|
قصة قصيرة ( المحاكمة )
محمود المصلح
الحوار المتمدن-العدد: 2988 - 2010 / 4 / 27 - 13:18
المحور:
الادب والفن
المحاكمة -1 – ا الصمت المطبق ، الوجوم الذي يغلف الوجوه ، الحراس المسلحون ، قفص الاتهام في الركن الأيسر من القاعــة الواسعة في المحكمة ، الحضور الكثيف وحالة الصمت تضفي طابعا من المهابة والوقار ، ولحظة الترقب ، من الجانب الأيمن دخل رئيس القضاة ، تبعة مجموعة من الرجال بملابسهم المميزة ، همهمات سرت كطنين النحل بين جمهور النظارة ، انتهت حالما صرخ الحاجب بصوت كالرعد محكمة، جلس القاضي تبعه الآخرون كأنهم معلقون به،همدت الحركة ، غرقت القاعة بالصمت . اثنان من الشرطة ربط كل منهما إحدى يديه بيد ( أسامة البوز ) ،بينما كانت مجموعة من الحراس المسلـحين يحيطون به من كل جانب ، أسامة برأسه الحليق ولحيته النابتة ، يظهر من بين الحراس وهو متحفز منطلق ، وثمة ابتسامة تعلو محياه ،فتح أحدهم القفص الحديدي بعد أن أدار مفتاحا في القفل الكبير ، دخل الحارس يسحب خلفه أسامة بينما كان أسامة يسحب خلفه الشرطي، جلسوا ثلاثتهم ، أعاد الحارس القفل إلى ما كان عليه فدوت تكة قوية في فضاء القاعة الصامتة . العيون تتركز على أسامة ، هي سهام تخرق القلب ، تصيب الكبد ، أسامة يغرق في قفص الاتهام ، القاعة تضيق حتى تكون قفص الاتهام ، القضاة يتهامزون ، رئيس القضاة يرفع رأسه الكبير المكلل بالشيب ، ينظر عبر عويناته الزجاجية الشفافة إلى قفص الاتهام ، أسامة في بئر معتم ، رئيس القضاة يحول نظراته إلى ممثل الإدعاء ، : السيد ممثل الإدعاء العام تفضل . عيون الجمهور تتبعه بحركة آلية إلى ممثل الإدعاء العام ، حيث وقف واتكاء إلى منبر الخطابة الخشبي اللامع في الركن الأيمن الأدنى ،وقد انطبعت على الجدار خلفه ظلال أسلاك كهربائية لمصباح معطل ، تجشأ بلع لعابه ، صمت ، ثم تجشأ ، أخرج منديله بصق ،مسح شاربيه مما علق بهما من بصاق ، نظر إلى القضاة ، أعاد النظر إلى الأوراق أمامه ، مسح شاربيه ، وقف رافعا يديه عن المنبر ، عاد وارتكز عليه ، رئيس القضاة والقضاة ينظرون إليه ، زاد حرجه ، أنعقد لسانه ، حاول أن ينطق ، بحث عن الكلمات ، تجول في أرجاء اللغة ، ضاع . رئيس القضاة يهمس في أذن القاضي الذي على يمينه ، يتحول للذي على شماله ، مال القاضي إلى رئيس القضاة ، عاد إلى وضعها الأول ، حول الجميع أنظارهم ناحية ممثل الإدعاء العام ، فجاءة تهاوى جدار الصمت الذي بنته المحكمة حول نفسها ، رئيس القضاة وبلهجة ساخرة : ممثل الإدعاء هات ما عندك . ممثل الإدعاء رفع يديه عن المنبر فرك عينيه ، سرت همهمات بين الجمهور ، رئيس القضاة ضرب الطاولة بالمطرقة الخشبية التي أمامه ،محاولا بناء جدار الصمت من جديد ، ممثل الإدعاء العام لا زال يفرك عينيه ، تململ في مكانه نظر اسفل قدميه ، ثمة ماء يتسرب مبللا بنطاله ، منسابا إلى الأرض ،الماء سيل صغير لا ينقطع ، ينساب بهدوء ينزل من المنصة إلى الأرض ، أمام الجمهور محدثا خريرا بسيطا ،الخرير أخذ يتعالى تدريجيا، ممثل الإدعاء العام جمع أوراقه ، سقطت منه ، سحبها سيل الماء الذي اصبح قويا ، ممثل الإدعاء اختفى خلف المنبر الخشبي ، الماء ذو الرائحة النتنة يتدفق عبر المنصة إلى الصالة بقوة غريبة ، النظارة يهربون ، أحدهم تقدم سـحب الشر طي الذي يربط يده بيد أسامة ، فسحب الشرطي وأسامة أيضا ، القضاة تزكم أنوفهم رائحة الماء ، قال أحدهم : -1- هذا بول .بينما كانوا يفرون من البوابة الخلفية للقاعة ، أحد القضاة سقط أرضا داسته الأقدام ، حاول زميله أن ينقذه كان الماء يتدفق نحوهم كموج هادر ، هرب وخلف زميله للغرق . -2- الساحة المبلطة أمام المحكمة تعج بالناس الذين داهمهم موج النظارة الهاربين من السيل المتدفق عبر المنصـة في قاعة المحكمة ، يتدافعون ، يتزاحمون ، تعطلت حركة المرور في الشارع العام أمام المحكمة ، تجمع المارة بدافع الفضول ، أحدهم سأل مستفسرا ، أشار أحد النضارة ممن شاهد الحدث داخل القاعة إلى سيــــل الماء لمتدفق خلفه ، الرجل تعجب من هذا القول ، تلفت حوله لم يكن هناك ماء . تابع الرجل الهرب ، لحق به العشرات ممن كانوا في الشارع دونما أن يعرفوا السبب ، حاول عدد من النظارة تحرير أسامة من حراسه ، تجمع حول أسامة عدد من رجال الشرطة ، صفر أحدهم بصفارته تفرق النظارة هاربين ، بينما كان أسامة وحراسه في سيارة جيب عسـكرية تنطلق مسرعة نحو السجن المركزي وهي تطلق صفارة الإنذار في الشوارع الخالية المقفرة . انزوى أسامة بالزاوية وحيدا وقد وضع رأسه بين يديه، صور المحققين والقضاة وممثل الإدعاء ورجال الشــرطة تقتحم فضائه الضيق ، الزنزانة تضيق بهم ، رائحة البول تسود كل شيء، تسيطر عل كل شيء ، تزكم أنفه ، يد المحقق تتكور ، تمتد إليه ، يسقط أرضا ، خيط من الدماء يسيل من أنفه ، يلتف على نفسه ، يتكور على بعضه ، يحتمي بظهره ، الحذاء العسكري الثقيل يرتفع وينخفض . يسقط على رأسه ، وعاء البول فارغ ، يقف قبالة الجدار ، يتكأ بيده على الحائط المليء بالكتابات ، يضرب رأسه بالجدار ، يبصق في وجه الحائط الصامت ، السؤال مروحة تخفق في سماء أسامة ، ما