أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني أبو رحمة - تفاصيل اللذات الآسرة: قراءة في مجموعة نوافذ تحتشد بالمسافات للشاعر جاسم خلف الياس















المزيد.....


تفاصيل اللذات الآسرة: قراءة في مجموعة نوافذ تحتشد بالمسافات للشاعر جاسم خلف الياس


أماني أبو رحمة

الحوار المتمدن-العدد: 2870 - 2009 / 12 / 27 - 19:17
المحور: الادب والفن
    



الدغل ضباب رمادي،
أشواك تعلن رغبتها بالتشاكس.
والطريق فجوة من عناء ثقيل،
فأين أروّض حزن الشرود البائس؟
وأعرّي وقاحة ليل
يوخز البرق عتمته؟
وأين أخاتل صمتا يأخذ شكل الفضائح،
و يصحبني في ممرات الدهشة ؟.
(.......المجموعة: 57 )
حين قرأت مجموعة الشاعر جاسم خلف الياس1 (نوافذ تحتشد بالمسافات)2 أخضعتني ثيمات المجموعة عنوة لسطوتها، وأوقعني في حبائل إغوائها، فوجدتني أغوص في أدغال النفس البشرية (والطريق فجوة من عناء ثقيل، يصحبني حزن الشرود البائس) . يرافقني صمت الشاعر،لا بوحه، في ممرات الدهشة مأخوذة بقدرة الشاعر على التعبير عن المتع الحسية والعذابات الروحية في آن واحد، ليعرض النفس البشرية عارية من زيفها، متحررة من قيودها معبرة ببلاغة آسرة عما يعتمل بداخلها . وهكذا ظل الشاعر صادقا في عرضه المدهش لاحتياجات الجسد والروح، للعزلة والألفة، للمعصية والتوبة، للعنف والوداعة، للذات والآخر، ولكل ما تزخر به الحياة من متناقضات.
إن المفردات المنتقاة بعناية فائقة تشير إلى تجربة حياتية أنتجت رؤية الشاعر الخاصة التي يصوغها الآن في قلبه، وعقله ويهديها إلى الشائكة دائما الحياة (المرأة) . لقد وظف الشاعر مفرداته بأسلوب حدسي وحسي في الوقت نفسه، تاركا بعض المفردات والمفاهيم الخاصة أن تردد صداها في نفوسنا كلما انتقلنا الى الأمام لتسجيل تفاصيل جديدة . تفاصيل تستجيب لتواتر كلمات مثل (الصبوة، الحزن، المعصية، الإثم، اللذة، الشهوة، الموت، الوجع المرارة، القلق، الضراوة، الرعب، الرعشة، الوحدة، الهواجس.) التي تتكرر مرارا قبل أن تتعالق في النهاية لتشكل جمالا استغرق الشاعر زمنا في اكتشافه . انه جمال لا يسهل رصده لكنه يقوم بوظيفته حين يربط شبكة التداعي بين الطقس والمشاعر.
يصوغ الشاعر في مجموعته إدراكه بذاته وبالآخر (المرأة) الذي يراه ضمن معطيات الاتصال والانفصال، وما يرافقه من عنف وألم، وما ينتج عنه من استرخاء وراحة مصحوبة بالحزن والندم، لتتوالى حلقات التوتر ومقاربة اللذة ثم السكينة والهدوء (الموت الأصغر) حتى نصل الى الموت والخلاص من الحياة المشحونة بالتوتر ليتوج الموت ـ بهذه المقاربة ـ لذة كبرى .
هل تعمد الشاعر أن تكون أولى قصائد المجموعة تلك التي تحمل العنوان الصاعق (حزن للشهوة والموت)؟ أظن انه فعل. أن الشاعر الذي يختزن رؤية عميقة صاغها في مجموعته باقتدار بارع تقصد إن يلخصها في استهلال مجموعته الشعور: شهوة صاعقة والطقس : حزن وعنف وقلق وهواجس ووحشة والنتيجة لذة يحققها الموت الأصغر او الاكبر سيان .
تمنح طلعة وجهك
روحي وترا للرقص.
