منجز العمارة الاسلامية مسجد السليمانية في اسطنبول نضوج الحل التصميمي

خالد السلطاني

الحوار المتمدن-العدد: 863 - 2004 / 6 / 13 - 08:34
المحور: الادب والفن
    

تمثـل اعمال المعمار العثماني الشهير سنان (1491-1588 ) مرحلة مهمة ، وصفحة ناصعة في المشهد العام لمنجز العمارة الاسلامية . وهذه المكانة المرموقة التى اكتسبها : قوجه معمار سنان "- مردها جدّة واصالة وغزارة النتاج التصميمي الذي اضطلع به طيلة عمره الذي امتد قرابة القرن من الزمان . فعلى امتداد سبعة عقود ونيف استطاع هذا المعمار العبقري ان يشيد اعداد كثيرة من المباني ذات الوظائف والمضامين المختلفة ؛ وان يبسط نشاطه التصميمي على رقعة جغرافية شاسعة امتدت من تخوم بلاد السّلاف في البلقان وحتى مدينة مكة المكرمة في شبه الجزيرة العربية . وعّد كثير من نتاجه التصميمي بمنزلة محطات ذات شأن مهم في مسيرة تطوّر الفكر البنائي ليس للعمارة الاسلامية حسب ، وانما لعموم مسار العمارة العالميـة !

