أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أبو الحسن سلام - المعارضات المسرحية في عصر العولمة















المزيد.....


المعارضات المسرحية في عصر العولمة


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 2961 - 2010 / 3 / 31 - 02:35
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


المعارضات المسرحية في عصر العولمة
- أنتيجون نموذجا –
د. أبو الحسن سلام

عرفت المعارضة الأدبية منذ قديم الزمان ، بخاصة في مجال الشعر وفي مجال الملاحم ، كما عرفت في مجال المسرح .. ففي ا لملاحم ، عارض فرجيليوس إلياذة هوميروس بالإنيادة في العصر الروماني ، كذلك عارض أبو العلاء المعري التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي ، وعارض دانتي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري في الأدب الإيطالي القديم بالكوميديا الإلهية.
وفي مجال الشعر ، عارض البحتري أبا تمام ، في قصيدة عن الذئب ، وعرض أبو تمام الوزير الزيات في قصيدته عن زوجه التي قضت ، وتركت له طفلا رضيعا . وفي العصر الحديث عارض محمود سامي البارودي قصيدة أبي تمام بعد ترمله هو أيضا وتحمله مشقة طفله الرضيع ، كذلك عارض قصيدة للمتنبي ، كما عارض أحمد شوقي قصيدة أبي تمام الشهيرة ( السيف اصدق إنباء من الكتب) بقصيدته عن أتاتورك وانتصاراته ، مستخدما البحر الشعري نفسه وحركة الروي والقافية اللتين استخدمهما أبوتمام في قصيدته تلك عن انتصارات المعتصم (الخلبفة العباسي التاسع) ، كما عارض صفي الدين الحلّي في موشحته الشهيرة ، وعارض قصيدة الوزير الأندلسي ابن زيدون في هجر ولادة بنت المستكفي له ( أضحى التنائي ..) بقصيدة من البحر نفسه والروي والقافية.
وفي المسرح ، نشأت المعارضة المسرحية ، كما نشأ التناص ، باستلهام الشاعر الكوميدي اليوناني الشهير أريستوفانيس لـ ( محاورات فيدون) لأفلاطون ، بمسرحيته المعروفة بـ ( الضفادع ) . ولئن نظرنا في المعالجات المختلفة التي تربو على الخمسمئة نص مسرحي يعارض فيها كتابها من مختلفي الجنسيات وفي مئات اللغات مسرحية سوفوكليس الشهيرة ( أوديبوس) لازدادت دهشتنا ، من وجوه التباين فيما بين تلك المعالجات التي عارض مؤلفوها سوفوكليس . وتلك هي قيمة التناول المتعدد والمتباين لنص واحد أبدعه كاتبه الأول ونسج على فكرته كل من تعرض له وأعاد إنتاجه نسجا يحمل بصمته هو ، ويشف عن هويته هو ، بما يناسب عصره هو لا عصر سوفوكليس ، ويحمل بصمته هو لا بصمة غيره من المبدعين . وهكذا كان الأمر نفسه في معارضات كتاب متعددين لميديا ، ، سواء أتمثل ذلك في معارضة سينيكا لـ ( ميديا) يوربيديس أو في معارضة كورني أو معارضة جان أنوي أو معارضة بيرم التونسي لها بأوبريت ( عقيلة) أو معارضة الشاعر مهدي بندق لها بمسرحيته ( ريم على الدم) .
