارات تظهر على وجهه ويديه وغير ذلك من الاحوال التعبيرية والدلالية التي تكتنفه، فيُعرف مثلاً إن كان يمزح في كلامه او انه جاد يريد شيئاً يتسق مع سياق الحال الذي يكتنفه. ولا شك ان خبراتنا السابقة حول استخدام الناس للكلام تساعدنا على فهم الجملة الشفهية التي ينطق بها المتكلم.
وهذا ما جعل بعض الاتجاهات الفقهية ترى في ذلك احد مبررين للقول بانسداد الطريق للأحكام الشرعية، وهو المبرر القائل بعدم حجية ظواهر النص بالنسبة الى غير المقصودين بالإفهام، مضافاً الى دعوى البناء على عدم حجية الأخبار الدائرة في كتب الحديث .
هكذا يتبين دور الواقع في التعويض عن النقص المشهود في النص المكتوب.
إذاً إن ما يؤكد عليه هذا القانون هو المقارنة بين الخطاب والنص. فالخطاب هو كلام مشافه يوجه الى سامع حاضر ضمن جملة من السياقات الظرفية، والعلاقة التي يتضمنها عبارة عن متكلم وسامع، والرابط الذي يجمعهما هو رابط التبليغ المباشر، حيث يتقصّد المتكلم بكل الوسائل الدلالية (السيميائية) المتاحة، من لغوية وغيرها، إفهام السامع مضمون كلامه. ويتصف هذا الأخير بالحضور إزاء الأول. أما النص فهو مدونة من الكلام غير المشافه، يخلو من السياقات الظرفية الحية التي يقتضيها الخطاب، لذا تتحدد العلاقة فيه بين طرفين مختلفين عما سبق، هما: صاحب النص (المؤلف) والقارئ. اذ تتميز العلاقة بينهما بأنها غير مباشرة، او أنها ليست حية متفاعلة كما هو الحال في العلاقة الاولى للخطاب، فهي تفتقر الى السياق الظرفي الجامع بين الطرفين. والطرف الذي يقصده صاحب النص هو قارئ غير محدد بزمن او مكان، بخلاف القصد الوارد في الخطاب، باعتبار أن المتكلم يقصد المستمع الحاضر أساساً، ولولاه ما كان للخطاب أن يظهر، ولا كان له جدوى ومعنى، ولتحولت وسيلة التبليغ مما هي خطابية الى نصية باعتبارها تحقق الهدف من ايصال الرسالة المطلوبة الى الطرف الآخر، وهو القارئ، ولو لم يكن معاصراً لصاحب النص.
لا شك أن النص لا يؤدي ذات المعنى الذي يؤديه الخطاب، فمن الناحية السيميائية أن ما يفاد منهما من دلالات ليست متطابقة، حيث يظل النص، بما يعبر عن مدونة، ناقصاً مقارنة بالخطاب، فمما يمتاز به الأخير هو الجمع بين أمرين: كلام مشافه مع واقع حي متفاعل، في حين يتصف النص بالتجريد باعتباره محولاً من المشافهة الى الكتابة، وبالتالي فانه لا يحتفظ بالواقع الحي الذي يقتضيه الخطاب. ومع أن هذا الأخير موجه الى مخاطبين حاضرين او سامعين محددين، وان النص موجه الى قراء غير محددين، لكن بفضل ما يمتاز به الخطاب من التشكيلة المزدوجة للكلام المشافه والواقع فان ذلك يجعله يحمل دلالات عالية للمعنى الحقيقي، خلافاً لما عليه النص، فحيث انه مجرد عن الواقع الحي فذلك يجعله حاملاً لدلالات ناقصة من المعنى الحقيقي، اي ذلك المعنى المعبر عن حقيقة النص كما هو، او كما يريدها صاحبه او المؤلف. لذلك يأتي التعويض عن هذا النقص الطبيعي بما تقوم به (عين القارئ) الفاحصة او الموضوعية من اصلاح لكل ما يصادفها من اختلال في النسق الدلالي؛ كمحاولة منها للتقرب من المعنى المقصود، وهو المعنى الذي تتلقاه الأُذن مباشرة وبمساعدة العين الرائية لا القارئة. وهنا نفهم لماذا تتعدد القراءات وتتكثر، فلولا وجود ذلك النقص من البعد عن حقيقة المراد لما تكثرت القراءات والتأويلات، وكلما كان النص أكثر غموضاً وعتمة كلما استفاض بالقراءات والتأويلات، أي كلما كانت ذاتية القارئ تلعب فيه دوراً اكبر مقارنة بالنصوص الواضحة. لذلك كان الخطاب المشافه وبفضل ما يحمله من عناصر حية مساعدة للفهم لا يحتاج الى البحث المتزايد من تعدد الفهم والتأويلات مقارنة بما عليه النص المكتوب.
بهذا الاعتبار فإن نص القرآن لا يعبر تعبيره الكامل عن الخطاب القرآني المنزّل. او أنه طبقاً لقانون الافتقار يكون الأخير أكثر غنى من الأول. لكن مع ضرورة أخذ اعتبار ما ذكرناه من شروط التكافؤ، والتي منها ما قد تؤثر به بعض العوامل الطارئة لحرف القانون. فالنص الديني خلافاً للنص البشري قد يتضمن أموراً علمية كانت مجهولة لدى السامعين عند تنزيل القرآن المشافه، في حين اصبحت معلومة لدى قرّاء القرآن المدوّن. وهذا ما يجعل الأخير اغنى من حيث الفهم – ضمن هذه الحدود – مقارنة بالأول. وهو أمر لا يتعارض مع ما ذكرناه من قانون، باعتبار أن هذا الغنى يحصل تبعاً للأمور العارضة التي قد تلوح النص المدوّن كما قد تلوح الكلام المشافه. كما أن الكلام المشافه يستلزم كثرة من الدلالات المختلفة، خلافاً للنص، بمعنى أننا حتى لو أضفنا الدلالة العلمية الى النص، وهي من الأمور العارضة كما قلنا، فإن ذلك لا يضيف الا دلالة واحدة الى الدلالة اللغوية، وهي لا تكافئ تعدد الدلالات في حالة الكلام المشافه. يضاف الى أن نسبة تأثير هذا الواقع – العلمي – على غنى القرآن المدوّن هي قليلة جداً مقارنة بتأثير الواقع الحي على غنى القرآن المشافه. وبالتالي فالإفتقار المتعلق بالنص المدوّن يبقى كما هو، سواء أخذناه بشروطه القانونية الآنفة الذكر، او حتى مع أخذ اعتبار ما لاحه من طارئ علمي.
لكن في جميع الأحوال إن الدلالات الإضافية، سواء في حالة الكلام المشافه أم النص هي دلالات عائدة الى “الواقع”. فهذا الأخير يؤثر على فهم الخطاب المشافه بنحو التلازم الذاتي، كما أنه يؤثر على فهم النص المدوّن – او حتى المشافه - بنحو طارئ.
على أن هناك أبعاداً أُخرى لظاهرة الإفتقار النسبي الخاصة بالنص الديني المدوّن. فحينما تحوّل القرآن المشافه الى كتاب مدوّن أخذ يحمل تسلسلاً آخر لا تبدو الارتباطات فيه واضحة المعنى او الاتساق، سواء من حيث سوره او حتى بعض آياته. وقد اختلف العلماء حول الكيفية التي جرت وأدت الى ترتيبه بالشكل الذي نراه. وقيل إن جمع القرآن (المدوّن) كان على ضربين: أحدهما تأليف السور؛ كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين – أي ما يزيد على المائة آية او يقاربها -، وهو الضرب الذي تولّته الصحابة، وأما الجمع الآخر، وهو جمع الآيات في السور، فهو توقيفي تولّاه النبي (ص) بنفسه . لكن من الناحية الدلالية ولّد هذا الترتيب بعض المشاكل، فلو اقتصرنا على وضع الآيات نجد أن بعضها جاء في أمكنة هي ليست أمكنتها الحقيقية. فقد يكون الأصل لبعض الآيات منتمياً الى وضع محدد من سورة معينة؛ لكننا نجدها في النص المدوّن ضمن سورة أُخرى مختلفة، او ضمن وضع آخر مختلف من نفس السورة. او يكون الاصل الخطابي للآية مكياً؛ لكننا نجدها ضمن سورة مدنية، وكذا العكس.
فمثلاً إن آية التبليغ ((يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من النّاس إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين)) (المائدة/67) جاءت ضمن سورة المائدة من النص المدوّن للقرآن، لكنها بحسب الحقيقة الخطابية تقع في موضع آخر مختلف، كما يدل على ذلك معنى الآية وسياقها الدلالي وما يحيط بها من آيات. لهذا فقد اعتبرت لدى عدد من المفسرين بأنها من الآيات المكية رغم وجودها في سورة مدنية هي من أواخر السور، اذ تبدي الآية بأن النبي كان مأموراً بإبلاغ ما أُنزل اليه للناس، وهو أمر يكون في بداية الرسالة الدينية لا نهايتها، لذلك يتوجب كون الآية مكية لا مدنية. كما اعتبر عدد آخر من العلماء أن الأصل الخطابي للآية جاء قبل آية إكمال الدين مباشرة طبقاً لبعض الروايات، فبحسب هذا التصور أن للآية علاقة بإبلاغ ولاية الأمر من بعد النبي ضمن حادثة ما يُعرف بالغدير. مع أن آية إكمال الدين هي ايضاً واردة ضمن سياق دلالي مختلف كلياً عما يبدو من آية التبليغ، ومن الناحية السيميائية يصعب الجمع بين السياقين، اذ تنص هذه الآية بقوله تعالى: ((حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلا ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطرّ في مخمصة غير متجانف لإثم فإنّ اللّه غفور رحيم)) (المائدة/3).
