أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق - آريين آمد - الديمقراطية التوافقية في العراق















المزيد.....



الديمقراطية التوافقية في العراق


آريين آمد

الحوار المتمدن-العدد: 2941 - 2010 / 3 / 11 - 22:20
المحور: ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق
    


الديمقراطية التوافقية في العراق
إستراتيجية الاندماج أم التفكك؟

المقدمة
من الجميل أن نبدأ حديثنا عن الديمقراطية بقول ونستون تشرشل " الديمقراطية المعاصرة كما نعرفها هي أقل أنظمة الحكم سوءاَ". وقول الرئيس أبراهام لنكولن ”حكومة أساسها الشعب، يديرها الشعب، لأجل الشعب“. لنتوقف عند التعريف الذي قدمه قاموس ويبستر الإلكتروني لنظام الحكم الديمقراطي " بأنه الحكومة التي تكون فيها السلطة العليا في يد الشعب والتي تتم ممارستها من قبلهم بشكل مُباشر أو غير مُباشر عن طريق نظام تمثيلي يتضمن عادة انتخابات حُرة دورية“" .
العراق بعد سقوط الصنم
واجه العراق بعد التاسع من نيسان 2003 المشكلة الأصعب المتمثلة في إعادة البناء السياسي للدولة العراقية قبل كل شيء ليتفرغ بعد ذلك إلى البناء الاقتصادي ومن ثم البناء الاجتماعي في البلاد. فالموضوع لم يكن يتعلق بسقوط نظام حكم انهار بعد خسارته لصراع مع قوى أقوى منه بل كان يتعلق بدولة فقدت كل بنياتها السياسية السابقة حيث اعتمد الساسة العراقيون ومعهم الأمريكان بعد التاريخ أعلاه بالتعامل مع الوضع العراقي من خلال الاعتراف والإيمان بفشل الدولة العراقية منذ تأسيسها في 1921 في أن تنشأ امة يمكن تسميتها بالأمة العراقية رغم تبني العراق ومنذ البداية لنموذج الدولة الأمة التي اعتمدتها الدولة القومية في أوروبا. ونتيجة لذلك وجد العراقيون أنفسهم بعد سقوط النظام أمام انقسام اجتماعي كبير دفعت باتجاه تبني نموذج الدولة التعددية وصار لزاما أن تحل محلها بنيات سياسية جديدة تنطلق من المبادئ التالية كأساس لعراق مستقر يسود الوئام مختلف طوائفه:
1. عودة العرب السنة إلى الحكم في العراق والهيمنة على الامتيازات وإدارة شؤون البلاد بالشكل الذي حصل منذ العام 1921 هذا الأمر بات اليوم ضرب من الخيال وان الدولة الجديدة لا يمكنها استيعاب هذه الحالة وقبول هذه العودة.
2. تراجع السنة لا يعني في أي حال من الأحوال بروز طائفة أخرى للهيمنة على السلطة واحتكار الامتيازات بذريعة استغلال الفرصة التاريخية.
3. مضى الزمن الذي كانت السياسة تقرر من بغداد وما تمتع به الأكراد من قدرة على إدارة شؤونهم منحهم حق رفض هذه السياسات وان الأوان قد حان لتقوم السياسة العامة للدولة على أساس المساواة السياسية.


ففي حين توجد مصلحة عامة في استتباب الأمن وتحسن الوضع الاقتصادي والوفاق السياسي إلا انه يوجد اختلاف في المصالح واختلاف في وجهات النظر لطبيعة وشكل الدولة المزمع إنشاؤها على أنقاض تلك التي انهارت. من هنا برزت الحاجة إلى تبني الديمقراطية التوافقية كإستراتيجية لبناء العراق الجديد واليوم بعد أن قطعنا شوطا مهما في هذا المجال شوطا امتاز بثمنه الباهظ كنتيجة لاشتداد الهجمة الإرهابية وتدهور الوضع الأمني وسط تجاذبات مازلت مستمرة بين شركاء العملية السياسية، لهذا يكتسب إلقاء نظرة على الديمقراطية التوافقية مفتاحا قد يقود إلى حلول ممكنة. لهذا جاءت هذه الورقة.