والأمر نفسه ماثل في معارضات " بريخت " ، " جان كوكتو" ، و"جان أنوي" وأخيرا الكاتب السلوفيني " إيفالد فليسار " الذي قدم لنا ( أنتيجون .. في عصر العولمة) معبرا عن وجهة نظر تفككية للنسق اليوناني وللخطاب القديم الذي أراده سوفوكليس ، بما يعكس روح عصرنا الآني ، ممسكا باللحظة التاريخية التي تعيشها شعوب العالم في ظل عسكرة العولمة التي تتزعمها الولايات المتحدة الأميريكية ؛ بما شرعت بفرضه على الشعوب ، بدءا بتسلل نمطها الثقافي ، إلى معاقل ثقافات شعوب عريقة ، ذات حضارات عريقة ؛ بقطع الطريق على مسيرتها التنموية ، ومخططاتها القومية ، في محاولات قهرية مستميتة لحرفها عن طريقها التنموي الوطني والانزلاق بها نحو طريق التبعية السياسية والاقتصادية الكاملة .. بالتلميح بشعارات براقة خادعة بأن العولمة ستحقق لتلك الشعوب كل آمالها في التنمية والرفاهة ، وتعطيها كل شيء ؛ لتكتشف تلك الشعوب التي هرولت أنظمتها الحاكمة خلف شعارات الهيمنة تلك أنها وقعت في مصيدة التبعية الكاملة وقيدت بقيود اقتصاديات العولمة العسكرتارية التي لا فكاك منها تحت تهديد السلاح ، وبذلك تعود الشعوب التي تحررت من قيود الاستعمار القديم البغيض بتضحيات جسام دفعها الأجداد والآباء ، لترسف في أغلال كل صنوف التبعية تحت وطأة أشكال متعددة من ابتكار أحفاد الرأسمالية الاستعمارية القديمة والرأسمالية الامبريالية الجديدة المتعدية للجنسيات والنافية للحدود وللهويات الوطنية والقومية ؛ دون أن تحصل على أي شيء ، في مقابل خسارتها لكل شيء : الأرض ، والأسواق ووسائل الإنتاج ، وللهوية الثقافية والتراثية ، وللأعراض وللأرواح والأنفس.
هذا هو خطاب مسرحية (أنتيجون في عصر العولمة ) للكاتب المسرحي السلوفيني إيفالد فليسار، وهي كما رأينا تعكس روح الكاتب وروح عصرنا ، وتعري عولمة العسكرتارية الأمريكية ، وتفضح ممارساتها ، ليس في بلده وحدها ، بل في كل البلاد التي لها مثل ظروف بلاده ، كبلادنا ، وبلاد كثيرة غيرها في كل أرجاء العالم ، بذل فيها الآباء أرواحهم في سبيل تحريرها من الاستعمار القديم ؛ فجاء الاستعمار المعاصر ، متوجا بما ملكت يداه من وسائل المعرفة ، ومخزونه المعرفي ، المتوالد أبدا ، ليستعبد العاجزين عن الإنتاج المعرفي ، القابعين تحت شجرة المعرفة التوراتية المتوارثة ، عن بدء الخليقة وهبوط آدم وحواء.
إذن فنحن لسنا أمام معارضة فليسار لأنتيجوني سوفوكليس ، كشفا عن مهارة المعارضة ، في ذاتها ؛ وإنما نحن أمام معارضة الموروث الإنساني الحضاري لهجمة عسكرتارية العولمة على موروث الإنسانية الحضاري ؛ ممثلا في نص فليسار – نائبا عن الهوية الإنسانية – التي فتحت عسكرة العولمة في جدارها ثغرات واسعة على الامتداد الجغرافي الثقافي،الاقتصادي والسياسي لذلك الجدار التراثي العريق .
هذا عن مضمون خطاب نص (أنتيجون) المعارض لأنتيجوني سوفوكليس ؛ الذي استماتت فيه أنتيجوني ، تلك الفتاة النحيلة ، ذات الموقف المبدئي والإرادة الفولاذية في سبيل الدفاع عن قانون سماوي في مواجهة قانون وضعي للحاكم المستبد ( كريون) ، وقد وضح لنا أن المعادل الرمزي المعاصر لشخصية ( أنتيجوني) ، في نص فليسار وهي ( كلارا) التي رسمها صورة متناصة مع أنتيجوني – سوفوكليس – لتحمل رأي حماة ثقافة شعوب الحضارات العظيمة ، وتنديدها بممارسات ما يعرف بالنظام العالمي الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأميريكية – بخاصة في عهد بوش الصغير –

