زهير الخويلدي
الحوار المتمدن-العدد: 2879 - 2010 / 1 / 5 - 08:59
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
"في البدء كان العالم ولكن في قلب كل شيء كان الإنسان".
ارتبطت المبادرة في الحاضر التاريخي بقيم العدالة والعقلانية والعلمانية والمساواة وهي قيم تنص على الأديان وتشرع لها النظريات وتجمع عليها العديد من الأطراف مع اختلاف في القراءات، وقد رسمت لنفسها منذ البدء أرضية الوطنية والديمقراطية والتقدم وهي مبادئ كونية ينشدها كل إنسان ويدور حولها وفاق وتحظى بالإجماع ولم نر من الأدبيات السياسية بمختلف تلويناتها من نقد هذه القيم أو حاول التنصل منها، رغم أن المعنى الذي يعطى لهذه القيم مختلف وتباعد والآليات التي تقترح لتجسيد هذه القيم على أرض الواقع هي بدورها محل تنازع وتضاربت حولها الآراء.
عند هذا المنطلق تكون المبادرة انتفاضة وجودية على الذات وقرار بالتوجه نحو العمل، بعبارة أخرى هي مبادأة والتفاتة إلى السياسة وانتباه إلى الواقع وعروج من السماء إلى الأرض وهجرة من لغة المفاهيم إلى حقل التجارب وتبني العقل الفاعل والنص الكاشف والرؤية الثاقبة والموقف المعاند واليد النظيفة والإرادة الجدية والعزم على النهوض.
تنتمي المبادرة إلى القوى المتحركة في التاريخ الاجتماعي وترفض المسايرة والولاء وتنهج طريق المعارضة المسؤولة وتتحمل التنوع الذي يكونها وتحترم مبدأ الاختلاف الذي يهيكلها من الداخل وتلتزم بالتسامح غير المتساهل والسلم غير المؤدي إلى العنف وتتبنى خيار العلنية في الممارسة والوضوح في الخطاب وتقف عند مفترق الطرق بين المتزاحمين دون أن يكون ذلك جلوسا على الربوة وسكوت عن الانتهاكات وترفض التعديات على الحقوق وتفويت الفرص السانحة للسير نحو الإصلاح والارتقاء.
تتصالح المبادرة مع الجوانب المستنيرة من الدين وتعتبر حرية المعتقد حق يجب على المجموعة الوطنية أن تكفل ممارسته عند كل فرد في كنف الأمن والسلامة ولكنها تنتقد الاستبداد باسم القراءات اليمينية المضللة للدين وتدعو إلى عدم احتكار أمر المقدس من طرف أي كان وتحارب الشعوذة والخرافة.
تنهل المبادرة من تراث لغة الضاد الخصيب وتدافع على استراتيجية التعريب كعنوان لتحقيق السيادة والعزة بالنسبة للوطن وتعتبر تركيز الناشئة على مسألة الهوية من منظور مختلف هو أمر على غاية من الحساسية والخطورة في عصر العولمة الاختراقية وتسريع السير نحو الدولة الرخوة ولكنها تنقد التمركز العرقي وأمراض النكوص الاثني والمذهبي والوله الذاتي وتثمين أهمية الانفتاح على الغيرية في بناء الذات وتؤكد على ضرورة تعلم اللغات الأعجمية التي تضمن الاتصال والتواصل مع العالم وتردم الفجوة العلمية والرقمية مع الآخر الصاعد بوتيرة غير محسوبة.
كثيرة هي الأسئلة التي تطرح هنا: ماهي الصعوبات التي تصطدم بها المبادرة وتمنعها من التأثير في الحاضر؟ وماذا عن المآزق التي وقعت فيها وجعلتها تتحول إلى مجرد تفكير حالم حول المستقبل؟ وماهي شروط معقولية المبادرة على الصعيد الفردي والجماعي؟ كيف يتمفصل التطبيق على التناقض الفكري ويسبب له عواقب من نفس المقام النظري؟ والى أي مدى تقدر مقولة المبادرة أن تجيب على طلب الحصيلة العملية بين الحاضر واللحظة؟ أليس من الضروري أن يتشكل زمن ثالث يمكن لمبادرتنا الفردية والجماعية أن تبرز على خلفيته؟
" المبادرة هي الحاضر الحي الفعال العملي الذي يرد على الحاضر المشاهد الملاحظ المتأمل المفكر فيه"
إن الأرضية التي تقف عليها المبادرة بالمعنى الفلسفي هي التعقل في النظر واستقلالية الفعل وزمانية الأفكار وتاريخية القول مع الحرص على الإعطاء الأولوية المطلقة للمستقبل لكن دون إهمال مركزية الحاضر والاهتمام بالماضي كامتداد واستثمار بعيدا عن سياسات الذاكرة وحسابات الإرادة.
إن الانتباه إلى الأشياء الحاضرة لا يعني التأسف على ما فات وعلى ما لم يحدث في الماضي ولا التكلم على ما سيحدث وعما هو على وشك الحدوث واستباق ما سيأتي وإنما هو ممارسة فعل الحداثة كتجديل للعلاقة بين الذاكرة والانتظار خارج منطق الاحتواء والاستبعاد مع استثمار حالات التمزق واللاتطابق والتعارض التي ما انفكت تشعر بها الذات مع العالم ومع الآخر ومع نفسها.