حدث في قاعة المحكمة حقيقة أم خيال . نظر صوب الطاقة العالية ، يتسرب منها الضوء المسائي الخافت على خجل ، عاد إلى الزاوية ، المارة ، رجــال ونساء ، الشرطة ، هيئة المحكمة ، تجمعوا حوله ، الخباز يقف على سدة عالية ، العيون تتجه صوبه بإجلال كبير ، صور المارة وهم يتجاهلون ما يحدث أمامهم شاكوش يدق رأس أسامة ، أسامة كرة بين الأقدام. الخباز يشير إلى أسامة وهو يمسك بكسرة من الرغيف ، الشرطي يهز رأسه موافقة ، نهض حاول الهرب ، ضرب أحــدهم ، تجمعوا حوله أحاطوا به ، لحقت به سيارات الأمن ، أخذوه إلى المخفر ، كرسي كبير عليه تاج مثل الرغيف ، بساط من الخبز يمتد تحت قدمي الخباز الذي أتخذ مقعده على الكرسي الكبير ، حوله حاشية من الخبازين على رأسه تاجا من أرغفة الخبز . نظر صوب الشرطة كانت قلنسواتهم عبارة عن أرغفة من الخبز المحمص ، تلمظ حاول أن يبلع لعابه ، أمره أحدهم كان يقف بالقرب من الخباز على الكرسي الكبير ، أمره أن يبصق ، لأن اللعاب من تبعات الخبز ، والخبز ليس من حق أسامة ، أذن اللعاب ليس من حقه أيضا هتف الشرطي فرحا بإحقاق الحق وإقامة العدل : إن هذا عين الحق والمنطق ، تفكير منطقي يؤدي لنتيجة منطقية ، الخباز يمسد عل رأس الشرطي الذي قبع عند قدمي الخباز كجرو مدلل .
-2-
الخباز يضع شاهده في منخاره ، يمسحه ببطانة سترته وهو يضحك ، أشار بيده الأخرى الى الشرطي الواقف أمامه وهو ينقل نظراته في وجوه من حوله : من يسرق رغيفا يسرق وطنا ويبيعه . التصفيق يعم الزنزانة ، أسامة ينهض، يدير ظهره، تحته وعاء البول ، يتعالى الخرير . -3- طالب رئيس القضاة ، بإصلاح أسلاك الكهرباء والمصباح المعطل ، ونقل قفص الاتهام من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن ،ونقل منبر الخطابة الخاص بممثل الإدعاء العام أيضا ، حيث تنبأت له زوجته ذات صباح بعد أن قلبت له فنجان القهوة أن هذا الأجراء قد يكون نجاحه لهذا اليوم ، يحني رأسه يلبس عويناته الطبية الشفافة ، يضع عطرا ، ينظر إلى زوجته قبل أن يغادر ، تزوي جانب فمها المصبوغ بالأحمر ، ابتسم ابتسامة صفراء ، تلاشت حالما أدار ظهره خارجا من البوابة . قبل موعد المحاكمة دخل إلى القاعة ، تفقدها ابتسم ، ربت على كتف الحارس , الحارس يشعر براحة ما ، يشعل لفافة من التبغ ، يسحب النفس تلو النفس ثم يزفره كدخان قطار هرم ، بعد قليل فتح الحارس الباب ، شرع النظارة يتوافدون على القاعة ، لم يحضر أيا ممن حضر الجلسة الماضية ، وقفوا في الخارج ينتظرون ماذا سيــحدث اليوم أحد الحضور أصر على أن القاعة في الجلسة الماضية غرقت بالبول , رمقه رفيقه بنظرة تعجب وهو يزوي جانب فمه بينما شاربيه يتدليان عليها، كتم أنفاسه ، حبس لسانه ، النظارة في القاعة ، همهمات تسري بينهم ، همهمات غير مفهومه . أسامه يدخل القاعة مكبل اليدين من الخلف ، يقوده اثنان من الشرطة ،و خلفه اثنان أيضا ، دخلوا قفص الاتهام ، أجلسوا أسامه ، أحاطوا به , لاحظ أسامة أن هناك ثمة تغير في القاعة ، أسامة يجلس ، رأسه ثقيل مشدود إلى الأرض ، أثار الجروح اختفت منذ يوم أو أكثر ، يشعر برغبة في التقيؤ ، مغص يشعره برغبة في التغوط ، يعصر بطنه ، سحابة ثقيلة من كوابيس ليلية تحط على قلبه المخنوق بالحراس ، يسند رأسه ، يتأفف الحراس من كثرة الحركة ، يصمت ، يغالب الألم ، يحول نظراته تلقاء النظارة في القاعة ، الأشياء تتراقص أمامه كخيالات ، سيدة في أحد المقاعد الأمامية ، ساقاها لامعتان ، املسان ، تدخن ، الحضور سيدة تتلاشى مع الخيالات المتراقصة ، أسامة ينهض من قاع البئر العميقة على صوت الحاجب يصرخ : محكمة . وقف الحضور ، جلس رئيس القضاة أشار للآخرين بالجلوس ، ممثل الإدعاء حلق شاربيه ، مكبا على الأوراق التي أمامه ، حانيا ظهره على المنبر الخشبي ، نظراته زائغة ، رئيس القضاة يميل إلى اليمين دائما ، يستشير القضاة ، يجري بعض المشاورات ، أعتدل نظر إلى ممثل الإدعاء ، لاحظ أنه حلق شاربيه فكتم ابتسامه ، ممثل الإدعاء لا يرفع رأسه ، يدقق في الأوراق ، يقلب الصفحات ، رئيس القضاة فجأة ضرب الطاولة بالمطرقة الخشبية ثم وبسرعة تلفت ناحية المنبر الخشبي : السيد ممثل الإدعاء العام تفضل . أسامة ينظر إلى ممثل الإدعاء العام ، هز رأسه كأنه لا يصدق ما يشاهد ، كان الخباز هو ذاته ممثل الإدعاء العام لكنه فقط خلع تاجه المكون من أرغفة الخبز الصغيرة ،يقف خلف المنبر الخشبي ، تململ في مكانه ، حرك قدميه إلى الأمام والخلف ، نظر إلى القاعة ، العيون كشافات مركزة من الضوء ، أختلس نظرة إلى بنطاله ، بسرعة وبحركة خاطفة تحسس ما بين فخذيه ، أطمأن إلى أنه قد أفرغ مثانته قبل أن يدخل القاعة ، أعاد يده إلى المنبر ، سـعل ، -3- فتح فمه وقبل أن ينطق أنفجر المصباح الكهربائي الذي خلفه ، تدفقت النيران من الأسلاك التي كانـت تتراقص موزعة اللهب في كل الاتجاهات ، جمهور النظارة تدافعوا عند الباب الذي داهمته النيران ، القضــاة هربوا من الأبواب الخلفية ، الحراس يسحبون أسامة إلى الممر الخارجي ، رائحة الشواء تنبعث من الطاقات والأبواب ، بينما كانت رائحة الخبز المحروق تطغى على كل شيء .