ولأن المعرضة لا تقتصر على المضمون ، بل تشتمل على الشكل الذي يسكنه المضمون أيضا ؛ لذا وجبت الإشارة إلى مفهوم المعارضة ..
تنشأ المعرضة الأدبية أو الفنية في الأساس عن تعارض فكري بين مبدع ثان، ومبدع أول ، حول إبداع ذلك المبدع الأول ؛ فالمعارض إذن له موقف من المنتج الإبداعي الذي يعارضه ، لأسباب فكرية ، حيث للمبدع الثاني موقف فكري مغاير للموقف الفكري الذي تبناه المبدع الأول في منتجه الإبداعي ، أو لموقف نفسي ؛ متعلق ، برغبة في إظهار تفوقه على المبدع الأصلي للمنتج الإبداعي ذاته. ومما لا شك فيه أنت إعادة إنتاج العمل الإبداعي قصيدة كانت أم نصا مسرحيا أو عرضا أم فيلما يعرض على الشاشة أم عملا موسيقيا أم عملا راقصا أم تشكيليا .. فيه إلقاء للضوء على الإبداع الأول ، مع أنه ينطلق من رؤية جديدة تحمل بصمة المبدع المعارض نفسه. ومعنى هذا أن العمل الأدبي أو الفني – موضوع المعارضة – لابد أن يستند إلى عمل أدبي أو فني سابق ، ويعيد إنتاجه بإبداع جديد. وقد تكون المعارضة معارضة كلية للمنتج الإبداعي الأول ، وقد تكون معارضة جزئية . فإذا كانت جزئية ؛ فهي تقف عندئذ عند مفهوم التناص مع مواقف أو صور أو شخصيات أو تكوينات جزئية متضمنة في الإبداع الأول ، وهذا يعني أن المعارضة تتشكل من منظومة تناص محتوي المنتج الإبداعي الثاني - المعارض – وأسلوبه في تناظرها تناظر تخالف في المحتوى ، باعتبارهما مختلفين موضوعا حول رأي أو قضية ، وتناظرها تناظر تآلف أو تخالف في الشكل. ومن أمثلة التناص ما نجده في موقف لقاء الصدفة الذي تم على قبر أجاممنون في مسرحية أسيخلوس (حاملات القرابين) حيث تتعرف اليكترا على أخيها أورستس ، الذي لم تلتقي به قبل ذلك ، حيث كان صغيرا حين قتلت أمهما كليتمسترا أبيهما مع عشيقها إيجثوس في حمام قصره فور عودته ، ونظيره في مسرحية ألفريد فرج ( الزير سالم) حيث لقاء المصادفة بين اليمامة ابنة "كليب" الملك الذي قتله "جسّاس" شقيق زوجه "الجليلة" غدرا وأخيها "الهجرس" فهذان الموقفان فيهما تناص تآلف من حيث المضمون ومن حيث الشكل .
وسواء تناظر المنتج الإبداعي المعارض في معارضته له أو في تناصه مع صورة أو موقف أو شخصية أو تكوين تشكيلي أو موسيقي أو تعبيري حركي من العمل الذي يتعرض له تعرضا جزئيا متآلفا أو متخالفا ؛ فهو لابد من أن يتناغم مع طبيعة العصر والمجتمع الذي يعاد فيه صياغته أو إنتاجه ؛ من حيث؛ ثقافة عصره وقيم مجتمعه المشتبكة مع قيم العصر إيجابيا أو سلبيا.
وهذا الذي فعله الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في استلهامه لقصة قيس وليلى ، حيث عارض مسرحية الشاعر أحمد شوقي ( مجنون ليلى) بمسرحية ( ليلى والمجنون) إذ فكك أنساق نص شوقي ونقض خطابه ، الذي مؤداه انتصار العادات والتقاليد العربية على الحب . ولأن الحب ينتصر على العادات والتقاليد في عصرنا ؛ لذا تظهر ليلى شبقة إلى الجنس ، فتنفر من حبيبها الشاعر سعيد لترتمي في أحضان زميله الصحافي الذي يعمل جاسوسا على زملائه في الصحيفة ويكتب تقارير بوليسية في زملائه المعارضين للفساد الرسمي أو للنظام الحاكم المتسلط ؛ بما يحدث الصدمة الدرامية لسعيد العاشق الرومنسي ، إذ يضبها مع حسام الخائن شبه عارية في مسكنه . أما الشاعر أنس داود إذ يعارض مسرحيتي شوقي وعبد الصبور :فإنه يصور الحب بين ليلى وقيس مقتولا بمطالب الأسرة المعيشية بعد أن تزوج قيس بليلى محبوبته. وما كانت تلك المتغيرات في صور المعارضة لقصة الحب التراثية في تاريخ العرب في العصر الأموي إلاّ تعبيرا عن اختلاف الثقافات والتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية مابين عصر وعصر تال له أو بين مستويين ثقافيين في فترتين من عصر واحد ومجنتمع واحد ، هي لاشك تأثيرات الحداثة ، التي تبدلت على المجتمعات ؛ فاستحالت إلى التفكيك ، في عصر العولمة ؛ على نحو ما رأينا في مسرحية فليسار ( أنتيجون في عصر العولمة ) .

