|
هل أوضاعنا جامدة بالفعل، لا تغيير فيها؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3013 - 2010 / 5 / 23 - 15:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ينتشر شعور عام بجمود الأحوال في البلدان العربية، وينعى أكثرنا انعدام التغير فيها. لكن لا يفوق شيوع هذا الانطباع غير كونه خاطئا جذريا. سنقول هنا إن مشكلة البلدان العربية بالأحرى أنها من أكثر بلدان العالم تغيّرا، غير أن تغيرها "خارجي"، غير مسيطر عليه اجتماعيا وسياسيا، وغير مستوعب ثقافيا. في العقدين الأخيرين، تغيرت مجتمعاتنا كثيرا تحت تأثير ثورة الاتصالات العالمية وتكنولوجياتها: الأقنية الفضائية في تسعينات القرن الماضي، والانترنت والهاتف الخليوي في العقد المنقضي من القرن الجاري. كسرت الفضائيات الاحتكار الإعلامي للدولة وقوضت سيادتها المعلوماتية، وأجهزت عليهما شبكة الانترنت التي حطمت الرقابة على النشر والتواصل أيضا. وكان للانترنت مفعول ديمقراطي في توسيع القاعدة الاجتماعية للتعبير عن الرأي وصنع المعلومات، وكذلك في إتاحة تواصل أوسع بين الناس، ضمن البلد الواحد ومع مقيمين خارجه، مما لا يسهل على السلطات مراقبته. لكن التكنولوجيتين عززتا الحياة الخاصة في مجتمعات لا تتميز بقوة الحياة العامة فيها. والانترنت التي سهلت تداول ونقل المعلومات الفوري والعابر للحدود، يسرت كذلك إقامة تجمعات افتراضية جزئية، قد يشترك فيها آخرون من خارج الإطار الوطني. ويبدو أخيرا أنها الوسيط التكنولوجي الإعلامي الأبرز لتحدي المحرم الديني. أما الهاتف الخليوي فقد أضحى علامة النضج والاستقلالية الأبرز، وهو يتيح التواصل الفوري وفي كل الأوقات بين الأفراد. وعدا تأثير التكنولوجيا، هناك التزايد السكاني السريع في أكثر البلدان العربية. خلال أربعين عاما تزايد سكان سورية أربعة أضعاف: من نحو 6 ملايين نسمة عام 1970 إلى 23 مليونا في العام الماضي. هذا مهول، ويرجح له أن يعني ضغطا كبيرا على الأراضي الزراعية والمياه، وتضخما للمدن، وازدحاما وتلوثا، وتدنيا في ما يتاح من خدمات لعموم السكان، وارتفاعا لنسب البطالة ونموا محتملا في الأمية. في المقام الثالث، وفي البال سورية أيضا، هناك تغيرات النمط الاقتصادي والتحول من اقتصاد حكومي تشغل الدولة فيه موقع رب العمل الأول إلى اقتصاد سوق (غير تنافسي فعليا)، وما يترافق معه ذلك من تحرير للتجارة، وكثرة السلع المستوردة في الأسواق، وظهور مراكز مدن حديثة تحاكي نظيراتها في البلدان الأغنى، لكن مع طرد الفئات الأدنى دخلا إلى ضواح بائسة. هناك أيضا ارتفاع مهم في متوسط دخل الفرد إلى أزيد بقليل من ألفي دولار أميركي حاليا بعد أن كانت بالكاد فوق ألف دولار قبل 8 سنوات فحسب. لكن لا ريب أن فوارق توزيع الدخل أكبر مما كانت في أي وقت سبق منذ خمسين عاما. هذه عوامل تغير متنوعة، ظهرت خلال العقد الأخير بخاصة، وبمحصلتها أضحت سورية مختلفة جدا عما كانت خلال نحو أربعين عاما قبلها. ليس هذا المثال استثنائيا بحال، وهو يكفي للقول إن مجتمعاتنا جامدة لا تتغير. لكن بالفعل يبدو أن مجتمعاتنا لا تتغير على بعض المستويات، السياسي بخاصة. تدوم نظم وأنماط الحكم نفسها دونما تغيير بصرف النظر عن أدائها ومردودها في معالجة المشكلات الوطنية. هذا مهم لأن المستوى السياسي هو المعني بإيجاد وتنفيذ حلول للمشكلات العامة، أي المولج أكثر من غيره بضبط التغيرات الجارية وتيسير السيطرة الاجتماعية عليها. فإذا كان هذا المستوى مُسخّرا، أولا وأساساً، لدوام نخب قائدة لا تتجدد، كان من المتوقع أن يكون دوره في السيطرة على التغير الحاصل أدنى. تريد النخب تلك أن تكون المرجع الوحيد لتفاعلات محكوميها، فتعطل فرص نشوء انتظامات مستقلة عنها، حتى لو كانت لأغراض مهنية وخدمية ومحلية. وإذ تتولد في حياة مجتمعات مكونة من ملايين وعشرات الملايين مشكلات يومية متنوعة، فإنها ولا بد تحتاج إلى تدبر مرن وسريع على المستويات المحلية والقاعدية. فإذا أحبط هذا التدبر، فكأنما أنت تقيد الناس بينما تتناوشهم تغيرات عاصفة مجتاحة. وبالمثل، لا يسع الثقافة أن تصف التغير وتشرحه، وتوفر للمجتمع استيعابا معقولا له، دون نقاش حر ودون استقلال للمثقفين والاختصاص الثقافي، ودون منابر مستقلة للتفكير والنظر والنشر والنقد. لا تستطيع الدولة، مهما تكن مؤسساتها فعالة ونخبة الحكم فيها مخلصة ونزيهة، أن تكون