-4- رئيس القضاة عاد إلى البيت ، ثمة آثار حروق صغيرة على بذلته الأنيقة ، وبعض الندب السود على جبينه ووجهه ، استقبلته زوجتهعند الباب ، بيدها قائمة الطلبات المسائية ، تفرس في وجهها كأنه يراها لأول مرة ، أشعل لفافة تبغه ، ألقى بنفسه على أول مقعد ،زوجته تلقي عباراتها اليومية المملة . صوت التلفاز يأتي من الصالة ، غرفة الجلوس دون مصباح ، فقط يأتي إليها النور من النافذة ، المرأة لا تزال تهذي زوجها على عجل يدور ، يصاب بالدوار ، الشرر يتطاير من كتل اللهب أمامه ، زوجته تدعوه لأخذ حمامــه الدافئ اليومي بعد عناء يوم العمل ، يسقط في دائرتها ، يتوقف العجل الدوار ، ينهض ويتبعها. تخبره أنها قرأت أوراق اللعب هذا المساء ، يصغي يقترب منها يرهف السمع : يصعب اتخاذ القرار في قاعة المحكمة ، ذلك أن أسامة متعاون مع الجن ، يصغي .. يردد الجن … ربما ، تنظر إليه ، أكيد هكذا يقول الورق والورق لايكذب ، ينظر إليها يغمزها بطرف عينه ، يتمتم : بدليل المصباح الذي أصلحناه صباح اليوم ، لم تفهم ما كان يعنيه ، لم تهتم أنها لم تفهم ، تابعت الحكم يصدر من هنا ، نظر إليها ، لم يلاحظ أين أشارت ، قال من أين وهو يبتسم ، ابتسمت ، همست بغنج ليس من المكان الذي تفكر فيه ، قاطعها أنا لم أفكر ، خلعت آخر قطعة من ملابسها الداخلية ، ألم تسمع بالحكم غيابيا بمثابة الوجاهي ، رفع رأسه لاحظ نهديها متهدلين ، يحاول أن يوضح ، تسحبه تحت المرذاذ . رشاش الماء شلال متدفق ، يغمضان عينيهما والصابون ينداح على جسديهما كالزبد ، يفتح عينيه تلتقي بعينيها ، تميل إليه ترتخي على جسده المتماسك ، تعبث بشحمة أذنه ، تهمس ، أمرني الخباز باتخاذ القرار ، يتعبأ برائحتها ، ولزوجة الجسد الأملس ، في المساء ، اتصل هاتفيا بهيئة القضاة وأعفاهم من جلسة يوم غد ونام .
محمود الصقور
-4-
-4-
المحاكمة -1 – ا الصمت المطبق ، الوجوم الذي يغلف الوجوه ، الحراس المسلحون ، قفص الاتهام في الركن الأيسر من القاعــة الواسعة في المحكمة ، الحضور الكثيف وحالة الصمت تضفي طابعا من المهابة والوقار ، ولحظة الترقب ، من الجانب الأيمن دخل رئيس القضاة ، تبعة مجموعة من الرجال بملابسهم المميزة ، همهمات سرت كطنين النحل بين جمهور النظارة ، انتهت حالما صرخ الحاجب بصوت كالرعد محكمة، جلس القاضي تبعه الآخرون كأنهم معلقون به،همدت الحركة ، غرقت القاعة بالصمت . اثنان من الشرطة ربط كل منهما إحدى يديه بيد ( أسامة البوز ) ،بينما كانت مجموعة من الحراس المسلـحين يحيطون به من كل جانب ، أسامة برأسه الحليق ولحيته النابتة ، يظهر من بين الحراس وهو متحفز منطلق ، وثمة ابتسامة تعلو محياه ،فتح أحدهم القفص الحديدي بعد أن أدار مفتاحا في القفل الكبير ، دخل الحارس يسحب خلفه أسامة بينما كان أسامة يسحب خلفه الشرطي، جلسوا ثلاثتهم ، أعاد الحارس القفل إلى ما كان عليه فدوت تكة قوية في فضاء القاعة الصامتة . العيون تتركز على أسامة ، هي سهام تخرق القلب ، تصيب الكبد ، أسامة يغرق في قفص الاتهام ، القاعة تضيق حتى تكون قفص الاتهام ، القضاة يتهامزون ، رئيس القضاة يرفع رأسه الكبير المكلل بالشيب ، ينظر عبر عويناته الزجاجية الشفافة إلى قفص الاتهام ، أسامة في بئر معتم ، رئيس القضاة يحول نظراته إلى ممثل الإدعاء ، : السيد ممثل الإدعاء العام تفضل . عيون الجمهور تتبعه بحركة آلية إلى ممثل الإدعاء العام ، حيث وقف واتكاء إلى منبر الخطابة الخشبي اللامع في الركن الأيمن الأدنى ،وقد انطبعت على الجدار خلفه ظلال أسلاك كهربائية لمصباح معطل ، تجشأ بلع لعابه ، صمت ، ثم تجشأ ، أخرج منديله بصق ،مسح شاربيه مما علق بهما من بصاق ، نظر إلى القضاة ، أعاد النظر إلى الأوراق أمامه ، مسح شاربيه ، وقف رافعا يديه عن المنبر ، عاد وارتكز عليه ، رئيس القضاة والقضاة ينظرون إليه ، زاد حرجه ، أنعقد لسانه ، حاول أن ينطق ، بحث عن الكلمات ، تجول في أرجاء اللغة ، ضاع . رئيس القضاة يهمس في أذن القاضي الذي على يمينه ، يتحول للذي على شماله ، مال القاضي إلى رئيس القضاة ، عاد إلى