الديمقراطية التوافقية
نشأت أولى مساعي بناء الديمقراطية التوافقية في بلدان أوربية غربية مثل (بلجيكا، هولندا، سويسرا، والنمسا). ولم تصدر هذه المساعي عن أي نظرية مسبقة، بل كانت وليدة حاجات عملية في مجتمعات منقسمة، أي غير متجانسة من الناحية القومية أو الدينية. بمعنى أن نظرية التوافقية مثلها مثل النظريات عن القومية جاءت بعد التجربة وليس قبلها.
تقوم فكرة الديمقراطية سواء في سياق تحققها التاريخي أو في الخلاصات الفكرية لها على المبادئ التي حددها جان لوك ومونتسكيو، أي الحكم بالرضا عبر الانتخابات. وحكم الأغلبية أو الأكثرية الفائزة بأغلبية الأصوات، وتقسيم السلطات. وثمة ملاحق لهذا النظام منها حقوق الإنسان والحقوق المدنية للفرد، وحقوق المرأة، والقانون الدولي.... الخ. لقد اصطلح على نظرية لوك – مونتسيكو بمفهوم الحكم الاغلبي. ونشأت هذه النظرية الكلاسيكية من تلخيص تجربة الديمقراطيات المبكرة كما في انكلترا، فرنسا، وأميركا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ولدت الديمقراطيات تلك في بلدان متجانسة قوميا بصورة ما، وهو تجانس لا يقسمها إلى أقليات واكثريات دينية، أو أثنية، أو ثقافية.
لكن مبدأ الأغلبية والأقلية السياسي سيتحول في المجتمعات المقسمة اثنيا أو طائفيا وبنسب متفاوتة إلى أغلبية وأقلية قومية أو طائفية مما يخلق استبداد الأكثرية. من هنا بدء البحث عن الحلول لهذه المعضلة في اتجاهين:
الأول استخدام الفيدرالية أو مناطق الحكم الذاتي لضمان حقوق الأقليات، وهو استلهام للتجربة الفيدرالية الأمريكية- الألمانية، التي برزت بدافع الحد من غلواء سلطة المركز، وذلك بتقسيم السلطات على أساس جغرافي ، بين المركز والأطراف.
الثاني وهو التجربة التوافقية التي نشأت عمليا بعد الحرب العالمية الثانية، اعترافا بقصور النظام الديمقراطي الاكثري المألوف، البريطاني على سبيل المثال.
وعليه فان الديمقراطية التوافقية انطلقت من قاعدة ديمقراطية راسخة، وليس ناشئة.
يتميز النظام التوافقي عن النظام الديمقراطي الاكثري بأربعة عناصر أساسية حسب آرنت ليبهارت احد ابرز مفكري ودارسي الديمقراطية التوافقية.
1. حكومة ائتلاف أو تحالف واسعة تشمل حزب الغالبية وسواه.
2. اعتماد مبدأ التمثيل النسبي في التعيين في الوزارات والمؤسسات والإدارات .
3. حق الفيتو المتبادل للاكثريات والأقليات على حد سواء لمنع احتكار السلطة.
4. الإدارة الذاتية للشؤون الخاصة لكل جماعة.

