نجيب الخنيزي
الحوار المتمدن-العدد: 3019 - 2010 / 5 / 30 - 13:38
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
هناك العديد من الأطروحات التي ترى ان عالم اليوم لامكان ولا مستقبل فيه للدول الفرادى، والمجتمعات المنعزلة خلف اسوار حديدية، وبأن عصر السيادة الوطنية قد ولى لصالح سيادة كونية جديدة ( العولمة) تقودها الشركات متعددة الجنسية، والبنوك الدولية، ومنظمة التجارة الدولية. وان الحدود ووسائل الممانعة القديمة قد تحطمت او ضعفت الى حد كبير، وفي سبيلها للاندثار. السيادة الفعلية ضمن هذا المفهوم (العولمة) لهذه الحكومة المركبة الخفية التي تقود العالم، والتي هي نتاج تطور موضوعي استطاعت من خلالها الرأسمالية العالمية التكيف مع ازماتها الهيكلية والدورية، وتطوير وتشديد آليات هيمنتها ، خصوصا بعد فشل وسقوط " النموذج الاشتراكي " البيروقراطي السوفيتي المنافس ، وذلك بفعل ديناميكيتها الذاتية، والتدويل المتعاظم للانتاج، التجارة، الخدمات، المال، والتطور المذهل للثورة العلمية، التكنولوجية، المعرفية، والدور المتعاظم لدور وتأثير عولمة الدعاية والاعلام والاتصالات التي حولت العالم الى قرية صغيرة. ناهيك عن بروز الاسواق والتكتلات الاقتصادية والسياسية القارية والاقليمية الكبرى. وفي الواقع أن العولمة اصبحت حقيقة، وحالة موضوعية قائمة لايمكن تجاهلها او القفز عليها، بغض النظر عن تناقضاتها الداخلية العميقة،ومثالبها وافرازاتها الخطيرة على الصعيد الكوني، وهو ما تمثل في الأزمة المالية والأقتصادية العالمية ألتي تفجرت في عام 2008 ولا تزال تاثيراتها ضاربة في العمق ، وبالتالي لم تعد كافة الدول والمجتمعات الغنية او المتخلفة في الآن معا تمتلك القدرة على منع مفاعليها وتأثيراتها المتناقضة، وذلك تحت ذريعة هذا العامل او ذاك ومن ضمنها وفي مقدمتها ذريعة " الخصوصية " .. بل لابد من التعاطي والتفاعل الواقعي مع تجلياتها وتمظهراتها من خلال تحسين وتطوير الشروط والظروف الذاتية والموضوعية للتعامل معها، على اساس مستوى معقول ومقبول من الندية كما هو الحال في الدول المتقدمة، وليس من منطلق الاستتباع، وغياب الارادة المستقلة، او السير الاعتباطي في ركابها، وهو ما ينطبق على غالبية البلدان المتخلفة في العالم التي يطلق عليها البلدان النامية.
العولمة والمركزية الغربية
فالعولمة تسعى الى فرض نموذجها الرأسمالي على العالم من خلال الاقتصاد والسياسة والثقافة وتعميم قيم الليبرالية الجديدة مثل اقتصاد السوق وحرية التجارة وفتح الاسواق الوطنية والغاء او تقليص انظمة واجراءات الحماية واضعاف دور الدولة في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي الى جانب تسويق مفاهيم الليبرالية السياسية مثل الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الانسان والمرأة والاقليات (الاثني، الدينية، المذهبية) المختلفة كل تلك القضايا تطرح من منطلق العالمية الجديدة السائدة التي تحجب وتجب ما قبلها وما عداها والمقصود بالعالمية هنا على وجه التحديد الحضارة الرأسمالية المنتصرة وهي اذ تعلن نهاية التاريخ وموت الايدولوجيا تسعى الى ترسيخ وتأبيد زمنها وايدلوجيتها المجردة على منزع الحتميات التاريخية والايدلوجيات الكلية و الشمولية البائدة او المأزومة ، حتمية انتصار الاشتراكية، امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، الاسلام هو الحل ، والتي تتمثل بالسعي الحثيث الى تصنيم وتقديس وتجنيس وتنميط العالمية على صورتها (من حيث الشكل وليس المحتوى) ملغية الذات والازمنة المحلية الاخرى، واذ يلغى مفهوم التاريخ والزمن الخاص بها فهذا يستبطن بالضرورة فرض ايدلوجية " ليبرالية " شمولية جديدة، ناعمة وذات جاذبية في مظهرها لكنها لا تخلو من نزعات قومية وعنصرية وذرائعية بل وتسويغ الحروب العداونية في جوهرها. كل ذلك تعبيرا عن عمق نزعة المركزية الغربية المشبعة بتضخيم الذات (الأنا) ازاء الآخر (المغاير) التي ترى في الحضارة الغربية الامتداد الطبيعي للحضارة ( الهلينية ) وللمكون المسيحي الغربي، ومتجاهلة في الوقت نفسه الدور والاسهام الكبير والتراكم الكمي والنوعي الذي لعبته الحضارات والثقافات القديمة والعريقة والديانات الكبرى (بما في لك المسيحية الشرقية) وخصوصا الحضارة العربية الاسلامية ومنجزاتها التي استندت اليها اوروبا في بداية نهضتها بعد ان عاشت قرونا طويلة من التخلف والظلام.