وحدها الجهة الضابطة للتغير والمعالجة لكل المشكلات الاجتماعية. تحتاج إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للتعاطي مع تيار التغير المستمر. المبادرات الاجتماعية القاعدية (وهي وفيرة لو لم تُقيّد)، والنشاط الثقافي النقدي والحر، فضلا عن الدولة وأجهزتها، هي ما من شأنها أن تتيح لمجتمعات مليونية تَملُّك تغييرات دافقة، منعها متعذر وغير مرغوب في آن معا. والمقصود بتملُّك التغيير استيعابه الثقافي والتحكم السياسي به، وتحويله إلى مؤسسات اجتماعية وقواعد عامة وثقافة. انطباع الجمود في بلداننا متولد عن أن مبدأ التغير المنظم والواعي، أي الدولة، انقلب إلى مبدأ لممانعة التغير، فصار يعاش من قبل الواقعين تحت وطأته كقدر خارجي، لا يتبدل ولا يُذلّل. لكن مصدر انطباع الجمود هذا (تسخير الدولة العامة لكفالة دوام السلطة الخاصة) هو ذاته السبب في كون مجتمعاتنا هي الأشد تغيرا على وجه الأرض. تقييدها السياسي من جهة، ووفرة التغيرات فيها وحولها من جهة ثانية، تُسبِغ على تغيراتها صفة مطلقة، برانية، أقرب شيء إلى انجراف سلبي. وليس المقصود ببرانية التغير أن محركاته تقيم خارج بلداننا أو خارج ثقافتنا، بل بالضبط انفلاته خارج السيطرة الاجتماعية، أي كونه غير مستوعب وغير متحكم فيه. الاستيعاب والتحكم هي عمليات "الاستدخال" التي لا يتشكل الداخل قبلها أو من دونها. يمكن لعمليات التغيير أن تكون "داخلية" المصدر، التغيرات الاقتصادية في سورية اليوم مثلا، لكن المجتمع معطل بطرق متنوعة عن التمكن من هذه التغيرات وتغطيتها ثقافيا، الأمر الذي يبقيها تغيرات خارجية، قدرية. "القدر" اسم للخارجية المطلقة التي لا سبيل لنا إلى التأثير عليها، بينما تتحكم هي بنا من كل وجه. بالمقابل، ما من حائل مبدئي دون تمثل تغيرات "خارجية" المصدر، عبر "استدخالها" بوسائل المعرفة والتعليم، وبوسائل القانون والتنظيم الاجتماعي، وبوسائل الثقافة والإعلام، وبوسائل السياسة والإكراه أيضا. إن كان هذا التحليل قريبا من الصواب، على ما نقدّر، لزم تحرير الدولة العامة من الاستعمار الخاص الذي يحفزه نازع خلوده الذاتي إلى اعتبار محكوميه مصدر خطر يتعين تفريقه وتقييده. وحده تحرير الدولة يوفر لمجتمعاتنا المعاصرة قوة تنظيم لا منافس لها لاستيعاب تغيرات كثيفة من شأن الانجراف في تيارها الدفاق أن يكون مدمرا بدرجة لا تقل عن الانعزال عنها.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في معنى أزمة الثقافة ووجوهها وحصائلها
-
محمد عابد الجابري ونهاية الموجة التراثية
-
هل من الممتنع تصور إيران نووية متفاهمة مع الغرب؟
-
في تقدم التجزؤ وشغور موقع العام في مجتمعاتنا المعاصرة
-
صراع على الألم بين أبناء الجواري، تعقيب على منهل السراج
-
ثلاث استقلالات.. مستقلة عن بعضها
-
من أجل نقد جمهوري وديمقراطي للقومية
-
ما الذي يكفل صحة كلامنا؟
-
العراق بعد سبع سنوات... مضطرب، متقلقل، لكنه حي ومتجدد!
-
لا شعب ولا شعبوية.. خطط نخبوية فقط
-
أي حل لعقدتنا الغوردية؟
-
كل الطيبات للطيبين، وكل الأشياء الأخرى أيضا
-
الطائفي هو من يؤمن بوجود الطوائف
-
وراء ثلاثة جدران فولاذية أو أربعة
-
هل سورية معرضة للزوال ما لم يكن حكمها استبداديا؟ نقاش مع حاز
...
-
الظاهرة الإسلامية.. صحوة أم رِدَّة، أم ربما فرصة؟
-
الإصلاح الإسلامي وإيديولوجية الإصلاح الديني
-
العدل... ولو انهار العالم
-
لماذا نتخلف؟ ولم لا يكف تخلفنا وحده عن التقدم؟
-
في تفقد الواقع وأشياء أخرى
المزيد.....
-
رغم الهدنة.. الحوثيون يهددون باستهداف بوارج وسفن أمريكا في ه
...
-
الحرب بين إيران وإسرائيل.. هجمات جديدة وتداعيات وردود فعل
-
غزة: 12 قتيلا بنيران إسرائيلية معظمهم قرب مراكز توزيع مساعدا
...
-
صور للجزيرة تظهر تمركز قاذفات بي-52 في قاعدة دييغو غارسيا
-
مختص بالشأن الإسرائيلي: تذمر من الحرب وبوادر مساءلة يتوقع ات
...
-
مدير مكتب الجزيرة بطهران: حراك إسطنبول مهم لإيران ويؤسس لمظل
...
-
عاجل| المتحدث باسم أنصار الله: في حال تورط أميركا في العدوان
...
-
الاحتلال يهدم عشرات المباني بمخيم جنين وتصاعد اعتداءات المست
...
-
رئيس وزراء قطر يبحث مع عراقجي العدوان الإسرائيلي ويشدد على ا
...
-
زيلينسكي يتهم موسكو بتسليم جثامين 20 جنديا روسيا بدلا من الأ
...
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|