|
الإسلام والمسيحية: علاقة تلاق لا تنافر
عامر راشد
الحوار المتمدن-العدد: 873 - 2004 / 6 / 23 - 05:54
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تزدحم الصحف اليومية والمجلات والدوريات العربية على اختلاف مشاربها وألوانها بعشرات المقالات والتقارير والدراسات، التي تبحث في ما آلت إليه العلاقات العربية – الغربية وعلى وجه الخصوص العلاقات العربية – الأمريكية، على ضوء الصراع المحتدم الذي انفلت من عقاله في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في نيويورك. وفي إطار التحليل والنقاش سقطت الكثير من الأقلام في فوضى الأحكام الخاطئة القائمة على الخلط المقترن حكماً بالتشويه ، حين راحت تدعو إلى "رفض العلاقة مع الحضارة الغربية دون تمييز بين مكوناتها، واعتبارها معادلاً للاستعمار الغربي، واعتبار قيمها وأفكارها شعارات زائفة لحكم العالم، ومعاول هدم لخصوصية مجتمعاتنا" ، ومرد هذه الأحكام الخاطئة هو الخلط بين مفاهيم الحضارة الإنسانية والدور الكبير لأوروبا خاصة والغرب عامة في تطورها وكل هذا مبني على تراث حضاري تعددي في عالم الحضارة الإغريقية، الفارسية، الهندية، الصينية، العربية، وكلها تفاعلت وأخذت عن بعضها بالحدود والمربعات الممكنة في سياق العملية الحضارية التاريخية التعددية (الفكرية، الثقافية، العلمية، الدينية) وصولاً إلى الحضارة الإنسانية الواحدة في يومنا هذا، وفي قلبها الثقافات المتنوعة والمتعددة في المجرى العريض لحضارة إنسانية واحدة في العصور الحديثة. وعليه يجب التنبه إلى عدم الخلط بين هذا وبين مفهوم العولمة الأمريكية. وتذهب بعض هذه الأقلام إلى ما هو أبعد من ذلك حين تنصب الاختلاف الديني حاجزاً جديداً بوجه التفاعل مع الحضارة الغربية . وهذا غير صحيح لعدة أسباب أهمها: أولاً : يفوت على هذه الأقلام بأنه وإن كان صحيحا أنه يجب عدم إسقاط البعد الإسلامي عن الهوية الفكرية والثقافية العربية، وهي صفة اختلاف مع الغرب (المسيحي)، إلا أنه يجب النظر إلى هذا الاختلاف في إطار التنوع الإنساني الذي لا يلغي حقيقة علمانية الفكر والثقافة والأدب والتكنولوجيا والحضارة الإنسانية عموماً بكل مكوناتها . وإضافة إلى ما سبق هناك حقيقة جوهرية وغاية في الأهمية تمنع الغلو في تضخيم الاختلاف الديني وهي أن الثقافة المسيحية تشكل جزء عضويا وفاعلاً في الثقافة العربية والإسلامية وهذا ما مثل على الدوام عنصر قوة وإغناء للثقافة والحضارة العربية والإسلامية افتقدت له الكثير من الثقافات و الحضارات الأخرى ومنها الأوروبية. وبالتالي فإن المسيحية العربية يمكن لها أن تشكل أحد جسور التواصل والتفاعل مع الحضارة الغربية، وعلى الجميع أن ينظر إلى الوقائع التاريخية. وحتى يومنا، ففلسطين وبلاد الشام ومصر كانت "مهد المسيحية الأولى"، فالمسيحية ولدت في بلاد المشرق العربي، ومنها انتشرت في العالم إلى بلدان أوروبا وأمريكا وكل العالم الغربي، وقد لعبت المسيحية العربية على مد العصور دور التواصل بنجاح، ويذكر هنا أن الجماعات الصهيونية والمتصهينة الأمريكية انتبهت باكراً لهذه الحقيقة لذلك حاولت أن تعيد إعادة تعريف الثقافة الغربية الأوروبية