يفتح الليلة
حزني،
ومعاصي
للشهوة والموت. .(.......المجموعة: 8)
يبدو كمال هذا المقطع من الأشياء التي يستحيل وصفها فهو، كتلة فلسفية تامة، حياة أبدية لا محدودة.الشهوة والموت والحزن والمعاصي ووتر الرقص وطلعة وجهها. وسأحاول في هذه المقاربة شرح العلاقة بين هذه الثيمات من منظور التحليل النفسي .
يمكن تعريب مصطلح الايروسية بـ(الجنس، المتعة الجنسية، الشهوة، الإثارة...) وتكفي الإشارة الى أنها تجمع كل تلك المعاني منظورا إليها، عند الإنسان فقط، بعيداً عن النشاط الجنسي الذي يستهدف الإنجاب .. ولكنني ولغرض الدراسة فإنني سأوظف مصطلح الايروسية مرادفا للشهوة3 .
عرفت الايروسية بأنها التركيز الجمالي على الرغبة الجنسية، وعلى وجه الخصوص، شعور الاحتفاء بالنشاط الجنسي، إنها ليست حاله اللذة او الاحتفاء فحسب، ولكنها محاولة استثارة هذه المشاعر بوسائل متنوعة4 .
والأيروسية بهذا المعنى تشير إلى الطاقة المتفردة التي لن تتساوى لا مع الشهوة الجنسية الصرفة، ولا مع البناء الاجتماعي للشبق والهيام . إنها ليست تلك الطاقة اللا أخلاقية او المخجلة، على العكس، إنها تشير الى جماليات تقديس النشاط الجنسي . إنها الغريزة الجنسية التي يعبر عنها من خلال الفن، والحب، أو الروحانيات في حالة التصوف5 .
وعلى الرغم من أن جذور فهمنا او سوء فهمنا لمصطلح الايروسية يعود لفرويد، إلا أن ما يعنينا هو الربط الفرويدي بين الشهوة والموت . لقد لاحظ فرويد أن الارتباط بين الشهوة والموت جوهري علما بأنه لم يكن أول من لاحظ هذا الارتباط . لقد كتب شوبنهاور عن العلاقة الرمزية بين الرحم والموت، ووظف اليزابيثان تعبير (الموت) للإشارة إلى اللذة الجنسية ...ولكن الفضل يعود لفرويد في التقاط هذه الأفكار واستنباط نظرية متماسكة . هناك جدلية، يرى فرويد، بين ايروس (طاقة الحب المنتج) و( ثاناتوس (الموت) ايروس غريزة الحياة، غريزة الاتحاد والتطور، في مواجهة الموت، تحطيم البناء وتوقف الإثارة6 .
وعن طريق الفعل المتعارض بين الغرائز البدائية - أيروس وغريزة الموت - وليس من قبل واحدة دون الأخرى، يمكننا أن نفهم التعددية الغنية لظاهرة الحياة. كل الحياة، كما كان يعتقد، هي أن نعيش تحت ظلال هذا التضاد بين الشهوة والموت7 .
يفهمنا فرويد أن احد أهم جوانب الشهوة هو تتابع فعل السكينة ثم التهيج المتصاعد حتى لحظة إعتاق التوتر ثم العودة التدريجية الى السكينة . يوازى فرويد بين هذا التقدم ودورة حياه الإنسان بأكملها . ذلك أن هناك ميل للاحتفاظ أو العودة إلى حالة الهدوء واللا استثارة . فإذا كان الألم هو إثارة، واللذة هي إعتاق هذه الإثارة فان أعظم لذة هي الموت . ويمكننا أن نلخص العلاقة كالتالي : كل إنسان ينشد اللذة، والعملية الجنسية لذة بدائية قوية، ولكنها تترافق بانفعالات وتوتر (تمنح طلعة وجهك روحي وترا للرقص) ، وعلى الرغم من اللذة المصاحبة لهذا التوتر، إلا أن هدف الإنسان يتحول من الحصول على المتعة الى إعتاق التوتر والعودة الى حالة السكينة والهدوء وقد أطلق فرويد على الذروة الموت الصغير، وهي حين توفر هذا الانعتاق من التوتر فإنها تشبه حالة الموت الحقيقي8 .