إن نظرية التوافق أوروبية المنشأ رغم أنها اغتنت لاحقا من تجارب العالم الثالث، وهي في المحصلة خروج على الإجماع النمطي الذي يمثله النظام الاكثري، الأميركي، البريطاني، الفرنسي.
من البديهيات المعروفة في عالم السياسة إن التجانس الاجتماعي والإجماع السياسي يعتبران شرطين مسبقين للديمقراطية المستقرة. أو عاملين يؤديان بقوة إليها. وبالعكس فان الانقسامات الاجتماعية العميقة والاختلافات السياسية داخل المجتمعات التعددية تتحمل تبعة عدم الاستقرار والانهيار في الديمقراطيات. والديمقراطية التوافقية نموذج تجريبي ومعياري في الوقت نفسه، فهي تستخدم بمثابة تفسير للاستقرار السياسي في عدد من الديمقراطيات الأوروبية الصغرى. مثل النمسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا.
إن هدف الديمقراطيات عموما هو الوصول بالمجتمعات إلى الاستقرار وابرز سمات النظام الديمقراطي المستقر هي انه يتمتع باحتمالات عالية لان يبقى ديمقراطيا، وانه ينطوي على مستوى منخفض من العنف المدني الفعلي والمحتمل. والديمقراطية التوافقية هي إستراتيجية في إدارة النزاعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النخب. بدلا من التنافس واتخاذ القرارات بالأكثرية. من هنا اشتدت الحاجة في الدول التي استقلت حديثا في معظم القارات إلى هذا النمط من الديمقراطيات كونها ورثت انقسامات مجتمعة هائلة، لا بسبب الاستعمار فقط بل لان تلك الانقسامات قد تشكلت بفعل عوامل تاريخية قديمة وفاعلة.
لقد كانت السمة البارزة في السياسات غير الأوربية هي انهيار الديمقراطية في فترات قصيرة من بعد تحررها من الاستعمار، فبعد التفاؤل الأولي في الآفاق الديمقراطية للبلدان الحديثة الاستقلال والمستند في معظمه إلى الطموحات الديمقراطية التي أعرب عنها قادتها السياسيون، يلاحظ ظهور الشعور بالخيبة لدى الرعية بعد أن نحت اغلب تلك الأنظمة إلى حكم توتاليتاري مزعج.
اليوم يعاني الكثير من الدول النامية لاسيما الآسيوية والإفريقية منها كلبنان، بوراندي، ماليزيا، العراق، اندونيسيا، ونيجيريا وأيضا الدول الأمريكية الجنوبية مثل غويانا، سرينام، وترينيدا من مشاكل سياسية ناجمة عن الانقسامات العميقة بين قطاعات من سكانها وغياب الإجماع الموحد لها. والمشكلة تشتد عندما نلاحظ كيفية تعامل الأدبيات النظرية حول التنمية السياسية وبناء الأمة والتحول الديمقراطي في تلك الدول بطريقة ملتبسة.
إن صعوبة تحقيق الحكم الديمقراطي المستقر وصونه في المجتمع ألتعددي قضية ثابتة في العلم السياسي، رغم اختلاف التعريفات حول المجتمع ألتعددي. فالبعض يعتبر إن المجتمع ألتعددي هو المجتمع الذي تعيش ضمنه مختلف قطاعات المجتمع جنبا إلى جنب ولكن بانفصال داخل الوحدة السياسية الواحدة. والبعض يعتبر المجتمع ألتعددي كل مجتمع تختلط فيه الشعوب جغرافيا ولكنها تتنافر اجتماعيا، والتنافر الاجتماعي له علاقة بلغة أو دين أو قومية.
يشكل الفيتو في الأنظمة التوافقية ضمانا أكيدا للحماية السياسية للأقلية. هذا الحل قد يقود في أحيان معينة إلى استبداد الأقلية. لكن هذا الخطر لا يعتبر جديا تماما كون الفيتو هو حق متبادل تستطيع كافة القطاعات الأقلية أن تستعمله. وان مجرد كون الفيتو متاحا كسلاح ممكن ، يمنح شعورا بالأمان ويجعل استخدامه مستبعدا. إن إعطاء كل مصلحة أو قطاع قوة الحماية الذاتية يحول دون نشوء أي صراع أو نزاع بينها على الغلبة. وسوف يعترف كل قطاع بخطر الطريق المسدود والجمود اللذين يترتب على الاستعمال غير المحدود للفيتو.
في الديمقراطية التوافقية يلاحظ وجود انحرافات عن الديمقراطية التقليدية وهذا الانحراف ناجم من طبيعة الديمقراطية التوافقية ومنها اعتماد النسبية في التعيين في كافة الوزارات والإدارات الحكومية ولو قارنا هذا المبدأ مع ما يسود في الديمقراطية التقليدية لوجدناه انحرافا هاما.