وضعها الأول ، حول الجميع أنظارهم ناحية ممثل الإدعاء العام ، فجاءة تهاوى جدار الصمت الذي بنته المحكمة حول نفسها ، رئيس القضاة وبلهجة ساخرة : ممثل الإدعاء هات ما عندك . ممثل الإدعاء رفع يديه عن المنبر فرك عينيه ، سرت همهمات بين الجمهور ، رئيس القضاة ضرب الطاولة بالمطرقة الخشبية التي أمامه ،محاولا بناء جدار الصمت من جديد ، ممثل الإدعاء العام لا زال يفرك عينيه ، تململ في مكانه نظر اسفل قدميه ، ثمة ماء يتسرب مبللا بنطاله ، منسابا إلى الأرض ،الماء سيل صغير لا ينقطع ، ينساب بهدوء ينزل من المنصة إلى الأرض ، أمام الجمهور محدثا خريرا بسيطا ،الخرير أخذ يتعالى تدريجيا، ممثل الإدعاء العام جمع أوراقه ، سقطت منه ، سحبها سيل الماء الذي اصبح قويا ، ممثل الإدعاء اختفى خلف المنبر الخشبي ، الماء ذو الرائحة النتنة يتدفق عبر المنصة إلى الصالة بقوة غريبة ، النظارة يهربون ، أحدهم تقدم سـحب الشر طي الذي يربط يده بيد أسامة ، فسحب الشرطي وأسامة أيضا ، القضاة تزكم أنوفهم رائحة الماء ، قال أحدهم : -1- هذا بول .بينما كانوا يفرون من البوابة الخلفية للقاعة ، أحد القضاة سقط أرضا داسته الأقدام ، حاول زميله أن ينقذه كان الماء يتدفق نحوهم كموج هادر ، هرب وخلف زميله للغرق . -2- الساحة المبلطة أمام المحكمة تعج بالناس الذين داهمهم موج النظارة الهاربين من السيل المتدفق عبر المنصـة في قاعة المحكمة ، يتدافعون ، يتزاحمون ، تعطلت حركة المرور في الشارع العام أمام المحكمة ، تجمع المارة بدافع الفضول ، أحدهم سأل مستفسرا ، أشار أحد النضارة ممن شاهد الحدث داخل القاعة إلى سيــــل الماء لمتدفق خلفه ، الرجل تعجب من هذا القول ، تلفت حوله لم يكن هناك ماء . تابع الرجل الهرب ، لحق به العشرات ممن كانوا في الشارع دونما أن يعرفوا السبب ، حاول عدد من النظارة تحرير أسامة من حراسه ، تجمع حول أسامة عدد من رجال الشرطة ، صفر أحدهم بصفارته تفرق النظارة هاربين ، بينما كان أسامة وحراسه في سيارة جيب عسـكرية تنطلق مسرعة نحو السجن المركزي وهي تطلق صفارة الإنذار في الشوارع الخالية المقفرة . انزوى أسامة بالزاوية وحيدا وقد وضع رأسه بين يديه، صور المحققين والقضاة وممثل الإدعاء ورجال الشــرطة تقتحم فضائه الضيق ، الزنزانة تضيق بهم ، رائحة البول تسود كل شيء، تسيطر عل كل شيء ، تزكم أنفه ، يد المحقق تتكور ، تمتد إليه ، يسقط أرضا ، خيط من الدماء يسيل من أنفه ، يلتف على نفسه ، يتكور على بعضه ، يحتمي بظهره ، الحذاء العسكري الثقيل يرتفع وينخفض . يسقط على رأسه ، وعاء البول فارغ ، يقف قبالة الجدار ، يتكأ بيده على الحائط المليء بالكتابات ، يضرب رأسه بالجدار ، يبصق في وجه الحائط الصامت ، السؤال مروحة تخفق في سماء أسامة ، ما حدث في قاعة المحكمة حقيقة أم خيال . نظر صوب الطاقة العالية ، يتسرب منها الضوء المسائي الخافت على خجل ، عاد إلى الزاوية ، المارة ، رجــال ونساء ، الشرطة ، هيئة المحكمة ، تجمعوا حوله ، الخباز يقف على سدة عالية ، العيون تتجه صوبه بإجلال كبير ، صور المارة وهم يتجاهلون ما يحدث أمامهم شاكوش يدق رأس أسامة ، أسامة كرة بين الأقدام. الخباز يشير إلى أسامة وهو يمسك بكسرة من الرغيف ، الشرطي يهز رأسه موافقة ، نهض حاول الهرب ، ضرب أحــدهم ، تجمعوا حوله أحاطوا به ، لحقت به سيارات الأمن ، أخذوه إلى المخفر ، كرسي كبير عليه تاج مثل الرغيف ، بساط من الخبز يمتد تحت قدمي الخباز الذي أتخذ مقعده على الكرسي الكبير ، حوله حاشية من الخبازين على رأسه تاجا من أرغفة الخبز . نظر صوب الشرطة كانت قلنسواتهم عبارة عن أرغفة من الخبز المحمص ، تلمظ حاول أن يبلع لعابه ، أمره أحدهم كان يقف بالقرب من الخباز على الكرسي الكبير ، أمره أن يبصق ، لأن اللعاب من تبعات الخبز ، والخبز ليس من حق أسامة ، أذن اللعاب ليس من حقه أيضا هتف الشرطي فرحا بإحقاق الحق وإقامة العدل : إن هذا عين الحق والمنطق ، تفكير منطقي يؤدي لنتيجة منطقية ، الخباز يمسد عل رأس الشرطي الذي قبع عند قدمي الخباز كجرو مدلل .