والأمريكية ليصبح:(ثقافة يهودية – مسيحية) ولم تأل جهداً في محاولة زرع هذا المفهوم الجديد في العقل الأورو – أمريكي لوأد إمكانية قيام علاقة تفاعلية سليمة بين العرب والغرب . إن محاولات فرض المفهوم الأمريكي للعولمة بشكلها المتوحش وبإحكامها الشمولية تمثل خطراً كبيراً على القيم الإسلامية والمسيحية على حد سواء، لأنها بالنهاية عولمة غير أخلاقية، واعترافا بالحقيقة فإن الممانعة الرئيسية التي تقف اليوم في وجه مفهوم العولمة الأمريكية تنطلق من المجتمعات الأوروبية التي أدركت باكراً ما يمثله المفهوم الأمريكي من مخاطر على الحرية والتنوع الإنساني ومستقبل البشرية لأنه كما يقول جان بوديار وجاك ديريدا يؤسس : لـ "شكل عولمة بوليسية ومراقبة كلية وترهيب أمني " وثمنها القضاء على الثقافات المتفردة الراسخة الجذور عبر تسليع لكل شيء بما يذهب في النهاية إنسانية الإنسان . لذلك لم يكن غريباً أن نشاهد المظاهرات التي شارك بها عشرات الملايين في المدن الأوروبية وحتى الأمريكية رفضاً لحرب إدارة بوش الابن على العراق التي نفذت في سياق فرض مفهوم العولمة الأمريكية المتوحشة . ثانياً : أوروبا التي تدين غالبية شعوبها بالديانة المسيحية لا يمكن قصر تعريفها بـ ( أوروبا المسيحية )، لأن مجموع القيم الاجتماعية والأنظمة والقوانين الوضعية في الدول الأوروبية والتي تحكم العلاقات بين الفرد والمجتمع حقوقاً وواجبات ، وتحدد مسؤولية الدولة حيال المجتمع أفراداً ومؤسسات، هي نتاج صراع وحراك اجتماعي طويل احتل فيه الصراع بين الكنيسة والدولة فصولاً عديدة، انتهت بتحرير الشعوب الأوروبية من سطوة الفكر الديني الذي تمثله الكنيسة، وحرية العقل والمعرفة بلا محرمات فكرية موروثة دينية، وولادة الدولة الأوربية العلمانية، لذلك فإن العلمانية صفة تميز أغلب القوانين الوضعية الأوروبية على اختلاف أشكال التعبير عنها وتفاوت مستوياتها . ثالثاً : لا يجوز النظر إلى الثقافة الغربية كمنتج غربي مسيحي صرف مقطوع الجذور عن الثقافات الأخرى، بل يجب النظر إليها بمحتواها الإنساني العميق، وبما هي اليوم ذروة الثقافة الإنسانية المستندة ليس إلى ما سبقها من ثقافات فقط بل إلى ما يزامنها أيضاً، فلقد صبّت في نهرها كنتيجة لعملية المثاقفة عصارة ثقافات العالم ومنتج مثقفيها بما شكلته من عامل جذب لأسباب عدة يحدد أهمها إدوارد سعيد في كتابه تأملات المنفى: "الثقافة الغربية الحديثة هي في جزء كبير منها نتاج المنفيين والمهاجرين واللاجئين، والفكر الأكاديمي والنظري لـم يصل في الولايات المتحدة الأمريكية إلى ما هـو عليـه اليـوم إلا بفضل أولئـك الذين لجأوا إليها ...". رابعا : إن إضفاء بعد ديني على الصراع مع المفهوم الأمريكي للعولمة شديد الخطر وبالغ الضرر لأنه يفسح بالمجال أمام الأيدي الصهيونية لتفعل فعلها، وتعيد زرع خرافاتها التوراتية، إن الدور الذي يلعبه غلاة "الإنجيليين الجدد" لا يمت بصلة إلى حقيقة التعاليم المسيحية، وتلقى سياساتهم وممارستهم وادعاءاتهم استنكارا ورفضاً واسعاً من غالبية الكنائس المسيحية العالمية والوطنية وفي المقدمة الفاتيكان، وحتى من أتباع الكنيسة الإنجيلية نفسها، وعلينا أن لا