علي سالم
الحوار المتمدن-العدد: 3050 - 2010 / 7 / 1 - 15:13
المحور:
الادب والفن
قصة فرودة غريتّن : دبلن تحت المطر
كاتب من النرويج
دخل فرودة غريتّن المولود عام ١٩٦٠عالم القصة من بوابة الصحافة ، عندما نشر ديوانة الأول ، البداية ، ليتبعه بمجاميع من القصص القصيرة وروايتين وكتابين للأطفال . نشأ في مدينة أُدا الصناعية الصغيرة الواقعة على الساحل الغربي للنرويج ، والتي تشكل مسرح أحداث معظم كتاباتة . تتمتع شخصياتة بحس عميق من الفكاهة والعطف ، وتميل قصصة الى الفنطازية والسخرية . من رواياتة أغاني بوب ، وأغنية القفير . فاز ورشح لعدد من الجوائز الأدبية المهمة وترجمت أعمالة لعدة لغات .
FRODE GRYTTEN
ترجمة علي سالم
في اللحظة التي قررت فيها الإيواء الى السرير، رنّ التلفون . كنت قد رتبت البيت وأطفأت الأضوية في غرفة الإستقبال ، وتركت فقط التلفزيون مفتوحاً ليغسل الغرفة بوهج أزرق . التقطت التلفون بعد الرنة الأولى ، خشية أن تستيقظ العائلة .
لم أسمع صوتاً من الجانب الآخر ، سوى خشخشة التلفون وحفيف الريح الناعم .
قلت : نعم ، من يتكلم ؟
لاجواب . وخطر لي إنهم ربما كانوا لصوصاً ، يتصلون للتأكد من وجود أحد في البيت أم لا .
وسألت من هذا ؟
لكن لاجواب هذة المرة أيضاً . أخفظت صوت التلفزيون بالريموت . وخيل لي إني سمعت صوت أنفاس . كانت أنفاسا خافتة تصدر من فم قريب جداٌ من سماعة التلفون في الجانب الآخر . لكني كنت في شك من أمرها ، حقيقة هي أم خيال ، أم مجرد خشخشة في الخط .
قلت سأقفل الخط الآن ، ولبثت واقفة في مكاني .
أنتظرت وأذني متحفزة لسماع أقل نأمة . كان التلفزيون يعرض فيلما إعلانيا يصور نحلة تحط على زهرة ، ثم سيارة تسيرعبر أحد الصحارى و عارضة أزياء بشعر طويل أشقر تسير على منصة لعرض الأزياء . كانت جميع اللقطات تتحرك ببطء مع قطعات سريعة .
بدت لي مشاهدة الإعلان التلفزيوني دون صوت شيء يبعث على الأستغراب . لقد رأيت هذا الإعلان آلاف المرات وأعرف بالضبط ماذا سيقولون أويفعلون ، كنت أستطيع قراءة الكلمات على شفاههم رغم غياب الصوت .
قلت سأغلق الخط .
لكني عندما هممت بغلق الخط فعلاً سمعت صوتاً مألوفاً .
قال الصوت هذا أنا .
قلت ياآلهي لقد أخفتني . من أي مكان تتصل ؟
سألني ألا تستطيعين الكلام ؟
قلت بلى أستطيع . زوجي نائم . نوبة عملة في النهار وذهب لينام مبكراً . كنت أشاهد فيلماً في التلفزيون ، وأطالع صحيفة .
سألني كيف حالك ؟
كان يتحدث بصوت خفيض يشوبة الغموض ، وكأنة كان ينبعث من مكان سحيق .
قلت لاأدري ، كالعادة ، وأنت ؟
قال لاأدري ، كالعادة .
. وضحكنا
كيف كانت السفرة ؟
جيدة . جيدة جداً .
حل بيننا صمت ، لم يبددة أي منا . لكني كنت أسمع حفيف الريح وأتخيل نبضات الهاتف وهي تسري في الأسلاك عبر المسافات الممتدة من دبلن الى هنا .
أين تسكن ؟
في فندق يُدعى فنبار .
كيف تجدة ؟
مكب نفايات . مكب نفايات حقيقي . لو ترينة ستنكرية .
هل تطل نافذتك على منظر ؟
نعم .