تتضمن جدلية ايروس – ثاناتوس الفرويدية بعدا آخر وضحه تيليك9 إذ وجد أن القوة الدافعة للحياة هي التوق الى الأسس القصية، والهدف هو إعادة اكتشاف وإعادة الاتحاد والاندماج بتلك الأسس. نحن كائنات منفصلة، أفراد يموتون كل على حدة في مغامرة مبهمة، لكننا نملك ذلك الحنين الى الاتصال المفقود، إننا نعاني من تحمل الوضع الذي يشدنا الى فردية المصادفة، إلى الفردية الفانية، وفي الوقت الذي نملك فيه الرغبة القلقة في استمرار هذا الفاني، نملك هوسا باتصال أصلي يصلنا بالكائن عامة أيضا 10 .
للطعم المر النشوة،
ولزرقة عينيك الخمر،
ولك نفسي. .(.......المجموعة: 7)
تصور اغلب قصائد المجموعة المتعة الحسية بمفردات ترتبط بالعنف الجسدي والمعنوي أحيانا، الأمر الذي يجعل لتوظيف هذه المفردات سطوة على المجموعة كلها،إذ يعكس هذا التوظيف معنى سطوة الشهوة حد الموت:
كم أوجعتني هذه الـ( أنت )،
لضراوتك،
وبك الولع،
أفتك بالقحط عند اشتداد الذهول،
وأغص بجرعة ثرة،
لملمت أشلائي الملقاة في غرف أهلتَها العتمة للضجر. .(.......المجموعة :23-24)
**
أهتكي ما رممت ذاكرتي بالذهول،
وادعكي
توابيتي المؤجلة بالسفر نحوك،
فحيحا مخمورا بالشبق. (..........المجموعة :27)
صارخا:
((احرقيني على مهل))
وانشدي لي غوايتي
***
احتويني
نثيثا يهطل من عينيك
فلأنك شائكة
مثل دغل ألاماني
أجترح الخارق
وأرثيك معي. .(.......المجموعة : 60)
ولا عجب في الأمر، ذلك أن ميدان الايروسية هو أساسا، ميدان العنف. ميدان الخرق والانتهاك . ولو فكرنا في عمليات الاتصال والانفصال، لادركنا بان تمزق الكائن من الانفصال هو الأعنف دائما. والأعنف بالنسبة لنا هو الموت الذي يقتلعنا. ماذا تعني الايروسية لجسدين غير خرق الكائن في كلا الشريكين خرق يتاخم الموت وخرق يتاخم القتل؟11 .
لكن مشاعر الشاعر حول الشهوة الايروسية بمعناها الأعم لا زالت مطبوعة بمشاعر الإثم الديني، ومن هنا تأتي المعاناة والعذاب، فالشاعر يعترف في أكثر من موضع في المجموعة بان ما يقترفه معصية وخطيئة او خطايا تتطلب جرأة :
وجرأة معصية خولتني التشاكس. (.......المجموعة :9 )
رجاء تواقا لارتجال المعاصي. (.......المجموعة :23)
ينفر اجتيازا يطمئن المعاصي . (.......المجموعة :35)
يتثاقل لحظتها احتباس الخطايا. (.......المجموعة : 15)
لم لا تحتويني معاصيها فسحة شاسعة؟. (.......المجموعة :13)
لتفاجئنا - كلما أيقظتنا قساوتها -
بالخطايا المنهكة .(.......المجموعة :24)

ولذا فان ما يعقب ممارستها هو الندم المر بالتأكيد:
يتراكم في ألواح خساراتها
سفرا مملوءا بالندم المر. . (.......المجموعة: 15)
إن مسحة الحزن والكآبة التي تهيمن على المجموعة (شعورا) وتتكرر (لفظاً) ربما تتعلق بذلك النوع من الثقل والكآبة التي تسم به الايروسية الجسدية، إذ أنها تحافظ على الانفصال الفردي، وتكون بمعنى الأنانية الصلفة تقريبا12 .