تقوم النسبية بوظيفتين هامتين: الأولى إنها طريقة في توزيع التعيينات الإدارية الهامة والموارد المالية على مختلف القطاعات. والنسبية كونها معيارا محايدا وغير منحازا للتوزيع تزيل عددا كبيرا من المشاكل المسببة للانقسامات في عملية صنع القرارات.
الانحراف الآخر عن حكم الأغلبية هو الاستقلال القطاعي الذي يستتبع حكم الأقلية لنفسها في المنطقة التي تعني هذه الأقلية حصرا. إنها اللازمة المنطقية لمبدأ الائتلاف الواسع. ففي كافة الشؤون التي تعني الجميع ينبغي للقرارات أن تتخذ من قبل كل القطاعات معا، وبدرجات متساوية تقريبا من النفوذ. أما في باقي الشؤون فيمكن للقرارات ولتنفيذها أن يوكلا لقطاعات مختلفة.
إن تفويض سلطة صناعة الحكم وتنفيذه إلى القطاعات بالتوزيع النسبي للأموال الحكومية على كل قطاع، يشكل حافزا قويا لمختلف المنظمات القطاعية. لذلك يمكن اعتبار الفيدرالية نمطا محدودا وخاصا من النظرية التوافقية.
الآن هل تعتبر الديمقراطية التوافقية إستراتيجية لتحقيق الاندماج في المجتمعات التعددية أم تمثل إستراتيجية تقود إلى التفكك؟
ونظرا لخطورة وأهمية هذا الموضوع ينبغي معرفة أي من النظامين ( ديمقراطية الأغلبية، أم ديمقراطية التوافق ) أكثر قدرة على منع الانفصال والحفاظ على الوحدة.
إن مجرد قيام قطاعات متميزة إقليميا مع ما تمنحه الفيدرالية من استقلال ذاتي جزئي ربما يتيح اندفاعا إضافيا للمطالبة بمزيد من الاستقلال الذاتي والمشكلة تبدأ عندما ترفض تلك المطالبات فقد يعقب ذلك الانفصال ثم الحرب الأهلية أو العكس. لكن والحالة هذه من الصعب التصور بان النظام الديمقراطي الموحد والمركزي سيتمكن من الحؤول دون الانفصال إذا كانت العناصر الأساسية للشعور الانفصالي قوية.
ثمة ثلاثة أنواع من الحلول لمعالجة المشاكل السياسية في مجتمع تعددي مع الحفاظ على طبيعته الديمقراطية.
أولها إزالة الطابع ألتعددي للمجتمع أو تقليصه بصورة جوهرية عبر الاستيعاب. وهي طريقة ذات احتمالات ضئيلة في النجاح على المدى القصير خصوصا.
ثانيها. الحل التوافقي الذي يقبل بالانقسامات التعددية باعتبارها لبنات البناء الأساسية لنظام ديمقراطي مستقل. فإذا كان الحل الثاني بعيد المنال أو إذا ما كان قد جرب ثم اخفق فان الحل المنطقي الوحيد الباقي هو تقليص التعدد عبر تقسيم الدولة إلى دولتين منفصلتين متجانستين أو أكثر.
ومسالة تكاليف التقسيم وإعادة التوطين لا من حيث الموارد المادية فحسب بل ومن حيث ما تنطوي عليه من معاناة إنسانية إنما هي مسالة نسبية ينبغي أن تقاس مقابل المكسب المادي.
ويعتقد بصورة كبيرة هنا بان التقسيم يستحق النظر إليه باعتباره إمكانية جدية وهو جدير بنظرة منصفة.
ومن المهم معرفة بان الديمقراطية التوافقية تفضي عادة إلى تقسيم المجتمع ألتعددي إلى عناصر أكثر تجانسا واستقلالية.
القطاع الذي ينتمي إليه الفرد قد يقف حائلا بينه وبين المجتمع الوطني والحكومة وقد يكون القطاع متجانسا بصورة قاهرة. هنا نلاحظ بان الديمقراطية التوافقية معنية بالمعاملة المتساوية أو النسبية للجماعات أكثر من المساواة بين الأفراد.
أما الاعتراض الأخير على الصفة الديمقراطية للديمقراطية التوافقية هي أنها تستلزم سيادة النخبة المنظمة كما تستلزم بالمقابل دورا استثنائيا لكافة الجماعات غير النخبة.
في هذا الجانب يجد زعماء القطاعات أنفسهم أمام المهمة العسيرة المتمثلة بالقيام بالتسويات السياسية مع زعماء بقية القطاعات وتقديم التنازلات لهم والحفاظ على ثقة قواعدهم.
في الديمقراطية التوافقية يمكن ملاحظة ما يلي بسهولة:
1. الحكم بواسطة الائتلاف الواسع يعني أن عملية صنع القرارات ستكون صعبة.
2. الفيتو المتبادل ينطوي على خطر إضافي يتمثل في تجميد صنع القرارات كليا.
3. النسبية كمعيار لتوظيف العاملين في الإدارات الحكومية يستتبع أولوية في قطاع محدد أعلى من الأولوية التي يوليها للكفاءة الفردية وقد تكون على حساب الفعالية الإدارية.
4. الاستقلال القطاعي يجعل نمط الحكم مكلفا للغاية.