تعميم النموذج الامريكي
المركزية الغربية تعبر عن نفسها في المرحلة التاريخية (القرن الامريكي ) المعاصرة من خلال نموذجها الامريكي (وتعمقت مع ايدلوجيا المحافظين الجدد وممارساتهم) كأيدلوجيا مشبعة بالاستعلائية والانعزالية والغطرسة والعدوانية والهيمنة تطمس وتلغي مفاهيم و قيم الاختلاف والتباين والمغايرة والنقد والمساءلة من قبل الآخر بما في ذلك من يشار كها ذات القيم (اوروبا القديمة أو القارة العجوز ) بمعنى فرض الاندماج الكامل (من ارضية الاستتباع) للآخر في منظومة العولمة (الامركة) من خلال فرض قيمها وثقافتها الاستهلاكية ، والعمل على تهجين وطمس والغاء مقومات الثقافات الوطنية الاخرى من خلال التعميم الكاسح لثقافة واسلوب الحياة والمعيشة والذائقة (الاكل والملبس والشراب) وانماط الدعاية والفنون (موسيقى افلام) المبهرة، بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب ، ولم يكن مستغربا ان تثير من هذه النزعة ( الأمركة ) الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية للهيمنة ردود فعل لدى النخب وجماعات متزايدة من الرأي العام في البلدان الرئيسة والمراكز العالمية التقليدية والصاعدة الاخرى مثل اليابان ودول الاتحاد الاوروبي والصين والهند والبرازيل، ناهيك عن غالبية بلدان ومجتمعات العالم الثالث. وما تفرزه مفاعيل العولمة من انقسام حاد (مع استثناءات قليلة) على صعيد الاقتصاد والثروة والمعرفة بين دول الشمال والجنوب وبين المركز (ونواته الأمريكية) والاطراف هي تتناقض مع الدعوات الغربية الداعية للماثلة والتجانس الحضاري الكوني والانساني واحترام التعددية الحضارية والثقافية وحقوق الانسان في العالم.
مركزية شرقية معكوسة
غير انه في الوقت نفسه فان وقوع المجتمعات واعنى هنا المجتمعات العربية/ الاسلامية في شرنقة تضخيم الذات (الأنا) ورفض الآخر (المغاير) هو تعبير عن مركزية شرقية معكوسة وحالة عجز مزمن وانفصام وانفصال عن الواقع والحياة. اذ لم يعد بالامكان الاستمرار في المراوحة والجمود والانزواء والممانعة والتقوقع في الماضي والتراث (التليد الزاهر) او استحضاره ليجيب على اسئلة وتحديات الراهن ، ناهيك عن ممكنات المستقبل وبالتالي تأبيد بقائها خارج مجرى الزمن والعصر من خلال رفضها وعدائها (على طريقة محاربة طواحين الهواء لدنكيشوت) للحضارة الغربية والذي يعني عمليا استقالتها من التاريخ وغياب المساهمة في الحضارة الكونية المعاصرة ومنجزاتها،التي ينتسب اليها جميع البشر والمستندة الى الحضارة الغربية تحديدا. بغض النظر عن ما هية القوى المهيمنة فيها حياليا، وذلك بحجة وذريعة الخصوصية الحضارية والدينية والاجتماعية والثقافية. او الاكتفاء بالنظر الى نصف الكأس الفارغ فقط والتركيز على وجهها القبيح المتمثل بعهود السيطرة الاستعمارية والامبريالية ونهب مصالح وخيرات الشعوب والمجتمعات في العالم وخصوصا في بلدان العالم الثالث، والتي تأخذ الآن اشكالا جديدة في زمن العولمة.
النصف الاخر
بل يجب ان ننظر الى النصف الآخر المتملئ. الحضارة والثقافة الغربية عموما مثلت تحولا نوعيا في تاريخ ا لانسانية واضافت الى البشرية على امتداد تاريخها الطويل منجزات حضارية تمثل ذروة ما توصلت اليه حتى الآن.فالمنجزات العلمية والصناعية والثقافية وبلورة مفاهيم ومبادئ الدولة الحديثة والمجتمع المدني وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية والعقلانية والمساواة والتعددية والعدالة وحقوق الانسان شكلت جوهرا وملمحا اساسيا للحضارة الغربية (الرأسمالية) غير ان تلك المنجزات لا يمكن فصلها عن كل ماراكمته الحضارات القديمة السابقة ومن بينها الحضارة العربية - الاسلامية كما لم تكن في معظمها تمثل بالمعنى المباشر رسالة واهداف الرأسمالية في باكورة ظهرها وحتى هيمنتها، انها نتاج قرون طويلة قطعتها اوروبا منذ ارهاصات وبدايات النهضة والاصلاح الديني وعصر الانوار في مواجهة الحكم المطلق وسلطة الكنيسة ومرورا بالثورة الصناعية وما رافقها من صراعات فكرية ودينية وانتفاضات وثورات اجتماعية وسياسية وطبقية في مقدمتها الثورة الفرنسية والبريطانية الى جانب حركات التوحد القومي (المانيا وايطاليا) في اوروبا والثورة الامريكية في القارة الجديدة والتي نجم عنها ما بات يعرف بالحضارة الغربية المعاصرة.
#نجيب_الخنيزي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