وبهذا التمايز بين النص والخطاب أصبح القرآن المدوّن عبارة عن تشكيلة من المعاني هي غير تلك التي كان عليها القرآن الخطابي ضمن تفاعله وجدليته مع الواقع. فمن الناحية الدلالية يقيم القرآن الخطابي هذه العلاقة مع الواقع الحي، الأمر الذي يجعله يرسم صوراً واضحة ومحددة القصد والمعنى؛ طبقاً لهذا الارتباط الذي أقل ما فيه انه يشير الى الواقع مباشرة، لذلك جرى التعبير عن القرآن بأنه بيان للناس ((هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتّقين)) (آل عمران/138)، وانه تبيان لكل شيء ((ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء)) (النحل/89)، فهو بيان وتبيان باعتباره قرآناً مشافهاً، بمعنى ان من السهل على الناس الذين سمعوا القرآن وتفاعلوا معه أن يفهموا مقاصده ومعانيه، سيما انه نزل باللغة التي كانوا يتخاطبون بها. في حين ليس للنص او القرآن المدوّن هذه السمة المميزة في الخطاب، فالنص إما انه لا يشير الى الواقع كلياً، او انه يشير اليه “ميتاً”، وهو حتى في هذه الإشارة لا يتضمن تحديد طبيعة ما عليه بالضبط بكل ملابساته الاجتماعية والطبيعية، كما أن معاني اللغة التي كان يستخدمها أخذت تتغير كثيراً عبر القرون والأجيال، وكل ذلك له انعكاساته على فهم النص وتعدد معانيه وحاجته الى القراءات المتعددة. ونكرر هنا ما قاله المفكر الصدر بأننا لن نفهم النص الديني «الا كما نعيشه الان، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، وإستبطان بيئته التي كان من الممكن ان تلقي عليه ضوءاً».
وطبقاً لما سبق أن نسبة ما يمكن ان يؤديه النص من دلالات كشفية معبرة عن المعنى الحقيقي المقصود هي نصف ما يقدمه الخطاب او أقل من ذلك. فاذا كان الخطاب يمنحنا نسبة دلالية معبرة عن هذا المعنى بما يقارب ثمانين بالمائة مثلاً؛ فان ما يقدمه النص من هذه الدلالة هي أربعين بالمائة أو أقل. وهذه النسبة العددية هي للايضاح، وإلا فأي نسبة تطرح بهذا الصدد هي نسبة خاطئة. اذ لا يمكن وضع مقارنة رياضية بين ما يؤديه الطرفان من كشف دلالي، طالما أن الخطاب يتضمن امرين غير متماثلين، هما الكلام المشافه والواقع، خلافاً للنص الذي يعبّر عن الكلام المجرد او المدوّن. وبعبارة أُخرى ان النص هو مجرد كلام يخلو من الواقع، في حين يقتضي الخطاب التفاعل مع الواقع المباشر، فهو بالتالي يزيد على النص بهذا الواقع، وحيث أن هذا الأخير هو من عالم آخر غير الكلام المجرد او النص؛ لذا لا يمكن المقارنة بينهما من حيث التأثير على الكشف الدلالي رياضياً. يضاف الى أن التسلسل الوارد في النص (القرآني) لم يكن هو ذاته التسلسل الطبيعي الذي ورد في الخطاب، فالنص بهذا لا يعكس حقيقة ما عليه الخطاب، ومن ثم فإن ذلك يضعّف من الكشف الدلالي الخاص بالأول مقارنة بالآخر. لذا فالتقدير في الكشف الدلالي للمعنى لا يصح، ولا يمكن أن يصح، الا طبقاً للاعتبارات الكيفية والنسبية.
يتبين مما سبق أن للقرآن معنى عاماً يشمل النص المدوّن والخطاب المشافه، او قل بأن هناك قرآناً مدوناً وقرآناً مشافهاً. فقد كانت آيات القرآن تنزل مشافهة ثم تدوّن، والأصل هو القرآن المشافه، وقد قال الله تعالى: ((لا تحرّك به لسانك لتعجل به، إنّ علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه، ثمّ إنّ علينا بيانه)) (القيامة/16ـ19). وقد كان القرآن المشافه ينزل بشكل متفرق بالتدريج، ولم ينزل دفعة واحدة، وكما ورد في الذكر قوله تعالى: ((وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مكث ونزّلناه تنزيلاً)) (الإسراء/106)، وقوله: ((وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاًً)) (الفرقان/32). وكثيراً ما يعبّر (القرآن الكريم) عن القرآن بالكتاب، حتى وهو في حالة التنزيل، كما في قوله تعالى: ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً)) (الكهف/1)، وقوله: ((وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون)) (النحل/64)، وقوله: ((أولم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمةً وذكرى لقوم يؤمنون)) (العنكبوت/51)... الخ. وقد يتبادر للذهن بأن القرآن مكتمل ومخطوط، مع أن اللفظ ورد في العديد من السور المختلفة، بما فيها السور المكية، أي قبل إتمام نزول الآيات وتدوينها كلياً، وبالتالي فليست هناك ممانعة من التعبير عن القرآن بالكتاب رغم أنه لم يكتمل بعد. فحتى لو افترضنا أنه قد أُنزل على صدر النبي دفعة واحدة، فإنه لم يخرج للناس الا متفرقاً بالتدريج طوال السنين الثلاث والعشرين سنة من البعثة النبوية. كما لا توجد ممانعة من التعبير عنه بالكتاب رغم انه كان وحياً مشافهاً لم يكتمل ولم يتحول بعد الى صحف متفرقة، فلا يوجد أدنى دليل يشير الى كتاب مخطوط منزل بالمعنى الذي نفهمه. ويبدو أن التعبير بالكتاب على الوحي المشافه المنزل وارد استعماله حتى من جهة ما يدل عليه القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ((وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ يستمعون القرآن فلمّا حضروه قالوا أنصتوا فلمّا قضي ولّوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتاباًً أنزل من بعد موسى مصدّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم)) (الأحقاف/29ـ30). فقد يقصد بالكتاب هنا بمعنى الشيء المنظوم، ولو لم يدوّن، وكما قال الراغب الأصفهاني في (مفردات ألفاظ القرآن) بأن الأصل في الكتابة: النظم بالخط لكن يستعار كل واحد للآخر، ولهذا سمي كلام الله - وإن لم يكتب - كتاباً كقوله تعالى: ((آلم، ذلك الكتاب)) (البقرة/1ـ2)، وقوله: ((قال إني عبد الله آتاني الكتاب))(مريم/30). والكتاب في الأصل مصدر، ثم سمي المكتوب فيه كتاباً، والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه، وفي قوله: ((يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء)) (النساء/153) فإنه يعني صحيفة فيها كتابة، ولهذا قال تعالى: ((ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس...)) (الأنعام/7) .
هكذا يتبين بأن القرآن المشافه هو الأصل، وهو ما يمثل الوحي بكل ما يتضمن من تنزيل أصيل لا اجتهاد فيه. أما القرآن المدوّن فهو مستنسخ عن الأول مع فقده للكثير من الدلالات والإيحاءات، ومع ما تضمنه من اجتهاد جعله لا يحتفظ بالوحي المتأصل في الأول، فعلى الأقل إن ترتيب السور في القرآن المدوّن قد جرى بفعل اجتهادي، وهو لا يطابق ما كان عليه التنزيل في القرآن المشافه. لهذا كان للواقع دور عظيم في تيسير فهم القرآن عندما كان مشافهاً. ولذلك دلالة أخرى، وهي أن وحي القرآن قد استهدف – أساساً - المجتمع الحي الذي تنزّل فيه؛ بكل ما يحمله من خصوصيات وسياقات تاريخية، مما جعل العلاقة بينه وبين الواقع علاقة تأثير مباشر، أما بعد غياب هذا الواقع فلم يعد للوحي تلك العلاقة من التأثير المباشر. بل يمكن القول إن التحول والتغيير قد أصاب الطرفين، فلم يعد الوحي كما كان من قبل بعد أن تحول الى قرآن مدوّن، كما لم يعد الواقع هو ذاته الذي قصده الوحي بالتنزيل والتأثير. لذلك كان لا بد من العمل بالفهم المجمل والمقاصد التشريعية في الأحكام استناداً الى مبدأ (النمذجة)، وهو اعتبار الأحكام الشرعية نموذجية لا مركزية، كما فصلنا الحديث عن ذلك في كتابنا (فهم الدين والواقع) .