الآن مع إدراكنا لكل هذه الثغرات فإننا يجب أن نكون حذرين من التوجه إلى النظام الخصوصي ( الاكثري ) الذي يحقق حسما وفعالية سريعة في مجتمع تعددي، غير أن الثمن الذي ربما ترتب على النتيجة المؤاتية هو تزايد العداوة والارتياب عند تلك القطاعات التي حرمت من المشاركة في الحكم.
لذلك ربما يؤدي الفعالية القصيرة الأمد إلى الانهيار على المدى الطويل. وبالعكس فان الديمقراطية التوافقية قد تبدو بطيئة وثقيلة على المدى القصير غير إنها لها حظوظها الكبيرة في إنتاج قرارات فعالة مع مرور الزمن ولاسيما إذا تعلم القادة تطبيق الفيتو المتبادل باعتدال.
على النخب في الديمقراطية التوافقية تعلم كيفية التوازن بين تحقيق مطاليب القطاعات التي تنتمي إليها مع الحفاظ في ذات الوقت على روح التعاون بين النخب والالتزام بصون وحدة البلد، عليهم إظهار استعدادهم للانخراط في الجهود التعاونية مع قادة القطاعات الأخرى بروحية الاعتدال والحلول الوسط وهنا بالذات تبرز قضية غاية في الأهمية تتمثل بكيفية وشكل القيادة لتحقيق التوافق، فمطلوب من القادة قدرا من التسامح تفوق تصورات أتباعهم مع الاحتفاظ بالقدرة على حمل الأتباع ومجاراتهم في قراراتهم التي تأتي غالبا وبفعل التوافق أدنى مما هو مطلوب جماهيريا.
تعتبر الأحزاب السياسية الوسيلة المؤسساتية الأساسية لترجمة الانقسامات القطاعية في الميدان السياسي. لذلك كانت العلاقة بين انقسامات نظام الأحزاب ببقية الانقسامات الكبرى في المجتمع عظيمة الأهمية. أن انقسامات أنظمة الأحزاب تميل على وجه الإجمال إلى التطابق مع الانقسامات الدينية، والتطابق الجزئي مع الانقسام الطبقي، والتقاطع شبه التام مع الانقسامات اللغوية. لكن يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن الديمقراطية المستقرة تتطلب وضعا تضم فيه كافة الأحزاب الكبرى مؤيدين من عدة قطاعات من السكان. ذلك أن النظام الذي يكون فيه تأييد مختلف الأحزاب متطابقا بدقة مع الانقسامات الاجتماعية الأساسية لا يمكن يستمر على أسس ديمقراطية، لأنه يعكس حالة صراع بالغة من الحدة تستبعد التسويات.
يميل المجتمع ألتعددي إلى الانتظام وفقا للانقسامات القطاعية وهذه التنظيمات المنفصلة تستلزم درجة من الانعزال القطاعي المؤدي إلى الديمقراطية التوافقية. لهذا فمن الأنسب أن ينظر إلى الانعزال القطاعي الناتج عن المنظمات السياسية والاجتماعية القائمة كطريقة للديمقراطية التوافقية وليس كشرط مسبق لها. لكن ثمة نمط هام من الانعزال القطاعي لا تخلقه الديمقراطية التوافقية نفسها، هو الانعزال القطاعي وفق خطوط جغرافية.
هنا أيضا يمكن أن يزيد النظام التوافقي درجة الانفصال عبر تطابق الاستقلال القطاعي الإقليمي: أي الفيدرالية. فلو أخذنا نموذجين من الغرب للقياس لوجدنا بان سويسرا تنقسم إلى 25 كانتونا. أما النمسا فتنقسم إلى 9 لاندر (إقليم).
في سويسرا جاء تجانس الوحدات المكونة للفيدرالية عبر أقصى فصل إقليمي ممكن لمختلف الجماعات. ووضع كافة الوظائف التي يمكن أن تصبح اللغة فيها مسالة حساسة كالشؤون الدينية والفكرية والفنية تحت ولاية السلطة الكانتونية لا الفيدرالية.
أن وجود تقاليد التوافق عند النخب شرط مؤات من شروط الديمقراطية التوافقية.
هناك بالتأكيد أنماط كثيرة للديمقراطية اعتمادا على بنية المجتمع ذاته من حيث هو تعددي أو متجانس، وسلوك النخب السياسية من حيث هو تآلفي أو خصومي. ( هنا يمكن اعتبار الوضع العراقي تعددي/ خصومي .
فسلوك النخبة ألتآلفي يولد:
1. ديمقراطية غير مسيسة. في مجتمع متجانس.
2. ديمقراطية توافقية في مجتمع تعددي.