-2-
الخباز يضع شاهده فب منخاره ، يمسحه ببطانة سترته وهو يضحك ، أشار بيده الأخرى الى الشرطي الواقف أمامه وهو ينقل نظراته في وجوه من حوله : من يسرق رغيفا يسرق وطنا ويبيعه . التصفيق يعم الزنزانة ، أسامة ينهض، يدير ظهره، تحته وعاء البول ، يتعالى الخرير . -3- طالب رئيس القضاة ، بإصلاح أسلاك الكهرباء والمصباح المعطل ، ونقل قفص الاتهام من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن ،ونقل منبر الخطابة الخاص بممثل الإدعاء العام أيضا ، حيث تنبأت له زوجته ذات صباح بعد أن قلبت له فنجان القهوة أن هذا الأجراء قد يكون نجاحه لهذا اليوم ، يحني رأسه يلبس عويناته الطبية الشفافة ، يضع عطرا ، ينظر إلى زوجته قبل أن يغادر ، تزوي جانب فمها المصبوغ بالأحمر ، ابتسم ابتسامة صفراء ، تلاشت حالما أدار ظهره خارجا من البوابة . قبل موعد المحاكمة دخل إلى القاعة ، تفقدها ابتسم ، ربت على كتف الحارس , الحارس يشعر براحة ما ، يشعل لفافة من التبغ ، يسحب النفس تلو النفس ثم يزفره كدخان قطار هرم ، بعد قليل فتح الحارس الباب ، شرع النظارة يتوافدون على القاعة ، لم يحضر أيا ممن حضر الجلسة الماضية ، وقفوا في الخارج ينتظرون ماذا سيــحدث اليوم أحد الحضور أصر على أن القاعة في الجلسة الماضية غرقت بالبول , رمقه رفيقه بنظرة تعجب وهو يزوي جانب فمه بينما شاربيه يتدليان عليها، كتم أنفاسه ، حبس لسانه ، النظارة في القاعة ، همهمات تسري بينهم ، همهمات غير مفهومه . أسامه يدخل القاعة مكبل اليدين من الخلف ، يقوده اثنان من الشرطة ،و خلفه اثنان أيضا ، دخلوا قفص الاتهام ، أجلسوا أسامه ، أحاطوا به , لاحظ أسامة أن هناك ثمة تغير في القاعة ، أسامة يجلس ، رأسه ثقيل مشدود إلى الأرض ، أثار الجروح اختفت منذ يوم أو أكثر ، يشعر برغبة في التقيؤ ، مغص يشعره برغبة في التغوط ، يعصر بطنه ، سحابة ثقيلة من كوابيس ليلية تحط على قلبه المخنوق بالحراس ، يسند رأسه ، يتأفف الحراس من كثرة الحركة ، يصمت ، يغالب الألم ، يحول نظراته تلقاء النظارة في القاعة ، الأشياء تتراقص أمامه كخيالات ، سيدة في أحد المقاعد الأمامية ، ساقاها لامعتان ، املسان ، تدخن ، الحضور سيدة تتلاشى مع الخيالات المتراقصة ، أسامة ينهض من قاع البئر العميقة على صوت الحاجب يصرخ : محكمة . وقف الحضور ، جلس رئيس القضاة أشار للآخرين بالجلوس ، ممثل الإدعاء حلق شاربيه ، مكبا على الأوراق التي أمامه ، حانيا ظهره على المنبر الخشبي ، نظراته زائغة ، رئيس القضاة يميل إلى اليمين دائما ، يستشير القضاة ، يجري بعض المشاورات ، أعتدل نظر إلى ممثل الإدعاء ، لاحظ أنه حلق شاربيه فكتم ابتسامه ، ممثل الإدعاء لا يرفع رأسه ، يدقق في الأوراق ، يقلب الصفحات ، رئيس القضاة فجأة ضرب الطاولة بالمطرقة الخشبية ثم وبسرعة تلفت ناحية المنبر الخشبي : السيد ممثل الإدعاء العام تفضل . أسامة ينظر إلى ممثل الإدعاء العام ، هز رأسه كأنه لا يصدق ما يشاهد ، كان الخباز هو ذاته ممثل الإدعاء العام لكنه فقط خلع تاجه المكون من أرغفة الخبز الصغيرة ،يقف خلف المنبر الخشبي ، تململ في مكانه ، حرك قدميه إلى الأمام والخلف ، نظر إلى القاعة ، العيون كشافات مركزة من الضوء ، أختلس نظرة إلى بنطاله ، بسرعة وبحركة خاطفة تحسس ما بين فخذيه ، أطمأن إلى أنه قد أفرغ مثانته قبل أن يدخل القاعة ، أعاد يده إلى المنبر ، سـعل ، -3- فتح فمه وقبل أن ينطق أنفجر المصباح الكهربائي الذي خلفه ، تدفقت النيران من الأسلاك التي كانـت تتراقص موزعة اللهب في كل الاتجاهات ، جمهور النظارة تدافعوا عند الباب الذي داهمته النيران ، القضــاة هربوا من الأبواب الخلفية ، الحراس يسحبون أسامة إلى الممر الخارجي ، رائحة الشواء تنبعث من الطاقات والأبواب ، بينما كانت رائحة الخبز المحروق تطغى على كل شيء .
-4- رئيس القضاة عاد إلى البيت ، ثمة آثار حروق صغيرة على بذلته الأنيقة ، وبعض الندب السود على جبينه ووجهه ، استقبلته زوجتهعند الباب ، بيدها قائمة الطلبات المسائية ، تفرس في وجهها كأنه يراها لأول مرة ، أشعل لفافة تبغه ، ألقى بنفسه على أول مقعد ،زوجته تلقي عباراتها اليومية المملة . صوت التلفاز يأتي من الصالة ، غرفة الجلوس دون مصباح ، فقط يأتي إليها النور من النافذة ، المرأة لا تزال تهذي زوجها على عجل يدور ، يصاب بالدوار ، الشرر يتطاير من كتل اللهب أمامه ، زوجته تدعوه لأخذ حمامــه الدافئ اليومي بعد عناء يوم العمل ، يسقط في دائرتها ، يتوقف العجل الدوار ، ينهض ويتبعها. تخبره أنها قرأت أوراق اللعب هذا المساء ، يصغي يقترب منها يرهف السمع : يصعب اتخاذ القرار في قاعة المحكمة ، ذلك أن أسامة متعاون مع الجن ، يصغي .. يردد الجن … ربما ، تنظر إليه ، أكيد هكذا يقول الورق والورق لايكذب ، ينظر إليها يغمزها بطرف عينه ، يتمتم : بدليل المصباح الذي أصلحناه صباح اليوم ، لم تفهم ما كان يعنيه ، لم تهتم أنها لم تفهم ، تابعت الحكم يصدر من هنا ، نظر إليها ، لم يلاحظ أين أشارت ، قال من أين وهو يبتسم ، ابتسمت ، همست بغنج ليس من المكان الذي تفكر فيه ، قاطعها أنا لم أفكر ، خلعت آخر قطعة من ملابسها الداخلية ، ألم تسمع بالحكم غيابيا بمثابة الوجاهي ، رفع رأسه لاحظ نهديها متهدلين ، يحاول أن يوضح ، تسحبه تحت المرذاذ . رشاش الماء شلال متدفق ، يغمضان عينيهما والصابون ينداح على جسديهما كالزبد ، يفتح عينيه تلتقي بعينيها ، تميل إليه ترتخي على جسده المتماسك ، تعبث بشحمة أذنه ، تهمس ، أمرني الخباز باتخاذ القرار ، يتعبأ برائحتها ، ولزوجة الجسد الأملس ، في المساء ، اتصل هاتفيا بهيئة القضاة وأعفاهم من جلسة يوم غد ونام .