ج ـ قواعد الفهم
تندرج قواعد الفهم - وما يترتب عليها من نظريات - ضمن القبليات المنضبطة، وان بإمكان الذهن أن يختار منها ما يشاء لمزاولة عملية الفهم. وهي على نوعين: كبرى كالتي يطمح اليها علم الطريقة، وصغرى كالتي يمارسها علم اصول الفقه، اذ انها تندرج ضمن احدى القواعد الكبرى، كالفهم العرفي للنص مثلاً.
فلدينا قواعد كبرى وصغرى ونظريات. وتعد القواعد الكبرى اصولاً مولدة لغيرها من القواعد الصغرى والنظريات القبلية. وتتصف القواعد الصغرى بأنها موضع الاتفاق ضمن الاصل المولد. أما النظريات فهي موضع الاختلاف ضمن ذلك الاصل. وقد يكون الفارق بين القواعد الصغرى والنظريات فارقاً نسبياً، اذ قلما تجد قاعدة صغرى مجمع عليها بين كافة العلماء المنتمين الى ذات الاصل المولد. فقاعدة النسخ مثلاً هي من القواعد الصغرى المتفق عليها، وإن انكرها عدد قليل من العلماء.
وفي جميع الاحوال، تتحدد القواعد الصغرى والنظريات وفقاً لما عليه القواعد الكبرى، او الأصول المولدة، وبالتالي فان لهذه الأخيرة الدور الهام في تحديد ما عليه الفهم. والأهم من ذلك، إن العمل بالقواعد الكبرى هو في حد ذاته عبارة عن قانون محتم. فمن المحال اجراء عملية الفهم دون الاعتماد على عدد من قواعد الفهم المختلفة. ويصدق هذا الأمر على حالة العلم الطبيعي، حيث لا يمكن اجراؤه دون الاعتماد على قواعد كلية كاشفة، لكن قد يتعين اجراء بعض القواعد على حساب البعض الاخر.
ويمكن تقسيم قواعد الفهم الى قواعد اجرائية محايدة، وأُخرى مضمونية.
وتعد قاعدة الاستقراء ابرز القواعد الاجرائية المحايدة التي يتوقف عليها الفهم برمته، كما يتوقف عليها ادراك الواقع الموضوعي مهما بلغت بساطته. يضاف الى ان الطريقة العلمية في البحث هي بدورها تقوم على هذه القاعدة، كما يتبين من قاعدتي التأييد والتكذيب وما اليهما. بل ان هذه القاعدة ليست مجرد قاعدة فحسب، انما تمثل قانوناً لا بد للمعرفة البشرية والفهم الديني ان يعتمد عليها. فمهما أمكن تجاهل هذه القاعدة، او اهمالها، الا انها تظل المصدر الهام المعتمد عليه في الفهم والعلم والادراك.
وهناك عدد من المزايا التي تمتاز بها هذه القاعدة على غيرها من القواعد. فهي من جهة تعد قاعدة فطرية وليست مكتسبة، وذلك لقيامها على منطق الاحتمالات العقلية. وبالتالي فانها تمثل قاعدة مشتركة لدى جميع العقلاء، وتحظى بقبول الكل. ومثلها في ذلك مثل مبدأ السببية العامة. كما انها تعد قاعدة كاشفة دون ان يكشف عنها شيء اخر. صحيح ان مبدأ عدم التناقض يعد ايضاً من القبليات التي لا يكشف عنها مبدأ اخر، لكن هذا المبدأ لا يعد كاشفاً عن غيره بخلاف الاستقراء. وقد يقال كيف يمكن اعتبار الاستقراء من القبليات وهو قائم على الامور البعدية، من حيث لحاظ القرائن المتعددة؟
والجواب هو ان قبلية الاستقراء ليس بقرائنه، بل باعتباراته الاحتمالية. والحق ان الحسابات والقيم الاحتمالية هي التي تشكل القبلية بهذا الخصوص، وان العملية الاستقرائية قائمة على ذلك، ولولا الاحتمالات ما كان يمكن لقاعدة الاستقراء ان تقوم لها قائمة، خاصة فيما يتعلق بالاحتمالات المتباينة او غير السوية.
وتحظى قاعدة الاستقراء بميزة الجانب الصوري والحيادي في الكشف، اذ لا يتضمن مفادها اي قضية تتعلق بالجانب الخارجي للقضايا المبحوثة، سواء كانت هذه القضايا خطابية نصية، او أشياء واقعية. وهي بالتالي تصلح ان تكون معياراً هاماً للتقويم والترجيح بين القضايا المتعارضة.
واول ما تؤديه قاعدة الاستقراء في عملية الفهم انها تستخلص معنى النص الاجمالي إن كان يتخذ طابع الفهم العرفي او الرمزي او المجازي، فهي تحدد مثل هذه المجالات، ومن ثم تحدد المجال والمعاني المجملة في الجمل النصية. ولها مهمة أُخرى تتعلق باسبقية فهم الكل على الجزء وتحديد مبنى هذا الجزء من خلال تحكم الكل فيه.
هذا فيما يتعلق بالقواعد الاجرائية المحايدة، اما القواعد المضمونية فميزتها انها محملة بالمضامين القبلية التي تعمل على تشكيل صورة الفهم بما يناسب هذه المضامين، كما هو حال قاعدة السنخية لدى الفلاسفة والعرفاء مثلاً. فالتفاسير الفلسفية والعرفانية للنصوص والإشكاليات الدينية مشحونة بأثر تلك القاعدة، كما بيّناه في دراسة مستقلة .
وينطبق هذا الحال على كل من الادراك والمجال العلمي. ومن ذلك ان الناس يتعاملون مع خبراتهم الخارجية وفق قاعدة التناسب او الانسجام، كما ان العلماء هم ايضاً يتعاملون مع قضاياهم العلمية وفق تلك القاعدة القبلية، بوعي او دون وعي. كذلك فان علماء الفيزياء حتى القرن العشرين قد بنوا فرضياتهم العلمية وفقاً لقاعدة الهندسة الاقليدية، كالذي يتبين من نظرية نيوتن في الجاذبية، ومن قبله علماء العصر الحديث والقديم، خلافاً لقاعدة الهندسة اللا اقليدية كما عوّل عليها علماء القرن الماضي الى يومنا هذا.
قاعدة الاستقراء ومنهج الفهم
لعل من اعقد المسائل التي يواجهها البحث العلمي في تفسير الظواهر الخارجية هي تلك الخاصة بتعليل ظواهر مختلفة تحت اطار مبدأ موحد. فما هو الاساس الذي يبرر لنا الالتزام بمبدأ عام يمكن من خلاله تفسير ظواهر متعددة مختلفة؟ وبالتالي انه اذا أمكن انتزاع مبدأ موحد من ظواهر متعددة مختلفة، كيف يمكن تعميم هذا المبدأ على ظواهر أُخرى لم تخضع للاختبار بعد؟ فلنفرض اننا اردنا اختبار ظاهرة محددة لاجل تفسيرها وتعليلها، فعندئذ سوف نواجه ثلاث مشاكل؛ واحدة منها تتعلق بالاحتمالات الواردة في تفسير الظاهرة، والثانية تتعلق بالظواهر الأُخرى المنظورة، أما الثالثة فتتعلق بالتعميم والتطبيق على سائر الظواهر التي من جنسها والتي لا يسع البحث العلمي اختبارها. فحتى لو افترضنا القضاء على المشكلة الاولى وتوصلنا من خلال جملة من الاختبارات الى تفسير صحيح وقطعي للظاهرة، فذلك لا يقتضي التمكن من علاج المشكلتين الاخريتين. وكذا حتى لو استطعنا علاج المشكلة الثانية وتوصلنا الى اكتشاف عامل تفسيري موحد يجمع بين الظواهر المنظورة التي يسع البحث مد يده اليها، فستبقى أمامنا مشكلة التعميم، اي ما الذي يبرر لنا الالتزام بمبدأ تفسيري موحد يمكن تطبيقه على كافة الظواهر والقضايا ذات الجنس المشترك؟
هكذا نحن أمام ثلاث مشاكل بعضها مركب على البعض الاخر. ولا شك ان ابسط هذه المشاكل هي المشكلة الاولى، ثم تأتي بعدها المشكلة الثانية، ثم الثالثة.
وينطبق هذا الأمر على الفهم الديني. فالبحث المنهجي لهذا الفهم يواجه المشاكل الثلاث المذكورة عند التعرض الى فهم وتفسير الظواهر النصية. فمثلما ان هناك احتمالات ترد حول تفسير الظاهرة النصية بشكل مستقل عن غيرها من الظواهر الأُخرى ، فهناك احتمالات ثانية ترد حول تفسير موحد يتعلق بعدد من الظواهر المختلفة المنظورة للنص. وكذا فهناك احتمالات ثالثة تتعلق بايجاد تفسير موحد جامع يعم مختلف حالات الظواهر والقضايا ذات الجنس المشترك، سواء المنظورة منها او غير المنظورة.
