|
الظاهرة الإسلامية.. صحوة أم رِدَّة، أم ربما فرصة؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2931 - 2010 / 3 / 1 - 22:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الظاهرة التي ينعاها بعضنا تحت اسم "الردة الدينية"، ويحتفي بها آخرون تحت اسم "الصحوة الإسلامية" تحتاج اليوم إلى نظرة مختلفة وتقييم مغاير. واضح أنها ليست عارضا تاريخيا عابرا يزول تلقائيا أو بمساعدة القمع. وهي بالمثل ليست "الحل" أو حامل الاستقرار السياسي والنفسي إلى مجتمعاتنا. الواقع أن تحقّقاتها في إيران والسودان وأفغانستان ليست مما يغري بالاقتداء. وأن تنظيماتها المنتشرة في جميع بلدان العالم الإسلامي ليست تلك القوى التحررية الواعدة بالمساواة والعدالة، وأن كبار الناطقين باسمها أو المباركين لها يجمعون بين الغرور المفرط وضآلة الإحاطة بكل ما هو خارج مجالهم. ومع ذلك فإن الظاهرة الإسلامية موجودة وقوية، ويشكل التعبير السياسي المركزي عنها (تنويعات الإخوان المسلمين) القطب الثاني في معظم بلداننا بعد السلطات الحاكمة. وهي بعد ظاهرة مركبة، طيفها واسع، لا تلتئم حول "الإسلام السياسي" ولا ترتد إليه، خلافا لما يفضل الاعتقاد الإسلاميون السياسيون أنفسهم، ولما يهول به أعداء سياسيون وإيديولوجيون لهم. وللظاهرة الإسلامية بعد تاريخ، تتمايز فيه أطوار مختلفة، يبرز فيها العمل العنفي مرة، والسياسي مرة، والاجتماعي الدعوي مرة ثالثة. والخصومات والصراعات داخلها شائعة لا يخفق في رؤيتها إلا من يصدر عن "ذهنية تحريم" حيال تشكلات الظاهرة الإسلامية جميعا. لا تتوحد المقاربتان، "الرِّدَّوية" و"الصَحَوية"، في انفعالهما المبتئس مرة والمبتهج مرة فقط، ولا في إحكامهما المعيارية القاطعة المضمنة في اسميهما بالذات، وإنما كذلك في لا تاريخيتهما. تفتعل الأولى مفارقة باسم العصر أو الحداثة: كيف يظهر إسلاميون يريدون "تطبيق الشريعة".. في القرن العشرين أو الحادي والعشرين؟ كأننا من صناع العصر، نشارك غيرنا حداثة ناجزة، ونسهم في حفز دينامياتها وتطوير تنظيماتها. ويفتعل الإسلاميون مفارقة باسم الهوية: كيف تنهض أمة تخلت عن شريعتها أو دينها..؟ كما لو أننا مجتمعات متماثلة مع ذاتها طوال ثلاثة عشر قرنا، مبدأ تماثلها هو "الإسلام"، الذي حصل أن تخلت عنه سهوا أو طيشا قبل قرن أو قرن ونصف. غير أن أبرز أوجه اللاتاريخية المشتركة بين "الصحويين" و"الرِّدَّويين" أن كلا منهما تنظر إلى مذاهب الأخرى وتشكلاتها الفكرية والسياسية كواقعة عابرة تاريخيا، ظهرت في غفلة من الزمن، وسوف تتلاشي حين تزول الغفلة التي لا يكف المتكلمون باسم كل واحدة منهما عن التنبيه إلى المخاطر المهولة إن دامت وقتا أطول. وبينما تدومان معا، لا يبدو أن دوامهما يهز اقتناعا مشتركا أن هذه أو تلك فاصل تاريخي زائل. ويكمل الانفعال واللاتاريخية نظرة جوهرانية إلى كل من الإسلام والحداثة (التي يستند إليها في الحكم بالردة على الظاهرة الإسلامية) تقرر تخارجا تاما بينهما وتنافيا تاما لهما. الإسلام