قل لي ماذا ترى الآن ؟
أوة ... إنها دبلن القذرة العجوز . أمامي نهر ، وكذلك رصيف السفن . ومحطة كنغزبردج . وثمة عاشقان تحت مظلة . إنها تمطر . تمطر كما هو شأن سماء دبلن دائماً .
قلت أنا أحب الفنادق . إنها عامرة بالحياة .
لكني لا أعتقد إنك ستحبين هذ الفندق .
تخليتة في غرفة فندقة في دبلن ، يقف بجانب النافذة . وخيوط المطر تسيل على الزجاج . وفي الخارج تتنفس دبلن الغامضة ، بروائحها الغريبة ورنين أصواتها المختلفة . تمنيت أن أكون معة هناك ، لأمسك بيدة وأخرجة من غرفتة وأنزل بة الى ردهة الفندق ، ومنها الى المدينة ، الى دبلن الغافية تحت المطر .
قلت لقد أشتقت اليك .
لم يجب . وفي هذة اللحظة بدأ التلفزيون يعرض مسلسل جديد . مجموعة من سيارات الشرطة تطارد سيارة فورد فضية مهشمة النوافذ ومبعّجة .
ظل صامتاً .
قل شيئاً ، أرجوك ، لاتظل صامتاً هكذا ...
أجاب لاأدري ماأقول .
ثم سكت .
ند عن غرفة الأطفال صوت سعال . ثم سمعت جارنا الساكن فوقنا يجرجر قدمية على أرضية شقتة . وصوت سيارة في الشارع تبتعد مسرعة .
قال أخيراً أتعلمين ، عندما غادرتُ ذلك الصباح ، شممت رائحتك على يدي ...
جلست على الكرسي الموجود بجانب التلفون ، ونقلت السماعة من يسراي الى يمناي ، وتناهى الي صوت أنفاسي اللاهثة ، كان يحدثني عن سفرة في طائرة تغص برجال الأعمال ، وقال : عندما جلست كانت رائحتك تضوع من كفّي ، كل تفاصيلك ، شعرك ، عطرك ، جلدك ...
ثم أمسك عن الكلام . أردت أن أقول شيئاً ، أي شيء ، لكني لم أجد ماأقول .
قال مازلتِ هناك ؟
قلت نعم .
طوال الطريق المؤدي الى فندق فنبار ظلت رائحتك تفوح مني .
بلعت ريقي ، وسحبت نفساً عميقاً .
ثم نزلت الى المدينة ، وسرت تحت المطر . وشيئاً فشيئاً بدأت رائحتك تختفي .
سألتة والآن؟
الآن أستطيع فقط شم رائحة المطر ، رائحة الدخان ورائحة أكلة السمك والبطاطا .
قلت أفتقدك . أريدك أن تعود .
قال لن أعود . لاأستطيع .
كيف ذلك ؟
لقد فات الأوان .
حدقت بالتلفزيون ، ورحت أبدل القنوات بالريموت كمن في غيبوبة . على الشاشة رجل يقبل إمرأة ثم يطوق أحدهما الآخر ويختفيان في شارع ماطر كثيف
الضباب .
قال من الطرف الآخر لخط التلفون ليلة سعيدة .
قلت ليلة سعيدة .
لكن لم يجرؤ أي منا على غلق الخط . ومكثنا كل في مكانة ، مصغين لصفير الخط ، مصغين لصمتينا .
قلت لاتقفل السكة .
ثم أنقطع الإتصال .
لبثت جالسة في مكاني ، ولاحظت إن قلبي كان يدق بعنف ، وسمعت أحد ما يفتح صنبور ماء في الطابق الأعلى . كان بإمكاني سماع صوت الماء بوضوح حتى من مكاني هنا في الطابق الأرضي . نهضت لأطفيء التلفزيون ، وسمعت التلفون يرن للمرة الثانية .
رفعت السماعة .
قلت نعم .
وأجابني الصمت .
سألتة هل هذا أنت ياحبيبي .
لاجواب ، غير صفير الخط الأثيري نفسة .
قلت لاتقفل الخط هذة المرة ، أرجوك ، لاتقفلة ...
قال أردت فقط أن ... أنا ...
وأمسك عن الكلام .
ثم قال إذهبي الى النافذة .
