أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - شركاء التوليب














المزيد.....

شركاء التوليب


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 2989 - 2010 / 4 / 28 - 12:56
المحور: الادب والفن
    


شركاء التوليب

جثت على ركبتيها بتثاقل أمام قبره كملاكٍ باهت الإضاءة ضلّ طريقه إلى السماء، قصّت عليه أنباء القرية: الذين قضوا نحبهم، والمهاجرين، والمتزوّجين، وحديثي الولادة. قصّت عليه أنباء التجّار، والبحارة، والمُزارعين في غيطان الباذنجان والبرسيم. حكت له عن انهيار سقف عليّة المنزل الخشبية لبيت جارتها جليلة صالح، ونفوق بقرة عبده هاشم، وفيضان النهر الأخير، وموسم الجراد، وفضائح القرية. أنشدت له أغنيته المفضلة، وكأنها تهدهده قبل النوم. باحت له بما يعتلج داخلها من شوق، ورغبتها في اللحاق به إلى الجنة حيث يقبع في هدوء وسكينة، ناعماً تحت ظلال أشجارها الأسطورية، ومُعفراً قديمه المتشققتين في مياه أنهارها التي بلا منبع ولا مصب، ثم وضعت باقة من زهور التوليب وغادرت في هدوء.

عادت بعد أسبوع، وقصّت عليه الأنباء، وحكت له الحكايا المُعتادة، وأنشدت له أغنيته الدافئة التي يُحبها، وبكت ما شاء لها الشوق أن تبكي، وعندما همّت بإبدال أزهار التوليب بأخرى جديدة، وجدتها طازجة كما تركتها آخر مرّة. لم تستطع أن تفهم شعورها حيال تلك الغرابة، ولكنها بطريقة ما اقتنعت بأن زوجها يحمل كرامة الأولياء الصالحين، قابعاً في عليائه المجيد، ناعماً تحت ظلال أشجارها الأسطورية، ومُعفراً قدميه المتشققتين في مياه أنهارها التي بلا منبع. خمّنت أن تكون تلك علامة ما، أو رسالة يُحاول أن يُوصلها إليها، فأخذت تستعد للحاق به في أية لحظة. أخذت زهورها القديمة، ووضعت الأخرى وانصرفت في هدوء.

كانت تنتظر الموت بفرح جم، وخوف هادئ؛ لذا فقد حرصت على إعادة الأواني الفخارية إلى جارتها، ووهبتها قطتها المُدللة، وباعت حليها الفضية العتيقة لتتمكن من الإيفاء بديونها المتفرقة، واشترت كفنها، ووضعته أعلى خزانة الملابس، غير أنها لم تمت طوال الأسبوع.

بدأت تفقد إيمانها بكرامة زوجها المُخمّنة، وتتيقن من أن هلاوس العشاق المكلومين بدأت تسكن جيوبها الأنفية، وزقاقات أوردتها البطيئة الساخنة. عادت إلى قبره بعدها، وأخذت تقص عليه من جديد أنباء القرية: تفشي الطاعون، وهجرة الشباب، وعنوسة الفتيات، وتوقعات حرب قادمة. اشتكت إليه خبث التجّار، ولؤم البحّارة وبشاعة غيطان الباذنجان المهجورة، وحكت له عن نفوق قطتها المُدللة عند جارتها، واكتشافها زيف بعض الحُلي، ثم أنشدت له أغنيته المفضّلة، وعندما همّت بإبدال أزهار التوليب بأخرى جديدة وجدتها طازجة كذلك.

كانت ما تزال تتساءل عن سر بقاء زهور التوليب طازجة في كل مرة، والرسالة الخفية التي يُريد زوجها أن يوصلها من وراء ذلك، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى تفسير نهائي وقاطع. ولكنها عادت مقتنعة بأن لزوجها كرامةً ما غير مفهومة، وألا شأن لها بما يجري على الإطلاق.

ذلك اليوم -لم يكن يوم الأحد كما هو عادتها- وجدت شاباً وسيم الطلعة والقسمات، جاثياً على قبر زوجها، يُردد بعض الآيات في خشوع، ويُبدل زهور التوليب اليابسة بأخرى جديدة، فابتسمت لأنها عرفت سر التوليب، ولكنها لم تفهم سر علاقته بالقبر وصاحبه، فتقدمت إليه برشاقة:

- هل كنتَ تعرف زوجي أيها الوسيم؟
- زوجك؟ ولكنني أقف على قبر والدي.

حكا لها عن صاحب القبر المزارع الذي جندته الحكومة إبان الحرب الأهلية، والبطولات التي عاش زملاؤه ليحكوها له، وقصة استشهاده التي أفجعت الجميع. وحكت له عن صاحب القبر الحداد الذي مات برفسة من فرس، كيف تزوجا منذ سنوات بعد افتضاح قصة عشقهما السرّية، وأمنيته في الإنجاب التي ظلّ يحلم بتحققها حتى وفاته.

