|
- بعضه سيدوم كالبلدان- للشاعر علي البزاز الكتابة تحت سطح الماء بثوانٍ معدودات
رحمن النجار
الحوار المتمدن-العدد: 3036 - 2010 / 6 / 16 - 22:44
المحور:
الادب والفن
" لسنا علينا ان نتخيل او نفترض، لكن علينا ان نكتشف ما الذي تصنعه الطبيعة او ما الذي هي مؤهلة لصنعه"... فرانسيس بيكون
ثمة شعر كثير ينال الجوائز والأوصاف، وثمة شعر حقيقي جائزته هي ذاته المحمومة، كما هو الحال مع الشاعر علي البزاز و منجزه الشعري الموسوم ب" بعضه سيدوم كالبلدان" والذي أي كتابهُ الشعري متغير، حتى لا يمكن للقاريء عبوره مرتين كنهر. تحولات وتغيرات في الصور والأفكار والعلاقات الداخلية للنصوص. حشدٌ غزيز من الإدانة ومن الأفكار والخبرات.. وثمة في كتاب البزاز الشعري، ما يدهش ويقوّض تعوداتنا النمطية للصور الشعرية ، نظراً لجدة وخصوصية التعبير والصورة الشعريتين لديه ومشاغبتها وغرابتها. قصيدة وعرة بحق، شائكة ومتشعبة. قماشة من الغنائية الشرقية عبر صوفيتها، والغربية عبر رومانسيتها، بنى عليها البزاز وببلاغة ماهرة تضاريس تأملاته ووعيه المُنجز والصارم. قنص ماهرٌ في تضاريس اليقين وهشاشته. ولوهلة شعرت وكأني اقرأ تأملات أنكيدو البرّية المنفى ووعورة محاكماته الوجدانية لليل حضارته، تلك التأملات والمحاكمات التي لم تصلنا قط عبر الشعر فيما سبق.
الكتابة وفق طاقة الذاكرة المختلطة المحمومة يعيش الشعر على طاقة الذاكرة المختلطة المحمومة وهذه الأخيرة ليس لها من صلة وحيدة مع الذاكرة الجمعية او الفردية. لها طاقة الصلات المفتوحة الباحثة مع الهجين وغير المروض، شبه الغريب، شبه أي قصة خاسرة عبر التاريخ بوصفة رقاص الساعة الآدمية الخرب. اقول الذاكرة المختلطة وطاقتها واعني تلك الذاكرة التي يصعب التعرف اليها كما نتعرف على المكان والزمان، فقط لأنها عصر من الإمتلاء مهزوم فينا أبداً عبر عصورنا ودنيانا.. ليس لهكذا عصر من مكان إقامة وأطلال.. ليس له من وقت وتقويم واعياد، حتى ساكنيه لا نذكر ملامحهم، له لغة لم يأتنا منها سوى الخرس والحدس. هكذا عصر لم يبدأ لينتهي ونقول انه انهزم. انه مبثوث ويتشعب منذ ازلنا الواعي حين وحيث كتبنا ميثاق الحياة. واود القول هنا؛ ان البزاز قد كتب اقرب الى التأليف حدوساً من داخل الذاكرة المحمومة المختلطة والتي تشبه هذا العصر الغائب المهزوم والذي لا اطلال له ولا تقاويم، لكنه- هذا العصر الغائب- يشكل جوهر الحنين الغامض لدينا نحوه ويشكّل شجاعتنا في إدانة كل العصور التي خذلته وغيبته ومنها الحاضر الآن. فهو يكتب في "وداع النار" ص35: /أدركُ بالخواء الذي لم أُحاذِ يوماً/ ولم أستلّه طرقاً/ كان نعمةَ وكانت أسفاري موفورة النهاية/ إن المسافات مجرّد حيلة عدّائين/ والصعود حميّة قلوب أرعبها/ استحواذ القعر عليها/ فارتكبت ما أسمّيه اليوم شهامة الخطيئة./ نفسي غير منصوصٍ عليها في التقاويم/ هروبٌ مؤطر على حائط يتآكل/ زوالهُ أوفى من بقائه/ أناديها: يا صلاح التآكل.