أما سلوك النخبة ألخصومي فانه يولد:
1. ديمقراطية مركزية في مجتمع متجانس.
2. ديمقراطية لامركزية في مجتمع تعددي.

الأنماط الأربعة أعلاه تشكل درجات مختلفة من الاستقرار السياسي.
المهم في جميع الديمقراطيات التوافقية هو تعلم فن التوصل إلى الإجماع داخل قبة البرلمان خاصة تجاه السياسات المصيرية. مع التذكير باستمرار بان السياسة من حيث الممارسة ليست لعبة تلعب بأسلوب خصومي دائما، حتى في بريطانيا تقوم الحكومة بمشاورة المعارضة بالنسبة إلى المسائل الحساسة بدلا من اللجوء إلى التغلب على الأقلية بالتصويت.
والمفارقة هنا أن التطور السياسي لكثير من البلدان الحديثة الاستقلال قد أفضى إلى الانحطاط السياسي والى سيطرة الديكتاتورية. معنى هذا أن هناك خيبة شاملة في شأن مثل الديمقراطية الغربية وممارساتها. علما أن النموذج الغربي للديمقراطية يترادف في الأذهان مع النموذج البريطاني، وهذا ما يعزز القناعة شيئا فشيئا في النموذج التوافقي البديل. ويبدو من المعقول تماما أن نتوقع علاقة ما بين الحاكم الاستعماري السابق ونمط الديمقراطية المعتمد.
من المفارقات التاريخية أن أكثر الدول المستعمرة تأثيرا في العالم الحديث كانت دولا ديمقراطية بريطانيا العظمى، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، هولندا، وبلجيكا. المفارقة الأخرى هي أن معايير الحكومة المستقلة الديمقراطية التي طمح إليها الزعماء السياسيون في المستعمرات، كانت مما وضعه وحدده المستعمرون أنفسهم. وقد كان ذلك عبر أدائهم في بلدانهم الخاصة، لا عبر عناصر التمثيل الديمقراطي التي ادخلوها في مستعمراتهم.
أن البلدين اللذين يمكن اعتبارهما مثالين على نجاح معقول للتوافقية في العالم الثالث، خرجا من تحت السيطرة البريطانية والفرنسية: ماليزيا التي استعمرتها بريطانيا، لبنان الذي استعمره الفرنسيون. ومن الجدير بالملاحظة أيضا انه حتى حين تدخل البريطانيون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في وضع دساتير للأراضي الواقعة تحت سيطرتهم، فإنهم لم يتمسكوا بصورة دائمة لا تتغير بنموذجهم الديمقراطي الخاص: فقد حاولوا فرض النموذج التوافقي على ايرلندا الشمالية، كما شجعوا ووافقوا على التجربة التوافقية السيئة الحظ في مستعمرتهم السابقة قبرص.
ومن الأمثلة على المحاكاة الحرفية للدساتير الغربية، والتي أصبحت مصدر اضطراب في حكومات المستعمرات، المادة التي نصت في الدستور الاندونيسي الصادر سنة 1950 "على أن للرئيس ونائبه حرمة لا يجوز المساس بها". نقلت هذه الجملة من نص في الدستور الهولندي يتصل بالمسؤولية السياسية للحكومة ويتضمن دورا محدودا جدا للملك. غير أن الرئيس سوكارنو استغل هذا البند ليزيد سلطته الخاصة على حساب الحكومات الائتلافية، وليقضي على الديمقراطية البرلمانية في نهاية المطاف.
جلس سوكارنو في موقعه الدستوري الحصين وراح يفسر المواد الملتبسة في الدستور بطرق أتاحت له أن يقوم بدور يتجاوز ما كان يعتبر عادة روح هذا الدستور وغايته.
ينبغي على القادة السياسيين في المجتمعات التعددية أن يصبحوا مهندسين للتوافقية، إذا شاؤوا بناء ديمقراطية توافقية ترسي الاستقرار والسلام في بلدانهم. فالتنمية السياسية هي تغيير مقصود يطمح إلى تحقيق هدف مقصود، كتحقيق ديمقراطية مستقرة. لذلك لا بد من تحديد الوسائل التي سيتم من خلالها بلوغ هذه الغاية.
والسؤال هو هل يجوز الانخراط في عملية الهندسة السياسية، أو إسداء المشورة للمهندسين السياسيين عندما تكون المعرفة ناقصة؟.
وهل تكفي المعرفة لتبرير التوصية بوسيلة الديمقراطية التوافقية، تحقيقا للهدف المتمثل بقيام نظام ديمقراطي فعال ودائم في مجتمع تعددي؟
الجواب نعم ينبغي للمهندس السياسي أن يقبل بالديمقراطية هدفا أساسا. وان توصف البنى والإجراءات التوافقية بوضوح. أن يكون النموذج التوافقي أداة لبلوغ ديمقراطية مستقرة، أو إذا كانت ثمة وسائل أخرى لبلوغ الغاية نفسها. ينبغي أن تكون الطريقة التوافقية وسيلة كافية لغاية الديمقراطية المستقرة.