لم يذهب فليسار إلى ما ذهب إليه " بريخت " في معارضته لسوفوكليس ، ولم يذهب إلى ما ذهب إليه " جان كوكتو " في معارضته لأنتيجوني نفسها ، ولم يذهب إلى الممسار الذي سار عليه "جان أنوي " ولا مشى على طريقة " الكاتب الأمريكي سامسون هيمي" في مسرحيته ( الدفن في طيبة) ولا جري نصه مجرى نص "رياض عصمت" ( الحداد يليق بأنتيجون) ربما يقترب مما كتبه مصطفى محمد عن أنتيجون في مسرحيته ( الطريقة الأمريكية) من حيث أنهما يعارضان النص الأصلي على أرضية ثقافية عولمية ، وهو الأمر الذي يقترب منه أيضا عبد الجبار خمراني في ( انتيجون تتمرد على السلطة في باريس) .
ومع أن كل من هؤلاء الكتاب العالميين ، قد عارض " سوفوكليس " فقد كتب كل منهم " أنتيجون " عصره ومجتمعه ، أنتيجونته هو. وكذلك فعل الكاتب المسرحي السلوفيني إيفالد فليسار إذ كتب أنتيجونته هو ؛ كتبها معادلا موضوعيا ليس لبلده وحدها ؛التي ترزح تحت وطء عسكرتارية العولمة الأمريكية الأوروبية ؛ ولكنها معادل موضوعي لكل البلدان التي ترزح بعد الانهيار الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي أنتجته مفاسد الأنظمة البيروقراطية الحاكمة بعد تخلص شعوبها من الاستعمار القديم ترزح تحت نير عسكرة العولمة التي تتزعمها الولايات المتحدة الأميريكية ؛ التي ترفع شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان ؛ بما أغرى شعوب تلك البلاد الفاسدة أنظمتها ببزوغ أمل الخلاص من نير حكامها البيروقراطيين الفاسدين المستبدين ، غير أن صدمة مروعة تصيب تلك الشعوب ، حيث يخسر الوطن كل شيء دون أن يحصل على أي شيء .
لا تدافع أنتيجون فليسار عن حق دفن جثة أخيها ، وإقامة الشعيرة الدينية ( من التراب وإلى التراب) في مواجهتها لقانون الحاكم ؛ انتصارا لقانون السماء ؛ وإنما تدافع عن الأرض التي تحوي جثة أخيها ، ضد نبش قبور الموتى ، تدافع عن قدسية القبور ، عن قيم إنسانية الإنسان ؛ في مواجهة وحش بشري سكنته هواجس العولمة ، وأصيب بسعار الطفيلية الرأسمالية المعاصرة ؛ التي لا تقيم وزنا لشيء لا لأرض ولا لعرض ، فكل شيء عندها مباح ومستباح في سبيل المال . إذن فقد عمد فليسار مباشرة إلى نتائج عصر العولمة الذي نعيشه ؛ ليكشف ممارساته المدمرة للإنسان وللشعوب ؛ بدءا بثقافة الترويض الثقافي ، متسللا عبر الترويض السياسي إلى الترويض الاقتصادي ، في اتجاه التبعية الكاملة ، ونفي الهوية ونفي الانتماء الوطني والقومي ، في مقابل لا شيء . تلك هي الدلالة التي انتهى إليها فليسار عبر صحبته لرحلة (أنتيجون) التي أعطاها اسم ( كلارا) ثم سار بها في دروب عصرنا ، لا ليقاوم بها خبائث العولمة ؛ بل ليحضنا على مقاومتها ؛ حيثما تغلغلت في بلادنا وفي البلاد التي تناظر ظروفها ظروف بلاده ؛ ولأن ظروف بلادنا مناظرة لظروف بلاده ؛ لذا سعي نحو ترجمة خطاب نصه هذا في لغتنا ؛ علنا نعي الدرس ؛ ونؤمن بأن الشعار الذي أطلقه النظام ومفكره الإعلامي ، الذي تصايح مهللا بأن 90% من أوراق اللعب بيد الولايات المتحدة الأميريكية ؛ ذلك الشعار الذي أدى ببلادنا إلى طريق التبعية .