ان البزاز قد كتب اقرب الى التاليف وبروحية ابتهالات عتيقة عن تلك الفراغات غير المأهولة في بناء اليقين. قد استغرقتهُ إبتهالاته الحقيقية ثلاث عقود كيما يطهّر النفس، ليصلي، لا ماءً ولا تيمماً. فهو يكتب في " بعضه سيدوم كالبلدان ص51: /هذا المغنّي الشاسع المكان، الطائر وحده من يناله/ هذا الذي بعضهُ سيدوم كالبلدان/ كلانا من اللحاء الذي يجود بالإملاق/ نارهم مشبوهة النار/ ناركَ:/ حفنةٌ من القصائد قادرةٌ على إيواء السنبلة/ قادرةٌ على تنقية صراخنا من التجاعيد./ ناركَ:/ صحراء النار/ حصى لا يدّخر ماءً لمكوثه، احجارٌ/ حفيفها يسبق الرسائل/ وليلٌ/ يتلعثمُ بنزوحه./
الشاعر علي البزاز تمكّنَ من الكتابة متجاوزاً إياها نحو التأليف الشعري خلال اكثر من ثلاثة عقود، حتى بات كتابهُ" بعضه سيدوم كالبلدان" ليس بظاهرة الكتاب الأول وقطعاً ليس بالأخير. انه –أي كتابه- بنصوصه التي من خضم تجربة الإختلاف في الموقف المندد ب(الجريمة الأبدية) والتي هي تأثيث للمكان وعبر العصور بالخوف عوضاً عن تأثيثه بالطمأنينة.
بدأ البزاز الكتابه في العراق منذ الثمانينات، لكنه امتنع عن النشر مدحاً او ترميزاً آنذاك في إعلام البعث وصحافته، وقد حافظ على ان يكون شاعر الفكرة العميقةِ العيش، والمُجرَبةِ سلفاً بوعيه، قبل إدخالها القصيدة، فالقصيدة لديه ببساطة، هي قول كلمة الحق ببلاغة جميلة وبوعي، على اساس ان " الخط الجميل يزيد الحق وضوحاً" ودون تراجع عنها. نعرف ان بعض الشعراء قد تمنوا لو أنهم لم يكتبوا او ينشروا نصف ما نشروا، إذن ثمة فرق جوهري في الوجهة والموقف من الكتابة لحساب تجربة البزاز، حيث رفض الآنية كغرض للكتابة في مقابل ترك النص في تفاعل موضوعاته المطلق مع الزمن. وهنا وجدت من الضروري وضع البزاز في سياق التجربة الحقيقة للشعر، حيث إقتراب تجربته من تجارب أخرى كمثال لا الحصر، البريكان، بولص وعبد العظيم فنجان.
تثمين العيش وإدانته عبر وجدان الشاعر
كتبَ البزاز اربعة مجاميع باللغة الهولندية بين الأعوام ( 2002 و 2008)، وللأسف لا نعرف منها سوى عناوينها. لكن العناوين بدت لي كافية لإجراء مقارنة أولية. عناوين مجموعاته الأربعة باللغة الهولندية كانت على التوالي: "شمعة ولكن تكسف الشمس"، "نادل احلامي" "تضاريس الطمأنينة"، "صوت في عريشة". فيما كتابه بالعربية " بعضه سيدوم كالبلدان"، بدا مكوناً من اربعة مجاميع وهي على التوالي: "ابقي ساهرة أيتها الزينة"، "ساعي الموجة"، "مرحباً ايها الطريق يا حلاّج الوعورة"، معاً نقلّد الوردة مداها".
