أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - ضحايا [الجزء 2 ]















المزيد.....

ضحايا [الجزء 2 ]


رويدة سالم

الحوار المتمدن-العدد: 2997 - 2010 / 5 / 6 - 08:39
المحور: الادب والفن
    


قاده قدرُهُ إلى قيصر.
ذاك المساء كان عائدا من عمله. توقف ليشتري علبة سجائر. فلفت إنتباهه الرجل الذي يجلس القرفصاء بجانب مكب للنفايات. البؤساء الذين يلتقي بهم في مثل هذا الوقت المتأخر كثر، في هذه المدينة التي ترتفع فيها المآذن عالية في السماء ملوحة بالهدى و التقوى... أشفق عليه. إقترب منه ليضع أمامه قليلا من النقود. حتما هو جائع و يحتاجها كثيرا. كان المتشرد نائماً. رجل معدم كالمئات من المشردين الجوعى. ثيابه الرثة مُتَّسِـخة إلى ابعد حد و على وجهه رسمت التجاعيد معاناة قاسية. لما نظر إليه بدا له الوجه الهادئ مألوفاً. أشعل سيجارةً، أخذ نفسا طويلا ثم، كما في الأحلام، لاح له في الظلام مشهد تكرر كثيرا، هناك في مرج عامر. كهل بوجه عابس يعنف طفلا و يحاول ضربه في حين يحميه معلم طيب متلقيا الضربات مكانه. نفث الدخان بعصبية و قفل راجعا إلى سيارته. عندما هم بالإنصراف سمع صوتاً ضعيفاً يقول:
- أريد سيجارة، لو سمحت.
فجأة تذكّر. رأى نفسه طفلاً ضعيفا جائعا باكيا واقفاً أمام معلمه الذي يربت على خده و يقدم له مالاً ليشتري طعاما. الذكرى كانت حزينة و رغم أنه كان بعشاء عمل إلا انه أحس الجوع يعتصر أحشائه. لم يكن جوعا حقيقيا، فذلك الإحساس إختبره جيداً لأنه رافقه طويلاً لكنه كان ألما من نوع آخر. أمسك بطنه كما لو أنه يحاول كبح جماحها. لكن الألم إشتد أكثر.
الجالس هناك لن يكون ذاتَ الملاك من ماضيه في مرج عامر. الدنيا ليست بهذه القسوة لتعاقب الملائكة و تدمرهم بهذا الشكل السافر.
إقترب منه و جلس أمامهُ، مباشرة على الأرض. تأمّله ثم بعد برهة إحتضنه. قدم نفسه إليه و حدثه عن الماضي و الطفل الباكي اليتيم و قطع الحلوى، فإبتسم المتشرد ببلاهة. ربما إبتسم لذكرى جميلة مرت بخياله المُنهَك و ربما لأنه لا يذكر شيئا أراد أن يُكافئ الخَيِّرَ الذي يعرض المساعدة. حمله قيصر رغم معارضته و عادا معاً إلى شقته. عرض عليه العيش معه فقبل أو ربما هُيأَ لقيصر أنه موافق. كان العجوز سعيد يخشى الناس فلم يخرج من الشقة منذ ذالك اليوم إلا مرغما. وجد بعد تيه طويل الأمان و الحماية و الراحة فبقي. فَضَّلَ أن يكون خادما أمينا يجلس على الأرض بين يدي قيصر بعد أن يقدم له الشاي الشيء الوحيد الذي يقوم به بإتقان ثم يرنو إليه بصمت و شرود باد على محياه و على ثغره إبتسامة. حاول قيصر مرارا أن يغير سلوكه ذاك دون جدوى. لم يخطئ يوما و حتى لو فعل ما كان ليغضب منه. إنه معلم الصبا، السيد المحترم و المبجل. إنه أجمل ذكرى من ماضٍ تعس و هو كل الأهل بالنسبة إليه. فكيف يُعقَل أن يقتله!!؟؟
نشأت بين قيصر و الحارس علاقة غريبة. وجد هذا الأخير أن السجين، رجل مثقف و مختلف جدا عن المحكومين الذين إعتاد التعامل معهم فراقبه طويلا من خلف قضبان الباب الحديدي. لا يفهم اغلب ما يقوله قيصر لكنه يستمتع بحديثه. ليبقى أطول فتره ممكنة حاول أن يحمل له، يوميا، آخر الأخبار التي يسمعها في التلفاز أو ما يقرأه له ولده في الصحف التي يلقيها مدير السجن في سلة المهملات قبل أن يغادر. شعر قيصر بالامتنان لذلك الكهل لكن مع إقتراب موعد الإعدام مشاعر غريبة صارت تفقده السيطرة. صار يشعر بالضيق و الخوف. تمنى أن لا يأتي الحارس مجددا و أن لا يحمل له طعاما.