مع هذا فهناك مسلكان للفهم والتفسير: تجزيئي وتوحيدي. وتعد التساؤلات الخاصة بالمشكلتين الأخيرتين - الآنفتي الذكر - لدى (المسلك التجزيئي) مرفوضة جملة وتفصيلاً. فهو يميل الى دراسة الظواهر الخارجية بشكل تجزيئي يستقل بعضها عن البعض الاخر بلا رابط يربط بينها. لكنها بلا شك تعد تساؤلات حيوية بالنسبة لـ (المسلك التوحيدي)، إذ يفتش عن الروابط والمحاور المشتركة التي تجمع بين الظواهر المختلفة. فقد يحضى المسلك التوحيدي بنتائج تفوق قوة وقيمة ما عليه نتائج المسلك التجزيئي، فبحسابات الاحتمال يكسب العامل المشترك قيمة احتمالية اقوى من تلك التي تقوم على التفرقة والتجزئة، اذ الاتساق في التعليل المشترك لا يعقل ان يكون أمراً طارئاً صدفوياً كما هو لازم قول المسلك التجزيئي. وهنا نجد الخطأ الذي لاح بعض مسالك الفكر الاسلامي لانتصاره للنهج التجزيئي عند معالجته لقضايا فهم النص الديني، كما هو حال الممارسات الفقهية. فغالباً ما تحكّم هذه الممارسات النهج التجزيئي في الفهم ولا تستعين بالكلي في فهمها للجزئيات، رغم ما نجده من تضارب يلوح الجزئيات ذاتها، لذلك فقد عولت هذه الممارسات على قاعدة الجمع بين المتعارضات عند الإمكان، او التمسك بقاعدة النسخ، ولم تضع بالحساب ما للكلي وللواقع من أثر في تغيير المعادلة التي راهنت عليها.
نعم إن تمسك الشاطبي بالاطراد وعدم التسليم للشاذ في النصوص جعله يعول على الكلي ليحدد به الجزئي. فقد طبّق هذا الفقيه منهج الاستقراء على النصوص الدينية واستخلص منها اصولاً عامة، وتوقف عند ما يخالفها من بعض النصوص وأوكل علمها الى الله تعالى ، باعتبار ان الأخذ بالجزئي اذا كان على حساب الكلي فإنه يفضي ولا شك الى هدم أساس الشريعة .
والمشكلة التي تواجه النهج التجزيئي هي ان احتمالات الخطأ في القضايا التجزيئية ترد على الدوام، فقد يكون الخطأ في سند النص، كما قد يكون الخطأ في متنه ومعناه وملابسته للواقع.
لكن لو أبعدنا انفسنا عن المسلك التجزيئي وبحثنا ضمن اطار المسلك التوحيدي فسنرى ان هناك سبلاً عديدة معنية بحل المشكل المطروح. فمن حيث التحليل نجد ثلاثة مناهج تتنافس على استخلاص الصيغة المناسبة للمبدأ التوحيدي، وذلك كالآتي:
1ـ المنهج الافتراضي
يلجأ هذا المنهج الى التركيز على اختبار ظاهرة محددة او اكثر بقليل لأجل تفسيرها وتعليلها ومن ثم استخلاص المبدأ العام الذي يحكمها، ليكون مقدمة مفترضة لاستخلاص النتائج المتعلقة بمختلف الظواهر الأُخرى المجانسة لها. فهو منهج افتراضي يمارس دوراً من الاسقاط القياسي او التمثيلي، تكون فيه المقدمة عبارة عن مبدأ مستخلص من الظاهرة المختبرة ومعممة الى اقصى حالات التعميم لأجل تفسير ما أمكن من الظواهر الأُخرى غير المختبرة.
فمن نماذج هذا المنهج التفسير الماركسي للظواهر الاجتماعية. فهو منهج متأثر كثيراً بالظروف الخاصة التي اكتنفت المجتمع الاوربي خلال القرن التاسع عشر. اذ ظهرت الرأسمالية الصناعية خلال هذه الفترة بكل ما تحمله من تناقضات، وقد لاحظ ماركس هذه التناقضات بدقة، وعمل على دراسة أسبابها ونتائجها، كما هو الحال في المجتمعين البريطاني والفرنسي، سيما تلك المتعلقة بالصراع الطبقي وعلاقته برأس المال والعمل. لكنه وأتباعه قاموا بتعميم النتائج المترتبة عما لوحظ إبان هذا العصر، بافتراض بعض القوانين الحتمية التي تتحكم بالمجتمعات الانسانية عبر التاريخ.
كما من نماذجه ما قام به الفقهاء في الفهم الديني من الاستدلال على صحة القياس الفقهي بالاستعانة بنصوص تخص حالات محدودة للقضايا. لكن الفقهاء قاموا بتعميم النتيجة وتحويل ما يخص هذه الحالات الى مبدأ عام طبقوه على غيرها من القضايا الأُخرى التي لم يتناولها النص بشيء من الذكر. ويعد الشافعي أول وأبرز من نظّر لهذا العمل من التعميم، استناداً الى ما وصلنا من تراث .
2ـ المنهج الانتزاعي
يمارس هذا المنهج دوراً استقرائياً ينتزع من خلاله المبدأ العام، وبه يمكن تفسير الظواهر المختلفة الملحوظة او المختبرة. فمن الممكن اختبار عدد من الظواهر المختلفة، وعندما يلاحظ انها تؤكد وجود عامل مشترك كفيل بتفسير اي منها، فسيكون ذلك العامل هو المحور المشترك الذي به تفسر هذه الظواهر قبال غيره من العوامل الأُخرى المتفرقة. فمثلاً عندما نلاحظ عامل الحرارة يقترن على الدوام مع تمدد مختلف انواع المعادن، وان بدونه لا يحدث التمدد، ولا يوجد عامل آخر ينافسه في هذا الاقتران، بمعنى ان غيره قد يقترن وجوده مع تمدد بعض المعادن ويغيب مع البعض الاخر، فذلك يعطي مبرراً مقبولاً لاعتبار الحرارة العامل الذي باستطاعته تفسير ظاهرة التمدد لأنواع المعادن. فتكون الحرارة هي العامل المنتزع والجدير بتفسير تلك الظواهر.
ويدخل ضمن هذا الإطار محاولة اينشتاين أن ينتزع من قوانين الفيزياء الثلاثة (الجاذبية والكهربائية والمغناطيسية) قانوناً عاماً يمكن به تفسير الظواهر الكونية الثلاث المشار اليها. فكل قانون من تلك القوانين يعبر ذات التعبير الذي يعبر عنه غيره، سوى وجود ثابت مختلف لكل منها. اذ يعبر كل واحد منها عن حالة ضرب بين شيئين يعودان الى ظاهرة محددة من الظواهر الثلاث، ومن ثم ضرب ذلك بثابت خاص مقسوماً على مربع المسافة بينهما. ففي الجاذبية يكون الضرب بين كتلة الجسم الأول بكتلة الجسم الثاني. وفي الكهربائية يكون الضرب بين كمية الشحنة الأولى بالثانية. وفي المغناطيسية يكون الضرب بين قوة جذب او تنافر أحد القطبين بقوة الآخر. وبالتالي فالعملية لكل من تلك القوانين متشابهة، وهي حالة الضرب بين شيئين لاحدى الظواهر الثلاث، وكذا القسمة على مربع المسافة للشيئين، لكن الاختلاف يعود الى وجود عدد ثابت لكل منها يختلف عن الآخر، وهو ما أعجز اينشتاين أن يجد قانوناً منتزعاً من تلك القوانين الثلاثة ليفسر به الظواهر الفيزيائية.
وفي الفهم الديني - كما في النص القرآني - يلاحظ ان تفسير سلوك الانبياء وفقاً لمبدأ نفي العصمة المطلقة هو ارجح من الاعتماد على هذه العصمة، اذ يمكن انتزاع المعنى الاول بسهولة من الآيات القرآنية، لأنها تشير الى معنى مشترك، في حين أنها لا تدل على المعنى المشترك في حالة افتراض العصمة المطلقة، اذ تحتاج في هذه الحالة الى مختلف أنواع التأويل والتوجيه الى الحد الذي تصبح فيه العلاقة بين ظواهر الآيات معبّرة عن علاقة صدفوية، وهو ما لا يحدث مع حالة انتزاع المعنى الأول.
وللمقارنة بين هذا المنهج والمنهج الافتراضي، يلاحظ انه لا يوجد في هذا المنهج اسقاط مثلما لاحظناه في المنهج الافتراضي الذي يصعب قبوله لتفسير الظواهر المختلفة. كذلك فان النتائج المترتبة على المنهج الانتزاعي تعاكس النتائج المترتبة على المنهج الافتراضي. ففي المنهج الانتزاعي تكون المقدمات كثيرة لاستخلاص نتائج قليلة، هي عبارة عن المبدأ العام الذي يفسر المقدمات، ويتصف بقوة وثوقه وقيمته الاحتمالية إن لم يتحقق فيه القطع، في حين تكون النتائج في المنهج الافتراضي كثيرة بفعل القياسات والاسقاطات من خلال مقدمات قليلة متمثلة بالمبدأ المنتزع من الظاهرة المختبرة. لهذا تكون النتائج - في هذه الحالة - غير موثوقة ولا قوية من الناحية الاحتمالية. يضاف الى أنه بحسب المنهج الانتزاعي لا تتعدى النتيجة تفسير الظواهر المنظورة او المختبرة بلا تعميم. في حين تتعدى النتيجة في المنهج الافتراضي الظاهرة المختبرة، وبذلك يحصل التعميم والتطبيق في ما لم يخضع للاختبار والفحص.