• " أنتيجون الآن " .. بين المادة والشكل والتعبير:
إذا اعتبرنا الفكرة واللغة والشخصيات بمثابة المادة التي ينبني عليها الشكل؛ وصولا إلى التعبير الدرامي عن الدلالة التي يريد الكاتب وصولها إلينا ؛ بغية التأثير الممتع المقنع معا ؛ فيمكننا عندئذ أن ننظر في مناط التناص أولا بين مادة نص أنتيجون في عصر العولمة ؛ مع أنتيجوني في العصر اليوناني القديم ؛ من حيث هو عصر الانفصام الثقافي الاجتماعي بين فكرة حق المواطنة بالنسبة للرجال الأحرار وانعدام حقوق المواطنة بالنسبة للعبيد وللنساء معا. وهنا نصل إلى وجه التآلف بين نفي حقوق المواطنة عن الشعوب التي ترزح تحت وطأة العولمة العسكرتارية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميريكية ، وإثباتها بالنسبة لأمريكا وحلفائها المهيمنين على وسائل المعرفة والقادرين على إنتاجها المتوالد ، وبذلك انقسم العالم إلى دول كبرى مسيطرة ودول صغرى متخلفة ، ومعتمدة اعتمادا كليا على ما ينتجه الغرب المسيطر ؛ دول تتباهي بقوتها الاقتصادية والعسكرية ، وبما تنتج ، ودول تحفظ عن ظهر قلب مقولة دعاتها الذين ما فتئ كبيرهم يردد ( لقد سخر الله الغرب لنا × لينتج ما نحتاجه) ؛ وكأن الغرب يعطينا ما نحتاجه بدون شروط متعسفه؛ أولها الركوع والإذعان التام وفتح الأسواق لمنتجاتها الاستهلاكية المتدفقة ؛ ليجربها في شعوبنا ؛ ويبتز ثمرة الكادحين من عمالنا وفلاحيننا .
• والفكرة في " أنتيجوني" سوفوكليس هي فكرة إقامة شعير دينية هي شعيرة دفن الميت ، بوصفه حرمة . والفكرة في" أنتيجون الآن" ؛ هي فكرة احترام حرمة الأموات . وهنا نصل إلى صورة التناص بين مادتي النصين؛ وهو كما نرى تناص تخالف ، فالبطلة " كلارا" المعادل الرمزي لأنتيجوني ومن معها ( أستاذها الأعمي " جويدو" ورفيق طفولتها " بيتر " الذي أصبح مخرجا تسجيليا ) هم أداة مقاومة نبش العمدة خال كلارا وزبانيته من القتلة المأجورين لقبور الموتى ، وهدمها وإحراق عظام الموتى في نص فليسار . والبطلة( أنتيجوني وتيريزياس ورئيس الجوقة والجوقة) هم أداة رفض قرار الحاكم كريون – خال أنتيجوني - بعدم دفن أحد أخويها؛ أو بمعني أدق ضد القانون الوضعي الذي ينفي قانون الآلهة الذي يقضي بإقامة شعيرة دفن الميت . وهنا نجد الشخصيات متناصة مع شخصيات نص سوفوكليس تناص تخالف؛ فجويدو الأعمي أستاذ كلارا ومعلمها يتناص مع تيريزياس ، وبيتر رجل الإعلام يتناص مع قائد الجوقة وفي الطرف المضاد لهؤلاء المقاومين ، يقف العمدة خال كلارا مناظرا لكريون الحاكم خال أنتيجوني ، ويناظر فيليب ابن العمدة - بالتبني- مع "هايمون ابن كريون" في نص سوفوكليس ، بينما تناظر" سابينا" شقيقة كلارا" ،" إسميني شقيقة أنتيجوني" ، ويتناظر كلا الحارسين في المسرحيتين فيما يعرف بالتناص المتخالف ، بينما يتناص حبس كلارا في مستشفى للأمراض العقلية دون أن تكون مريضة ، مما يتسبب في انتحارها ، يتناص تناص تخالف مع حبس أنتيجوني في كهف ، حتى الموت.

