أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حاتم عبد الواحد - السيد لا يحب الازهار















المزيد.....

السيد لا يحب الازهار


حاتم عبد الواحد

الحوار المتمدن-العدد: 2996 - 2010 / 5 / 5 - 02:38
المحور: الادب والفن
    



لم يكن ازيز الاطلاقات النارية صوتا مؤلوفا في بغداد سوى في قاعات السينما، ولرغبتي في تعلم الانكليزية من مصدرها الاوثق، لم انسَ تلك الليلة التشرينية من العام 1976 حينما ذهبت لمشاهدة احد افلام رعاة البقر الامريكيين، كانت احداث الفلم تدور في اريزونا، وعندما اختلط صهيل الخيول بصفير سيارات الشرطة التي تطارد القتلة المفترضين، كنت قد قرات على الشاشة قطعة تشير الى الحدود المكسيكية التي اتجه لها المطارَدون فتوقفت سيارت الشرطة عند الحاجز الخشبي للحدود المكسيكية واضيئت الانوار في الصالة معلنة انتهاء الفلم.
بعد ايام كنت امعن النظر في صورة الكاتدرائية التي تحتل قلب زوكالو مطبوعة في قاموس للغة العربية، فعرفت من خلال الخارطة المرفقة موقع المكسيك في العالم، ذلك الموقع الذي لا يعرفه 98 بالمائة من ابناء بلادي، ما زال ذلك الشعور يرافقتي حتى الساعة، كنت مع الداخلين الى الكاتدرال، تحدثت الاسبانية مع العابرين، ورتلت صلاة لا افقه مغزاها، وتخيلت الناقوس الكبير المتدلي من فوق واجهة المعبد قبعة لله على روؤس المؤمنين، كان حلما سريعا وفخا كبيرا، لانني لم اتعرض في حياتي لفخ اخطر من الامل.
ولقناعتي بان التاريخ ليس اكثر من سطر مكتوب بالحبر السري لا تبين مكنوناته الا برماد ارواحنا، فلقد اجلت رغبتي بزيارة المكسيك الى يوم القيامة، لقد مر على الواقعة التي سردتها مبتسرة 32 عاما عندما ايقظتني مارغريتا بصوتها الطفولي العذب في اليوم التالي لوصولي الى المكسيك طالبة مني ان اتهيأ لزيارة قلب مكسيكوستي التاريخي، وقبل يوم واحد فقط كنت قد حلقت 16 ساعة فوق اراضي ثلاث قارات كي اصل في الساعة السابعة الا خمس دقائق من مساء اليوم الحادي والعشرين من نيسان من العام 2008 الى ارض المايا والازتيك.
عندما لبيت نداء دليلتي المكسيكية كانت الشمس نصف يقظة في ذلك الضحى، وعبق المطر الاستوائي يملأ رئة المدينة بشذا محبب، استدارت السيارة متجاوزة ساحة يعلو وسطها المرتفع مثل نهد، ملاك ذهبي، والتمعت المباني على جانبي الطريق كالتماع باطن المحارة فادركت بانني في طريقي الى اللؤلؤة.
لم احتمل اشتغال ثلاث من حواسي الخمس او الست في وقت معا، اذني وانفي وعيني حين شكلوا مثلثا قائم الزاوية وخزني احد رؤوسه فاجهشت ببكاء مر، المباخر تطلق روائحها الاثيرة، والايقاعات الوحشية التي كانت ترددها الطبول، والراقصون المموهون بالجلود والريش يتَلَوون كافاعٍ هائلة في هذه البركة الخرافية كانوا يرقصون مثل طيور مذبوحة تواَ، وكان التاريخ مقرفصا على دكة اسمنتية قريبة من ساحة العرض يراقب مبهورا، وانا انفض عن بوصلتي غبار الاتجاهات باحثا عن برزخ للانبعاث من رمادي مثل عنقاء، فالتاريخ لا يصبح تاريخا الا بموتنا، ويصبح مجرد مسمى غير مدْرَكٍ لو كنا خالدين.
الازرق المخضر المقرون بالاحمر المذهب كانا اللونين الغالببين على الازياء الغريبة للراقصين، استطيع ان افهم المغزى الذي يعبر عنه اللون، فالمدينة المشيدة على مياه بحيرة لا تستطيع مغادرة ذاكرتها، وابناء اهرامات الشمس مأخوذون بلون الضوء، وهذا ما يفسر شيوع اللون الاحمر في ملابسهم، كان التماس الاول قد حصل مع تلك الجدة الازتيكة عندما اومأت لي عارضة ان تغسل روحي بترانيمها المقدسة واعشابها ودخان بخورها، استسلمت متلذذا كالمسحور، بينما راحت اصابعها المتراقصة مثل سنبلات جافة تدوّر المبخرة الصلصالية حول صدري مثل بندول في ساعة قديمة تخثر الزمن فوق عقاربها، ازداد المشهد ضراوة عندما رشتني بماء له رائحة