كذلك فإنه اذا كان من المفترض بحسب المنهج الافتراضي ان تكون الظاهرة او القضية المختبرة قطعية او انها ترد الى ما هو قطعي، فان هذا القيد لا يشترط في المنهج الانتزاعي. اذ لو كانت المقدمات المعتمدة في المنهج الافتراضي غير ثابتة الصحة؛ فسوف لا يسفر التعميم القائم عليها عن نتائج صحيحة. في حين لا يشترط في المنهج الانتزاعي تحقيق حالات القطع للظواهر والقضايا المختبرة، فلا يشترط القضاء على الاحتمالات المقابلة لكل ظاهرة او قضية، بل يكفي أن يتحقق في القضايا المختلفة وجود محور مشترك قادر على تفسير جميع القضايا باتساق عوض اتخاذ مبادئ متعددة تتفرق في تفسير القضايا، لأن اتخاذ هذه المبادئ يفضي الى اعتبار ما وجدناه من معنى مشترك عام بين القضايا قد جاء صدفة، وهو أمر غير مقبول مقارنة مع التعويل على المحور المشترك. وعندما تترجح القيمة الاحتمالية لكل قضية من القضايا المختبرة باتجاه محور محدد؛ فان ذلك يساعد أكثر فأكثر على زيادة القيمة الاحتمالية لهذا المحور. وبذلك يتحقق انتزاع هذا المحور كمبدأ عام كفيل بتفسير تلك القضايا. واذا كان غرض الانتزاع هو اثبات معنى محدد ينطبق ولو على قضية واحدة على الأقل دون تعيين، فان ذلك يجعل من القيمة الاحتمالية للمبدأ المنتزع أعظم من أي قوة احتمالية لأي قضية من القضايا المختبرة. وقد يبلغ المبدأ المنتزع درجة القطع واليقين، رغم ان كل قضية من تلك القضايا قد لا تكون قطعية ويقينة.
كما اذا كان الشرط في المبدأ المنتزع هو الاكتفاء باثبات موجبة جزئية واحدة على الأقل، فإن اكتشاف خطأ في بعض القضايا التي اعتمد عليها المبدأ، وإن كان يؤثر على القوة المعرفية للمبدأ ويضعّف منها، لكن ذلك قد لا يؤثر على صحته؛ إن كانت الشواهد الدالة عليه كبيرة. إذ يكفي ان يكون المبدأ صحيحاً اذا ما ثبت على نحو القطع بأن احدى القضايا او الظواهر صحيحة تماماً، ومع انه قد لا تثبت صحة أي قضية من هذه القضايا اذا ما أُخذت بمعزل عن بعضها البعض، لكن بحسب الطريقة الاستقرائية والمنطق الاحتمالي فانه يمكن ان تثبت صحة واحدة منها على الأقل بنحو مجمل، أي دون معرفة أي منها على وجه التحديد.
وقد تحصل حالات من الشذوذ عن المبدأ المنتزع، ومع ذلك لا يضحى بهذا المبدأ؛ إن لم يكن في البين ما هو أفضل وأقوى منه. وهو يقترب من المعنى الذي أكد عليه الشاطبي في دفاعه عن الأصول المطردة العامة واعتبار ما يخالفها مما جاء في ظواهر النصوص بانها من المتشابهات، ذلك لأن الأصول علمت بالاستقراء على نحو قطعي بخلاف المخالف الخاص الذي دليله ظني فلا يعارض ما هو قطعي. فكما يقول الشاطبي: “فان الشريعة اذا كان فيها اصل مطرد في اكثرها مقرر واضح في معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد فذلك من المعدود في المتشابهات التي يتقى اتباعها، لان اتباعها مفضٍ الى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة، فاذا اعتمد على الأصول وارجئ امر النوادر، ووكلت الى عالمها او ردت الى اصولها، فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه< .
كما إنه اذا كان من المفترض في المنهج الافتراضي أن يمارس الفحص والاختبار العميقين، للظاهرة او القضية التي يعتمد عليها في التعميم، فان الأمر في المنهج الانتزاعي مختلف، اذ قد يمارس العمل بنوع من الحدس بحيث لا يحتاج الباحث ان يتوقف كثيراً عند كل ظاهرة يراد اختبارها، بل يكفي ان يكون لهذه الظواهر نوع من الشهادات الدالة على امكانية انتزاع مبدأ عام قابل لتفسير كل منها باتساق. وكل ذلك يعتمد على قوة دلالة هذه الشهادات والاختبارات. وبالتالي فالاختلاف بين المنهجين هو ان المنهج الافتراضي يمارس دور الاختبار الرأسي او العمودي للظاهرة او القضية، في حين يمارس المنهج الانتزاعي دور الاختبار الأُفقي للظواهر والقضايا.
3ـ المنهج التكاملي
يستند هذا المنهج الى الجمع بين المنهجين الانفي الذكر، على ان يكون المنهج الانتزاعي أساساً يستند اليه ومن ثم يقام عليه السلوك الافتراضي. ففي هذا المنهج انه يتم التعميم استناداً الى المبدأ المنتزع الذي ينجح في تفسير الظواهر الملحوظة او المختبرة، لذلك تكون الدرجة الاحتمالية التي يحضاها هذا المنهج أقل من تلك التي يتمتع بها المنهج الانتزاعي، فحتى لو افترضنا طبقاً للمنهج الانتزاعي انه يحضى بقيمة قطعية في تفسير الظواهر المختبرة، الا ان ذلك لا يدعو الى افتراض نفس القيمة مع المنهج التكاملي الذي يبني قضايا التعميم على الظواهر غير المختبرة. لكن من الممكن رفع القيمة الاحتمالية كلما وجدت ظواهر جديدة تتفق ومنطق التعميم. فمثلاً ان قانون الجاذبية قد كسب قوة احتمالية أكبر للتفسير عندما شوهد ان بعض الظواهر الجديدة تتفق معه.
إذاً فمن غير المقبول ان يعمم المبدأ على الحالات غير المختبرة ما لم يتم ذلك بانتزاعه من ظواهر عديدة مختلفة تؤهله لحالة التعميم، وكلما كانت المساحة المنتزع منها المبدأ أكبر كلما زادت القوة الاحتمالية للتعميم. فهو أمر يعاكس ما عليه المنهج الاول الذي يقفز من تعليل الظاهرة المحددة الى التعميم، كما انه لا يتوقف عند حدود حالة الانتزاع وتفسير الظواهر المختبرة تفسيراً مشتركاً، وانما يسعى نحو مد الجسور الى الحالات غير الخاضعة للاختبار، وهنا تتنافس النظريات في التفسير، وتكون موضعاً للاختبار والمحك، فكل ظاهرة جديدة إما أن تعمل على دعم النظرية او المبدأ المعمم، او انها تؤدي الى اضعافه. لكن ذلك لا يفضي بالضرورة الى تخطئة المبدأ وتركه عند لحاظ الشذوذ، فقد تكون هناك اسباب للشذوذ لا علاقة لها بخطأ المبدأ، مثلما لوحظ الأمر في قانون الجاذبية ابتداءاً، فقد لاحظ العلماء ان هذا القانون لا ينطبق على بعض الظواهر الا مع افتراض وجود ظاهرة أُخرى جديدة تعد محكاً لاختبار القانون. وفعلاً ان الشذوذ الذي شوهد لم يكن شذوذاً بل محكوماً بفعل ظاهرة جديدة يتسق فعلها مع مبدأ الجاذبية، وهو ما زاد من قيمتها التفسيرية. هكذا كان الأمر مع اكتشاف كوكب نبتون الذي سبّب حالة ما وصف بالشذوذ في حركة مدار يورانوس. بل وتم اكتشاف كوكب آخر تبعاً لما لوحظ من وجود انحراف في مدار الكوكب المكتشف، حيث اطلق عليه (بلوتو) .
ومن النماذج على هذا المنهج في الفهم الديني تعميم قاعدة المصالح (الدنيوية) في الأحكام الشرعية القطعية، كما في الأحكام القرآنية. اذ نلاحظ أن الكثير من هذه الأحكام تشير صراحة الى مقاصد تتمثل بمصلحة الانسان الدنيوية، وعليها قد نعمم هذه المصلحة على سائر الأحكام المنصوص فيها، رغم أن بعضها لا يشير الى اي مصلحة من ذلك القبيل، وهي المعبّر عنها بالأحكام التعبدية. لكن كلما اكتشفنا ظهور مصلحة ما في هذه الأحكام - كإن تكون المصلحة طبية مثلاً -، كلما زاد من القيمة المعرفية لتلك القاعدة.
د ـ مستنبطات الفهم
لمستنبطات الفهم خمسة اصناف تتولد عند اجراء عملية الفهم، هي: الحقائق والقواعد والنظريات والقوانين وتلك التي لها علاقة بـ «الاخر». وتعد هذه المستنبطات من البعديات لا القبليات، اي انها نتاج الفهم وليست سابقة له كما هو الحال مع القوانين والسنن والقواعد القبلية. ويمكن تسليط الضوء عليها كما يلي:
1ـ الحقائق المستنبطة
والمقصود بها تلك المعارف التي تستنبط من النص، وتكون معلومة دون ادنى شك، لذلك اطلقنا عليها (الحقائق المستنبطة). ولا يعني لفظ الحقيقة هنا الكشف عن الواقع الموضوعي، بل كل ما يعنيه هو العلم بمعنى النص دون شك. وهي على شكلين: حقائق كلية، مثل حقيقة التكليف، وحقائق جزئية، كحقيقة انه لم يُذكر في القرآن من اسماء اصحاب النبي سوى زيد، كما لم يُذكر فيه اسم شخص في حياة النبي قد توعده الله بالنار غير ابي لهب... الخ.