بدا واضحاً لي، ان ثمة تقارب بين موضوعة كل عنوان باللغة الهولندية ونظيره في اللغة العربية. ولتوضيح وجهة هذا التقارب ومكانته، علي ان استعير ما كتبتهُ عن العصر الغائب في البداية: (هذا العصر الغائب- يشكّل جوهر الحنين الغامض لدينا نحوه ويشكّل شجاعتنا في إدانة كل العصور التي خذلته وغيبته ومنها الحاضر الآن) وعلى هذا الأساس اقول؛ ان التقارب بين روح التثمين التي تثيرها عناوين مجموعاته بالهولندية، هي التي شكلت لدى البزاز جوهر الحنين للعصر الغائب، وشكلت لدية الشجاعة بإدانته للعصور التي خذلته وغيبته ومنها الحاضر الآن. بهذا استطيع القول ان منجز البزاز الشعري بمجموعه هولندياً وعربياً- على اساس وحدة الوجدان لدى الشاعر- هو التثمين والإدانة. هنا اود اجراء مقارنة تستفيد من مضامين العناوين بالهولندية، مقارنة بالعناوين ومضامين النصوص بالعربية( الأرقام هنا فقط لتسلسل العناوين باللغتين):
1- الشمعة المتواضعة في ظلمة البيت أو المقهى تؤثث، تؤلف المكان وتولد دفئاً والفة كافية بقوتها النحيفة ان تكسف الشمس، ثمة تثمين للنور هنا. ثمة نور ايضا في العنوان الأول" ابقي ساهرة ايتها الزينة"، لكنهُ مُدان ومندد به، فهو يكتب، " مجاعة أعراس لا يكتفي نهمها من الزينة" ص14 من " ابقي ساهرة ايتها الزينة". الأعراس والزينة معروفة هنا لإرتباطها بإحتفالات الخواء بالمنتصر والقائد.. الخ، وهي ليست آنيةً، لكنها وعبر العصور كانت مقياس النفس الراضية لعبوديتها.
2- " نادل أحلامي" بدا متقارباً ويحمل ذات الدلالة مع" ساعي الموجة "، النادل مثمنٌ في الأول ومُدان في الثاني، فهو يكتب، " نادلُ السراب أنتَ/ تسترسلُ في غبطة غيركَ/" ص21 من " مُرائي أحواض فارغة" والتي هي من " ساعي الموجة".
3- " تضاريس الطمأنينة" كانت لكذلك التثمين، حيث التضاريس مثمنة هنا. فيما الإدانة، حيث يكتب " كلما أقرأ هذا الزمن/ أخاف على عينيّ/ أن تكونا أشباه عيون/ فأغادر ما قد قرأت/ على أنه تفكير أطلال./ ص49 من" مرحباً ايها الطريق يا حلاج الوعورة".
4- " صوت في عريشة" هو التثمين، فيما الإدانة حيث يكتب" أولئك الذين ننتسب إليهم، يطلون أبصارنا بالذكريات/ ويخفضون حتى أغانينا/ متذرّعين بالمحبّة الواطئة./ هم بهذا الاختصار السفيه/ برّية خالية./ ص67 من "محبة واطئة". أو ليكتب " أيّ روضة نهمٌ ربيعها تتجمهر عند قبركَ/" ص71 من " معاً نقلّد الوردة مداها".
هنا بودي تسجيل افتراض أولي، على اساس ان النص المُنجز والقاريء هما وحدة واحدة في متوالية الإفتراضات والتي من شأنها تثبيت النص زمنياً وجعله قادراً على العيش والتغيير. اعتقد هنا ان البزاز قد قدم منجزه الشعري بالهولندية والعربية كوحدة اضداد، تشتغل على التثمين والإدانة. هذا الإفتراض سيبقى معلقاً بالطبع دون ان تتوفر فرصة قراءة نصوصه الهولندية بالعربية.
ودونما إعلان يشترط البزاز القاريء الحقيقي كي يتم العيش مع الشبيه، المشارك مثلما زهرة الأوركيد والدبور على حد قول دولوز، كلاهما يشتركان في التعدد والتكاثر، كيما تتقدم وتتشعب تلك الأقلية الجمالية الخالقة في اللغة والحياة. فهو يكتب في " هو الثمرة مخبّأ في تفاصيلها.. الى رسّام في قبره"ص65
" ذلك هو انتَ:/ اهتمام بآبار تلمع أعماقها، غصونٌ تتبادر اليكَ او تنبع/ من شرفات تنظر إليها./ أصابع يخلد السابلة فيها الى السكينة/ أكان الكلام فيكَ معبّراً عن كثير الصمت فينا/ الكلام مثلك صباحٌ للترنيمة دون أفول/كلما اقتنيتَ الريشة مكرّراً سموّها، ولدت جِراءً سرعان/ ما تنبح."