• "أنتيجون" ودرامية الشكل:
مع أن النص ينتمي إلى الحداثية من حيث كونه يتعرض لقضية معاصرة ، ويحض على التمرد بالوقوف ضد ممارسات العسكرتارية العولمية التي تقودها أمريكا ؛ في مسيرة قهرية لتحويل الدول المتدنية أنظمتها والمغلوبة شعوبها على أمرها ؛إلاّ أن البنية الدرامية تسير في مسار الأرسطية من حيث الشكل ، حيث الالتزام بالوحدات الثلاث ، وحدة الموضوع ، ووحدة المكان ، ووحدة الزمان ، حيث تجري الأحداث في مكان واحد وفي حدود يوم وليلة ، حول موضوع واحد . كما يقوم بالدور الذي كان الكورس الاغريقي يقوم به مجموعة متفرقة ، ما بين السياح والدليل السياحي من جانب والقاتلين المأجورين من الجانب المواجه له. ويعدّ رجل الإعلام التليفزيوني ( بيتر) بمثابة مقدم الجوقة ، مع أنه لا يقود أحدا وإنما هو ناقل ومسجل للمعلومات والأحداث ، بوصفه شاهدا عليها. كما أن الشخصيات قد رسمت أبعادها لتظهر شخصيات نامية من لحم ودم ، بابعادها الثلاثة ( البعد الاجتماعي والبعد الجسمي والبعد النفسي) ، وإن تقنع المؤلف في بعض المواقف خلف شخصية من الشخصيات ؛ معبرا عن وجهة نظر ، ربما لم تبدو متناغمة مع ثقافة الشخصية الاتي تحملها عنه ( التي يتقنع خلفها ويحملها برأيه).
على أن التقديمة الدرامية ، شأن المسرحية اليونانية الأرسطية ، فاعلة هنا أيضا ، بما يمهد للحدث ، من حيث ما انتهت إليه القصة ، حيث تبدأ المسرحية عادة بعد حدوث المشكلة ، وتعاد تفاصيل ما جرى متفرقة على مناطق في مسار البنية الدرامية للحدث . كذلك التزم الحدث بحبكة درامية واحدة.
وفي الحوارية الآتية التي هي بمثابة التقديمة الدرامية ، التي تدور بين الدليل السياحي والسائح الثاني ، ويتداخل فيها القاتلان المأجوران بتكليف من العمدة الذي يتآمر على ابنة أخته (كلارا) في الخفاء ، بينما يظهر لها تعاطفه مع موقفها المقاوم لنبش قبر أخيها لبناء فندق وملعب جولف للسياح . ففي هذه الحوارية يتعرض المؤلف لبداية الأزمة:
" السائح الثاني: لكن كيف بدأ الأمر ؟
الدليل السياحي: الفندق الذي ترونه هناك ( ينظرون جميعا للوادي)
القاتل الأول: فندق الجولف
القاتل الثاني: كازينو الأثرياء الأجانب بمحافظهم المنتفخة بالنقود
القاتل الأول: جاكوزي في كل غرفة
القاتل الثاني: خدمة غرف 24/7
القاتل الأول: أسّرة مائية للنط السعيد مع الشابات الجميلات من الاتحاد السوفيتي السابق
القاتل الثاني: أرفع المواهب الحلوة التي تريد أن تسطع في سماء الفن !!
القاتل الأول: مطّل على البحر بدون أجر إضافي
القاتل الثاني: الإعلانات في كل المحطات الفضائية
القاتل الأول: بالرغم من أن الفندق بلا سقف حتى الآن
القاتل الثاني: ولا كهرباء
القاتل الأول: ولا ملعب جولف
السائح الرابع: كفى أيها السيدان
الدليل السياحي: لو سمحتما لي أن أتابع ... لقد أبرم عمدة هذه البلدة الساحلية الجميلة صفقة مع مستثمرين أجانب ، لكي يبنوا فندقا به كازينو وملعب جولف.
السائح الثالث: فكرة رائعة
الدليل السياحي: لكن الأمر توقف ، فلا توجد أرض تكفي لملعب جولف كامل
سائح : حسنا
الدليل السياحي: حسنا . اضطر العمدة لشراء أرض جديدة على الناحية الأخرى من الجبانّة .
السائح الثاني: وهو ما فعله كما عرفنا من الجرائد
الدليل السياحي: وهنا بدأت المشكلة
السائح الثالث: لماذا ؟
الدليل السياحي: لأن الجبانة وجدت نفسها مزروعة خلف ملعب الجولف
السائح الثالث: لا أرى مشكلة حقيقية
السائح الخامس: ماذا؟ ربما كان الموت حقا علينا ، لكن من ذا الذي يريد ان يتذكر الموت وهو يضرب كرة الجولف بعصاه في أثناء إجازته السنوية ؟
السائح الثالث" لست انا بالتأكيد
السائح الأول : كان بإمكانه لأن يلغي الجولف ويكتفي بالكازينو
الدليل السياحيك أراد هذا بالضبط لكن المستثمرين الأجانب قالوا إنهم بدون جواف سينسحبون
السائح الثالث: كانوا سيفعلون هذا حقا ن أليس كذلك
الدليل السياحي: وهكذا وجد العمدة نفسه في ورطة كبيرة ، إما أن ينسى المشروع برمته أو ينقل الجبانة ؟
السائح الثاني: وهكذا اختار الحل الأخير كما تقول الصحف
السائح: تعم . اشترى قطعة أرض ليبني محرقة للجثث ، وعرض على كل أقارب المدفونين في الجبانة ما لهاغ فوافقو جميعا ووقعّوا على أوراق تعطيه الحق لنبش جثث موتاهم وحرقها
السائح الرابع : الكل عدا فتاة واحدة
الدليل السياحي: نعم .ابنة أخت العمدة التي قالت إن إخراج أخيها من قبره لن يكون إلاّ على جثتها
السائح الثالث: ولماذا كا هذا ؟
الدليل السياحي: قالت إن الأرض التي دفن فيها هي ارض طاهرة مقدسة
السائح الثالث: شيء سخيف" ( ص – ص 12-16 )