الزعم بان الأنظمة غير الديمقراطية مطلوبة لبناء أمم مندمجة في المجتمعات التعددية زعم مشكوك فيه. وأثبتت التجارب فشلها. فتلك الأنظمة لم تستطيع البرهنة على فعاليتها في صهر الفئات السكانية المتنوعة معا. لان إمكانية فرض الوحدة محدودة جدا. والمشكلة الأساسية أن للولاءات الأولية جذورا راسخة جدا وقوية جدا. وان الزعيم الواحد أو الاوليغاركية إنما هي لا محالة تعبير عن فئات مخصوصة وهي تاليا غير مقبولة عند فئات أخرى.
وثمة مثال جيد على ذلك وهو حالة الزعيم الاندونيسي (احمد سوكارنو) وكان في نظر نفسه زعيما وطنيا ذا جاذبية جماهيرية.
والواقع انه لم يكن سوى رجل جاواني( نسبة إلى جزيرة جاوا) وممثلا لاحدى الثقافات الفرعية الاندونيسية.
جاذبية سوكارنو وإيديولوجيته كانت تعنيان كثيرا لفئة واحدة من سكان اندونيسيا، وكانتا مرفوضتين من قبل الفئات الأخرى، في اندونيسيا لم تكن السلطوية والمركزية أداتين فعالتين لبناء الأمة. نظام الحكم غير الديمقراطي الوحيد الذي يمكن أن يتفادى هذه المشكلة هو ما يمكن وصفه الاوليغاركية التوافقية، كنظام حزب واحد يكون ائتلافا واسعا حقيقيا لكل الفئات الهامة.
وهذا من النوادر كما أثبتت التجربة.
أن أنظمة الحكم غير الديمقراطية لم تخفق في أن تكون بانية جيدة للأمم فحسب، بل إنها أخفقت في تسطير سجلات جيدة في الحفاظ على النظام والسلام في العلاقات بين الفئات، ضمن المجتمعات العددية. فأسوأ أعمال العنف بين الفئات المتصارعة في المجتمعات التعددية اندلعت في اندونيسيا وبوروندي بعد عدة سنوات من انتهاء الحكم الديمقراطي في هذين البلدين.
ففي العامين 1965 و 1966 قتل نصف مليون شخص على الأقل في أعقاب الانقلاب العسكري الذي أطاح بسوكارنو.
أما قرابة المائة ألف نسمة ومعظمهم من الهوتو الذين قتلوا في بوروندي سنة 1972 فيمثلون جريمة إبادة جماعية انتقائية أكثر إرهابا، نظرا لكونها استهدفت الشرائح المثقفة ونصف المثقفة من فئة الهوتو، ونظرا إلى صغر حجم سكان هذا البلد: فقد قتل حوالي ثلاثة ونصف بالمائة من مجموع السكان في غضون أسابيع.
والواقع انه يمكن للمرء أن يحاجج بصورة مقنعة بان الديمقراطية ولاسيما التوافقية منها بانية للأمة أكثر من الأنظمة غير الديمقراطية. وعلى الرغم من أن الديمقراطية التوافقية تميل على المدى القصير إلى تعزيز الطابع ألتعددي للمجتمع ألتعددي فقد يكون من شأن تطاول مدة الحكم التوافقي الناجح أن يمكنه من حل بعض الخلافات الكبرى بين الفئات، وان يعمل تاليا على نزع الطابع السياسي عن التباينات الفئوية. كما أن تطاول مدة هذا الحكم قد يخلق ما يكفي من الثقة المتبادلة على مستوى النخبة والجماهير بحيث يصبح نافلا مع الوقت.
يتطلب عملية الاندماج تعلم فن حل النزاعات من قبل النخب في المجتمع ألتعددي وتجربة النظر سويا إلى طريقة للخروج من أزمة ما، ورؤية العداء المتبادل بين الطرفين يتراجع إلى درجة من التسامح المتبادل والإدراك العميق المتبادل لموقف الآخر والشعور مع ذلك بالحاجة لردم الهوة. هذه تجارب من شأنها مع مرور الزمن أن تساعد فريقين من الناس على المضي قدما نحو علاقة من الاندماج الأعمق. النظرة التشاؤمية التي تحكم على الديمقراطية التوافقية في العالم الثالث بالفشل تستند على مسلمة أن التنمية الاقتصادية وبناء الأمة شرطان مسبقان للديمقراطية. وينبغي التذكر دائما بان احتكار السلطة يتحول من وسيلة إلى هدف يبرر ذاته بذاته.
التحدي الأكثر ضررا بفكرة الهندسة التوافقية هو أن الدروس المستخلصة من التجارب التوافقية الغربية ليست قابلة للتطبيق في المجتمعات غير الغربية لان ثمة عالما كاملا من الاختلافات بين المجتمعات التعددية في العالمين الأول والثالث.
فالاختلافات بين فئات المجتمعات التعددية غير الغربية اكبر إجمالا من الاختلافات بين فئات المجتمعات التعددية الغربية، إلى درجة أن فرص ردم الهوة بينها عبر الوسائل التوافقية ضئيلة للغاية.
وعلى الرغم من آفاق الديمقراطية التوافقية تضيق أكثر فأكثر مع تزايد درجة التعددية، ومع اختلال التوازن العددي بين الفئات أو مع تفتته بصورة خطيرة ، وما إلى ذلك فهي تظل مؤاتية أكثر من فرص استقرار ديمقراطية بريطانية النمط.
والخيار الواقعي بالنسبة إلى الكثير من المجتمعات التعددية في العالم غير الغربي ليس خيارا بين النموذج المعياري البريطاني للديمقراطية والنموذج التوافقي، بل بين النموذج التوافقي الديمقراطي وبين انعدام الديمقراطية تماما.