وقد احصى الشاعر الرسام " ساعي مصطفى جلبي " – وهو احد معاصري سنـان وكاتب سيرته ( توفي سنة 1004هـ 1595 م ) ، احصى المنشآءات التى صممها المعمار بـ ( 364 ) مبنى في مختاف ارجاء الامبراطورية العثمانية .
وتشير بعض المصادر التى تناولت اعمال وسيرة هذا المعـمار العظيم بان بعض المباني التى اقترنت باسمه ، لم تنفذ تحت اشرافه الشخصي المباشر ، وانما كان يساعده في اتمامها كثير من مساعديه وتلامذته منهم احمد اغا، وكمال الدين ، وداود اغا ، ويتيم بابا علي ، ويوسف ، وسنان الصغير , وكثير ما خلط الناس بينهما ، ودفعاً لذلك سمي سنان الاكبر بسنان " المُسـن " ؛ وتذكر مراجع اخرى بان تلميذه المحبوب يوسف ربما كان المهندس ذاته الذي شيدّ قصور لاهور ، ودلهي ، واكرا للامبراطور " اكـبر " في الهند .
ومعلوم ان سناناً ولد في قرية اغرناس Agyrnas - من اعمال ولاية قيصريه بوسط الانضول عام 1491 م - . ويذكر " مصطفى جلـبي " في مذكراته بان الفتى أُخذ عنّـوة ً وفق نظام " الدّ وَشِيـرْمَه " Devsirme ، ليكون انكشارياً عام 1512 ، وبعد انتهاء مدة تعليمه العسكري " حارب كانكشاري في حملة بلغـراد ( 1521م ) ؛ وساهم في حروب سليم الاول على بلاد فارس والشلم والعراق ومصر ، وزار البلقان والمجر وجنوب النمسا . وفي عام 1538 ، واثناء حملة مولدافيـا ، حظى بتقدير السلـطان بعد ان انجز جسراً فوق نهر بـروت في ظرف 13 يـوماً ؛ ثم بنى جسراً آخراً على الدانوب ليزيد من اعجاب السـلطان بـه ، مانحاً اياه لقب كبير مهندسي الدولة العثمانيـة .
اهتم سنان اهتماماً كبيراً في ايجاد حـلّ عقلاني لمشكلة نوعية الحّيـز الفضائي داخل المنشاءات التى صممها . وتعد دراساته ومحاولاته ، ومن ثم تحقـيقه لمبانٍ تتسم فضاءاتـها الداخلية على قدر كبير من الفراغات التى يمكن ان تمنحها طبيعة التراكيب الانشائيـة التى تعـاطى معها ، يـُعـد ذلك منجزاً معمارياً حقيقياً واصيلاً . وقد استفاد في مشروعه هذا من تراكم واستمرارية التقاليد المعمـارية العثمانية التى ظهرت وتكونت سابقاً في " ازنـيق " و " بورسـه " ومن ثم في "ادرنـة " ؛ كما استفاد ايضاً من النجاحات المهمة التى احرزتهـا نتاجات العمارة البيزنّـطية على الارض التركية وفي الاخص مبنى كنيسـة " ايـا – صوفيا " " القديسـة صوفـيـا "( 532- 537 م ) Hagia- Sophia في القسطنـطينيـة – دّرة العمارة البيـزنّطية ورمزهـا البـنائـي ؛ مازجـاً كل ذلك في فعل تـثـاقـفي نـادر ، اغنـاه دائمـاً في فحص مستمر ودؤوب لجميع المنشاءات العمرانية التىصادفها في بلدان عديدة ، ملتقطـاً الملاحظات والافكار المختلفة في سبيل تعزيز مداركه البنائـية وتوسيع ثقافتـه المعماريـة .
ثمة انجاز تصيمي كبير حققه " معـمار سنان " في تعاطيه مع اشكالية الاحياز المسقفة بالقباب ؛ اذ استطاع المعمار القدير ان يرتقي الى منظومة انشائية عالية الدقّـة بامكانها ان تشغّـل جميع العناصر التركيبية للمنشأ لاحراز اوسع قدر من الاحياز المتاحة اولاً ؛ وثانياً لاظهار منتهى الانسجام والوضوح والفصاحة بين هيئة الشكل الخارجي ونوعية الفضاء الداخلي ؛ وعمل سنان كثيراً على تطوير تـينيـك الناحيتين ، وايصالهما حـدّ البلاغـة التصميمية . ومن ضمن مبانيه الكثيرة التى يعّتـز بـها المعـار شخصيا ، في هذا المجال ، مجال الاشتـغال على الفضاءات المقببّـة _ ثلاثة مساجد رائعـة التصميم هـي : مسجـد شهـزاده ( 1544-1548 ) في اسطنبول ، ومسجد السليمانية (1550-1557 ) في اسطنبول ايضاً ، والمسجد الثالث هـو مسـجد السـليمية ( 1569- 1574 ) في ادرنـه . ويصف سنان عمارة مسجد شهـزاده – بانه وليد تجربته الاساسية في الولوج بطريق تصميمي خاص به في تعاملـه مع الفضاءات المقبّبـة ؛ واذ يعتبر عمارة مسجد السليمية في ادرنه بمثاية رائعته التصميمية ، فانه يشير الى عمارة مجمع السليمانية كونها مرحلة تتسم بنضوجه المهني في تعاطيه مع عمارة القباب والفضاءات المقبّبـة .
* * *
تتمّيز عمارة مسجد السليمانية عن معظم المنشاءات الاخرى المصممة من قبل سنان ، كون الاولى قد شيدت ليس كمبنى منفرد وحيد في فضاء المدينة ، وانما صممت اساساً لتكون " مجـمعـاً " Ensemble من المباني العديدة ذات الوظائف والسعات المختلفة ، وهـو جانب معماري و تخطيطي على قدر كبير من الاهمية يعكس الرغبة والتوق لتأكيد طبيعة المباني ذات النفع العام وترسيخها في صميم النسيج التخطيطي للمدن الاسلامية . من هنا تبدو فرادة المعالجة التصميمية واستثـنائـيتهـا ، مقارنـة ً بمـا كان سائداً ومتناولاً في الممارسة البنائـية العائـدة للثقافـات الآخرى المجـايلـة .
يتألف مجمع السليمانية في اسطنبول ، بالاضافة الى مسجد سليمان الكبير ، من مبانٍ عديدة اخرى مثل المدارس والكليات والمستشفيات ودور " المـرق " ودور للعجزة ، وكذلك منشاءات الحمامات ومسقفات لدكلكين تتعاطـى الاعمال التجاريـة، فضلاً عن وجود الاضرحـة والاسبلـة المبثوثـة في الموقع ، وغير ذلك من المباني الاخرى التى يحتـم وجودها طبيعة المستوى المعاشي الرفيع الذى بلغته حاضرة الخلافة الاسلامية وقتذاك .