الأمر الأكثر رومانسية كان شراكتهما في زهور التوليب، واكتشافهما سر بقائها طازجة في كل مرّة، بينما الأمر الأكثر واقعية كان خلافها على صاحب القبر، فبينما تمسّك الشاب بأن صاحب القبر هو والده المزارع الشهيد، تمسّكت العجوز بأنه قبر الحداد العاقر الذي ظلت تعشقه طوال سنواتها الثماني والستين، وقالت: "ليس هنالك قبر شهيد بلا شاهد!"

جلسا إلى شيخ القرية الذي لم يستطع أن يُحدد بشكل قاطع هوية صاحب القبر، ولم يكن من أحد في كلا القريتين يعرف ذلك. قالوا: "القبور كلها تتشابه، وشواهدها لا تحمل أسماءً أو حتى تواريخ وفاة!" لذا فإنه أصدر حُكمه بنبش القبر، وإخراج الميّت للتعرّف إليه. واتفقوا على أن يتم نبش القبر غداً صباحاً.

في مكان آخر كان الشاب متكئاً على أريكةٍ كقارب صيد، وهو يُفكّر فيما يُمكن أن يُخبئ له الصباح، وكأنه سوف يرى والده لأول مرّة. كم لا نُحب رؤية الأموات! مهما كان مقدار حبنا لهم، إلا أننا لا نحب أن نراهم نائمين لا تحمل وجوههم تعابيرها التي نحبها فيهم. خمّن أنها فرصة مُناسبة لنقل قبر والده الشهيد إلى حيث يجب أن يكون. ونام باكراً تلك الليلة.

وقتها كانت السيّدة العجوز تجلس على كرسيّها المتأرجح الذي من خشب البامبو، تلتف عليها عشرات الهواجس الخائفة والمُطمئنة، ركّزت بصرها على نقطة وهمية في فضاء الردهة، وكأنها تحضّر روح زوجها لسؤاله عمّا يتوجب عليها فعله. خمّنت أنها سوف تفتقد شيئاً ما سواء أكان هو أم غيره الذي يرقد في ذلك القبر. لم تتساءل أين قد يكون زوجها إن لم يكن هو من كانت تقصّ عليه أنباء القرية وتُنشد له أغنياته المفضلة، ولكنها كانت تُفكّر بأمر آخر لا تستطع الإمساك بخاصرته تماماً.

بحلول التاسعة صباحاً كان الجميع متجمهرين أمام القبر في انتظار شيخ القرية الذي أتى بمشية البطريق حاملاً مصحفاً بيده، وفي الأخرى عصا أبنوسية غليظة. كانت قسماته ليست كالمُعتاد، أو هكذا خيّل إلى السيّدة العجوز والشاب الوسيم. نظر شيخ القرية إلى وجوه الجميع بطريقة متفحصة، وكأنه يُريد استنطاق شيء ما، وقبل أن ينطق بكلمة واحدة تقدم الشاب والسيّدة العجوز: "لا نريد نبش القبر، فليكن من يكون. نبش قبر الميّت كتعرية الحيّ!" وصفق الجميع لذلك، وانصرفوا، ولم يكف الشاب الوسيم عن زيارة القبر كل جُمعة والدعاء عند قدميه، ولم تكف العجوز عن زيارة ذات القبر كل يوم أحد، تقص عليه أنباء القرية، وتنشده أغنيته المفضلة وتستبدل زهور التوليب الطازجة بأخرى مثلها.



#هشام_آدم (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحزب الأسود
- الموت ليلة البدرنار
- رحيق البابايا
- رؤية حول إضراب أطباء السودان
- محاولة لتبسيط العالمانية
- الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط»
- فن الثورة
- أكمة الإعلام المصري وما ورائها
- رسالة مفتوحة إلى الإعلامية منى الشاذلي
- رسالة عاجلة إلى الشعب المصري
- الإنسان: المطلق والمقيّد
- نحو المطالبة بإعادة العصمة للمرأة
- نحو إنصاف الرواية
- سايكولوجيا المظاهرات
- أزمة المثقف العربي
- جدلية المرأة والرجل (تاريخ العبودية)
- نقد الانتلجنسيا السودانية
- الله والشيطان في الريس عمر حرب
- الميتافور الدلالي في اللغة الإبداعية
- الروح


المزيد.....




- أهمية الروايات والوثائق التاريخية في حفظ الموروث المقدسي
- -خطر على الفن المصري-.. أشرف زكي يجدد رفضه مشاركة المؤثرين ف ...
- هل يحب أطفالك الحيوانات؟ أفلام عائلية أبطالها الرئيسيين ليسو ...
- أحمد عايد: الشللية المخيفة باتت تحكم الوسط الثقافي المصري
- مهرجان -شدوا الرحال- رحلة معرفية للناشئة من الأردن إلى القدس ...
- لغز الإمبراطورية البريطانية.. الإمبريالية مظهر للتأزم لا للق ...
- لغز الإمبراطورية البريطانية.. الإمبريالية مظهر للتأزم لا للق ...
- وصمة الدم... لا الطُهر قصة قصيرة من الأدب النسوي
- حي المِسكيّة الدمشقي عبق الورق وأوجاع الحاضر
- لا تفوت أحداث مشوقة.. موعد الحلقة 195 من قيامة عثمان الموسم ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - شركاء التوليب