هكذا نرى وجهة نظر مع ما فعله العمدة ، بسبب البطالة ، وتوقف المصانع عن الإنتاج لتكدسها دون إقدام المشترين عليها لرداءة المنتجات الوطنية وارتفاع أسعارها في مقابل رخص المنتجات الصينية التي تغرق الأسواق ، ورأينا الطرف الحيادي ، وكلا الطرفين يشكلان الدور الذي يقوم به جانب من الكورس الإغريقس القديم . أما الجانب الآخر الموالى للبطلة في موقفها فيمثله ( بيتر) الإعلامي رفيق صباها:
" السائح الأول : بالتأكيد هذه فتاة عنيدة جدا
بيتر: لا بد أن لديها أسبابا وجيهة تجعلها تفعل هذا
السائح الثاني: لم أقرأ كلمة طيبة واحدة عنها
بيتر: وهل تقرأ كل الجرائد والمجلات ؟
السائح الثاني: وأنت من عيّنك محاميا عنها ؟ ولماذا تدافع عنها ؟
بيتر : لأنك لا تعرف حقا ماذا تقول ....
الدليل السياحي: الهدوء ياسادة ياكرام."

هكذا صدقت حكومات الدول المتخلفة وأنظمتها الفاسدة ، المسنظلة بمظلة التبعية للغرب المتقدم المنتج للمعرفة والمتملك لوسائل إنتاجها ، صدقت الشعارات التي أطلقها دعاة العولمة الأمريكية ، التي تزعم أنها تعطي كل شيء للشعوب ؛ فسارعوا تحت ضغط الكساد الاقتصادي الناتج عن بيروقراطية إدارتهم للبلاد وتحت ضغط البطالة والارتفاع الجنوني في الأسعار وسعار الاستيلاء على كل شيء ، سارعوا إلى بيع كل شيء من مصانع ومؤسسات وأرض وتراث وقيم وذمم وضمائر وأعراض ، مؤملين أن يصبحوا كمليارديرات أميركا ، غير أنهم لم يجنوا غير الحصرم ، غير المزيد من الإفلاس والمديونيات المركبة عوائدها ، فلا عن تفشي الخبائث والجرائم والفضائح وكشف عورات الوطن والمواطن ، والمزيد من المهانة والخراب ولإفقار الشعوب ، لم يتبق لكل مأجور ذليل غير الخزي والحسرة:
" القاتل الثاني: في حالة الفندق تبخر المال
القاتل الأول: يحدث هذا أحيانا
القاتل الثاني:
لن تصبح رئيس الأمند
القاتل الأول: لا .. مبسوط ؟ " ( نفسه ص 115 )
وهنا يأتي دور المواجهات بعد كل صدمة درامية ، إذ نرى فيليب الذي هو المعادل الرمزي المتناص مع شخصية هايمون في نص سوفوكليس ، ينقلب على أبيه الذي تبناه ويقف في الصف الذي كانت تقف فيه كلارا ، لكن بعد أن انتحرت بإلقاء نفسها من نافذة الدور العلوي في مستشفي الأمراض العقلية التي قادها الحارس الذي عينه العمدة خالها لمراقبتها والتجسس عليها ، بينما يتظاهر بأنه ما بعثه إلا لحمايتها من القتلة البلطجية الذين يأملون في إتمام المشروع السياحي الاستثماري لكي يشغلون الوظائف .:
" العمدة : ..... يا فيليب يا من ربيته كابني لا تغضب مني . حاول أن تفهمني
فيليب: من يسعه أن يفهم وحشا
العمدة: منذ دقائق وصلني خبر إفلاس المستثمرين مع الانهيار المالي ( أو ممكن قرار المستثمرين بالانسحاب والذهاب لمكان آخر) ( ينظر للوادي) سيظل هذا المبنى الضخم غير تام ، سيظل نصبا حجريا هائلا يذكرنا بأّنا لا نستحق إلاّ ما نحوزه
جويدو: والآن
العمدة: ربما اغادر . أذهب لمكان بعيد بعيد جدا عن هذا المكان ، حيث أهنت إهانة بالغة ، ربما لزمان آخر غير هذا الزمان الذي يعدنا بكل شيء ولا يقدم شيئا." ( نفسه ص 0-ص 110- 1215 )