وفي مقطع آخر من ذات القصيدة يكتب:
" تلك طفولته:/ في مدينة حاسرٌ عناقها/تلفّ الألم حول عنقها/ كالشال/ تتخيّل الأزقّةُ خطواته وهي تسير عليها/ وتُبقيه ملّون الحرمان/ طفولةٌ ناصية بمستوى الشبابيك/ تكتظّ بالإعمدة/ اتكأت عليه طويلاً في أثناء نومها./"
الكتابة تحت سطح الماء بثوان معدودات
ثمة مياه واسعة وإبحار، الشاعر علي البزاز يُبحرُ بقصيدته وبالقاريء بلا بوصلة وبلا خرائط. الخرائط والبوصلة وشعور الأمن إنما تعوق في ذهن المُبحر، تقوده نحو الإنحناء وتعود به من حيث أتى. في حين الإبحار هنا في الديوان هو تجاوز الإنحناء، رفض الطمأنينة ورفض العودة. فالمكان المؤثث بالموت والخوف، المكان الخالي من(الشمعة التي تكسف الشمس) لدى البزاز ليس سوى سقط متاع الزمن، المنفى هو الكفّ عن عادة القرية المزمنة في الكتابة والحياة. الإبحار بلا بوصلة وبلا ضمانات، إنما توأمية البدوي، ليس له سوى خيمة يطويها كمضاعفات ضياء وعتمة صحراويين ويمضي. فهو يكتب في قصيدة "الفم الراكد" ص24.
" هناك/ لبعضنا من السلامة نصيب الصحراء من السقوف/ ومن الشلال/ أفول انهماره/بعضنا يهرع إلى الفضّة يطيل انتشارها/ أو/ يبري التلالَ بالممحاة./ نحن هذا القليل المتمالك طيّ دروبه/ والأيامُ صفير./ أيّها الفمُ/ أيّها الوارفُ الجلوس/ فيمَ السلاح اكتملت أشجانه/ أبالتعرية تتآكل؟
هنا يضع البزاز كل شيء ومنها فَمَنا الذي عليه قول الحق في مواجهة مع الزمن المطلق، حيث ما من خلاص للشيء سوى بحقيقته والتي يمكن لها ان تصمد امام التعرية والتآكل.
ثمة أثر آخر علينا تتبعه في" بعضه سيدوم كالبلدان" يكتب في ساعي الموجة ص25 : " الموجة تتقلّب في فراشي/والأشرعة تتعرق هناكَ/البحّارة يلقون بالمحار على فراشي/ هم يفرغون حمولة رأسي/ الريح تتصفّح أحلامي بشهية تاركة بصماتها/ يساراً، فنارات/ يميناً، ارائك حيث الصواري تمخر مرجان أكتافي/ لأنني وريث الأزرق بريء أنا من الرمال".
قد ابحر نوح بحثاً عن اليابسة ومعهُ إثنان من كل نوع، فيما البزاز يهرب من طوفان اليابسة وحيداً بين دفتي حياته ومنجزه والذي سيتسع للقاريء الشبيه او المشارك في حالة شبه وحيدة؛ الا وهي، ان البزاز قد فكك كامل الحكمة، ليعيد كتابتها على نحو غامض كإدانة لها وكإدانة للوضوح الذي خرب التضاريس عبر فرش الخوف وتغطيته بالموت. الشاعر هنا يرغب بملاقاة القاريء الشبيه الذي يضع الغموض كشرط بمثابة العمق، فيما الحكمة المفككة والوضوح هما السطح والسطحية. انها فكرة التعددية والترحال، الرغبة والتيه كما "جذمور" دولوز المتعدد: " ولا يدرك الجذر الدائر حول نفسه، التعدد اكثر مما يدركه الجذر المنقسم بشكل ثنائي. فعندما يشتغل احدهما على الموضوع، يشتغل الاخر على الذات."* . ديوان علي البزاز وبحق كان من نوع الشعرية الغنائية التفكيرية عميقة الدلالة، حيث وعلى قماشة الغنائية مثلما ذهبت اليها فيما سبق، اقام تضاريس الفكرة وضرورة الإدانة الأبدية للتصالحات الهشة مع الهوية. لنقرأ ما كتبه هنا في " الوقاية من حرير غير معبّدة نعومته" ص10 : " السقطةُ التي تُسلس الرجاء يا لها من أمّ رؤوف. قابلٌ بغسقها موافقٌ على هشاشتها شرقاً وغروباً. عندما تختلّ الأماني يكون الرأس هو المرتفع من الإنحسار والشاهدُ معتلّ الدلالة. هذا الطفل من القول يتيمُ التأييد، هذا اختلاس حياةٍ غير وفيّة لصاحبها، إنه الحسم ويا ليته نهائيّ المآل. ايها السطح ضع العمق شرطاً يسطع، أيها العمق أنكرْ ملاحة عقيمة وشدّ الرحال الى رياح نادرة. أيها السرور رفرفْ على هوى مَن جعل جوع المصائر كفايةً له وسمّى النهر ببلله لا بجريانه المقدّر من سواه. لا أغيّر عاداتي بذمّ المائل وإن بدا مصبّاً للنعيم.
