منجز العمارة الاسلامية (3 ) عمارة - مسجد امام - في اصفهان

خالد السلطاني

الحوار المتمدن-العدد: 809 - 2004 / 4 / 19 - 05:50
المحور: الطب , والعلوم
    

التـزيـين – قيـمة معـماريـة
اعتبرت الاعمال البنائية والمعمارية التى اجراها الشاه عباس الاول (1571- 1629 ) في عاصمته الجديدة : اصفهان ، اعمالا ذات اهمية كبيرة في منجز العمارة الاسلامية ؛ اذ مثلت تلك الاعمال الابداعية بحجمها البائي ونوعية الاساليب التقنية المعتمدة فيها سابقة تخطيطية لم تعرف ايران ولا اقاليم المناطق المجاورة شبيهاً لهـا . والحال فان القرنيين السادس عشر والسابع عشر يحتلان مكانة خاصة في تاريخ ايران ، ذلك لان ظهور الدولة الصفوية المركزية القوية وتمتين العلاقات الاقتصادية المتشعبة مع بلدان عديدة اثمرت ثمارها بازدهار واضح في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، الامر الذي انعكس ايجابياً على مجمل النشطات الثقافية بضمنها الادب ، والفن ، والعمارة .
وقد لقت الممارسة البنائية دفعة جديدية لها ، عندما قرّر الشاه عباس الاول ( فترة تسنمه الحكم تمتد بين عام 1588 الى 1629 ) نقل العاصمة الدولة ومركزها الرئيس من " تبريز " في الشمال الى " اصفهان " في الجنوب عام ( 1597 ) .

اراد الشاه عباس ان تكون اصفهان مرآة عاكسة لمدى التغييرات الكثيرة والمتوقع حدوثها في نحتلف جوانب الممجتمع انذاك ؛ واختالر بنفسه مكان المنشاءات العمرانية لعاصمته الجديدة في موقع يبعد كيلو متر ونصف في اتجاه الجنوب من مركز مددينة اصفهان السلجوقيى القديمة .
حفزّت الاعمال الانشائية والتخطيطية الوتسعة الجارية في المدينة الجديدة اساطين البناء لتلك الفترة ، نحو التعاطي مع اساليب تصميمية وتخطيطية جديدة تكون متساوقـة مع النزعة الطامحة لجعل مدينة اصفهان – مدينة مزدهرة وعاصمة لامبراطورية غنيّة وقوية في آن . ولعل المقياس التخطيطي المهيب وتنّوع المباني الميشدة وفخامتها ، فضلاً عن جلال نوعيّـة المواد الانشائية وبهاءها ، تدلّل بصورة جليّة على نوعية التطلعات والطموحات لمعماري وفناني تلك الحقبة وبنائيـها .
شغل مركز المدينة الجديدة ميدان فسيـح تتوسطـه ساحة متراميـة الاطراف هي : "ميدان شاه " ، التى قدرّت مساحتها بما يقرب من ثماتية هكتارات ونصف الهكتار . احتلت قصور وحدائق الشاه الجهة الغربية من الميدان الكبير ؛ واتصلت تلك الحدائـق مـع جـادة " جهـار – بـاغ " - وهو طريق يمتد من الشمال الى الجنوب بصورة مستقيمة لمسافة تصل الى حوالي اربعة كياومترات قاطعة ً نهر " زيـاندا رود " من خلال جسر بقناطر ، ومنتهيه ببساتين الشاه الواقعة في اطراف المدينة .
وعلى الرغم من وسع وجرأة المخططات الحدائقية تلك التى تمّ تنفيذها في هذا الجانب من المدينة ، والتى فاقت في ريادتها ونوعيتها ومقاسها خيرة الامثلة العالمية المشابهة لهـا ، والعائدة الى ثقافات وحضارات مختلفة ( اذ سيق تخطيط " جهار – باغ " وحدائقه الجانبية على سبيل المثال ، مروج الاليزيـه " في باريس Champs Elysees ، وجادة " انتر دين لنـدين " Unter den Linden < تحت اشجار الزيزفون > في برليـن ) ؛ نقول على الرغم من اهمية ذلك الانجاز فان بؤرة الاهتمام التخطيطي والبنائي في اصفهان الجديدة كان " ميدان شاه " –الساحة المكشوفة المترامية الاطراف التى تحّف بها مباني العاصمة الجديدة الرئيسية ، تلك المباني التي ستكوّن مواقعها نقاط ارتكاز هيكلية لامتداد النسيج البنائي المستقبلي للاحياء الجديدة .
يشمل " ميدان شاه " – كما اشير سابقاً ، على ساحة مفتوحة تشكل مستطيلا منتظماً ابعاده 165× 510 متراً ، تحيط به من جوانبه الاربعة اروقة بطابقين مخصصة لدكاكين تتعاطى الاعمال التجارية ؛ وقد تمّ انبات حدائق في جانبي الساحة ، في حين ظّل وسطها –مضماراً مخصصاً لالاحتفالات الكبرى ولاجراء لعبة " البولو " – وهي لعبة رياضية شبيهه بالهوكي تمارس على متون الخيل بمضارب طويلة وكرة خشبية .- تم توقيع مباني العاصمة الجديدة على محيط الميدان الفسيح ، كمبنى مسجد "الشيخ لطف الله " الموقـّع في منتصف الجانب الشرقي تقريباً من الميدان ؛ يقابله تماماً في جهة الغرب قصر الشاه " عالي كابي " ، في حين اتصل الجانب الشمالي باكمله مع النسيج البنائي الذي يشكلّ فيه " البازار" - السوق اهم انشطته . ومن خلال الكتل البنائية الحافلة بتنوع الانشطة الوظيفية يتم الاتصال بمركز المدينة السلجوقية القديمة . وفي منتصف الضلع الجنوبي من الساحة تم ّ اجراء قطع بنائي في سلسلة ايقاع الاروقة التجارية المحيطة بالميدان لعمل ساحة صغيرة تفسح المجال للمدخل المرتد خلفاً والعائد لمجمع " مسجد امام " ( الذي كان يدعى سابقاً بمسجد شاه ) ؛ درّة العـمارة الصفويـة وانجازهـا المعماري الحصـيف .