يريد أن يبقى وحده في هذه الفترة الأخيرة المتبقية له. يريد أن يصمت الكون و أن يتوقف الزمن. إنه مصاب بالاكتئاب إلى الحد الذي لا يستطيع معه التنفس. شعر بالاختناق فوقف عند الكوّة التي تُطل على الساحة الكبيرة للسجن حيث يُسمح للمساجين بالتجول و حيث تُنَـفَّـذ عمليات الإعدام. نظر إلى حبل المشنقة الذي يتدلى في تحدٍ سافر. و دون أن يُدرك رفع يده و تحسس رقبته طويلاً. شعر بالألم ينتشر في أعماقه و ينساب ببطء كتيار كهربائي يشل حركته. شعر بمرارة تخنقه و بألم يحطم قلبه الدافئ الذي طالما قدم دون مقابل. رغم جراح الماضي و الذكريات القاسية التي يحملها بأعماقه منذ كان طفلا بمرج عامر، حافظ على نصيب كبير من العاطفة، صفات ورثها عن أمه التي رحلت سريعا قبل أن تكشف له الكثير من الأسرار التي طالما أثارت حيرته و التي سيكتشفها قريبا لما سيلتقي بها في العالم السحري الذي ذهبت إليه بإرادتها هربا من جور والده و قسوة الحياة في قرية جبلية.
لم يزُرْ قرية مرج عامر منذ غادرها أول مرّة. لم يترك بها أحداً يحِنُّ إليه. خذلتهُ كثيراً و لم تترك أية فسحة للغفران. حين صار مراهقاً ينظم الشعر و مُغرَماً ببعض زميلات الدراسة كره أباه لأنه شوَّه الطبيعة التي أُعجبهُ بهائُها. عندما رحل معلمه قبل ذلك ببعض السنوات، شعر بقسوة الوحدة كما فَقَدَ الحماية و لما كان طفلاً كره الجوع و البرد و العراء و حلمَ بالهرب منذ إختفت أمه في الغابة الموحشة. قيل له أن "حيوانا بريّاً" أكلها حية. قيل له أنهم وجدوا بعض بقاياها و ثيابا ملطخة بالدم. لكنه سمعهم يتهامسون أنها جُنَّتْ أو ربما هربت مع أحدهم.. لم يبقى شيء يربطه بمكان سَـرقَ منه كل شيء و لم يمنحه أيَّةَ فرصه. نجاحه كان تذكرة ذهاب بلا عودة إلى عالم حلم به و رغب أن يكون سَـيَّدُهُ بلا منازع و كان له ما أراد...
كانت أيامُهُ الأولى جميلةً و هادئة. كان شاباً يملؤهُ الطموح ، ترك "مرج عامر" إلى الأبد و رحل و في نفسه آمال عريضة و أحلام كبيرة... إبتلعتهُ المدينة بجنونها و ركضها المستمر نحو المجهول. درس بكل الحماس الذي منحه إياه الشباب و تميَّزَ في مجال إدارة الأعمال و الالكترونيات. صارع بشراسة إلى أن دخل تلك الشركة التي كانت غاية آماله إدارتها. هذه الشركة العملاقة التابعة لمشروع "سماء دبي" منحته المال الوفير و المركز المرموق. لم يكُن أكثر زملائه كفاءةً لكنه كان الأقدَر على اقتناص الفرَصٍ و بسرعة بلغ المراكز المهمة بالشركة. كما تودد لأصحاب رأس المال تلاعبَ ببيانات بعض زملاءه بمساعدة "ليال" زوجة أحد أكبر المساهمين.
هي الزوجة الرابعة " للشيخ عارف " الفاحش الثراء و الذي زار الحرم المكي حسبما يشاع في قنواته الإذاعية الخاصة عشرات المرات. كانت إمرأة قوية و جميلة و لعوب لم تقبل البقاء في سراي الحريم حيث يخفي الشيخ المتدين و صاحب قنوات الفن و الجمال و الموضة و الجنس نسائه الأخريات و الكثير من الجواري اللواتي اشتراهن أو اهدين له من طرف بعض الأمراء و الأثرياء الشباب. ليالي إمرأة مختلفة عن باقي النساء. تعلمت في أحد أفقر الأحياء المعدمة حيث نشأت في بلدها الأصلي كل دهاء حواء بل أكثر. كانت الأفعى ذات الملمس الحريري التي تنساب بكل رقة لتنال ما ترغب به. حين تعرفت عليه ما كان أحد يتصور أنهما سيتزوجان. عملت كاتبة أرشيف إلكتروني ثم إرتقت بسرعة السلم المهني إلى أن صارت المساعدة الخاصة للحاج الوقور.. كان سكيراً مهووس بالنساء و كانت كريمةً جداً معه. و بخبث