اختار السلطان سليـمان القانـوني (1494-1566 م ) بنفسه مكان مجمع السليمانية على الربّوة المطلّـة على القرن الذهـبي والتى كان يشغلها " السراي القديم " - ؛ الذي تقوضت اجزاء كبيرة منه اثر حريق شّـب فيه . وجرى حفل وضع الحجر الاساس للمبنى في اليوم الثالث عشر من حزيران -يونيو عام 1550 م بحضور السلطان نفسه وحاشيته . وتّم تحديد ذلك اليوم طبقاً لحسابات فلكية اعّدهـا منجـم الدولة ، معلناً بان ذلك اليوم الميمون سيكون يوم سعـد وحسن طالع بالنسبة الى المنشأ الجديد ومستقبله العتـيد !
شغل مجمع السليمانبة مساحة فسيحة تجاوزت (000 60 ) متراً مربعاً وحدّدت الارض التى وُقع المسجد في منتصفها بـ 144 مترا في العرض و216 مترا في الطول . ويكرر تخطيط المسجد التقليد المتبع في تصاميم المساجد السابقة والذى قوامه قاعة صلاة مسقفة بمنظومة من القباب وانصاف القباب والصحن المكشوف المحاط باروقة مقببة من اربعة جوانب يتوسطه حوض ماء " شدروان " . وثمة اربع منائر موقعة في اركان الصحن الاربعة ، يتمّيز زوج المنارتين القريبة من قاعة الصلاة بارتفاعها العالي نسبةً الى الزوج الآخر من المنارتين الموقعتين في الطرف الآخر من الصحن . واُحصى مجموع القباب المستخدمة في مجمع السليمانية باكثر من500 قبـة ذات ابعاد وارتفاعات مختلفة .
تشغل قاعة الصلاة في مسجد السليمانية مساحةً واسعةً قدرت ابعادها بـ 63× 69 متراً ؛ وتم تسقيف هذه القاعة ، كما ذكر انـفاً ، بمنظومة معقدة من القباب وانصاف القباب والحنايا . فهناك قبة مركزية تنهض على اربعة عقود عاليه وهذه العقود تستند بدورها على اربعة مساند ضخمة . وعلى امتداد المحور الطولي المـار بين مدخل الصحن – المحراب ( المحور الشمالي – الجنوبي ) هنالك نصفا قبة تلاصقان القبة المركزية من الامام والخلف ، ويعملان مع الحنايا الركنية الاربع في زيادة توسيع فضاء القاعة المحددّ بالقبة المركزية في هذا الاتجاه ؛ اما توسيع القاعة المركزبة ضمن المحور العرضي ( المحور الشرقي – الغربي ) فقد تـمّ عبر منظومة معقدة من القباب الواطئة ، ذات الاقطار المختلفة والموضوعة بصورة متناوبة بين قبة صغيرة واخرى كبيرة .
يمتلك المسجد الكبير سبعة مداخل واسعة ؛ اربعة منها تقود الى الحرم مباشرة : مدخلان في كل من الجهتين الشرقية والغربية ، في حين وقعّت المداخل الثلاث الاخرى في جدار الصحـن . عندما يلاحظ المرء اسلوب تعاطي المعمار مع كيفية تسقيط مخطط مسجد السليمانية على الربّوة المخصصة لـه ، لابد وان يستحضرفي ذاكرته نظام تخطيط " قبـة الصخـرة " المشرفة بالقدس (72 هـ - 692 م ) ؛ اذ يحرص معمارا كلا المبنيينّ على " تفريـغ " الفضاء المحيط بالمنشأ من اى حضور لفعالية بنائية ، كي يُمنح الفورم المبتدع اقصى امكانية للمشاهدة ؛ فضلاً على استثمار افقيـة التخـوم المحيطة لتأكيد قيمة الهيئة العمودية لكتلة المبنى المتدرّجة . ولانرى حاجة هنا لتـفسير بواعث وجود تلك الفضاءات الخالية المحيطة بالمبنى وربطها بتقاليد ممارسة نظام عمل " الزيادات " ، ذلك النـظام الذى شاع يـوما ً مـا في المساجد العباسية وتحديداً في مسجد المتوكل في سامراء (848-852 م ) ، كما ذهب بعض الدارسين لمسجد السليمانبة في تعليل مهـام وجود تلك الفسحات في نـظام مخطط مسجد السليمانية .
أولى معمار سنان اهتماماً استثنائيـاً لاطروحتـه " الفـضائـية " ، عبر نظام معالجاته التصميمية للحيّز الداخلي لقاعة الصلاة في مسجد السليمانية . اذ ينزع المعـار لان يجعل من اسلوب حضور الفضاء المصمم الداخلي حضوراً بليـغـاً ، حضور لا يجوز ان تعترضه محددّات المنظومة التركيبية او استحقاقات عنـصر الانشـاء ! فنحن في حضـرة " حيـّز " مفعـم باحساس اللانهـائية وحافل بطمأنينة روحيّـه ، وما ذلك ، الا محصلة لتوليفـة ناجعة بين ارتفاع القبـة الشاهق ( يصل ارتفاعها الى 75 ،47 م ) وابداعات الاساليب الزخرفية التى تكسو معظم القشرة الخارجية للعناصر التركيبية ؛ واذا اضفنا الى ذلك منظومة الانـارة المنبعثـة من نوافذ ذات زجاج ملوّن ، فان المناخ الفضائـى المعمول يكتسب فرادته عبر تكامل وانسجام جميع عناصره واتساقهـا . تكاد تـشكل منظومة الكتل المتنـوعة الخارجية للمسجد ذات التدرج المعقد هيئة ظليّـة Silhouette منتظمة ترسم نهايتهـا هـرما ً منتظماً يحصر داخله الفورم الخارجي للمسجد العظيـم . وينجح معـمار سنان في اصطفاء مختلف انواع القباب والاكتاف الساندة وتوزيعها بمهـارة واتقان عاليين في التكوين المبتدع بغية تفريغ الضغط الناجم عن دفع القبة المركزية وكذلك دفع اصداءهـا ذات الاشكال النصف قبـابية . ويحرص المعمار على تاكيد هـيمنـة الكتل المختارة وتعزيز سطّوتهـا الشاقوليـة في المشهـد المـديني لعاصمـة الخلافـة الاسـلامية من خلال استخدام خصوصية الطول الشاهق لزوج المنارتين القريبتين من جسم قاعة الصلاة اللذان يصل ارتفاعهما الى ( 70 ) متراً .