المصادر
1. الديمقراطية التوافقية / معهد الدراسات الإستراتيجية / شاكر الانباري
2. المسألة الكردية بعد قانون إدارة الدولة العراقية/ فريد اسسرد.



#آريين_آمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العملية السياسية والسلم الاهلي في العراق
- ملخص كتاب صدام الحضارات
- نادين البدير المراة التي تقود ثورة لوحدها
- نظرة موضوعية لخطاب اوباما في جامعة القاهرة يوم 4 يونيو 2009
- سلاما ياكردستان العراق والقادمات احلى


المزيد.....




- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...
- حادث مروع يودي بحياة 3 ممرضات في سلطنة عمان (فيديوهات)
- تركيا.. تأجيل انطلاق -أسطول الحرية 2- إلى قطاع غزة بسبب تأخر ...
- مصر.. النيابة العامة تكشف تفاصيل جديدة ومفاجآت مدوية عن جريم ...
- البنتاغون: أوكرانيا ستتمكن من مهاجمة شبه جزيرة القرم بصواريخ ...
- مصادر: مصر تستأنف جهود الوساطة للتوصل إلى هدنة في غزة
- عالم الآثار الشهير زاهي حواس: لا توجد أي برديات تتحدث عن بني ...


المزيد.....



الصفحة الرئيسية - ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق - آريين آمد - الديمقراطية التوافقية في العراق