أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - ضحايا [ الجزء 4 ]















المزيد.....

ضحايا [ الجزء 4 ]


رويدة سالم

الحوار المتمدن-العدد: 3003 - 2010 / 5 / 13 - 23:54
المحور: الادب والفن
    


قفز واقفا كما لو انه يحاول اللحاق بخيال والدته الذي لاح له فجأة بعيداً جداً. بَدَت له الزنزانة بمساحة ملعب كرة قدم و بالطرف المقابل تقف هي وحيدة حزينة . حاول الركض نحوها فتقاذفته الجدران . اقترب مترنحاً من الباب الحديدي . أمسكه بعنف و صاح :

- بريء...

تردد صدى صوته في أرجاء الممر الطويل المشبع بالرطوبة و رائحة العفن و الموت ، مترجياً جريحاً. خُيّْلَ إليه أنه سمع آخرين يرددون معه:

- "بريء"....

ألاف الحناجر صرخت في آن واحد. حتى الجدران رددت معه صرخته. بدت له الأصوات تارة باكية مُنتحبة و طوراً ساخرة ضاحكة. أرهقه الصدى فأمسك رأسه بكلتا يديه و تراجع إلى سريره. وقف و نظرهُ شاخص إلى الباب ثم صاح:

- "الرحمة".

قرر أن لا يكفر بنصيبه من الرحمة. ستأتيه فاتحة ذراعيها ، تمسح عن قلبه الشجن و تزرع الأمل . سيأتي الحارس ليفتح الباب و سيخرج راكضاً نحو الحرية. بل ستأتي هند حبيبته و تحمله إلى عالمها الفاتن الجميل . كم يشتاق لتلك الفاتنة المُثيرة. سيعود إليها و إلى مكتبه و شقته المُترَفة و سينعم بالثروة التي قضى كل تلك السنوات يجمعها.
تذكَّر "هند" تلك السيدة المحترمة الجميلة. دخلت حياته فجأة. كان محتاجاً لها و لدعمها بعد حادث السير الذي ذهب ضحيته أب و إبنه. أثر به موتهما عميقاً. لم يقصد أن يدهسهم. لم يكن يعرفهم حتى . سيارتين هامر أخريين حاصرتاه و حاول سائقيهما أن يتجاوزاه. صدمته إحداهما مرتين بقوة. لعن القانون الذي يتجاوز أخطاء أبناء الأمراء و الأثرياء في بلده... هذا الشباب المتهور بجنون و الذي يستغل صلاحياته في الاعتداء و اغتصاب كرامة الفقراء و المساكين. عندما حاول الابتعاد عن طريقهم صدم الرجل و الطفل ذي الست سنوات. لم يحمّله القانون المسؤولية. كان هو و سيارته في حالة مزرية كما لم يصل أحد للسائقين الأرعنين. رغم براءته احتاج لطبيب نفساني. ساندته هي أيضا و جعلته يتجاوز الأمر. لأول مرة منذ دخل عالم الأعمال و النساء الجميلات عرف الحب. أحبها بكل ما أوتيَ من قوة. كانت مميزة في كل شيء، في عطائها اللامحدود و قدرتها على بث السعادة في قلبه و حزنها العميق الذي لم يدرك كنههُ يوماً.

حاول تذكّر ملامحها. كم أغراهُ جسدها الرشيق. كم امتلكها بكل شوق الدنيا للحياة. شعرها الأسود المنسدل على كتفيها كان يختزل كل الثورة و العناد. كانت غير كل النساء اللاتي عرفهُنّ. عينيها الحزينتين الغامضتين كانتا عالماً سحرياً، و ثغرها المثير كان كقطعة سكَّر.
فجأةً بدا وجهها بعيداً و مشوّهاً في حين إرتسمت على فمها إبتسامة الحارس الكريهة،
فتغيَّرت تقاسيم وجهه.
هذه الابتسامة المتشفية التي تخيل انه يراها على وجه الحارس لم تُفارق عقلهُ المتعَب. أحسَّ أن هواء الغرفة صار أثقل. لم يقدر على التنفّس... شعر أنه يختنق فرفع يديه كما لو أنه يبحث عن بقايا أكسيجين في الهواء المشبَّع بالعَفَن في هذه الغرفة الضيّقة. شعر بتيار بارد يسري في عموده الفقري و يشلُّ حركته. تهاوى على السرير و إرتطم رأسه بالحافة الحديدية فأصابه الدوار. حاول رفعه، تملكته رغبة ملحة في التقيؤ، إنه يزداد ثقلاً و ينزلق ببطء إلى الأسفل. تَخَيَّلَ أن رقبته بدأت تزداد طولاً و أنفاسه بدأت تتقطع و أن رأسه صار ضخماً ثقيلاً...
سينفجر و سيملأ الغرفة قيحاً و دماً. إنه يتهاوى و بعد حين سيرتطم بالأرضية و سيسمع الحارس صدى السقوط وسيهرع راكضاً ليتأكد من أن سجينَهُ لازال على قيد الحياة . يجب أن لا يموت قبل أن يجره إلى ساحة الإعدام بنفسه. لمعت عينَي الحارس من جديد في فضاء الغرفة. شعر بالكراهية تجاه ذلك الرجل الذي شارف على الستين و ما زال يقود السجناء إلى الموت بإبتسامة رضا تنم عن سعادته بالانتقام ممن يُدينُهُم القانون ... لكنه بريء لم يقتل العم سعيد الطيب. لم يكن هو من فعلها. فكَّرَ أنه يجب أن يقتل أحدهم قبل أن يموت. سيكون الحارس أرجح الخيارات. سيريح من سيأتي بعده من إبتسامته البغيضة الحاقدة. سيشكره كل من سيمر عبر هذه الغرفة، و سيكون لإعدامه ثمناً مناسباً... ألحَّت عليه فكرة أن يدعوه بتعلِّة المرض ثم يقتلهُ. حاول الصياح لكن صوته كان مُنهكاً. ترددت في الغرفة الباردة كلمات لم يسمعها سواه.