الثعالب وفّرت له عالماً من الشبق و اللذة بعيداً عن أعين الرقباء. و لأنه شديد الالتزام أمام المجتمع و كاميرات الإعلام طالبته بزواج علني فخم في إحدى الجزر التي يمتلكها و لم يعلم أحداً كيف تمكنت من فرض الأمر عليه. كان زواجه أول التنازلات التي قام بها لأجل ضمان صمتها. ثم تنازل لها عن جميع أسهمه في الشركة بالتدريج حتى باتت هي المساهمة الأولى. قبل الارتباط و بعده ظلت مساعدة و منسقة علاقات فقط . لم تكن أبداً زوجةً لذا بحثت عن الإشباع في ساحات أخرى. الشيخ المسن المتصابي و المهووس لم يُدِنْها لأنه لم يحكم سيطرته عليها يوماً. فإكتفى بتذكيرها أنها مطالبة بكتمان حياتها الخاصة و أنه لن يقبل أن تشوه إسمه. هذا الاسم الذي لا ترغب بفقده لأنه يمكنها من الكثير من الصلاحيات و الامتيازات .
قيصر كان يصغرها بسنوات عديدة و كان خجولاً و جميلا كأنثى ناعمة. رغبت بإمتلاكه بجنون منذ أول مرة رأته فيها فبذلت في سبيل ذلك المال و الحيلة. رأت بعينيه طيف ماضيها و وجعها. رأت العوز مرسوماً في ذوقه الرديء و نهمه فعلمته فنون الأناقة و التعالي و أغرقته في حياة البذخ. منحته المنصب الإداري و المركز الاجتماعي و حمته بشراسة اللبؤة الأم. ساعدته على الوقوف بثبات وسط العالم المتوحش للأعمال و المال. كانت أماً تعتني بتفان بولدها الصغير و عشيقةً تبذل بغيرة لا محدودة كل غالٍ لإرضاء حبيبها الساحر. بحثت في أحضانه عن شباب أضاعته في سعيها المجنون في سبيل الثروة و أمومة حرمتها منها الطبيعة القاسية.
قيصر من جانبه لم يكن قدّيساً. أخذ كل ما يحتاجه و أكثر برضاها حينا و بإبتزاز رخيص لمشاعرها أحيانا. إنه يعترف بأنّه كان نذلاً. لكنه لم يكن مختلفاً عن الآخرين. كغيرِهِ، سعى لضمان الأفضل و الحصول على كرسي رئاسة المشروع. بعد أن تحرر من ليال إنغمس في حياة ماجنة منحه إياه المال الوفير و وسامته و لباقته. في إجتماعات العمل و السهرات التي تنظمها الإدارة لعقد الصفقات تعود أن يشرب حد الثمالة و كانت متعته تتواصل بين جدران شقته مع اللواتي يرافقنه مقابل مال أو عمل. السكرتيرات في الشركة هن أيضا سريعاً ما كن يرتمينَ بين ذراعيه عارضات ما يطلب من خَدَمات، كان يعلم كل الأسرار و كل مخططات زملائه و كان بالمقابل يجزل العطاء عاطفياً و مادياً للعيون الجميلة التي ترصد له كل الأخبار.كانت أياماً جميلة نَعِـمَ فيها بالثراء و الجمال كما عمل أكثر من الآخرين. لم يفكّر أبدا بالاستقرار و بالزواج رغم كل العروض المُغرية لأنه كان يروم بلوغ القمة أولاً...



#رويدة_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضحايا [الجزء 1 ]
- الذكورة البدائية و السوط المقدس
- عندما تؤمن النساء بأمجاد -ذكورة- مقدسة


المزيد.....




- مصر.. الداعية مبروك عطية يكشف سبب غضبه من الفنان عادل إمام ( ...
- مصر.. مشاجرة في شقة فنان شهير تنتهي بقفز شخص من الشرفة
- اللغة العربية في بوركينا فاسو.. إرث التاريخ وتحديات الحاضر
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يحسم الجدل حول حصوله على الجنسية الس ...
- فنان مصري شهير يكشف حقيقة علاقته بتطبيق -مراهنات- (فيديو)
- فنان فلسطيني يجسد تاريخ وتراث القضية الفلسطينية في لوحاته (ص ...
- فنان فلسطيني روسي يجسد تاريخ وتراث القضية الفلسطينية في لوحا ...
- هيبقى فيلم جباااار..حقيقة تحويل لعبة جاتا لفيلم سينمائي في ا ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - ضحايا [الجزء 2 ]