حزن للشهوة والموت. (.......المجموعة :7)
توقد من حزنها ضجة، . (.......المجموعة: 15)
أو مسحة حزن تغطي وجه القتيل. . (.......المجموعة:16 )

وشطرا لإغماضة الحزن المتأهب للانبثاق. .(.......المجموعة: 20)
أن يندلق الحزن (......المجموعة 26)
فأين أروّض حزن الشرود البائس ؟. (.......المجموعة : 57)
ينبغي علينا أن نتذكر دائماً بأن المتعة الجسدية، ورغم كل وعود الغبطة التي ترافقها تدخل أول ما تدخل البلبلة والاختلال. بل أن الايروسية السعيدة نفسها تأتي بفوضى،تكون على درجة من العنف بحيث تصير سعادة مفرطة، الى درجة يمكن مقارنتها، بعكسها، بالألم والعذاب :
متعي شفتيك بفوضى دمي. (.........المجموعة :22)
فوضى اللذاذات المغتاضة حد النزق؟ (...........المجموعة:12)
وتظل الحافات تقترف الإفضاء إلى فرضيات
تملك
الفوضى مداخلها. (.......المجموعة: 66)
إن جوهر الايروسية هو استبدال الاتصال الرائع بين كائنين بانفصالهما المستمر، وهذا الاتصال يكون محسوسا أكثر في القلق النفسي، وفي نطاق تعذر بلوغه، إذ أن للعاشقين وقتا ـ حين لا يتمكنان فيه من اللقاء ـ أطول من الوقت الذي يتمتعان فيه بتأمل مستهام للاتصال الذي يجمع بينهما. ليس من المصادفة إذاً أن يكون القلق ثيمة أساسية في مجموعة نذرها الشاعر للخوض في جحيم العذاب الإنساني الفردي13 .
القلق احتجاج الروح، فكرة تستحق وقفة تأمل طويلة لما تزخر به من معان واحتمالات. القلق احتجاج على اعتداء قد تتعرض له الروح داخليا أو خارجيا، والاحتجاج ليس استكانة انه ثورة عنيفة حين ندرك معطيات تهدد الوجود وما يتعلق به من احتياجات ورغبات تتوق الى الامتلاء.
ويعاقر وقع الخطى بالقلق. . (.......المجموعة: 23)
لتغيبنا في جب القلق المر . (.......المجموعة: 24)
يا أعتابها الممهورة بالقلق،. (.......المجموعة : 30)
مستاء يتحرى مرارات القلق؟. (.......المجموعة :12)
ألفت قلق الإغواء،. (.......المجموعة :44)
حفرت رقادي على قلق الأغطية،.(.......المجموعة: 53)

القلق الذي يتربع في قلب نظرية التحليل النفسي للمشاعر والذي كان منذ بداية فكر التحليل النفس مركزيا في فهم الصراع العقلي. اعتبر فرويد القلق هو التحول السام للشهوة المحتشدة بلا انعتاق وربطه ـ كعادته ـ بالكبت . ولكن بالنسبة للاكان14 فان القلق ليس مجرد إحساس أو انفعال. انه وجدان الفرد الذي يواجه صدمة التشظي والتحلل النهائي . تشظي وتحلل كينونته، وذاته ولذلك فان القلق ليس قضية كبت بقدر ما هو استجابة لتهديد بالتحلل وبعبارة أخرى فان موضوع القلق هو موضوع استقرار او عدم استقرار الذات. يشعر المرء بالقلق عندما يتعرض إدراكه النرجسي بهويته وكماله للمساءلة . أن تكون قلقاً يعني أن تكون في حالة تعليق حاد على الحواجز التي تفصلك عن الآخر. والموضوع الذي يثير هذا القلق هو الرغبة بالآخر الذي يجبر المرء على إزالة حواجزه الذاتية15 .
وأنا......
كم أوجعتني هذه الـ( أنا ) (..........المجموعة: 22)
يا.......أنت
كم أوجعتني هذه الـ( أنت )، (.......المجموعة :23)
يتوق الشاعر الى الاتصال فكم أوجعه انفصال (الأنا و الأنت ) ولكنه معلق على حشد من (المسافات/ الحواجز ) التي تفصله عن الآخر :
أرهقتني المسافات
بين الشرود المحتفي باقتناص الخراب
والفيض المتأهب للهلاك .(.......المجموعة 59)
انه المغامر الجرئ التائق الى التشظي والانحلال عبر جدلية الاتصال والانفصال يمارس لانفتاح على الحياة النزقة، التي تمنحه سلطة لمحاذاة الموت ومواجهته والتمكن من حيازة نافذة يشرف بها وعبرها على رؤية الاتصال المستغلق وغير المدرك الذي يعتبر سر الشهوة والذي لا تفشي سره سوى الشهوة . انه يجتاز المجال المفتوح أمامه من نوافذه الخاصة التي تحتشد فيها المسافات ليدرك الحيازة على التواجد:
عرباتي تجتاز أخر درب يفضي إليّ،
إلى ارتقاب المجاهيل.