-4-
المحاكمة -1 – ا الصمت المطبق ، الوجوم الذي يغلف الوجوه ، الحراس المسلحون ، قفص الاتهام في الركن الأيسر من القاعــة الواسعة في المحكمة ، الحضور الكثيف وحالة الصمت تضفي طابعا من المهابة والوقار ، ولحظة الترقب ، من الجانب الأيمن دخل رئيس القضاة ، تبعة مجموعة من الرجال بملابسهم المميزة ، همهمات سرت كطنين النحل بين جمهور النظارة ، انتهت حالما صرخ الحاجب بصوت كالرعد محكمة، جلس القاضي تبعه الآخرون كأنهم معلقون به،همدت الحركة ، غرقت القاعة بالصمت . اثنان من الشرطة ربط كل منهما إحدى يديه بيد ( أسامة البوز ) ،بينما كانت مجموعة من الحراس المسلـحين يحيطون به من كل جانب ، أسامة برأسه الحليق ولحيته النابتة ، يظهر من بين الحراس وهو متحفز منطلق ، وثمة ابتسامة تعلو محياه ،فتح أحدهم القفص الحديدي بعد أن أدار مفتاحا في القفل الكبير ، دخل الحارس يسحب خلفه أسامة بينما كان أسامة يسحب خلفه الشرطي، جلسوا ثلاثتهم ، أعاد الحارس القفل إلى ما كان عليه فدوت تكة قوية في فضاء القاعة الصامتة . العيون تتركز على أسامة ، هي سهام تخرق القلب ، تصيب الكبد ، أسامة يغرق في قفص الاتهام ، القاعة تضيق حتى تكون قفص الاتهام ، القضاة يتهامزون ، رئيس القضاة يرفع رأسه الكبير المكلل بالشيب ، ينظر عبر عويناته الزجاجية الشفافة إلى قفص الاتهام ، أسامة في بئر معتم ، رئيس القضاة يحول نظراته إلى ممثل الإدعاء ، : السيد ممثل الإدعاء العام تفضل . عيون الجمهور تتبعه بحركة آلية إلى ممثل الإدعاء العام ، حيث وقف واتكاء إلى منبر الخطابة الخشبي اللامع في الركن الأيمن الأدنى ،وقد انطبعت على الجدار خلفه ظلال أسلاك كهربائية لمصباح معطل ، تجشأ بلع لعابه ، صمت ، ثم تجشأ ، أخرج منديله بصق ،مسح شاربيه مما علق بهما من بصاق ، نظر إلى القضاة ، أعاد النظر إلى الأوراق أمامه ، مسح شاربيه ، وقف رافعا يديه عن المنبر ، عاد وارتكز عليه ، رئيس القضاة والقضاة ينظرون إليه ، زاد حرجه ، أنعقد لسانه ، حاول أن ينطق ، بحث عن الكلمات ، تجول في أرجاء اللغة ، ضاع . رئيس القضاة يهمس في أذن القاضي الذي على يمينه ، يتحول للذي على شماله ، مال القاضي إلى رئيس القضاة ، عاد إلى وضعها الأول ، حول الجميع أنظارهم ناحية ممثل الإدعاء العام ، فجاءة تهاوى جدار الصمت الذي بنته المحكمة حول نفسها ، رئيس القضاة وبلهجة ساخرة : ممثل الإدعاء هات ما عندك . ممثل الإدعاء رفع يديه عن المنبر فرك عينيه ، سرت همهمات بين الجمهور ، رئيس القضاة ضرب الطاولة بالمطرقة الخشبية التي أمامه ،محاولا بناء جدار الصمت من جديد ، ممثل الإدعاء العام لا زال يفرك عينيه ، تململ في مكانه نظر اسفل قدميه ، ثمة ماء يتسرب مبللا بنطاله ، منسابا إلى الأرض ،الماء سيل صغير لا ينقطع ، ينساب بهدوء ينزل من المنصة إلى الأرض ، أمام الجمهور محدثا خريرا بسيطا ،الخرير أخذ يتعالى تدريجيا، ممثل الإدعاء العام جمع أوراقه ، سقطت منه ، سحبها سيل الماء الذي اصبح قويا ، ممثل الإدعاء اختفى خلف المنبر الخشبي ، الماء ذو الرائحة النتنة يتدفق عبر المنصة إلى الصالة بقوة غريبة ، النظارة يهربون ، أحدهم تقدم سـحب الشر طي الذي يربط يده بيد أسامة ، فسحب الشرطي وأسامة أيضا ، القضاة تزكم أنوفهم رائحة الماء ، قال أحدهم : -1- هذا بول .بينما كانوا يفرون من البوابة الخلفية للقاعة ، أحد القضاة سقط أرضا داسته الأقدام ، حاول زميله أن ينقذه كان الماء يتدفق نحوهم كموج هادر ، هرب وخلف زميله للغرق . -2- الساحة المبلطة أمام المحكمة تعج بالناس الذين داهمهم موج النظارة الهاربين من السيل المتدفق عبر المنصـة في قاعة المحكمة ، يتدافعون ، يتزاحمون ، تعطلت حركة المرور في الشارع العام أمام المحكمة ، تجمع المارة بدافع الفضول ، أحدهم سأل مستفسرا ، أشار أحد النضارة ممن شاهد الحدث داخل القاعة إلى سيــــل الماء لمتدفق خلفه ، الرجل تعجب من هذا القول ، تلفت حوله لم يكن هناك ماء . تابع الرجل الهرب ، لحق به العشرات ممن كانوا في الشارع دونما أن يعرفوا السبب ، حاول عدد من النظارة تحرير أسامة من حراسه ، تجمع حول أسامة عدد من رجال الشرطة ، صفر أحدهم بصفارته تفرق النظارة هاربين ، بينما كان أسامة وحراسه في سيارة جيب عسـكرية تنطلق مسرعة نحو السجن المركزي وهي تطلق صفارة الإنذار في الشوارع الخالية المقفرة . انزوى أسامة بالزاوية وحيدا وقد وضع رأسه بين يديه، صور المحققين والقضاة وممثل الإدعاء ورجال الشــرطة تقتحم فضائه الضيق ، الزنزانة