أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نضال الصالح - حب من الماضي















المزيد.....

حب من الماضي


نضال الصالح

الحوار المتمدن-العدد: 3013 - 2010 / 5 / 23 - 22:23
المحور: الادب والفن
    


قاربت الساعة السادسة صباحا عندما فتح عينيه وعاد وأغلقهما. شعر كأن جسده قد إنفصل عنه وما عاد يتجاوب مع إرادته. حتى فنجان القهوة الذي إعتاد أن يسعى إليه بشوق كل صباح ما عاد يثيره. تاه في حالة الاشعور بين النوم واليقظة، بين الوجود وعدمه، بين الشعور واللا شعور. رن جرس الهاتف فكان كصاعقة نزعته من حالة العدم التي مر فيها للحظات. مد يده النحيلة المرسوم على جلدتها خارطة السنين الثمانين التي مرت عليها ورفع سماعة الهاتف التي بدت كطعة من الفولاذ وجرها جرا إلى سريره وألقاها بجانب أذنه وقال بحشرجة "نعم".
شعر بالدماء الدافئة تتدفق في عروقه الناشفة وشعر بدقات قلبه المتعب تضرب بعنف على طبلتي أذنيه وتاه في سكرة صوفية مغمسة بشطحة وجد إلهي. شد الهاتف إلى أذنه حتى كاد أن يلصقه بها وتنصت. كان صوتا نسائيا لم يعرف أن يجد له وصفا، أكان ملائكيا وهو لم يسمع صوت الملائكة قط، أم كان لحنا من سيمفونية متناغمة صادرة عن آلات موسيقية مصنوعة من أوتار القلب؟
"هالو، سيدي، هل تسمعني؟ هل أنت هناك؟" جاءه صوت اللحن النسائي الساحر فأسرع بالإجابة خوفا من أن تغلق صاحبة الصوت الهاتف وتسحب من بين أطرافه دبيب الحياة الجديد الذي لم يعرفه منذ أعوام وقال:" نعم سيدتي، أنا أسمعك، تكلمي وسوف أسمعك مابقي لي من عمر، تكلمي ياعزيزتي أرجوك، لا تتوقفي عن الكلام". سمع ضحكة كأنها صادرة عن ناي الدودوك الأرميني وقالت: " أنت كما وصفتك أمي لي، تحب إطراء النساء."
جلس في سريره مدفوعا بلهف الشباب وتمسك بالهاتف كأنما هو مصدر حياة أو موت وقال:" وهل يليق بالنساء يا سيدتي إلا الإطراء؟ أليست النساء منبع السعادة والشقاء، الألم والهناء، ألم يخلق الرجال لعشقهن وحمايتهن والسهر على راحتهن كما يسهر البستاني على الورود والأزهار لتظل يانعة، عبقة الرائحة، مصدرا للبهجة والسرور؟
سمع ضحكة الدودوك الأرمينية من جديد وتبعتها كلمات كألحان سيمفونية تقول:" أنت لا تعرفني يا سيدي ولكنني أنا أعرفك، فوالدتي كانت زميلتك وصديقتك ولقد حدثتني عنك كثيرا وأنا متشوقة للقائك، فهل تسمح لي بساعة من وقتك؟ أستطيع أن أحضر بقطار الساعة العاشرة غدا ويمكننا أن نلتقي على محطة القطارات، هذا إذا كان الوقت يناسبك."
حضن الهاتف بكلتا يديه والصقه على أذنه حتى كاد يدميها فلقد خاف أن تهرب بعض أحرف كلماتها عن سمعه فتشوش منظومة الألحان الصادرة عن حديثها وقال:"" كل وقتي رهن لك سيدتي وسأذهب إلى المحطة منذ اللحظة لكي أنتظر قدومك على أحر من الجمر." سمع الضحكة من جديد ثم تبعتها كلمات تقطر عذوبة قائلة: " يكفي أن تأتي غدا، وإلى اللقاء على محطة القطار في العاشرة صباح الغد."
أغلقت الهاتف وسمع صوت إنقطاع الخط الذي كاد أن يسبب في إنقطاع أنفاسه، وظل ماسكا بالهاتف قرب أذنه لعله يسمع بقايا من كلمات بقيت عالقة في أسلاك الهاتف، ولكنه لم يسمع إلا صدى السكون الذي عم كل ما حوله وبدا له كأنه كان في حلم فاق من لحظته منه.
صوت نسائي جاء عبر الهاتف مثل غناء بلابل الصباح المبكر إختصر عشرات من سنينه الثمانين وأعاده إلى عنفوان الشباب وضخ في قلبه الدفئ وفي شرايينه، التي باتت على وشك الجفاف، دم الحياة. آه ما أجمل هذا الشعور وكيف بات للنهار طعما جديدا بطعم البلسم.