طاهر مطهر من الحداثة التي هي بمثل طهره منه. خارج التفكير أن الحداثة (والعلمنة) تتقدمان عبر "الإسلام" ذاته، وأن الظاهرة الإسلامية في أوجهها الفكرية والسياسية متشكلة وفقا للحداثة. فليست عقيدة الحاكمية الإلهية، مثلا، غير صيغة مؤسلمة عن الدولة الشمولية في القرن العشرين، وقد كان أبو الأعلى المودودي معجبا بها، وسيد قطب خصما لدودا ثم ضحية لتنويعتها المصرية. ولم يجد الشيخ القرضاوي ما يسوغ به شمولية الإسلام غير ما بدا له من شمولية الإيديولوجيات القومية والاشتراكية الحديثة. يسهل تكثير الأمثلة، لكن خلاصتها تتوحد في أن "الإسلام" اسم لإجابات على أسئلة تطرحها الحداثة (الديمقراطية، الاشتراكية، العلمانية، الاقتصاد الإنتاجي، حقوق الإنسان..). ولا يعدو الإسلام أن يكون مرجعية لغوية رمزية لإجابات على أسئلة لم يطرحها. الأصل في ذلك إرادة الإسلاميين تشميل الإسلام كل شيء. لكنهم بهذا يفقدونه اتساقه الذاتي. كانت استراتيجية أجدى بكثير لو عملوا على إعادة هيكلة الإسلام عبر التمييز بينما هو جوهري فيه وثابت وبين الثانوي والمتغير الذي يتعين أن يعاد بنائه حول هذا الثابت. كان من شأن ذلك أن يتيح لهم استلام زمام المبادرة ومساءلة الحداثة، بدل تشميل شكلي لا يكاد يخفي احتكار الحداثة وحدها للمبادرة والسؤال. لا معنى للقول، تاليا، إن الإسلاميين يرجعون بمجتمعاتنا 1400 عاما إلى الوراء. لا يرجعون يوما واحدا. الأمر لا يتعلق برجعة أو ردة، بل بتفاعل متعثر أو ارتكاسي، لكنه تاريخي ومعاصر جدا. والخلاصة أن "الإسلام" ليس موجودا خارج الحداثة والعلمنة. إنه اسم لمركب علاقات وعمليات اجتماعية تاريخية، أبرزها ظاهرة الصحوة – الردة الإسلامية المعاصرة، وليس جوهرا مماثلا لذاته. وهو لا يوجد إلا بمحصلة تلك العلاقات والعمليات التي قد تسمى الأسلمة. "الإسلام" نتاج الإسلمة النوعي والقناع الذي تحتجب خلفه، خلافا لما يفصل أن يرى الأمر الصحويون والردويون على حد سواء، ممن يشتقون الأسلمة من إسلام ثابت مصمت لا يشبه غير نفسه. وأول ما يترتب على ذلك أن العلاقة بين الحداثة (ومنها العلمنة) والأسلمة ليست محكومة بمحصلة صفرية، وأنه يرجح لمزيد من الانخراط في الحداثة أن يغذي مزيدا من الأسلمة، وكذلك مزيدا من الصراع مع الأسلمة ومحاولات ضبطها وإصلاحها. هذه عملية مفتوحة، فرصنا أكبر في التأثير على محصلاتها باتجاه يثمر حلولا متسقة لمشكلاتنا السياسية والنفسية والأخلاقية بقدر ما ننخرط فيها ونضع أنفسنا على مستواها، لا فوقها ولا خارجها. بهذا المعنى يتعين النظر إلى الظاهرة الإسلامية المعاصرة وإلى الصراع معها كفرصة كبرى لا يوفرها شيء آخر من أجل توليد ثقافة أغنى وأكثر تحررا وتفكير أكثر جذرية من جهة، ولتأهيل بنى سياسية وصيغ للدولة أكثر ديمقراطية وعدالة من جهةأخرى. أو ربما نقول هي تحد إيجابي يتعين أن نستجيب له وننهض به. وأن يطرق هذا التحدي بابنا حظ طيب، وليس بلاء نرتعب منه. يحول دون تبيّن ذلك مدرك الردة الدينية ذاته. فهو يضمر حتما تاريخيا