|
الخوف القديم
صفوت فوزى
الحوار المتمدن-العدد: 2850 - 2009 / 12 / 6 - 03:36
المحور:
الادب والفن
... وأنا لما حاصرني قيظ الظهيرة ، وقبض الحر علي حلقوم الدنيا ، قلت لنفسي : أقعد أمام النهر . أقذف بالحصي علي سطحه ، أتابع الدوائر الصغيرة تتوالد ، تكبر ، تتسع وتتلاشي ، شارداً أسرح في الأفق وأحلم .
الحقول منبسطة ممتدة كراحة اليد ، يأتيني صوت أنين السواقي ، تصايح الفلاحين ونداءاتهم ، خوار ثور أو نهيق حمار . يأتي الهواء عليلاً ، تقبل العصافير ، ترنو إليٍّ ولا تكف عن الشدو . قمم النخل ترتعش للهواء الخفيف وتسكن . كم من الساعات مرت وأنا جالس حيناً ممدداً أحياناً تحت هذه السماء الرحيمة ، أنقل البصر ما بين الأزرق الممتد والأخضر المنبسط ، وقوارب صغيرة تعبر صفحة الماء ، أشرعتها كأجنحة الحمام .
وثبت جيوش الظلام المعسكرة في الغرب وإغتالت نور النهار . هبطت علي القلب عتامة الظلال من هامات النخيل تعشش فيها الظلمة . القمر يريق ضوءه فضة مذابة في ماء النهر . يتماوج ماؤه فتبرز من بين ثناياه خيوط ذهبية لامعة تختلط بالفضة الذائبة تحيط وجهاً مدوراً منيراً يهمس بإسمي . جسدها البض الذي يشف عنه الماء يتلوي ويضوي .
إنها هي .. لابد أنها هي . حذرتني أمي – متي غربت الشمس وأظلمت الدنيا – من الكنس والخياطة ودلق المياه الساخنة في الحمام والإلتفات إلي النداء الذي يأتي من الخلف . حكوا عنها كثيراً ، لها في كل قلب صورة ، وفي جعبة كل متكلم عنها حكايات ، ونوادر ، وحكم كثيرة لم تكن تكفي لحكايتها الأماسي الطوال . في كل مرة إرتسمت لها في مخيلتي صورة مختلفة ، الأن أراها هي وأفهم كل ما قالوه عنها والذي لم يقولوه .
في حالة تقرب من الحمي طافت برأسي نتف من افكار ، كلمات من جمل ، وصور لوجوه إستجابت لغوايتها الساحرة فذهبوا ، ولم يعودوا . زحف الخوف من زوايا الغيطان ، إنداح مع التيار ، تعلق في حبات الهواء بمخالب لا تري وتحول في داخلي إلي إنتظار مفجع .
كالملسوع أعدو بكل ما تبقي في من قوة ، حلقي جاف ، وقلبي يضرب بجناحيه في جريد ضلوعي ، أزيح طبقات الظلام المتراكم . الطريق الترابي يتلوي كأفعي هائلة ، تحيط به وبي من الجانبين زراعات الذرة الكثيفة وقد إستقامت وإستطالت ، تكاد كيزانها تتفتق عن أكمامها . الريح كالخيل الجامحة تضرب أعواد الذرة بأوراقها المشرشرة ، وشيشها يجرح أذني ، وعلي البعد كان المساء يتمدد علي سفوح القرية ، تختبئ في جوفه أرواح الذين ذهبوا وما تزال ذكراهم حية .
بيوت القرية توغل في البعاد ، ومن بعيد يأتيني صوت ماكينة الطحين منتظماً مبحوحاً تردده الأفاق .. تك .. تك .. تك .
مدافن القرية بشواهد قبورها تنتصب في الفراغ كأرواح هائمة تجوس في الليل . متربصة بي المخاوف خلف كل شجرة ، تحت كل حجر ، محيطة بي الظنون ، أسمع فحيحها وأري صورتها في كل رفة جناح وكل صرة جندب . قشعريرة تشملني ، قدماي كأكياس الرمل أنقلها بصعوبة وأسير .. خطوات قليلة .. خطوات قليلة كانت كافية لأراها تبرز من بين عيدان الذرة متجهة للقائي . تحملق في عيني ، تتوسل ، وفحيح صوتها لا يني يهمس بإسمي . نعم .. كانت هي ، لا شك في ذلك ، نفس القميص الذي ينهد ثدياها تحت قماشه الرقيق ، يشف عن حلمتيها الغامقتين ، الوجه الأبيض المدور الذي يشي بالرغبة والرعب ، السواد اللامع في عينيها الثقيلتي الأهداب وشعرها المصبوغ محلولاً تطوحه الريح . تتقدم صوبي ، يلفها الدخان ، والحرائق التي تنام تحت ثوبها وعيناها تبرقان ، ودون أن أتوقف عن الركض إنحرفت يميناً مع الطريق ، لكنها كانت هناك ، تختبئ خلف كل ظل ، خلف كل إنحنائة في الطريق ، هي في كل مكان ، خلف كل منحدر ، خلف كل شجرة ، تنتظرني حيث أذهب وتواصل فحيحها وصوتها يعلو كصفق أجنحة حمامة برية طائرة دون كلل ولا توقف .
مفروشة كل السكك بالوحشة والرعب ، وأنا متقطع الأنفاس تحتويني الرعدة ، بارد الأعضاء غارقاً في عرقي ، تستولي علي هواجسي حتي أخشي من مجرد الإلتفات . عندما وصلت لمشارف القرية الهاجعة في الظلام ، لاهثاً أعدو ، حانت مني إلتفاتة مذعورة للخلف ، توقفت ، مسحت ببصري أقصي ما يستطيع رؤيته .. رأيت حقول الذرة الممتدة علي المدي ، الطريق الغارق في العتمة والأشجار الواقفة .. رأيت بقع الضوء والظلال .. ولم أر في كل هذا المدي أي أثر لإمرآة .. أي إمرآة .
#صفوت_فوزى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هروب
-
زحمة
-
مرآة
-
رفع الحصير
-
سمكة -قصة قصيرة
-
الفرحة
-
انسحاق -قصة قصيرة
-
الغائب الحاضر - قصة قصيرة
-
كبرياء -قصة قصيرة
-
جدى
-
انحناء -قصة قصيرة
-
فاصل للحلم - قصة قصيرة
-
سلبية الأقباط بين مسئولية الدولة ودور الكنيسة
المزيد.....
-
“القط بيجري ورا الفأر”.. استقبل Now تردد قناة توم وجيري الجد
...
-
الان Hd متابعة مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة عبر
...
-
تابع حلقات Sponge BoB تردد قناة سبونج الجديد 2024 لمتابعة أق
...
-
من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
-
وفاة الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن
-
بتهمة -الغناء-.. الحوثيون يعتقلون 3 فنانين شعبيين
-
دراسة تحدد طبيعة استجابة أدمغة كبار السن للموسيقى
-
“أنا سبونج بوب سفنجة وده لوني“ تردد قناة سبونج بوب للاستمتاع
...
-
علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي
...
-
استقبل الآن بجودة عالية HD.. تردد روتانا سينما 2024 على الأق
...
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|