تركض......................
أركض...........................................
أدنو.....................
أدرك الحيازة على التواجد. .(.......المجموعة66 )
يتولد الشعر بعد مخاض سيكوسوماتي عنيف، يرقد عارياً فتتعري لأجله الروح والجسد وتنطلق الأسرار المخبوءة مختالة وراء المفردات الشائكة :
قدري
أن ألم غبار الهواجس،
وأرش به رحم المفردات،
وجرأة معصية خولتني التشاكس. .(.......المجموعة: 9)
والعري، تلك الثيمة التي تكررت في المجموعة، ارتبطت بعوالم واسعة،واختزلت صراعات عميقة عانت منها البشرية منذ خطيئة العري الأول . ارتبطت الإدانة الجمعية للتعري بإيحاءاته السلبية التي تتضمن الجنس والفجور، الأمر الذي جذرته حكاية الهبوط الأول من الجنة عندما أدرك الزوجان خطيئة وخزي العري فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ولكن بعد أن فقدا براءتها الفطرية والى الأبد،هذا الهاجس الذي تناوله الشاعر بقسوة وهو يعري الأشجار من أوراقها ماديا والليل من وقاحته معنويا عله يسترد براءته الأولى، فهو حين يعري الليل( الخوف والعتمة والوحشة) يتركه هشا ضعيفا وبذلك يحرر مخاوفه ويسيطر على هواجسه ويستعد ربما براءته المفقودة حين يعري الليل وأشجار التوت ..:
وأعرّي وقاحة ليل
يوخز البرق عتمته؟
وأين أخاتل صمتا يأخذ شكل الفضائح،
و يصحبني في ممرات الدهشة ؟
ومضات تعتّم ذاكرتي،
ورغائب تنثال مرايا ،
هشّمتها سحب النسيان،
والتهمتها البالوعات الفجة . .(.......المجموعة :57)
يرى باركان16 في العري تحررا من سطوة الوعي الذاتي، حرية النفس الأبدية ، عودة الى الأصل إلى البراءة والطفولة الى أن تكون ذاتك بدون مواربة او خداع . انه اقتحام المحرم والممنوع (والليل المتواري في عمق المرآة) الذي يقمع الجميع والشعراء بالتحديد كونهم الأكثر حساسية ورغبة في تنقية تخوم اتسخت عذريتها بالمكائد:
أن أدلك أوجاعي برقص يليق
بعري المرايا،
أن أبجل جرحا تقوّض محض إيماءات،
تخوما اتسخت عذريتها بالمكائد. .(.......المجموعة : 26)
وكأن الشاعر يتوق الى أقصى عري ممكن للذات حتى تليق روحه بعري المرايا التي ترمز عادة للصدق والحكمة والمعرفة والإدراك ولكنه لا يخفي علينا أن مرآته تهشمت والمفارقة أن تشظي مراياه اقترن باستقرار الثوب (نقيض العري) على قلقه :
يستقر الثوب على قلقي،
تتهشم تلك المرآة،
فألملم أشيائي،
وأغادر عن تعب أشلائي. . (.......المجموعة :36)
يحتفي الشاعر بالعزلة في مجموعته التي تتكرر فيها مفردة العزلة بل انه يتقصدها في الأماكن المهجورة والغرف الموصدة :
إلى عتبة الينابيع المهجورة. (.......المجموعة: 19)
بفحيح يدغدغ رائحة الشوارع المهجورة،. (.......المجموعة :58)
وارى أن ارتباط العزلة بالتحليل السابق يأتي من باب توق الشاعر الى الحرية والتحرر من عبء المسئوليات التي تطوقنا بها القيم الاجتماعية وربما الدينية . سعادة يمنحها البعد عن الضجيج والصخب لاسيما أن الشاعر يتقصد العزلة لممارسة طقس الانفصال والاتصال . ترتبط عزلة الشاعر غالبا بالحرائق والتوهج والنار . فـ(العزلة دغل ونار) و الحبيبة نار(أنت نار تسور ليل انتظاري)، والحرائق يشعلها أو يشعلانها معا (أقترف الحرائق وأدعوها الهواجس).