2ـ القواعد المستنبطة
وتتصف بكونها موضع اعتماد في التوليد، وميزتها انها موضع اتفاق لدى المنتمين الى الاصل المولد الذي يتبنونه، كما انها منتزعة من النص، وبذلك انها تختلف عن قواعد الفهم التي مرت معنا. وهي تختلف عن النظريات التي صفتها انها ليست موضع اتفاق، فمثلاً نعدّ القياس من النظريات لا القواعد، باعتباره ليس مورد اتفاق بين العلماء الذين يدينون الى قاعدة الفهم العرفي كأصل مولد. ومن القواعد المتفق عليها: قاعدة لا ضرر ولا ضرار، الحاجة تنزل منزلة الضرورة، المشقة توجب التخفيف، دفع الضرر الاعظم عند التعارض واجب... الخ.
3ـ النظريات المستنبطة
تتميز النظريات المستنبطة عن نظريات الفهم وقواعده بأنها مستنبطة من النص وليست سابقة عليه، فهي بالتالي من البعديات لا القبليات. وتتباين فيما بينها من حيث السعة والضيق والاعتماد والتأثير والتعارض والاستقلال. ويمكن تصنيفها بحسب علاقاتها مع بعض الى خمسة اصناف؛ فقد تكون علاقاتها قائمة على الاعتماد او التأثير او التعارض او الاستيعاب او الاستقلال. وهي بالتالي كالتالي:
أـ نظريات الاعتماد:
ذلك ان الكثير من النظريات تستند الى نظرية أعلى منها درجة، لولاها ما قامت لتلك النظريات قائمة. وقد تضيق دائرة الاعتماد مثلما قد تتسع. ومن ذلك نظرية القياس، حيث يتوقف عليها الكثير من النتاج الفقهي لدى اغلب المذاهب السنية. وكذا نظرية الإمامة لدى الشيعة، اذ تعتمد عليها الكثير من النظريات العقائدية والفقهية، وتتوجه تبعاً لها دون عكس. فالعلاقة بينهما هي علاقة بيان بمتشابه. فمثلاً لدى الإمامية أن تفسير قضية فدك يتبع ما عليه البيان في نظرية الإمامة، ولولا ذلك لكان للمسألة بعد آخر مختلف. فلو أن الباحث الإمامي كان يحسن الظن بالخليفة الأول وأنه لم يعارض نصاً الهياً في الخلافة لأمكن توجيه منعه تسليم فدك الى فاطمة الزهراء تبعاً للحديث الذي نقله عن النبي (ص)، كما في صحيح البخاري ومسلم . وبالتالي فإنه يفسر هذه القضية تبعاً لمسألة الموقف من الإمامة. فلديه أن الإمامة أصل بيّن يوجّه على أساسه سائر القضايا الدينية الأخرى، فتكون هذه القضايا بمثابة المتشابه التي تحتاج الى بيان ذلك الأصل.
ويمكن القول بأن نظريات الاعتماد تلعب دوراً في التوليد المعرفي مثلما تلعبه القبليات او الأصول المولدة. ولولا انها مستنتجة عن الفهم لكانت بموضع تلك الأصول، وذلك لكثرة ما يعتمد عليها في التوليد والتوجيه.
ب ـ نظريات التأثير:
ذلك ان بعض النظريات تتصف بكونها ذات اثر ملحوظ على غيرها من النظريات وإن لم يصل مداه الى حد الاعتماد التام. وقد تضيق دائرة التأثير كما قد تتسع. كما قد تتحول مثل هذه النظريات الى نماذج معرفية يستند اليها في سائر النظريات. وابرز مثال عليها نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي تتأثر بها الكثير من النظريات في الوسط الشيعي؛ كنظرية المصلحة والخمس والانفال وغيرها.
والفارق بين النظريات الاعتمادية والنظريات التأثيرية، هو ان الاولى تعد اساس غيرها من النظريات، بحيث لولاها ما كان لغيرها من اثر، في حين ان الثانية لا تعد اساساً لغيرها، لكنها تؤثر عليها بعض التأثير. وبالتالي يصدق القول بان النظريات الاعتمادية قد تكون الاصل في وجود النظريات التأثيرية من غير عكس. فمثلاً ان نظرية الامامة، وهي من النظريات الاعتمادية، تعد اساس نظرية ولاية الفقيه المطلقة، رغم ان هذه الأخيرة هي من النظريات التأثيرية.
ج ـ نظريات التعارض:
ذلك ان بعض النظريات قد تتعارض فيما بينها، وتكون متكافئة او غير متكافئة فيترجح بعضها على البعض الاخر، وقد يكون الترجيح بنظر بعض المذاهب دون البعض الاخر. او يكون بحسب ما عليه الأصول المولدة، كما قد يكون ذلك ضمن الاصل المولد المتبنى، فتحصل الحالات التي ذكرناها من التكافؤ والترجيح.
فمن حالات التكافؤ - مثلاً - ما ظهر من تفسير لعلة ولاية البكر الصغيرة في التزويج، اذ رأى الحنفية ان المناسب في تعليل الولاية هو الصغر، بينما رأى الشافعية انه البكارة . وهو شبيه بما تتنافس به النظريات العلمية في العلوم الطبيعية.
والسؤال الذي يطرح بهذا الصدد هو: هل يمكن ترجيح نظرية على أُخرى من خلال مبدأي التأييد والتكذيب كما هو مزاول في العلوم الطبيعية؟
وقد يستبدل السؤال بصيغة أُخرى كالتالي: هل يمكن ممارسة عملية الفهم من خلال التأييد والتكذيب؟ فهل يمكننا ان نطلق على نظرية من نظريات الفهم بانها تحظى بدرجة تأييد عالية، او على العكس انها تحظى بدرجة تكذيب عالية عند وجود شاهد معين يعمل على تكذيبها؟
ربما تكون مسألة الخلافة هي ابرز ما يصدق عليها ذلك. علماً ان من يتعلق باهداب الفهم الظاهري للنص لا يعني بالضرورة انه يحظى بالتأييد، ذلك ان الأمر يعتمد على ما يرد في النصوص الأُخرى، فقد يكون للظهور نوع من التعارض والاختلاف، كما قد يبطل الظهور بفعل نصوص أُخرى مؤثرة. واعظم شاهد على ذلك الخلاف الحاصل حول النصوص المتعلقة بالصفات الالهية كما وردت في القرآن الكريم. فما يبدو للبعض تأييد بفعل النصوص الأُخرى ، يبدو للبعض الاخر تكذيب من جهة النصوص ذاتها، مع انها هي هي. كذلك مثلما يبدو للبعض ظهور، يبدو للبعض الاخر خلافه.
د ـ نظريات الاستيعاب:
ذلك ان لبعض النظريات قابلية على استيعاب غيرها، وإن لم تكن اساساً في ايجادها. فمثلاً يمكن لنظرية الطوفي في المصلحة ان تستوعب كل ما ظهر في تراثنا المعرفي الاسلامي من نظريات متعلقة بالمقاصد والمصالح، كنظرية الاستصلاح والاستحسان وغيرهما.
هـ ـ نظريات الاستقلال:
ذلك ان بعض النظريات لا ترتبط بالبعض الاخر حسب العلاقات السابقة نسبياً. فقد لا ترتبط ببعضها طبقاً لعلاقة الاعتماد، او التأثير، او التعارض، او الاستيعاب، انما لها خاصية الحياد والاستقلال النسبي. بمعنى انه لا بد ان يكون لها ارتباط ما ببعض النظريات، مثلما لا بد ان تكون مستقلة بالنسبة الى البعض الاخر. لذلك فان حقيقتها ليست مستقلة، فهي لا بد ان تندرج ضمن الاصناف الاربعة السابقة.
***
هذه هي اصناف النظريات المستنبطة. علماً انه قد يحصل الخلاف احياناً حول علاقة بعضها بالبعض الاخر؛ إن كانت قائمة على التأثير او الاعتماد او الاستيعاب او الاستقلال؟ فمن ذلك علاقة ولاية الفقيه المطلقة بالمصلحة، اذ قد يرى البعض ان ولاية الفقيه تستوعبها، فيما يراها اخر مستقلة او متأثرة بتلك الولاية. وكذا علاقة القياس بالمصلحة ايضاً، من حيث رد هذه الأخيرة اليه بالاعتماد كالذي يراه الحنابلة، خلافاً لغيرهم من المذاهب، او القول بان القياس يستوعبها. ومثل ذلك علاقة المصلحة بالاستحسان، حيث يرى البعض ان الاولى تستوعب الثانية دون حاجة لافرادها مستقلة.