نغفل بأن أحد أهداف الرئيسية لغلاة "الإنجيليين الجدد" هو إشعال الصراع بين الإسلام والمسيحية تحت ادعاءات زائفة وشعارات عنصرية متصهينة " صراع الحضارات و صراع الأديان"، وبالتالي فإن مقابلة هذه الادعاءات والسياسات في مثل هذه الحالة بشعارات مشابهة عدا عن كونه شديد الضرر فهو لا أخلاقي لأنه ينفخ في نار اختلاق الصراع بدل العمل على التفاعل والحوار . إن الأمم المتحدة تعترف بـ (83) ديانة، عقدت لها قمة أديان مع دخول الألفية الجديدة، علينا وغيرنا في العالم فتح آفاق الرؤيا لهذه "الخارطة الدينية الواسعة في عالم البشرية، فالعالم يعد أكثر من (6) ستة مليارات من البشر، منها أربع مليارات لا تدين بالمسيحية ولا بالإسلام، فأين موقع ثلثي البشرية من حوار الثقافات والأديان ؟! … علينا أن ننظر حولنا بأفق عالمي منفتح، لا أن نحشر أنفسنا بأفق محدود ينتج عنه صراعات كثيرة مفتعلة وبلا حدود. من كل ما سبق نخلص إلى القول أن العلاقة بين الإسلام والمسيحية كانت على الدوام ويجب أن تبقى علاقة تلاقي لا علاقة تنافر، وذلك خدمة لشعوبنا وشعوب الإنسانية جمعاء، وبهذا فقط نستطيع أن نحاصر الغلاة (إسلاميين ومسيحيين)، فتعاليم الإسلام في جوهرها دعوة لتحكيم العقل والحوار والعيش المشترك وكذا تعاليم المسيحية. أليس السيد المسيح عليه السلام هو القائل: "من يعش بحد السيف، بحد السيف يقتل".
#عامر_راشد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو علاقة تفاعلية مع الغرب الخروج من عقدتي الاتهام والدونية
-
على ماذا يفاوضون ما الذي سـيتبقـى لنــا ... ؟
-
إسرائيل- من خلف الجدران على أبواب خريف الحركة الصهيونية
-
اتفاق سويسرا- تسويق البضاعة الفاسدة مرة أخرى
-
مشروع -إسرائيلي- مدمر
-
جدران العزل العنصرية -الإسرائيلية- تغيير الخارطة الجيوسياسية
...
-
عباس في واشنطن الزائر فلسطيني والحصاد -إسرائيلي
-
جولة بوش الإفريقية عين على النفط والأخرى على الانتخابات
-
أخلاق القوة الباغية
-
على أبواب جولة الحوار الفلسطيني الجديدة في القاهرة أسئلة يتو
...
-
خطة الطريق إلى أين ؟ هل سيدفع الفلسطينيون والعرب ثمن الإنجاز
...
-
معركة -انتصر- فيها الطرف الأضعف حكومة أبو مازن إلى أين...؟
-
حكومة محمود عباس بين هبوط طريق -خطة الطريق- ومشروع الإصلاحات
المزيد.....
-
اتفرج دلوقتي وأبدء غني مع أطفالك .. تردد قناة طيور الجنة 202
...
-
قائد الثورة الاسلامية يلقي خطابا يوم الاربعاء حول تطورات الم
...
-
الجهاد الاسلامي: العدوان الاسرائيلي اعتداء صريح على الشعب ال
...
-
الجهاد الاسلامي: توسيع -إسرائيل- احتلالها للأراضي السورية يث
...
-
ما رسائل الشرع من زيارته الجامع الأموي وكيف تغيرت شخصيته؟
-
الجولاني من داخل المسجد الأموي في دمشق: الأسد ترك سوريا مزرع
...
-
رئيس أكبر فصيل معارض بسوريا: سقوط بشار الأسد انتصار للأمة ال
...
-
محبوبة الملايين.. تردد قناة طيور الجنة الجديد على عرب ونايل
...
-
-هذا النصر تاريخ جديد للمنطقة-.. شاهد كلمة الجولاني من الجام
...
-
من الجامع الأموي.. الجولاني يوجه كلمة عن -النصر- (فيديو)
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|