النار طريقه الى الاتصال . بوتقة الانصهار والاندماج على طريقة بودلير :
لا نعافى إلا عندما نجرع السم
والنار تأكل منا نسيج الدماغ
فترانا نريد الغوص في الهاوية
سماء او جحيما
ما همنا؟
إننا نخترق المجهول
لنكتشف الجديد .
يتوق الشاعر الى الوصول الى السعادة من خلال ممارسة المتعة الصافية وهو بذلك لا يحتاج الى المباهاة ولا الى التهور في مواجهة المجتمع. يمارس العزلة حتى لا يضطر الى بقر ذاته وتقديمها قربانا لإرادة المجتمع . الشاعر معني بذاته وحسب . وبهذه العزلة فقط يجترح الشاعر الموت بلا نحيب .
بوهج متوّج بالعزلة. . (.......المجموعة :61)
عزلة ترتقي عزلة (.......المجموعة: 15)
العزلة دغل ونار. (.......المجموعة: 26)
وحدها العزلة ألقت سراويلها،
واتقت نبع ذاكرتي (.......المجموعة: 33)
يقايض الرماد بامتصاص المباهج.
يسربل الرغبات الملتاعة بالعزلة. . (.......المجموعة :27)
تحقق العتمة التي قدستها الأساطير للشاعر نوعا من عزلة قسرية لا توازي تلك التي يحققها بنفسه ولكنه يراها قدسية تماما كما في الأساطير . جاء في الأسطورة أن آلهة الليل Nyx التي أغوتها الريح فوضعت بيضة في رحم العتمة، ثم فقست تلك البيضة عن ايروس!!
العتمة التي تحتضن الأسرار، إنها السلطة السحرية التي تحرك الكون، لقد جئنا من العتمة ( الرحم) واليها نعود ( القبر).
لكن الشاعر يتوجس خيفة من العتمة خوفا لا يرافق عزلته الطوعية، فهل أن سبب ذلك خوف دفين في لا وعيه من طقوس الموت ؟ إنه يحتفي بالموت لكنه يكره طقوسه والعتمة طقسه الأبرز ؟ ام أن العتمة القسرية لا تتوافق وتمرد الشاعر ورغبته في امتلاك قرار حياته في مخالفة السائد والمعروف طوعا لا كرها ؟ ربما..
آهٍ.. آه العتمة......
العتمة ضرع مختوم بالقساوة،
بقع يدب الذعر في أوزارها،
خرابا يليق بانبعاج الأحاسيس.(........المجموعة:27)
*****
آ آ آ آ آ ه العتمة
انبثاق النوازع،
فوران غير عابئ بالتنبؤ،
ونشيج يتدفق من صنبور اللعنات،
يجأر مغترفا لسعات الحرق،
ينهش الوارد المكترث بالجنون،
والشارد المتكور انبهارا،
عند اشتباك العيون. (.......المجموعة :28)

إننا نعيش حالة فصام مرعب بين ما نرغب به وما يجب ان نكون عليه، بين ما نكون عليه في عزلتنا وما نمارسه في العلن، بين طريق القلب وطريق العقل . الشاعر أيضا كان هناك قبل ان يوجه دعوة جميلة لشيء ما في أعماقه فتلبي قصائده الدعوة، تحدثت إلينا صادقة نقية لتعقد سحب الضباب حول أرواحنا ولتربت على مشاعرنا الدفينة . جاءت لتعبر عن الحب، والحزن، البهجة، والانجذاب الروحي عندما تسير المشاعر الحسية والدفء الروحاني جنبا الى جنب في درب اللحظة، اللحظة التي تمنحنا إياها الحياة، نافذتنا على الزمن التي تحتشد فيه المسافات والتي نكتشف دواخلنا بوساطة خياراتنا .