وقد جرى مثل هذا الأمر في العلوم الطبيعية، اذ طرح السؤال حول ما اذا كانت نظرية النسبية لاينشتاين قد استوعبت نظرية نيوتن في الجاذبية، ام انها مغايرة لها في المقاييس والمفاهيم؟ ويعد (توماس كون) من القلائل الذين ذهبوا الى انها مغايرة كما في كتابه (بنية الثورات العلمية) . لكن ذلك يطرح علينا سؤالاً حول اختلافنا نحن المعاصرون مع القدماء، فهل هو اختلاف في المقاييس والمفاهيم، او ان فيه علامات استيعاب؟ فكما يقال حول نظرية نيوتن انها تنجح في تفسير بعض الظواهر وتفشل في تفسير أُخرى يمكن للنسبية تفسيرها، هل يقال الشيء نفسه فيما قدّمه القدماء من تفسير للنص واظهرت الوقائع الحديثة ان تفسيرهم لم ينجح، خلافاً لما مال اليه المعاصرون؛ فهل يعد ذلك من اختلاف المقاييس ام الاستيعاب؟
4ـ القوانين المستنبطة
للنص قوانين غير تلك التي تحدثنا عنها سابقاً واطلقنا عليها قوانين الفهم، فهي مستنبطة من النص وليست سابقة عليه ولا متحكمة في فهمه. ولا يراد من هذه القوانين الكشف عن الواقع، بل يقصد بها العلاقات الثابتة التي تربط خصائص النص ومضامينه بعضها بالبعض الاخر، فهي تكشف عن صفة ثابتة لمصاديق مختلفة يمكن ربطها في قضية واحدة.
على ذلك فان ما يميز القانون المستنبط عن غيره من المستنبطات هو انه يتصف بوجود جامع مشترك عام يربط بين فئة للنص تتضمن حالات مختلفة وبين خاصية محددة تنطبق على جميع هذه الحالات. مما يعني ان العلاقة التي تربط حالة فردية بخاصية محددة ثابتة هي علاقة لا تمت الى القانون بصلة. اذ يشترط في القانون المستنبط توفر شرطين، هما: تعدد الحالات، ووجود خاصية مشتركة ثابتة تجمع بين هذه الحالات لتردها الى قضية واحدة.
ويمكن تقسيم قوانين الفهم المستنبطة الى نوعين: بسيطة ومثمرة، شبيه بما يجري في القوانين المنتزعة من الطبيعة والمجتمع.
فالقانون العلمي له خاصية جوهرية، وهو انه يعبر عن قضية واحدة تعمل على ايجاد صلة وارتباط بين ظواهر تجريبية مختلفة . مما يعني ان اضطراد ظاهرة مفردة لا يعد قانوناً الا بالمعنى البسيط، فكون النار تحرق، والحديد يتمدد بالحرارة، ليس قانوناً الا بالمعنى المشار اليه.
وبحسب الاستاذ (برود) فان هناك نوعين من القوانين الخاصة بالسببية، احدهما بسيط غير ناضج والاخر اكثر فائدة. فالاول يثبت العلاقة بين الصفات القابلة للتحديد فقط، كتقرير انه لو حصل كذا من الصفات فانه سيتولد كذا من الصفات الأُخرى ، فارتفاع الحرارة مثلاً يسبب امتداد الاجسام المعدنية. أما النوع الاخر فانه لا يعمل على تحديد الصفات، بل على تحديد المقادير التي يمكن حسابها نتيجة التغير في التأثير، مثل قانون الغازات والضغط الجوي وعلاقة المادة بالطاقة وغيرها. وتكون القوانين في المراحل الاولى لكل علم من النوع الاول البسيط دون الثاني. وفي العديد من العلوم لا تتعدى هذه القوانين حدود النوع الاول، كعلم البايولوجيا وعلم النفس. لكن يبقى هدف كل علم هو التقدم من قوانين النوع الاول الى الثاني .
ويلاحظ ان اكتشاف القوانين من النوع الثاني يتطلب جهداً متواصلاً، بحيث لا يوجد قانون تم التعرف عليه دون اقامة العديد من التجارب المتواصلة. في حين لا يحصل ذلك دائماً مع قوانين النوع الاول، حتى ان الكثير منها قد يعرف عبر الملاحظة البسيطة، او تبعاً للخبرة العامة.
وكمثال على الجهد الذي يصادف اكتشاف القانون من النوع الثاني ما حصل بخصوص قانون الضغط الجوي. فقد لاحظ العالم تورشلي Torricelli ان رفع الماء بالانابيب من باطن الارض لا يتعدى (34) قدم، وقد احتمل في البداية ان ذلك يعود الى ما يضغطه الهواء على الماء فيدخل في الانبوب ومن ثم يرتفع الى اعلى. ولاجل اختبار الفرض السابق اقام هذا العالم تجربة على الزئبق الذي يزيد ثقله على الماء بـ (14) مرة. فلو صح الفرض السابق لكان ضغط الهواء يقوم بدفع الزئبق في مثل ذلك المكان الى ارتفاع مقداره (34-14) قدم. لذا قام بغمس انبوب زجاجي مغلق من احد جانبيه ومفرغ من الهواء في حوض الزئبق، فلاحظ ان المقدار المفترض كان صحيحاً.
واعتماداً على هذا الافتراض قام كل من باسكال وبرير Perier باستنتاج نتيجة أُخرى جديدة، والعمل على حسم التجربة، وهو انه لو كان الضغط الجوي السبب في التأثير؛ فان ذلك يجعل من المناطق المرتفعة قليلة الضغط لقلة الهواء، خلافاً للمناطق المنخفضة حيث تكون كثيرة الضغط لكثرة الهواء، كما هو الحال في الماء، اذ كلما توغلنا في عمقه زاد الضغط لكثرة الماء، والعكس بالعكس. وقد تم التحقيق من صحة هذا الفرض، اذ وضع برير انبوب الزئبق (البارامتر) في اعلى قمة جبل، وقارن ما سجله هذا الانبوب بما ظهر تحت سفح الجبل، فوجد اختلافاً في تسجيل عمود الزئبق، حيث ظهر على العمود ثلاث انجات اكثر لدى اسفل الجبل مقارنة بالقمة .
ويلاحظ ان هناك نوعاً من القوانين العلمية يمكن ان يكون وسطاً بين النوعين الاول والثاني، وذلك مثل قانون دوركايم في الانتحار الاناني، فهو غير قائم على المقادير الدقيقة، وبالتالي لا يمكن ضمه ضمن القانون الثاني، كما انه يختلف عن النوع الاول باعتباره اكثر تطوراً منه.
وعلى تلك الشاكلة تنقسم القوانين المستنبطة في الفهم الديني الى قوانين بسيطة وأُخرى مثمرة. وتتميز هذه الأخيرة عن الاولى بشرطين كالتالي:
الاول: ان البحث في العلاقة الترابطية بين فئة النص وبين الخاصية المشتركة الثابتة ينبغي ان تكون غير محتملة او متوقعة سلفاً، لذا تحتاج الى نوع من الفحص والتقصي للكشف عن ثبات هذه العلاقة.
الثاني: ان تتضمن فئة النص تعدداً كبيراً في حالاتها المختلفة. فتكرر الحالة الواحدة ذات المصاديق المتماثلة يفقدها صفة القانون المثمر، وان اعتبرت داخلة ضمن القانون البسيط.
فمثلاً ان ايجاد تناسب عددي في تكرر لفظي الدنيا والاخرة، وكذا بعض الألفاظ الأُخرى ، يجعل العلاقة بين هذه الألفاظ او أعدادها علاقة محدودة. لكن لو تجمع عدد كبير من الحالات التي تتناسب عددياً بنفس الشاكلة وشرط ان يجمعها جامع مشترك، فان ذلك يخولها للدخول ضمن القانون المثمر.
وقد يقال ان هذا الشرط يجزي عن الاول، اذ فيه يتحقق الفحص والتقصي كما يشترطه الشرط الاول.
وهو امر صحيح، لكن مع ذلك لا غنى عن الشرط الاول؛ باعتباره يشترط ايضاً ان تكون العلاقة الترابطية بين الفئة وبين الخاصية المشتركة غير محتملة سلفاً. اذ في حالات معينة يمكننا توفير الشرط الثاني رغم ان النتيجة لا تعبر عن القانون المثمر، لأن العلاقة الترابطية المذكورة محتملة بدرجة معقولة. فمثلاً لو توصلنا بالبحث والتقصي الى امكانية تقسيم أحرف القرآن كله على العدد (2)، او أحرف السور المكية او المدنية على العدد نفسه... الخ، فان ذلك لا يجعل النتيجة ضمن القانون المثمر، باعتبار انها محتملة بدرجة معقولة سلفاً.
هكذا فان صفة القانون المستنبط تتعلق جوهراً بالقوانين المثمرة دون البسيطة. مع هذا فسنستعرض انواعاً من قوانين الصنفين كما يلي:
القوانين البسيطة:
وهي قوانين تمتاز بوجود صفات ثابتة للحالات التي تعود اليها، لكنها تفتقر الى واحد او كلا الشرطين المشار اليهما سلفاً. فمن ذلك القانون الخاص بالحروف المقطعة في القرآن، حيث انها ترد في أوائل السور فقط دون ان نجد لها ذكراً في اماكن أُخرى كأواسط السور او نهاياتها. ومن ذلك ايضاً القانون الخاص بشكل الخطاب الذي يخاطب به العباد ربهم. فهو خطاب ودعاء يأتي على الدوام بصيغة المفرد لا الجمع؛ كصيغ (ربي، ربنا، أرني، خلقتني..)، خلافاً لخطاب الرب عن ذاته، حيث تارة يأتي بصيغة المفرد؛ كقوله تعالى: ((قال ربّك هو عليّ هيّن وقد خلقتك من قبل)) مريم/9، وأُخرى بصيغة الجمع؛ كقوله تعالى: ((نحن خلقناكم فلولا تصدّقون)) الواقعة/57.