تضيق بهم ، رائحة البول تسود كل شيء، تسيطر عل كل شيء ، تزكم أنفه ، يد المحقق تتكور ، تمتد إليه ، يسقط أرضا ، خيط من الدماء يسيل من أنفه ، يلتف على نفسه ، يتكور على بعضه ، يحتمي بظهره ، الحذاء العسكري الثقيل يرتفع وينخفض . يسقط على رأسه ، وعاء البول فارغ ، يقف قبالة الجدار ، يتكأ بيده على الحائط المليء بالكتابات ، يضرب رأسه بالجدار ، يبصق في وجه الحائط الصامت ، السؤال مروحة تخفق في سماء أسامة ، ما حدث في قاعة المحكمة حقيقة أم خيال . نظر صوب الطاقة العالية ، يتسرب منها الضوء المسائي الخافت على خجل ، عاد إلى الزاوية ، المارة ، رجــال ونساء ، الشرطة ، هيئة المحكمة ، تجمعوا حوله ، الخباز يقف على سدة عالية ، العيون تتجه صوبه بإجلال كبير ، صور المارة وهم يتجاهلون ما يحدث أمامهم شاكوش يدق رأس أسامة ، أسامة كرة بين الأقدام. الخباز يشير إلى أسامة وهو يمسك بكسرة من الرغيف ، الشرطي يهز رأسه موافقة ، نهض حاول الهرب ، ضرب أحــدهم ، تجمعوا حوله أحاطوا به ، لحقت به سيارات الأمن ، أخذوه إلى المخفر ، كرسي كبير عليه تاج مثل الرغيف ، بساط من الخبز يمتد تحت قدمي الخباز الذي أتخذ مقعده على الكرسي الكبير ، حوله حاشية من الخبازين على رأسه تاجا من أرغفة الخبز . نظر صوب الشرطة كانت قلنسواتهم عبارة عن أرغفة من الخبز المحمص ، تلمظ حاول أن يبلع لعابه ، أمره أحدهم كان يقف بالقرب من الخباز على الكرسي الكبير ، أمره أن يبصق ، لأن اللعاب من تبعات الخبز ، والخبز ليس من حق أسامة ، أذن اللعاب ليس من حقه أيضا هتف الشرطي فرحا بإحقاق الحق وإقامة العدل : إن هذا عين الحق والمنطق ، تفكير منطقي يؤدي لنتيجة منطقية ، الخباز يمسد عل رأس الشرطي الذي قبع عند قدمي الخباز كجرو مدلل .
-2-
الخباز يضع شاهده فب منخاره ، يمسحه ببطانة سترته وهو يضحك ، أشار بيده الأخرى الى الشرطي الواقف أمامه وهو ينقل نظراته في وجوه من حوله : من يسرق رغيفا يسرق وطنا ويبيعه . التصفيق يعم الزنزانة ، أسامة ينهض، يدير ظهره، تحته وعاء البول ، يتعالى الخرير . -3- طالب رئيس القضاة ، بإصلاح أسلاك الكهرباء والمصباح المعطل ، ونقل قفص الاتهام من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن ،ونقل منبر الخطابة الخاص بممثل الإدعاء العام أيضا ، حيث تنبأت له زوجته ذات صباح بعد أن قلبت له فنجان القهوة أن هذا الأجراء قد يكون نجاحه لهذا اليوم ، يحني رأسه يلبس عويناته الطبية الشفافة ، يضع عطرا ، ينظر إلى زوجته قبل أن يغادر ، تزوي جانب فمها المصبوغ بالأحمر ، ابتسم ابتسامة صفراء ، تلاشت حالما أدار ظهره خارجا من البوابة . قبل موعد المحاكمة دخل إلى القاعة ، تفقدها ابتسم ، ربت على كتف الحارس , الحارس يشعر براحة ما ، يشعل لفافة من التبغ ، يسحب النفس تلو النفس ثم يزفره كدخان قطار هرم ، بعد قليل فتح الحارس الباب ، شرع النظارة يتوافدون على القاعة ، لم يحضر أيا ممن حضر الجلسة الماضية ، وقفوا في الخارج ينتظرون ماذا سيــحدث اليوم أحد الحضور أصر على أن القاعة في الجلسة الماضية غرقت بالبول , رمقه رفيقه بنظرة تعجب وهو يزوي جانب فمه بينما شاربيه يتدليان عليها، كتم أنفاسه ، حبس لسانه ، النظارة في القاعة ، همهمات تسري بينهم ، همهمات غير مفهومه . أسامه يدخل القاعة مكبل اليدين من الخلف ، يقوده اثنان من الشرطة ،و خلفه اثنان أيضا ، دخلوا قفص الاتهام ، أجلسوا أسامه ، أحاطوا به , لاحظ أسامة أن هناك ثمة تغير في القاعة ، أسامة يجلس ، رأسه ثقيل مشدود إلى الأرض ، أثار الجروح اختفت منذ يوم أو أكثر ، يشعر برغبة في التقيؤ ، مغص يشعره برغبة في التغوط ، يعصر بطنه ، سحابة ثقيلة من كوابيس ليلية تحط على قلبه المخنوق بالحراس ، يسند رأسه ، يتأفف الحراس من كثرة الحركة ، يصمت ، يغالب الألم ، يحول نظراته تلقاء النظارة في القاعة ، الأشياء تتراقص أمامه كخيالات ، سيدة في أحد المقاعد الأمامية ، ساقاها لامعتان ، املسان ، تدخن ، الحضور سيدة تتلاشى مع الخيالات المتراقصة ، أسامة ينهض من قاع البئر العميقة على صوت الحاجب يصرخ : محكمة . وقف الحضور ، جلس رئيس القضاة أشار للآخرين بالجلوس ، ممثل الإدعاء حلق شاربيه ، مكبا على الأوراق التي أمامه ، حانيا ظهره على المنبر الخشبي ، نظراته زائغة ، رئيس القضاة يميل إلى اليمين دائما ، يستشير القضاة ، يجري بعض المشاورات ، أعتدل نظر إلى ممثل الإدعاء ، لاحظ أنه حلق شاربيه فكتم ابتسامه ، ممثل الإدعاء لا يرفع رأسه ، يدقق في الأوراق ، يقلب الصفحات ، رئيس القضاة فجأة ضرب الطاولة بالمطرقة الخشبية ثم وبسرعة تلفت ناحية المنبر الخشبي : السيد ممثل الإدعاء العام تفضل . أسامة ينظر إلى ممثل الإدعاء العام ، هز رأسه كأنه لا يصدق ما يشاهد ، كان الخباز هو ذاته ممثل الإدعاء العام لكنه فقط خلع تاجه المكون من أرغفة الخبز الصغيرة ،يقف خلف المنبر الخشبي ، تململ في مكانه ، حرك قدميه إلى الأمام والخلف ، نظر إلى القاعة ، العيون كشافات مركزة من الضوء ، أختلس نظرة إلى بنطاله ، بسرعة وبحركة خاطفة تحسس ما بين فخذيه ، أطمأن إلى أنه قد أفرغ مثانته قبل أن يدخل القاعة ، أعاد يده إلى المنبر ، سـعل ، -3- فتح فمه وقبل أن ينطق أنفجر المصباح الكهربائي الذي خلفه ، تدفقت النيران من الأسلاك التي كانـت تتراقص موزعة اللهب في كل الاتجاهات ، جمهور النظارة تدافعوا عند الباب الذي داهمته النيران ، القضــاة هربوا من الأبواب الخلفية ، الحراس يسحبون أسامة إلى الممر الخارجي ، رائحة الشواء تنبعث من الطاقات والأبواب ، بينما كانت رائحة الخبز المحروق تطغى على كل شيء .
-4- رئيس القضاة عاد إلى البيت ، ثمة آثار حروق صغيرة على بذلته الأنيقة ، وبعض الندب السود على جبينه ووجهه ، استقبلته زوجتهعند الباب ، بيدها قائمة الطلبات المسائية ، تفرس في وجهها كأنه يراها لأول مرة ، أشعل لفافة تبغه ، ألقى بنفسه على أول مقعد ،زوجته تلقي عباراتها اليومية المملة . صوت التلفاز يأتي من الصالة ، غرفة الجلوس دون مصباح ، فقط يأتي إليها النور من النافذة ، المرأة لا تزال تهذي زوجها على عجل يدور ، يصاب بالدوار ، الشرر يتطاير من كتل اللهب أمامه ، زوجته تدعوه لأخذ حمامــه الدافئ اليومي بعد عناء يوم العمل ، يسقط في دائرتها ، يتوقف العجل الدوار ، ينهض ويتبعها. تخبره أنها قرأت أوراق اللعب هذا المساء ، يصغي يقترب منها يرهف السمع : يصعب اتخاذ القرار في قاعة المحكمة ، ذلك أن أسامة متعاون مع الجن ، يصغي .. يردد الجن … ربما ، تنظر إليه ، أكيد هكذا يقول الورق والورق لايكذب ، ينظر إليها يغمزها بطرف عينه ، يتمتم : بدليل المصباح الذي أصلحناه صباح اليوم ، لم تفهم ما كان يعنيه ، لم تهتم أنها لم تفهم ، تابعت الحكم يصدر من هنا ، نظر إليها ، لم يلاحظ أين أشارت ، قال من أين وهو يبتسم ، ابتسمت ، همست بغنج ليس من المكان الذي تفكر فيه ، قاطعها أنا لم أفكر ، خلعت آخر قطعة من ملابسها الداخلية ، ألم تسمع بالحكم غيابيا بمثابة الوجاهي ، رفع رأسه لاحظ نهديها متهدلين ، يحاول أن يوضح ، تسحبه تحت المرذاذ . رشاش الماء شلال متدفق ، يغمضان عينيهما والصابون ينداح على جسديهما كالزبد ، يفتح عينيه تلتقي بعينيها ، تميل إليه ترتخي على جسده المتماسك ، تعبث بشحمة أذنه ، تهمس ، أمرني الخباز باتخاذ القرار ، يتعبأ برائحتها ، ولزوجة الجسد الأملس ، في المساء ، اتصل هاتفيا بهيئة القضاة وأعفاهم من جلسة يوم غد ونام .
#محمود_المصلح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص قصيرة جدا 1
-
قصص قصيرة جدا 2
-
صيد الخاطر 6
-
التجربة الأردنية
-
لمن يحسن المحسنون ..بناء المساجد
-
هل الخطاب الديني يساير العصر ...
-
التصيق للجلاد
-
الولايات العربية المتحدة ..
-
القوة النووية العربية
-
هلوسة محمود المصلح ........
-
صيد الخاطر 5 ..,وأنا شو دخلي؟
-
القاع مفتوح ..اهلا وسهلا
-
يوميات .. الصين
-
لهم ثلاثة عيون .. ونحن بلا عين
-
الاتحاد السوفيتي ...ذكريات قديمة
-
صيد الخاطر 5 اسواق البالة ..
-
بغاء ومتاجرة بالجنس ... بصورة شرعية
-
الحمار والفيل
-
قبول الاخر فن لم نعرفة بعد ...
-
هلوسات معمر القذافي .............
المزيد.....
-
موسيقى للحيوانات المرهقة.. ملاجئ الولايات المتحدة الأمريكية
...
-
-ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في
...
-
10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس
...
-
فيديو صادم.. الرصاص يخرس الموسيقى ويحول احتفالا إلى مأساة
-
كيف حال قرار بريطاني دون أن تصبح دبي جزءاً من الهند؟
-
يجتمعان في فيلم -Avengers: Doomsday-.. روبرت داوني جونيور يش
...
-
-ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في
...
-
10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس
...
-
كيف تُغيّرنا الكلمات؟ علم اللغة البيئي ورحلة البحث عن لغة تن
...
-
ما مصير السجادة الحمراء بعد انتهاء مهرجان كان السينمائي؟
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|