تقول المجموعة أن هناك طريقة لنعيش الرغبة والغاية في ان معا، لنعيد لأرواحنا بهاءها، ولنحطم الحواجز التي تفصلنا عن أنفسنا ، لنشعر ولنعبر عن الظلال الخفية التي طالما حاذيناها مكللين بالرعب والخجل . ظلال تختبئ فيها الأسرار وتتلاشى فيها حدود الزمان والمكان . ونحن، و الشاعر (صبي الحارات نترقب دفئاً آخر) (....المجموعة :8 ) .

..................
هامش
(1 ) شاعر وناقد أكاديمي عراقي
( 2) مجموعة شعرية صدرت في العراق عام 2000
(3 )جورج باتاي، الايروسية : إقرار الحياة حتى الموت، ترجمة محمد علي اليوسفي، مجلة الكرمل عدد 26 سنة 1987 ص178- 179، مقدمة المترجم.
( 4) تعريف الويكيبيديا الاليكترونية
( 5)ينظر: The Erotic in Sufi Mysticism: by Jonah Winters
: http://bahai-library.org/personal/jw/my.papers/Erotic.mystcsm.html
(6 ) المصدر السابق
(7 ) المصدر السابق
( 8) المصدر السابق
( 9)Paul Johannes Tillich
(10 ) ينظر : The Erotic in Sufi Mysticism: by Jonah Winters
: http://bahai-library.org/personal/jw/my.papers/Erotic.mystcsm.html
( 11) ينظر : Extract from Georges Bataille s Eroticism، From the introduction to Eroticism، translated by Mary Dalwood (London & New، York: Marion Boyars، 1962 [1957])
http://home.wlv.ac.uk/~fa1871/battext.html
( 12) المصدر السابق
( 13) المصدر السابق
( 14) ينظر :review- Lacan seminar on anxiety An Introduction: by Roberto Harari، Other Press، 2001، Review by Petar Jevremovic، Jul 30th 2002 (Volume 6، Issue 31)
http://metapsychology.mentalhelp.net/poc/view_doc.php?type=book&id=1276
( 15) ينظر: Psychoanalysis - Theory Of Anxiety And Affects
http://science.jrank.org/pages/10905/Psychoanalysis-Theory-Anxiety-Affects.html
(16 ) ينظر :Nudity: Nature or Sin? Tracing Nakedness through History and the Human Psyche
http://cognitive-psychology.suite101.com/article.cfm/nudity_nature_or_sin



#أماني_أبو_رحمة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحليل النفسي والادب والثقافة
- جلعاد عتصمون* :تفكيك دافيد غروسمان.إذا كان غروسمان إسرائيليا ...
- يومان بعد المحرقة
- تذكر ما فعله بك -عماليك - !
- شهادات حية لأطفال من غزة نجوا بأجسادهم من محرقة الرصاص المسك ...
- أطفالُ للموت ... بيوتُ للخراب
- وغضبت اسرائيل
- حاييم بريشث*: دولتان: ضئيل جداً , متأخر جداً
- نويل اغناتيف:نحو حل الدولة الواحدة,الصهيونية ومعاداة السامية ...
- أليكس كالينيكوس - لماذا -دولتان- ليس هو الحل في فلسطين
- جورج حبش
- المفاوضات في جنوب إفريقيا ؛ الدروس لفلسطين
- اللوبي الإسرائيلي و-المصلحة الوطنية-
- إسرائيل / فلسطين : -هل هو معقد!-… أم انه ؟
- تحدي حل الدولتين
- الإجابات قد تغيرت
- لم يوجد يسار حقيقي قط في إسرائيل. الفصل العنصري الإسرائيلي ه ...
- دولة واحدة ليست زيت الأفعى : ردا على مايكل نيومان
- استعراض كتاب : نهاية التسامح -- العنصرية في القرن الحادي وال ...
- لماذا لا يعترف الإسرائيليون المناهضون للصهيونية بحق إسرائيل ...


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني أبو رحمة - تفاصيل اللذات الآسرة: قراءة في مجموعة نوافذ تحتشد بالمسافات للشاعر جاسم خلف الياس