ينبغي أن نتكلم عن الاستبقاء كنقيض للاستبعاد في علاقة بما يهل علينا من الماضي في تدفق مستمر ويجب أن نشير إلى الاستعداد في إطار علاقات قصدية طويلة مع المستقبل هذا الذي لم يأتي بعد.
إن التموقع في الحاضر حداثيا يقلب العلاقة الجدلية رأسا على عقب بين التاريخ والحقيقة وبين الزمني والمطلق ويؤذن بقرب حدوث المستقبل ويهيئ الاسترسال في التحول ويسمح للتطبيق بالتمفصل على هذا التناقض الفكري الذي يظهر في رؤية الإنسان المعاصر للعالم وينبئ بتشكل زمن ثالث هو زمن التجربة اليومية والقيام بالفعل الذي يحقق تناغم الأعمال مع الأيام ويمكن للمبادرات الفردية المعزولة والمحدودة أن تتحول إلى مبادرة جماعية واحدة مؤثرة وحاسمة في تغيير وجه التاريخ.
شروط معقولية المبادرة على الصعيد الفردي والجماعي هي:
- تحقيق الرسو والتراكم في التجربة التاريخية الجارية.
- مقاومة إغراء الانتظارات اليوتوبية الصرفة وتجنب التوظيفات الأداتية التي تعمل على التيئيس من الفعل.
- التوقف عن النظر إلى الحاضر من زاوية الكامل المتعذر تغييره والعمل على انعاش الآمال في إتمام الاحتمالات التي لم تكتمل سواء عطلت أو منعت أو دمرت.
- الحاجة إلى الابتعاد عن إجلال الماضي وتقديس التاريخ التذكاري والإصغاء إلى الإنسان القادم الذي هو صوت شاب خافت ولكنه يحتمي في القوة باندفاع الأمل.
- التحرك فوق الأمكنة المشتركة واستثمار الغايات القريبة والأهداف الممكنة.
- الابتداء من بين التجارب الآخرين الأكثر حضورا وذلك بإعطاء الأشياء مجرى جديدا والابتعاد عن التشنج الإيديولوجي والأفكار الانعزالية.
- قلب بعزم نظام الأسبقية بين المشاهدة والقيام بفعل والتفكير في البداية كفعل ابتداء ليس ما يحدث بل ما نحدثه بأنفسنا.
- العمل على الإحداث ليس موضوع ملاحظة بل إنتاج شيء غير مرئي حيث نكون فاعلين لفعلنا.
- النسق النظري الذي يحرك الفعل لا ينبغي أن يكون مغلقا بل مفتوحا بحيث يستوعب المستجدات والأحداث الطارئة وكل ما يوجد في الخارج ويبدو غريبا.
- الالتزام والوعد هما أخلاق المبادرة والوفاء للكلمة المعطاة هي ضمانة لإتمام البداية وتدشين مجرى جديد للأشياء في الواقع.
- العمل على توسيع فضاء التجربة وتحديد أفق الانتظار مع التركيز على التجذر في الوطنية.
- إقامة مجتمع مدني يدير الحق بصفة كونية ويشرع للاختلاف والتعددية الفعلية.
- استثمار قوة الحاضر التاريخي للتخلص من الافتتان بسحر الماضي وللتوجه نحو صنع المستقبل.
"كل مبادرة هي نية فعل وبهذا المعنى ألتزم القيام بفعل ما ، إذن وعد أقطعه سرا على نفسي وضمنا مع الغير، في النطاق الذي يكون فيه الغير شاهدا على الأقل إن لم يكن مستفيدا"
تمر كل مبادرة بأربع مقامات ضرورية:
- العزم: أنا أستطيع ( قوة ، طاقة، قدرة)
- الفعل:أنا أعمل ( ذاتي هي فعلي)
- التأثير: أنا أتدخل ( أسجل فعلي في مجرى العالم )
- الالتزام: أنا أفي بوعدي ( أستمر في الفعل، أثابر وأداوم)
إن المرور من التفكير في المبادرة على الصعيد الفردي إلى التحدث عن المبادرة على الصعيد الجماعي يعني التفكير في أن العصر الحاضر يفتح على المستقبل منظورا ذا جدة غير مسبوقة والاعتقاد بأن الذي يحدث هو شيء آخر غير الذي انتظرنا وأن الناس أصبحوا قادرين على صنع تاريخهم وأن آجال الحداثة والتحديث صارت تتقلص وأن وظيفة السياسة بات تقصيرها واعتماد اتيقا متوازنة وآداب في الأداء. فماهي الأخلاقيات التي يجب على الفاعل السياسي أن يحترمها وتصونها المجموعة الوطنية من كل اعتداء درءا للانتهازية والتحولات الفجئية والتراجعات المخيبة للآمال؟ وكيف تكون الإنسانية هي الفاعل الوحيد لتاريخها الخاص؟ ومن يمنحها قوة إنتاج نفسها؟
المرجع:
Paul Ricœur, du texte à l’action, essais d’herméneutique II, éditions du seuil , Paris 1986.
كاتب فلسفي
#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