بزوالها لكونها مناقضة لـ"منطق التاريخ"؛ وما فيه من حكم تبخيسي، بل تحريمي، يضمر أيضا تزكية لاستئصالها العنيف على نحو ما استؤصلت "الردة" التالية لوفاة نبي الإسلام؛ وهو ينطوي أخيرا على نظرة تقديسية للحداثة، تقترن مثيلاتها دوما برفع شأن الأفكار والعناوين المجردة والتقليل من شأن البشر الملموسين ومطالبهم وتطلعاتهم. وفي حين أن للفصل بين الدين والثقافة على هذا النحو المصفّح أحيانا ببطانات انفعالية سميكة ضلع في تعثر أو إخفاق صيغ التفاعل القائمة اليوم بين "الإسلام" و"الحداثة"، نميل إلى تزكية اشتغال أكبر للثقافة بالدين واشتباك أوسع معه سبيلا إلى تفاعلات أكثر إيجابية. لا نرى كيف تتولد الثقافة العلمانية بينما تنكص الثقافة أمام الدين وتتوجس من التعامل معه.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإصلاح الإسلامي وإيديولوجية الإصلاح الديني
-
العدل... ولو انهار العالم
-
لماذا نتخلف؟ ولم لا يكف تخلفنا وحده عن التقدم؟
-
في تفقد الواقع وأشياء أخرى
-
فكأنك في -مثل غابة للحيوانات-..بعد 41 عاما موصولة!
-
العلمانية كسردية صغرى..
-
وعي الحاضر وتأهيل الذات (كلماتٌ لمجلة -الحوار- في ذكرى انطلا
...
-
التطور بالتذكِّر: -جملكية- أم سلطانية محدثة؟
-
أسئلة وردود حول قوانين الأحوال الشخصية
-
في نقد النظرة التجزيئية ومنطق الاستبدال الإيديولوجي
-
وضع -الدين العام-.. مناقشة في الشأن الديني السياسي العربي
-
في الفتوى و-التفاتي- وصناعة التقليد
-
الشعبوية إذا تنتحل.. قناع الكونية
-
بصدد أزمة الفكرة الديموقراطية في التفكير السياسي العربي
-
في نقد السياسوية: -إعلان دمشق- والطريق المسدود
-
في شأن ما يطرحه علينا الاستفتاء السويسري من أسئلة أخلاقية وس
...
-
-العلمانية الأمية-: في المحصلات المحتملة للفصل بين العلمانية
...
-
الدولة السلطانية المحدثة وسيف الحروب الأهلية
-
الثقافوية العربية المعاصرة، خصائص منهجية ومحددات أساسية
-
من -الخيار الثالث- إلى -وضعية يسارية- جديدة
المزيد.....
-
“ماما جابت بيبي”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على القمر الصنا
...
-
الإعلام الحربي للمقاومة الإسلامية في لبنان يعلن تنفيذ 25 عمل
...
-
“طلع البدر علينا” استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 20
...
-
إعلام: المرشد الأعلى الإيراني يصدر التعليمات بالاستعداد لمها
...
-
غارة إسرائيلية على مقر جمعية كشافة الرسالة الإسلامية في خربة
...
-
مصر.. رد رسمي على التهديد بإخلاء دير سانت كاترين التاريخي في
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا لقوات الاحتلال الاس
...
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية اللواء حسين سلامي: الكيان
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان: مجاهدونا استهدفوا تجمعا لقوات ا
...
-
قائد حرس الثورة الإسلامية اللواء سلامي مخاطبا الصهاينة: أنتم
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|