سألتة ماذا؟
وكرر قولة : إذهبي الى النافذة . هل يسمح لك سلك التلفون بالحديث قرب النافذة ؟
سألتة لماذا ؟
فقط نفذي ماأقول ، هل السلك طويل ؟
قلت سأرى إن كان بوسعي فعل ذلك .
كان طول السلك يكفي للوقوف بجانب النافذة . فوقفت حاملة التلفون بيد والسماعة باليد الأخرى . ورأيت وجهي منعكساً على زجاج النافذة ، يغطية وهج التلفزيون الأزرق .
قال أفتحي أحد المصابيح . أريد أن أرى وجهك .
أين أنت ياعزيزي ؟
فقط إفعلي ماأقول . أضيئي المصباح . أريد أن أراك .
وأضئت أحد المصابيح الأرضية .
وسألتة أين أنت ؟
الآن أستطيع رؤيتك .
أين أنت ؟
في سيارة واقفة في المرآب .
قلت هذا غير ممكن . أنت تمزح .
قال لست مازحاً . أنا جالس في سيارة تقف خارج البناية . أستطيع الآن رؤيتك .
لاأصدقك أنت غير موجود هنا. أنت في فندق فنبار في دبلن .
عدت أمس . عدت لأراك . كدت أجن في فندق فنبار .
ثم حل الصمت .
بعدها قال أتدرين إني كنت أتبعك طوال اليوم .
غير معقول . لاأصدقك . أنت غير موجود هنا . غير موجود هنا .
قال لوحي لي بيدك .
حدقت في الظلام بقوة . لكني لم أرشيئاً غير أودا الغارقة في العتمة ، وأنوار مصابيح الشارع الصفراء ، ووجهي المنعكس على زجاج النافذة .
لكني لاحظت شبح رجل . ولم يكن ذلك الشبح سوى جارنا الذي خرج ليدخن وينظر الى السماء .
قلت أنت غير موجود هنا .
أنا هنا .
أثبت ذلك .
لقد ذهبت ِ اليوم الى طبيب الأسنان ، ثم الى مقهى دوموس .
قت آة ... ياآلهي ، ياآلهي، ياآلهي ...
رفعت لة يدي ولوحت .
قال أستطيع أن أراك تلوحين .
وواصلت يدي التلويح الى صورتة النابتة وسط العتمة .
قال أتعلمين بأن ذراعيك تلك تذكراني بالمطعم الذي شهد لقائنا الأول .
قلت نعم أذكر ، وكيف أنسى .
قال أتذكر الآن وهج شمس الخريف ، أتذكر كنزتك الصوفية ، تلك الرمادية ، القصيرة الأكمام ، هل تعرفينها ؟ لقد عشقت ذراعيك ، وهما يسترخيان على قماش الطاولة الأبيض ، ذراعيك الجميلتين المكسوتين بالزغب الناعم .
ملت برأسي نحو النافذة ، وشعرت ببرودة الزجاج على جبيني الساخن . كان بوسعي الوقوف على هذا النحو حتى الأغماء ، حتى السقوط والغياب في الهاوية .
أريني ذراعيك ، ياحبيبتي !
لم أدري ماأفعل . وضعت التلفون على حافة النافذة ، ورفعت ذراعي أمام نافذة الليل المعبأة بالصمت والظلمة ، ولبثت على تلك الحال لزمن لاأدري ماطولة .
وأخيراً أنزلت ذراعي ، والتقطت سماعة التلفون ثانية .
سألتة أين أنت؟ لاأستطيع رؤيتك .
لم يجب . أطفئت النور والتلفزيون ، وغرقت غرفة الإستقبال حالاً في الظلام ، رغم ذلك عجزت عن رؤيتة .
قلت أخرج من السيارة . أخرج من السيارة حتى أراك ياحبيبي .
لكنة لم يجب . وخشيت أن يغلق الخط ثانية . سمعت الأطفال يسعلون ، وصوت نبضاتي وهي تطرق بعنف داخل عروقي .
كدت أفقد توازني ، وسقطت سماعة التلفون من يدي ، وراحت تتدلى من حافة النافذة ، مهتزة كالرقاص جيئة وذهاباً في الفضاء المظلم . وظل صوتة يراودني وكأنة قادم من عمق سحيق .
كان يقول أخرجي وقابليني ، أخرجي وقابليني .
#علي_سالم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