ان الكتابة وفق طاقة الذاكرة المختلطة المحمومة ترهقها حاجتها الى اللغة، ذلك لأن الكتابة هي نفي خارج اللغة ذاتها، لذلك بدا لي ان البزاز قد اختار المياه كمنفى لكتابته، ان يقترف الكتابة تحت سطح الماء ولثوانٍ معدودات، مختبراً وكاتباً كل شيء بلغة اقرب الى لحظة الوعي الأخير. هكذا لغة قصيرة، مكثفة سيكون لها وعي البدايات، اقرب الى الطقس والى براءة الممارسة الإبداعية الإنسانية.. شيء من قبيل الإبتهال، يكوّن القماشة الغنائية التي بنى البزاز عليها تضاريس وعيه وفكره. الكتابة تحت سطح الماء بثوان معدودات ربما هي الإنخطاف بالكتابة لسيد المغامرة الشعرية الأولى نوح. ربما إقتراف الكتابة تحت سطح الماء بثوان معدودات، كافية ليكون الشاعر سيد القرار في الهدم او البناء، الموت او الحياة. هذا ما اتضح لي عبر كتابه وخاصة في " ابقي ساهرة أيتها الزينة" ص7.
ابتدأ البزاز " إبقي ساهرة أيتها الزينة" كما الغرق، او كما افتتاحيات موسيقى الماء، لإختبار كل شيء، لذلك فإن المجموعة المكونة من خمسة عشر قصيدة، هي بمثابة خمسة عشر ثانية غرق إختباريه.. حتى ان لغتها كانت بمثابة الإختزال البرقي الخاطف الذي يسم لغة لحظة الوعي الأخير. ويبدأ بالوصايا:
" إذا تريدُ ان تتهجّى النسيان فبقليل من التنصل/ إذا كان تعبُ الدروب لا بدّ من مناداته، فلا تضمّنه"لماذا" لأنه/ سيعكف على تقشيرنا/ لا تحيله مراعيَ يجب استصلاحها، لا تعطّل ما ابتكرناه من الفؤوس/ لفرك التاج/ لا تنتج ثماراً ةتعكف على ضمّها إلى الإبط/ لا تقتنِ الوصول الذي يقرض سالكيه./من قصيدة أيها الدرب لا تغلظ بالنزوح ص7. وتتتابع الثواني حتى قصيدة "فوز الدفاتر" ص12 والتي هي في المنتصف بمثابة الثانية السابعة بعد الغرق والتي رجحت كفة الميزان نحو الحياة ليبدأ:
" أيتها الطريق المشرفة على البرّية الواسعة ذات العيون المُبصرة تأنيبَ الرمال كلمةٌ كليمةُ الزهد تنال فوزَ الدفاتر مُجيرةٌ عدم انتباه التضحية الى الفائدة، ألا يهبط النهار المتألق على تلالكِ أيتها الساعة ألا تفتحين الجناح؟ دعينا نحرم غسق المتاهة من الإنبعاث نجعل له الدليل نهداً يقطر حليباً في الوضوح." فوز الدفاتر وبحق محورية، إبتهاليه، فيها نوع من اللغة المهجورة، نظراً للجرح الغائر في النَفسْ الإنساني، انها النداء الأنثوي المهجور.. وهي الصلة الأولى التي قدحَ فيها الشعر عند يقين البزاز.. آنذاك وكأن التلال هي النهد الذي يقطر بالحليب في الوضوح. الوضوح هنا هي صلة البزاز الأولى مع العالم. التلال هي ايضا " الف ربوة" والربوة هنا ما استعاره دولوز من غريغوري باتسون** أي " منطقة زاخرة بالطاقة كثيفة التوهج، تستمد حيويتها من تلقاء ذاتها." اذن فالتلال هي النهد الذي يقطر حليباً في الوضوح وفي قدحة الحياة والشعر لدى البزاز. ان المقطع الأول في بنائه ولغة إبتهاله قد أحالني الى مراثي ريلكة.. حيث ثمة وصفة تقبع خلف ولادة مرثية العصر الحقيقية. ريلكة الذي وفي مصحة دير دوينو.. كان يعاني من العزلة، اللاجدوى واللاعزاء.. محبطاً مفكرا بوجوده، حياته وشعره، ومن خضم كل هذا اهدى العالم مرثياته.. على نحو قريب من هكذا اجواء ولكن على ارض بعيدة ومنافي.. تحولت وحدة الشاعر علي البزاز وعالمه الى مصحة وهو الدير القابع فيها.. هكذا اعتقد ان مكثفات البزاز الإبتهالية هي مراثي العصر الراهن. ألم يكتب هو في" تأهيل السفن الحاملة ضباع الموج"ص20 "مسكينُ الغابات من لايحمل تربته حيثما يذهب يغرس النضوج، رُبّ جذرٍ واحد يكفي عن حيازة أغصان. مسكينُ النار من تبرد هدايا حضوره. هذا، إلا يكف عن الشكوى الحائزة أهل الانخفاض وأهل الرماد؟ مسكينُ اليراع من يكتب بغير جماعة اصابعه تحدودب أنامله قبل أوان نطقها. لو كان لديه ما يقول لما أدرك الكهفُ لسانه."
بودي الختام بهذا المقطع الشعوري العميق من قصيدة "عضة الظلام اغنية في موهبة الليل" ص103 : الشعراء عند الكتابة أدوات الرجال أدوات: رجالٌ كالمنفعة رجالٌ كالشبهة قوّامون على التعب، ينامون فيغفو معهم مزيدٌ من السمع والبصر. رجالٌ كالحصرم ضاعوا من أجل العنب رجالٌ في سرور الضوء صاروا لهبة في شموع. استريني أيتها الغصّة من وردة تندلع سخاماً أملي في التراب ما نفع الذهب المُقوّى خارجٌ لأنه لا يُهادن هذا الذي أفكّر فيه ليس لديه أسنان ليجعلها أدوات للصداقة.
• ديوان الشاعر الصادر عن دار الغاوون-بيروت 2009 • الجذمور- معرفة ضد التأصيل. جيل دولوز- فليكس غاتاري، ترجمة د. عز الدين الخطابي • قراءة في فكر دولوز/ مالك الريماوي.
شاعر عراقي مقيم في كوبنهاكن [email protected]
#رحمن_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لمَ عناء البريد
-
أوكازيون ثمين لبيع العقل
-
معبد سركون
المزيد.....
-
تابع بجودة عالية احداث المؤسس عثمان الحلقة 174 Kurulus Osman
...
-
ترجمة أعمال الشاعر جوان مارغريت إلى العربية في صحراء وادي رم
...
-
أحداث مسلسل قيامة عثمان الحلقة 174 مترجمة علي قناة الفجر الج
...
-
-كل ثانية تصنع الفرق-.. فنانون سوريون يطلقون نداءات لتسريع -
...
-
مواقف أبرز الفنانين السوريين بعد سقوط حكم الأسد
-
حين يكون الشاعر مراسلا حربيا والقصيدة لوحة إعلانات.. حديث عن
...
-
الروائي السوري خليل النعيمي: أحب وداع الأمكنة لا الناس
-
RT Arabic تنظم ورشة عمل لطلاب عمانيين
-
-الخنجر- يعزز الصداقة الروسية العمانية
-
قصة تاريخ دمشق... مهد الخلافة الأموية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|