- تعالَ أيها العجوز. لقد قررتُ قتلك. ظلمٌ أن لا أفعل. كيف أُعدَمُ بدون جرم !! ستكون مثلي، كبش فداء.

بعد مقتل سعيد لم يصدِّق أحد أنه بريء. كان الدليل على جُرمه ثابتاً لا يقبل الدحض : الجريدة التي تعوَّد أن ينشر بها مقالاته الأدبية، صدرَت فيها أقصوصة قصيرة جدا تتحدث عن خيانة و يصف فيها المؤلف طريقة قتل الضحية بذات التفاصيل التي ظهرت في الجرائد يومٍ مقتل سعيد. كان أسلوبه و كلماته و إمضاءه. بحث في ذاكرتِهِ عمَّن أرسلَها فلم يجد أي كاتبٍ مُحتَمَل. من يستطيع أن يتبنى ذات الأسلوب ثم يرسلها على بريده الإلكتروني الذي لا يعرف مفتاحه غيره ؟
الدليل مُقنع جداً فلماذا يُغالطهم. الجريدة إستلمت الأقصوصة كالعادة و نَشِرَتها صباح الإعلان عن الجريمة.
هو لم يقتل أحدا. كل الأدلة كانت ملفَّقة و إن بدت مُقنعة إلى أبعد حد. التهمة غايتها النيل منه.
سيُعدم و ستُسلب منه حياته دونما ذنب . كم يكره ذاك القاضي و قوانينه الجائرة . إنه قاسٍ و لا يمتلك أية مشاعر إنسانية . لو قضى ليلة واحدة في هذه الغرفة لتردد ألف مرة قبل أن يُدين مُـتَـهماً. كم يكره الكل. العالم بأسره لأنه يقبع هنا وحده حزيناً رغم براءته في حين يُسعَـد الآخرون و يضحكون. تراءت له من جديد إبتسامة الحارس. شعر أنه يكرهه أكثر من كل الناس. تسائل مجددا لماذا لا يقتله و يريح من سيأتي بعده من ذاك الوجه البشع . لكن لماذا يريحهم . مالذي سيربحه من تحقيق هذه الراحة التي سيحرم منها هو. هل سيفكرون به و يشكرونه. طبعا لن يعلموا أنه مر من هنا.