وعلى العموم فان عمارة مجمع مسجد السليمانية في اسطنبول تدلّل على نضوج المعالجات التصميمية التى مارسها وابتدعها معمار سنان ، التى ارتبطت بتقصيّاته نحو السعي لاحراز اكبر قدر من الفضاءات الحّرة الفسيحة داخل الاحياز المسقفة والعمل على تسـاوق وانسـجام الشكل الخارجـي مع خصوصية المداخلات الفضائية المحصورة .
لـقد ظلّت عمارة " ايـا صـوفيا " بقبتها المهيبة وشكلها الخارجي المميّز ، تسيطر لـوحدهـا على المشهـد البانـورامـي لمدينة اسطنبول قرابـة نيف وعشرة قرون ، من دون ان تجد لهـا شبيـهاً مماثلاً ذا قيمـة بمقدوره ان يكون مكافئـاً معـمارياً لهـا . واعتباراً من منتصف القرن السادس عشر وتحديـداً شهر اكتوبر من عام 1557 ، عندما حمل سنان مفتاح المبنى الى السلطان ليدشن بـه افتتاح المبنـى الرسمـي ؛ اعتباراً منذ ذلك التاريخ الميمون فان " سلويت Silhouette وخط سماء مدينة اسطنبول ازدان بمبنى آخـر لا يقل في اى حال من الاحوال ، مهابـة ّ وفخـامة عن مبنى " ايـا صوفيـا" . ورغم ان قبة مسجد السليمانية لم تبلغ ارتفاع قبة " ايـا صوفـيا " (54 متراً ) ؛ فان منجز سنان الجليـل يتميّز عنهـا في وضوح كتله المعمارية ومنطقيتهـا !

وعلى غرار المقاربة الاخلاقية التى حرص اقرانه على اتباعها فان سنانا الذى توفي في 17 تموز /يوليو 1588 ، يرقد فـي ضريحـه البسيط والمحتشم في الطرف النائي الشمالي – الشرقي من مجمع السليمانية بجانب سبيل مـاء ، سبق وان قام بتصميمه من قبل ، راغباً ان يكون اسمه واعماله تتمـاهيان مع عرف اسلامي فريد ، عـرف يقّر المبدع فيه ويعترف بتواضع منجزه وضآلـة دوره امام مـا يمكن ان تكون عليه طبيعة الثقـافة الاسلامية ، تلك الثقـافة التى تمّور دائمـاً بالمعرفـي والتائـقه اليه ، المكتنـزه بتوهج الاساليب والشؤون النافعة والجميلـة ... والنبـيلة معـاً . □□

-----------------------------
د.خـالد السـلطانـي
مدرسة العـمارة
الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
كوبنهاغن- الدانمرك

#خالد_السلطاني (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات