جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3019 - 2010 / 5 / 30 - 22:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يبدأ الحزب عادة على شكل تجمع أفراد وأفكار للتعبير عن رؤى تتناول صيغ التعامل مع الحاضر ونظريات تحدد طبيعة المتغيرات المستقبلية التي يريد الوصول إليها , ويبدأ الاختلاف بين هذه الأحزاب على ضوء البرامج التي تطرحها وصولا إلى الأهداف لمشتركة كما هي الحال بين الأحزاب اللبرالية والإصلاحية, وقد يصل هذا الاختلاف إلى خانة الخلاف حينما يكون هناك تفارق على مستوى الأهداف وليس على مستوى البرامج فقط .
والى حد ما يمكن القول إن الأحزاب الإصلاحية أو اللبرالية هي أحزاب (حاضر) تريد الوصول إلى (المستقبل), لذلك فان المشتركات بينها تبدو جاهزة ومستمرة وتتركز على وجود رابطة الحاضر الحميمة ورؤى المستقبل المشركة على الرغم من وجود اختلاف فاعل في برامج تحقيق هذه الرؤى, لذلك فلا وجود هناك لتفارقات تاريخيه تنقل الحوار على مستوى البرامج والأساليب إلى مستوى الصدام بين أهداف نقيضة.
وعلى العكس من ذلك موقفا, والى العكس منه اتجاها, تقف وتسير الأحزاب (الثورية) فهي ليست كما (اللبرالية), أحزاب حاضر تريد الذهاب إلى المستقبل, وإنما هي أحزاب مستقبل تريد المجيء إلى الحاضر, وبهذا سيكون هناك اختلاف جوهري بين هويتين, وكذلك أيضا بين اتجاهين, هوية تنتمي إلى الحاضر وتتطلع إلى المستقبل, وأخرى تنتمي إلى المستقبل وتتطلع إلى الحاضر, أما الاتجاهين فهما متعاكسين تماما, واحد صاعد وآخر نازل, أو واحد يسير إلى الأمام لأن الهدف أمامه وآخر يسير الى الخلف لأن الهدف خلفه.
إن الأحزاب الأيديولوجية هي التي تأتي بالمستقبل إلى الحاضر أو تسقطه عليه, أما الأحزاب اللبرالية أو الفكر البراغماتيك فهي التي تأخذ الحاضر إلى المستقبل, والفرق هنا كبير بكل تأكيد, إذ أن لدينا هنا اتجاهين مضادين, واحد ينزل من الأعلى إلى الأرض والآخر يصعد من الأرض إلى أعلى.
لكن أخطر ما في الأمر, إن الأول يجعل المستقبل نقيضا شموليا للحاضر ولهذا فإن التغيير يجب أن يكون جذريا وليس جزئيا, وتبديليا وليس تعديليا, ومن هنا تأتي مشروعية العنف الثوري التي تؤمن بها جميع الأحزاب الأيديولوجية, فإن كانت هناك إمكانات واسعة لأن يتم (التعديل) من خلال الحوار كما يعتقد اللبراليون فإن (التبديل) لا يتم إلا من خلال الثورة وبالبيان الأول الذي يَجِّبُ ما قبله من بيانات.
أما ألثاني, أي اللبرالي فهو لا ينطلق من نظرية تبديلية بقدر ما ينطلق من نظرية تعديليه, وبهذا الاتجاه فهو لا يشيع ثقافة الصدام وإنما يعمل بثقافة الحوار مؤمنا أن ليس هناك خصومه بين المكونين الزمنيين, أي الحاضر والمستقبل, وإنما هناك حوار دائم من شأنه أن يأخذ الحاضر بسلام إلى المستقبل, ولا يعني ذلك بأي شكل من الأشكال إن هذا الفكر لا يملك أهدافا تاريخية وإنما يعني بالضبط أن الأهداف التي يتصورها تعتمد الحاضر كأساس, ولا تتعامل مع الهدف المستقبلي كمقدس, مما يتيح للحاضر فرص التطور الحر حتى لو تطلب ذلك تعديل الأهداف أو حتى تبديلها, إنه فكر حاضر بمستقبل, لكنه فكر يأخذ الحاضر إلى المستقبل ولا يسقط المستقبل أو التاريخ على الحاضر.
إن كل الأحزاب التي تتشارك صفة (الثورية.. كما نفهمها نحن في الشرق), قد تتقن فن الطيران في السماء لكنها لا تتقن فن السير على الأرض. والطيران قد يصح في الطبيعة لكنه لا يصح في السياسة.
إن الحزب (الثوري) يبدأ كحلم وينتهي ككابوس. بدء هو ينزل من فوق إلى تحت بدلا من العكس حيث يقتضي الأمر هنا صعودا تدريجيا هدفه الانتقال بالناس إلى أعلى أو إلى أمام, هذا الانفصام يبدأ مع الحزب حال شروعه في العمل, أما الشعب فدوره هنا هو دور المتلقي, إذ أن هناك من يعمل عنه بالنيابة ويفكر عنه بالنيابة.
إن هذا الحزب يبدأ بطرح نفسه بشكل رسالي وكمبعوث تاريخي وليس كحالة تفاعلية بين ظرف ومعطيات وناس وطموح. ولا تشترط بعض الأحزاب (الثورية) أن تكون هناك مقدمات لكي تكون هناك نتائج, يكفي أن تستحضر روح التاريخ المضيء لكي تدعو الحاضر المظلم للحاق به, متناسيا إن ذلك التاريخ كان يومها نتيجة لمقدمات قد سبقته, وان من الصعب حقا أن يتم استدعاء النتيجة ونسيان أو إهمال مقدماتها. أليس ذلك بالضبط ما فعله (البعث) حينما أراد بناء (وحدة), لأنها (كانت), دون أية محاوله لأدراك إن هذه الوحدة لن تقوم لمجرد أنها كانت, وإنما هي تحتاج إلى الكثير مما يجب أن يسبقها لكي تقوم .
إن بوسع الوحدة أن تحقق للعرب الكثير فيما لو إنها تحققت بصورة وبصيغ تأخذ بنظر الاعتبار العلاقة التفاعلية ما بين الذاتي والموضوعي, ما بين الحاضر والمستقبل, وبهذا فهي ستكون وحدة وقائع وبرامج ومناهج مشتركة بصياغات تأخذ بنظر الاعتبار أهمية تطوير الواقع الموضعي لكي يصل إلى المستقبل, الذي لا يحدده النظري المفترض, وإنما يؤسسه العمل غير المضغوط بنظريات تفتقد القدرة على التحقق لأنها لا تتأسس على وحدة الأسباب والنتائج.
وفي كل الأوقات لا يكفي أن يكون الحق معك وإنما يجب آن تكون قادرا على أن تحصل عليه بشكل سليم. وفي السياسة لا يجري الحديث عن حق غير مرئي ومفترض وإنما عن حقيقة شاخصة. وهناك.. بين الحقيقة والحق ثمة مسافة تحددها وقفة المختلفين عليهما, وعلاقتهم المادية بهما. فالمحافظون يرون الحق في الحقيقة الماثلة, ويعتقد اللبراليون إن الحقيقة ليس كلها حق وليس كلها باطل والأهم إن الوصول النسبي إلى وحدة الحق والحقيقة لا يتم من خلال تبديل الحقيقة وإنما من خلال تعديلها, أما الثوريون فيرون إن الحقيقة يجب أن تكون على الشكل الذي عليه الحق المفترض, والتي ستتحقق بالثورة على يد الحزب الثوري. ولذلك يجب أن يتغير ما هو واقع لكي يستبدل بما يجب أن يكون عليه, وهذا نرى إن هناك نظاما للتعديل وهناك نظاما للتبديل, ومن الطبيعي أن تكون آليات التبديل هي غير آليات التعديل فحيث تسمح الثانية للأساليب السلمية ولموضوعة الحوار والديمقراطية أن تكون هي سبيل التغيير فإن الفكر الاستبدالي الأيديولوجي الثوري لا يجد أن هناك ثمة وسيلة غير الثورة وما تنتجه من موضوعات مرافقة في المقدمة منها موضوعة العنف الثوري.
إن التفارق بين أولئك وهؤلاء يبدأ حينما يشعر أحد الطرفين انه يملك الحقيقة المطلقة. والثوريون هم عادة من ينقل الاختلاف إلى خانة الخلاف, ومن يدفع بالجدال إلى خانة القتال, كيف.. ؟, لأنهم يفترضون إنهم أصحاب حق مطلق وإن ذلك وحده يكفي لأن يكونوا وحدهم أصحاب الحقيقة المطلقة, متناسين إنهم وكذلك خصومهم, لايملكون حق الإدعاء بملكية الحقيقة وبأبوتها, وإنما هي الحاجة والاتفاق ومحصلة الثقافة الموروثة والمكتسبة من يهيمن على تلك التعريفات ومن يحدد علاقتها ببعض.
ولنحاول الاقتراب من مفردات أكثر استعمالا وان نعيد ترتيب مفاهيمنا تلك على ضوء الاستنارة بهذه المفردات, ولعل أول ما يطالعنا منها: إن ما نقوله عن الأحزاب الثورية وفكرها المعلق هو ما يتفق على تسميته بأحزاب الأيديولوجيات, والشيوعية واحدة منها وكذلك البعث, إضافة إلى الأحزاب الدينية. وإذا كانت هذه الأخيرة لا تتردد مطلقا عن الإعلان عن إن فكرها منزل من السماء إلى الأرض, وهذا ما يحدد بالضبط مشروعها الفكري, فإن الأحزاب الأخرى كالشيوعي والبعث تنتهي إلى نفس ما تبدأ به الأحزاب الدينية على رغم إعلانها إنها أحزاب بشر وليست أحزاب ملائكة, لأنها جميعا تلتقي بفكرة المستقبلية القدرية التي يجب على الحاضر أن يذعن لها وان يسير باتجاهها مطيعا صاغرا ..
إن فشل الفكر الأيديولوجي عن تحقيق مفترضاته, وتسببه بخسائر وطنية جسيمة, أو إنتهاء أنظمته إلى أن تكون مجرد مؤسسات قمعية وبوليسية لا تحمل من الثورة سوى الاسم وليس لها علاقة حقيقة بالأهداف التي تدعي الإيمان بها أو العمل لتحقيقها, إن هذا الفشل لم يأتي كنتيجة لمؤامرة (إمبريالية صهيونية رجعية قذرة) كما اعتدنا أن نطرحه وإنما لأن هذا الفكر يحمل قصورا ذاتيا وضعفا بنيويا لا يجوز السكوت عنه, فلو كان قويا من داخله ولو كان نضرا وطريا لما تهاوى وتساقط مثل أوقات الخريف أو تخشب كشجرة ميتة لم تعد تنفع أغصانها إلا لإشعال الحرائق.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