عندما كان حراً حارب طويلا في مدونته و على صفحات الجرائد من أجل القضاء على عقوبة الاعدام و ها أنه سيساق إلى المشنقة و سيشعر برقبته تُكسَر. كم سيكون الامر مؤلما و قاسيا. كم سيتعذب قبل ان يسقط جثة هامدة.
سرت بجسده قشعريرة. أحس الخوف يطبق على أنفاسه كما سيطر الإرهاق على عقله و حرمهُ الراحة. إنه يحتاج النوم لكنه لا يستطيع بلوغه.
ما الفائدة منه ؟ ليرتاح و يفكر ؟ فكر محاميه و فكر هو طيلة المدة قبل المحاكمة و لم يجدا حلاً ولا حتى ثغرة بسيطة. فكر منذ أودع السجن بدون جدوى. التهمة مفصلة على مقاسه تماماً و لا سبيل للتخلص منها. قادته إلى هنا و بعد يوم إلى حبل المشنقة الذي يتدلى هناك. نظر إليه من الكوة الصغيرة الوحيدة. كلما حركته الريح ينعكس ظله على السطح و الجدار الاسود لزنزانته فيُخيل له انه معلق بالسقف تتدلى منه جثث المارين من هنا، يبتسمون له و يمدون له أيديهم. جفل من الخيالات التي تراءت له. فرك عينيه و إقترب من الكوة، نظر إلى السماء كانت صافية و الطقس ربيعي جميل. ود لو بإمكانه أن يجري دونما توقف إلى أن يشعر بالانهاك و يسقط على العشب الأخضر. لا يبغي الآن شيئا آخر سوى الانطلاق في الهواء الطلق و الركض. بعد ذلك سينام طويلاً حتى يمل الرقاد. عليه أن يبقى مُدركا لكل ما يحدث حوله في ساعاته الأخيرة . عليه أن يشعر بأنفاسه و بقلبه عندما ينبض و بالدم يسيل بعروقه ، أشياء سيفقدها قريبا بل ستُنتَزع منه رغما عنه. ألم يكن القاضي الذي حكم عليه بالإعدام أشد إجراما ؟ في حين يتعفن هو في هذه الغرفة القذرة، يلعب القاضي مع أطفاله في إحدى الحدائق العامة. هل يؤنبه ضميره الآن و يتذكر هذا الرجل الملقى هنا فيشرد بذهنه بعيداً و تفارق قلبه السعادة ندماً و حسرة أم أنه ككل المجرمين يتمتع بدم بارد يضحك مقهقها غير مبال بمعاناة ضحيته ؟؟؟
حين عجزَ محاميه عن تبرئته صاح قيصر:

- إني بريء. كيف لي أن أقتله ؟ هوَ معلمي الحبيب. كان كل أهلي و ذكرى موطني . هو كل الماضي و الحاضر...

سَـرَت همهمات إستنكار في قاعة المحكمة. لم يلتفت له القاضي . كان منشغلاً مع مستشاريه و بدا كأنه لم يسمعه أصلاً و بعد إنتظار خُيَّلَ إليه أنه دهر دوّى الحكم في أرجاء القاعه الواسعه ....
- ( حُكِمَ بالأعدام شنقاً على المدان قيصر ... حتى الموت لأن كل الادلة تُشير إلى أنّه القاتل) أتُهِمَ بأنه حاول في سكرِهِ الاعتداء على خادمهِ بالعنف بدعوى خيانة الثقة ... فقد سيطرتَهُ ، و في لحظة جنون قطّعه إرباً و كأي مجرم محترِف غادر مسرح الجريمة بدمٍ بارد .
الذين عانوا في المعتقلات و السجون فقط يعلمون معنى الحرية. حين يحصل على نصيبه من الرحمة لن ينظر إلى الوراء و لن يفكر بهذه الغرفة الضيقة.
هذه الزنزانة اللعينة، كم حوت قبله من المحكومين !! أسماء منقوشة على الجدران في كل مكان تخلّد ذكراهم. قلوب محطمة تخترقها سهام دامية. منذ دخل هذا القفص المحكم الإغلاق لفتت نظره بشدة صورة مشوهة لوجه طفل يبكي. مسكين ذاك الأب الذي رسمها. ربما حلم أن سيرى إبنه لكن الزمن كان قاسياً فإكتفى بالصورة ، ربما قبّلها قبل أن يُساق إلى حتفه و ربما وعدها بلقاء قريب. أين ذهب ذاك الطفل؟ هل كبر الآن ؟ ألا زال يذكر أباه ؟ أم أن الزمن كفيل بجعل الأحياء ينسون كل ذكريات الموتى ؟؟

قرأ تحت قلب كُتِبَ عليه بالدم "سأحبك إلى الأبد".... مسكين ذاك العاشق. لم يكن حبه طويلاً. رحل بسرعة فلم يكن إنتظار "الأبد" قاسياً عليه. لقد وفى بوعده. إنه أصدق العشّاق و أوفاهم، لكن هل تذكّرتهُ حبيبته بعده !! ؟؟
ألا زالت عينيها تدمع لصورةٍ أو لطيفٍ يلم بها ؟؟
أم أنها الآن بين أحظان آخر تتغنى بالسعادة و الوفاء الأبدي ؟؟



#رويدة_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المراة بين الدعارة الشرعية و سفاح المحارم [الجزء 2 ]
- المراة بين الدعارة الشرعية و سفاح المحارم [الجزء 1 ]
- ضحايا [ الجزء 3]
- ضحايا [الجزء 2 ]
- ضحايا [الجزء 1 ]
- الذكورة البدائية و السوط المقدس
- عندما تؤمن النساء بأمجاد -ذكورة- مقدسة


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - ضحايا [ الجزء 4 ]