تدفقت الأسئلة إلى مخيلته وتسائل من يا ترى صاحبة هذا الصوت الساحر وكيف شكلها ومن هي والدتها التي قالت عنها أنها كانت صديقته؟ تمنى لو يستطيع إختصار الوقت لكي يأتي الموعد المرتقب مع صاحبة الصوت الملائكي وما تحمله من ألغاز.
في صباح اليوم التالي كان واقفا في كامل حلته على محطة القطارات بعد أن أنهكه سهر الليل الذي بات كأنه بلا نهاية. سمع ضجيج القطار وصوت فرامله الحديدية وهي تعلن عن وصوله إلى المحطة وراحت عيونه تراقب المسافرين النازلين من باب القطار باحثا عن تلك التي أيقظت فيه الحياة من جديد. تسائل كيف سيتعرف عليها ولم يرها في حياته ولا يعرف منها إلا صوتها؟ طمأن نفسه بأنها قالت أنها تعرفه وسوف تتعرف عليه حال رؤيتها له. كلما نزلت فتاة من على درجات سلم باب القطار، راحت عيناه تستقبلها وتصورها من رأسها إلى قدميها وكان ينصت إلى دقات قلبه لعلها تكشف له عن سرها، ولكنهن كن ينزلن ويسرعن إلى قاعة المحطة غير عابئين بوجوده.
ظهرت، عرفها منذ أن وضعت ساقها على درجة السلم الأولى. لقد أدارت عيناها باحثة في جموع المنتظرين ثم إستقرت عليه وابتسمت له وتابعت نزول الدرجات. كانت كما تصورها، أحلى صورة لأحلى صوت. كانت مجموعة متناسقة من الحسن والجمال والإناقة. كان النظر إليها مفرح وموجع ومثير لكل الرغبات والعواطف، من لهفة لإمتلاكها ورغبة في حمايتها وشوق للنظر إليها والإستمتاع بروعة صنعها.
تقدمت نحوه وهالتها الناصعة الألوان تسبقها إليه ومدت يدها له. أخذها بكلتا يديه وضغط عليهما برقة، ثم إنحنى وقبل أناملها وأخرج من فمه كلمات ترحيب، شك في أنها قد فهمتها فلقد كانت أقرب من الحشرجات منها إلى الكلمات.
نظرت إليه وقالت:" لم تتغير كثيرا عن الصور ولكنك شبت وأصبحت ملامحك أكثر جدية." ضحك بإنفعال وقال:" شكرا يا بنيتي على هذا الإطراء ولكن الشيب قد تخطى شعري واخترق كل أعضاء جسدي."
أخذ بيدها وقادها إلى موقف السيارات حيث أوقف سيارته ولقد سلمت يدها له بطواعية وإنصاعت لقيادته بشعور عارم من أنها في أيدي أمينة. فتح لها باب سيارته وساعدها على الجلوس وأغلق خلفها الباب وذهب إلى الجهة الأخرى وجلس خلف المقود وشغل محرك سيارته. سمعها تقول:" عندي ساعتين فقط، علي أن أعود في قطار الساعة الواحدة. يمكننا أن نجلس في مقهى قريب ونتحدث." نظر إليها بطرف عينيه وقال: " لماذا أنت بخيلة لهذا الحد، تعيدين الدماء إلى عروقي وتعودين لتجفيفها." ردت والإبتسامة على شفتيها: " هي الظروف ولعله ليس آخر لقاء بيننا."
فتح لها باب المقهى ودعاها للدخول، ثم توجها نحو طاولة في ركن المقهى وسألها إن كانت الطاولة تناسبها فأومأت بالإيجاب. ساعدها في نزع معطفها الربيعي ومسك بيدها ودعاها إلى الجلوس واطمأن على راحتها ثم جلس قبالها. طلبت قهوة بالحليب وهو فضل الشاي الأخضر. وضعت في فنجان القهوة قطعة من السكر وراقبها وهي تمسك باناملها الرقيقة الملعقة الصغيرة وتحرك محتويات الفنجان. أما هو فلم يلمس كأس الشاي الذي أمامه فلقد خاف أن تلاحظ الرجفة في طرف أصابعه.
وضعت يدها في حقيبتها الصغيرة وأخرجت عدة صور وضعت إحداها أمامه وسألته: أتذكر هذه الصورة؟ نظر إلى الصورة فوجد نفسه فيها ومعه فتاة جميلة وقد وضع يده على كتفها. أجاب: " طبعا أتذكر هذه الصورة وأذكر هذه الفتاة فلقد كانت زميلتي وصديقتي." قالت:" هذه أمي". ثم تابعت في وضع الصور على الطاولة واحدة تلو الأخرى وكانت جميعها صورا له برفقة والدتها." نظرت إليه ولاحظت أن لون وجهه قد بدأ في الإصفرار وبدأت يده ترتجف فخافت عليه فربتت على يده بحنو وقالت:" كانت أمي تعشقك، ولقد عشقتك طوال حياتها إلى أن ماتت قبل أسابيع ولم تنقطع ذكراك من مخيلتها وكانت دوما تتحدث عنك وتنظر إلى الصور كأنما هي الخيط السحري الذي يجمعها بك. " بقي صامتا ينظر إليها ببله فتابعت:" كان والدي يعرف بحبها الخفي تجاهك فآلمه ذلك وحرقته الغيرة التي إعتاد أن يطفئها في الكحول حتى أصيب بسبب ذلك بالتليف الكبدي ومات قبل سنين. كانت أمي تحبه بطريقتها الخاصة ولكنها كانت تعشقك حتى الثمالة ولم تك تستحي من التعبير عن حبها لك "
نظر إليها وقد بدأت شفتاه ترتجفان وقال:" لم أكن أعرف ذلك، لقد تركنا الجامعة وانقطعت علاقتنا وتاه كل منا في عالم آخر. لقد غادرت البلاد ولم أعد أسمع عنها بعد ذلك. لقد كنت أحبها وأحترمها ولكن الحياة رسمت لكل منا طريق مختلف. لم أكن أدري يا بنيتي، أعذريني! "
وضعت يدها النضرة على يده التي شاخت بفعل السنين وشدت عليها بحنو وقالت:" لا بأس عليك وأنا لم أقصد إزعاجك وإنني لأرى في عينيك سؤال يحيرك وهو إن كنت إبنتك. أنا لا أعرف ولا أريد أن أعرف ولم تحدثني والدتي في هذا الأمر أبدا ولا حتى تلميحا. والدي توفي وكنت أحبه جدا وما جئت إليك إلا لكي أكشف سر هذا الرجل الذي عشقته أمي طوال حياتها."
نظر إليها وهز رأسه وقال:" لا يوجد عندي أي سر لتكتشفيه، وإن كنت إبنتي أم لا فهذا لا يهم والمهم أن تعتبريني منذ اليوم أبا وأخا وصديقا فأنت بنت حبي القديم الذيي لعبت به الأقدار ففرقتنا."
تحدثا في مختلف الأمور، كانت متشوقه لمعرفته ولمعرفة أخباره مع والدتها وكان متشوق للزيادة في معرفتها. مر الوقت بسرعة ولم يشعرا إلا وقت جاءت لحظة الرحيل. دفع حساب المقهى، ساعدها في لبس معطفها ومسك يدها وخرجا سويا من المقهى متجهين إلى سيارته.
إنتظرا على رصيف المحطة بصمت وكانت عيون المسافرين تراقبهما وعلامات الإستفهام مرسومة على وجوههما. جاء القطار، فساعدها في الصعود وفي الجلوس في مقطورة مناسبة. مدت يدها له مودعة فأخذها بحنان ولطف وقبل أناملها فعانقته وقبلت وجنتيه. خرج من المقطورة بصمت ونزل من القطار ووقف على الرصيف ينتظر رحيل القطار. فتحت النافذة ووقفت فيها وقالت:" شكرا على لقاءك لي، لقد قضيت معك وقتا ممتعا. الآن عرفت سر عشق والدتي لك طوال سنين حياتها. إنك تنمي شعورالمرأة بأنوثتها وتحترم عقلها وتشعرها معك بالأمان وهي أوصاف نادرة في الرجال. لقد رفعت مستوى تطلعاتي لرجل المستقبل، أشكرك فلقد عاشت والدتي سعيده بحبك."
بدأ القطار في التحرك فرفع صوته مناديا:" عندما تتعرفين على رجل المستقبل أرجوك أن تعرفيني عليه. لن أسمح بأن تقعي في يد من لا يقدر قيمتك." صاحت مجيبة:" سافعل، سأفعل."
أسرع القطار مغادرا المحطة وبدأت ملامحها تختفي رويدا رويدا ولوح لها بيده حتى غادر القطار المحطة. غادر المحطة وهو يتمتم:" كان الله في عونك يا بنيتي."



#نضال_الصالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عالم المجانين
- مستشفى الأمراض العقلية وعالم المجانين
- العم حسنين: الحكمة والقمامة
- عبدالرحيم عمر: الشاعر، الصديق والإنسان
- البحث عن الذات
- قصتي مع جابر بن حيان
- كيف تتكون الهالة حول الجسم وما علاقتها بصحته
- اليهود الخزر
- وحدة المخابرات العربية
- المرأة والجنس في الديانة اليهودية
- المتقاعد
- الإسلام والمسيحية، صراع عقائد أم مصالح؟
- رقة الغزل وعفة السلوك
- ذئاب بلحية ومسبحة
- جنَ الفلم فاحترقا
- دفاعا عن الحائط
- هل ماتت الإشتراكية وإلى الأبد؟
- طوشة الموارس
- الجدل العقيم: ديني أفضل أم دينك؟
- رسائل وردود


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نضال الصالح - حب من الماضي