ويدخل ضمن هذا الاطار القول بان كل سورة فيها (كلا) هي مكية. وهناك حالات أُخرى تحمل استثناءات تجعلها لا تتأطر بالقانون، مثل ان كل سورة فيها قصة ادم وابليس فهي مكية، باستثناء سورة البقرة. وكذا كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية، باستثناء سورة العنكبوت.
كما يدخل ضمن هذا الاطار ما يرد من قضايا اخلاقية، فالقرآن الكريم مشحون بذكرها، ولها صفة عامة مشتركة يؤكد عليها القرآن، وهي انها تتجاوز حدود العرق واللون والجماعة والدين وما الى ذلك، كما يؤكد بأن لها مترتبات تتعلق بتطور المجتمعات وانقراضها، فالظلم الذي تمارسه الامم يعرضها الى الهلاك والفناء كعقوبة الهية.
ويقع القانون الاخلاقي بالنسبة الى الدين كموقع مبدأ السببية بالنسبة للعلم. فبدون هذا المبدأ لا تقوم للعلم قائمة، وكذا ان بدون القانون الاخلاقي لا تقوم للدين قائمة. لذلك نتوقع ان ما يرد في الدين من قضايا اخلاقية؛ يتصف بصفات الاتساق والتجرد والقيم المطلقة. وقد ألّف البعض دراسة بهذا الخصوص من القانون الاخلاقي القرآني، كما هو الحال مع محاولة عبد الله دراز في كتابه (دستور الاخلاق في القرآن).
القوانين المثمرة:
وهي قوانين تمتاز بفائدتها الجلية، وكونها يصعب انتزاعها من النص، انما هناك محاولات لذلك، نذكر منها على سبيل التمثيل ما يلي:
أـ قوانين تناسب الاعداد
وتبحث هذه القوانين عن تناسب الاعداد الخاصة بالحروف او الألفاظ او الجمل او السور وما اليها، كإن يكون البحث عن تناسب اعداد الألفاظ المتقابلة في القرآن، مثل لحاظ ما يذكر من عدد لفظ الدنيا بانه بقدر ما يذكر من عدد لفظ الاخرة. وهذا المذكور من التناسب يعد محدوداً لا يجمعه جامع مشترك عام. فلو ان ذلك ينطبق ايضاً على المتقابلات الأُخرى الواردة في جميع القرآن مثلاً، او المتقابلات التي تخص علاقات الواقع فقط، او المجتمع، او غير ذلك، فانها ستكون مثمرة ولها دلالة اعجازية.
ب ـ قوانين القسمة العددية
وتبحث هذه القوانين عن الامكانية المشتركة لتقسيم الاعداد الخاصة بالحروف او الألفاظ او غيرها من موارد النص القرآني على عدد محدد، كإن يتم تقسيم حروف اي سورة من سور النص القرآني على عدد مفترض. ومن الطبيعي انه كلما كان العدد المقسم عليه صعباً؛ كلما اثبت القانون ثمرته بشكل اعظم. ففارق بين ان تنقسم حروف كل سورة على العدد 2، وان تنقسم على العدد 19 مثلاً، اذ الحالة الثانية مستبعدة مقارنة مع الحالة الاولى. وعليه لو ان حروف السور تنقسم فعلاً على العدد الأخير لكان ذلك من الاعجاز، ولجعلنا نتوقع وراء هذا العدد سراً ما نجهله، خلافاً لما يحصل في الحالة الاولى. ومع ان هناك من اظهر ان عدداً من السور يقبل القسمة على العدد المذكور، لكن ذلك لا يجعله يتخذ صفة القانون، باعتباره لا يشمل كافة السور، او على الاقل سوراً تمتاز بخاصية مشتركة، كإن تكون السور المكية او المدنية او الطوال او غير ذلك من الخصائص العامة.
ج ـ قوانين التمييز بين السور
واشهرها التمييز بين السور المكية والمدنية، كالتمييز القائم طبقاً لصفتي قصر السورة وطولها، حيث تدل قصار السور على انها مكية، خلافاً لطوال السور الدالة على انها مدنية. لكن هذا التمييز لا يصل الى حد القانون، فهناك سور طوال وهي مكية؛ كسورة الانعام والاعراف ويونس وهود ويوسف وغيرها، وفي المقابل هناك سور قصار وهي مدنية؛ كسورة النصر والزلزلة والبينة وغيرها.
كما قد يكون التمييز طبقاً لمضمون السورة، فالسور التي تقتصر على الانذار وخبر القرون الماضية وذكر العقيدة والدعوة دون الاحكام الشرعية والعلاقات المدنية والحدود والفرائض؛ هي مكية، خلافاً للسور التي تسترسل بذكر الاحكام وتلك العلاقات، حيث تدل على كونها مدنية.
وهذا التمييز لا يصل بدوره الى مرتبة القانون، لأن من السور المكية ما جاء فيها الاحكام الشرعية. كذلك العكس، حيث هناك سور مدنية تقتصر على قضايا العقيدة دون الاحكام والفرائض، كسورة الزلزلة والانسان وغيرهما.
وقد يكون التمييز طبقاً لورود بعض الجمل، فالسور التي فيها (يا أيّها النّاس) هي مكية، اما السور التي فيها (يا أيّها الّذين آمنوا) فهي مدنية.
لكن الملاحظ ان آية ((يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم)) وآية ((يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض))، كلاهما من سورة البقرة وهي مدنية. وكذا ان آية ((يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم)) ومثلها آية ((إن يشأ يذهبكم أيّها النّاس))، وهما من سورة النساء وهي مدنية. كما ان آية ((يا أيّها الّذين آمنوا اركعوا واسجدوا)) من سورة الحج وهي مكية .
وقد تناقش بعض الأمثلة التي ذكرناها بأنها أقرب الى القوانين البسيطة منها الى القوانين المثمرة، سيما المثال الأخير. وهو أمر صحيح، فالمثال الأخير ينضم - فيما لو تمّ اطراده – تحت عنوان القوانين البسيطة، لكننا استرسلنا ذكره هنا بمناسبة الحديث عن التمييز بين السور المكية والمدنية.
د ـ قوانين الموضوعات
وهي تبحث عما اذا كانت هناك ثوابت عامة للموضوعات المعروضة في كل سورة، او في جملة من السور تشترك بخصوصية عامة، كالسور المدنية او المكية، او الطوال او القصار. فكما عرفنا بأن من ضمن التمييزات بين السور المكية والمدنية ما يتعلق بنوع الموضوعات، حيث السور التي تشتمل على موضوعات العقيدة والوعد والوعيد وخبر القرون الماضية هي مكية، خلافاً للسور المدنية التي تشتمل على موضوعات الاحكام والحدود والفرائض وما اليها. لكن عرفنا بأن هذا التمييز لا يصل الى حد القانون.
5ـ المستنبطات بالعلاقة مع «الاخر
ونقصد بها ما يستنبط من النص في علاقته بمصادر المعرفة الأُخرى ، كالعقل والواقع وغيرهما. فقد يكون الغرض من هذه المستنبطات المقارنة بينها وبين ما تبديه مصادر المعرفة الأُخرى ، او يكون الغرض منها الكشف عن مضامين «الاخر» او غير ذلك من الاغراض. وقد تتداخل المستنبطات مع مضامين «الاخر» فيكون النتاج نتاجاً مشتركاً. وابرز محاولات هذه المستنبطات ما يعرف بالتفاسير العلمية للقرآن.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القطيعة بين إبن سينا وأرسطو (قراءة في مشروع المفكر محمد عابد ...
- ابن رشد وعلاقة الفلسفة بالدين


المزيد.....




- اصطدم بعضهم بالسقف وارتمى آخرون في الممر.. شاهد ما حدث لأطفا ...
- أخفينها تحت ملابسهن.. كاميرا مراقبة ترصد نساء يسرقن متجرا بط ...
- عجل داخل متجر أسلحة في أمريكا.. شاهد رد فعل الزبائن
- الرئيس الإيراني لم يتطرق للضربة الإسرائيلية بخطاب الجمعة
- وزير خارجية بريدنيستروفيه: نحتاج إلى الدعم أكثر من أي وقت مض ...
- مخاوف على حياة 800 ألف سوداني.. تحذيرات من ظهور جبهة جديدة ب ...
- -الرهان على مستقبل جديد للشرق الأوسط بدون نتنياهو- – الغاردي ...
- العراق... ضحايا في قصف على قاعدة للجيش والحشد الشعبي
- جمهورية جديدة تعترف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية.. وا ...
- كوريا الجنوبية.. بيانات إحصائية تكشف ارتفاع نسبة الأسر المكو ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - الفهم الديني: سننه وقوانينه وقواعده ومستنبطاته