العشب البري، مررتني سريعا كي تستلم زبونا اخر، فاستغرقتُ بضحكة مجلجلة، وقبل ان تستفسر مني عن سبب ضحكي، قلت ايها الجدة كلنا زبائن ننتظر مباركة التاريخ الذي نباركه نحن بحيواتنا، لم تفهمني بالتاكيد ولكنني عززت قناعة قديمة كنت قد استنتجتها من مراقبتي لزوار المراقد المقدسة التي تعج بها مدينتي، كان هؤلاء الزوار لا يجلبون باقة ورد او تينا او خمرا معتقا قربانا يتقربون به لصاحب المرقد الثاوي في الوجدان قبل ثوائه في التراب، قط لم يفعلوا هذا، انما كانوا يقدمون قرابينهم خرفان تذبح على عتبات الولي المقدس او يقدمون اثمان الاضحيات هذه لمن يدعي صلة القربى لذاك الولي، وعندما اخبرتني دليلتي عن مصدر الحجر الداكن الذي بنيت به الكاتدرائية الضخمة في زوكالو صرخت بعربية قح انه لا يحب الازهار ، فاستفسرت بلغة انكليزية جيدة ، ما تقصد ؟ فاشرت بابهامي بعلامة تشبه علامة الاوكي مع تحريك قبضتي اعلى واسفل مرددا : السيد لا يحب الازهار، فالهرمان الضخمان اللذان هدمهما الغزاة الاولون لارض الشمس كان حجرهما هو عماد هذه الكاتدرائية التي استغرق العمل بها زهاء 250 عاما، وانا لا استطيع ان اتخيل تينك الهرمين الا ثديين يمدان الناس بحليب المعرفة، ولكن لكل عمل قوانينه
تينوشيتتلان التي كانت تنتظر عودة الهها المنفي لم تستطع التمييز بين سفن الغزاة ومعابد الالهة العائمة على وجه الاطلسي حسب ايمانها، واذا كان حاكمها قد ارسل رسله محملين بالذهب والطاليس في القرن الثالث العشر كي يستقبلوا من توهمهم منقذين، فان احفاد ذلك الحاكم من الراقصين فوق بقايا احد معابده يقدمون اليوم هداياهم مقتصرة على الفواكه وبعض الاعشاب والبخور، يدورون حولها بحركات متقنة وخطوات متناسقة تستطيع تتبعها من خلال خشخشة تصدرها اطواق شجرية تشبه الاجراس، مثبتة على كواحلهم، ولكن الكلام في هذه الكرنفالات هو الغائب الوحيد.
الرجفة الكبرى اصابتني وانا انحدر بمحاذاة الكاتدرائية الى معبد او زقورة اكتشفت في العام 1978 من القرن الماضي، الدهاليز المتبقية توحي بسر عميق، والافاريز الناتئة فوق الجدران تدلك على مكنونات غامضة لم استطع تفسيرها، لانني لم استطع العثور على من يوضح لي اسباب انقراض شعب كامل بشكل مفاجيء , قالوا ان سبب الانقراض هو البارود الذي جلبه جنود فرنانديز، وقالوا ان السبب هو مرض الجدري، ودخل النبيذ طرفا اخر في اسباب انقراض شعب كامل كان سيدا على حضارته الى ما قبل 7 قرون من الزمان فقط، ولكن نظرة عجلى على تلك البقايا الملاصقة للكاتدرائية قد اوحت لي بان المجد للجذور وليس للاغضان، فالايقونات والثريات الذهبية المتدلية من سقف الكاتدرال ذكرتني بعناقيد العنب المتدلية ببستان جدي المطل على نهر اشوري قديم، لقد اغرق النهر البستان عشرين مرة خلال سبعين سنة، وماتت العرائش وقتا طويلا، ولكننا ما زلنا نشرب من نبيذ تلك الاعناب خمرة معتقة لا تضاهيها خمور الجنان الموعودة في كتب الله، فانا وانت وهم ونحن وهي وهو نشكل اجزاء المقدس في هذه الحياة، وانها لسعادة غامرة وانا اتبع دليلتي مثل طفل يتملس خطواته داخل محارة ذات ضوء بهيج.



#حاتم_عبد_الواحد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انا حمار الجنة
- فنتازيا الوجع
- 337 +316 = صفر
- استكماتزم
- تلغراف عاجل الى الله
- انه الكاكا يا عراق
- مصرع الرافدين
- انفلونزا الاسلام
- العراق الفيدرالي ام العراق الفيودالي
- بنادق ثقافية
- معركة الطف قطب العبودية
- خرافة النسب المقدس
- جبل ام مغسلة ؟
- باي باي بلاد الرافدين
- الحرباويون
- لا تفتونا آجركم الله
- رأسي طبل التوتسي
- عيون الجراد تراك يا اخضر
- انا من الموساد !؟
- أملنا بيهودنا


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حاتم عبد الواحد - السيد لا يحب الازهار