هذه هي العولمة إذن .. تعد بكل شيء ولا تقدم شيئا . وهنا يتضح مغزي الدرس أو التعليمية التي يقدمها لنا نص إيفالد فليسار ، وهي بمثابة العقوبة التي وقعت على أولئك الذين باعوا الأوطان ، بعد أن باعوا الذمم والشرف والضمائر والهوية والعرض ، ولم يكسبوا سوى الخزي والعار والندم ، بعد أن خسروا الجلد والسقط ، وأضاعوا الأوطان التي أمنتهم الشعوب عليها ، فانطبق عليهم المثل العربي القديم : " ولات حين مندم"



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جماليات الصورة الشعرية في القصيدة العربية
- أصدق المسرح أكذبه/ أصدقه؟!
- المسرح والتفاعل الاتصالى بين النوظيف الإبداعي والتوظيف العلم ...
- ( وشم الهناجر ) بين النقد ونقد النقد
- الفراق الطبيعي بين المفكر ومنتجه الإبداعي
- فن المخرج المسرحي بين التحصيل المعرفي والتأصيل العلمي
- تربية الإرهاب - مصادر الإرهاب الفكري ومصادر الفكر الإرهابي
- المشروع السياسي .. مجرد دليل عمل
- أصداء البوح الذاتي في شعر كفافي
- أوركسترا عناكب الثقافة العنصرية ومغزوفة النشاز القروسطية
- جسد الممثل والأعراف الاجتماعية - دراسة في مناهج التمثيل المع ...
- نصوص مسرحية للمسرح ونصوص للدراسة
- ديموقراطية اليونان بين الفلسفة والسياسة والمسرح
- مونودراما ( مذكرات شمعة)
- الدين والدولة
- المبدعون وآفة سوء فهم الناقد
- التطوير الجامعي والقفز على الواقع المعيش
- في انتظار أوباما .. في انتظار جودو
- المثاقفة والتناص (تطبيقات في النقد الفني والمسرحي)
- التنسيق الحضاري وسور السياسات العظيم


المزيد.....




- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...
- الجيش الأمريكي يعلن تدمير سفينة مسيرة وطائرة دون طيار للحوثي ...
- السعودية.. فتاة تدعي تعرضها للتهديد والضرب من شقيقها والأمن ...
- التضخم في تركيا: -نحن عالقون بين سداد بطاقة الائتمان والاستد ...
- -السلام بين غزة وإسرائيل لن يتحقق إلا بتقديم مصلحة الشعوب عل ...
- البرتغاليون يحتفلون بالذكرى الـ50 لثورة القرنفل
- بالفيديو.. مروحية إسرائيلية تزيل حطام صاروخ إيراني في النقب ...
- هل توجه رئيس المخابرات المصرية إلى إسرائيل؟
- تقرير يكشف عن إجراء أنقذ مصر من أزمة كبرى
- إسبانيا.. ضبط أكبر شحنة مخدرات منذ 2015 قادمة من المغرب (فيد ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أبو الحسن سلام - المعارضات المسرحية في عصر العولمة