في ربيع عام 1611 م ، يصدر الشاه عباس الاول امراً في البدء ببناء المسجد الجامع الكبير ، ويكاف المعمار " الاسطة " ابو القاسم على رأس مجموعة من البنائين والفنانين لتنفيذ ذلك الامر ؛ وتشير الرسالة الموجه الى المعمار من قبل الشاه ، وفقاً للمراجع التاريخية ، بانه عليه ان يكرس جهده في غضون سنتين لتصل الجدران – جدار المسجد ، حدّ الاقبيّة ، وان يدخل المعمار في حسابه اظهار المبنى بشكله المقترح ضمن تلك الفترة . على ان المسجد رغم الجهود الحثيثة التى بذلها بناته لم يظهر بصورته التامة المكتملة الا في عام 1638 ، بعـد حوالي تسع سنوات من وفاة الشاه عباس الاول ؛ مع ان بناء ايوان المدخل الرئيسي للمسجد ،والمتكون من عقد ضخم تحف به منارتان عاليتان قد اكتمل عام 1611 م ،/ طبقاً للكلمات المنقوشة في زخرفة هذا الايوان .
يلج الشخص الداخل الى المسجد مباشرة بعد اجتيازه عقد المدخل الرئيس الى ردهة مقبّبة تودي الى مجاز ينحرف بزاوية 45 درجة كي يتلائم اتجاه المحور المار منتصف هذا المجاز مع محراب المسجد في اتجاه مكة المكرمة . ينفتح المجاز على صحن المسجد المكشوف ، وهذا الاخير عبارة عن شكل هندسي منتظم يميل الى التوسع فس محوره العرضي ، ابعاده 55× 70 متراً ؛ تطل ّ عليه ، كما هو متبع في الممارسة البنائية التقليدية الايرانية ، اربعة ايوانات ضخمة يصل ارتفاع كل منها الى 30 متراً ، ويتميز ايوان مدخل قاعة الصلاة عن الايوانات الثلاثة الاخرى بوجود منارتين عاليتين تحفان به من الجانبين تشبهان الى حد كبير منارتـا ليوان المدخل الرئيس المطّل على الميـدان .
يشتمل فضاء الحرم في " مسجد امام " على ثلاثة اقسام / قاعات ؛ تكاد تكون مستقلة الواحدة عن الاخرى ، اذ تحيط بالقاعة المركزية الرئيسية المسقفة بقبة ضخمة ، قاعتان جانبيتان سقفهما اوطأ بكثير من سقف القاعة المركزية . وهاتان القاعتان مسقفتـان بثمان قباب مفلطحة لكل قاعة . وثمة فناءان مكشوفان يليان مباشرة قاعتي الصلاة الجانبيـتين ؛ وهما مدرستان ملحقتان في المسجد ، تحيط بهما من الجوانب الاربعة اروقة تخفي وراءها حجرات خاصة للتدريس . وتمتاز القبة التى تغطي القسم المركزي من الحرم باكساءاتها الزخرفية الملونة والمعمولة من طوب فخاري ذي بريق معدني مع تشكيلة من تربيعات منقوشة . وتتخذ هذه القبة شكلاً بصلياً من الخارج يصل ارتفاعها الى 52 متراً ، كما تمتاز ايضاً بان اسلوب التغطية فيها يعتمد على ثنائية التسقيف ، اي ان هناك في الواقع قبتان : قبة خارجية عالية منتفخة نوعاً ما ، وقبة داخلية بهيئة نصف كرة تسقف الفضاء الداخلي . وهذا الاسلوب في التسقيف ، كما هو الحال في توظيفات الفناء ذي الاربعة ايونات ، سبق وان شاهدناه في امثلة عديدة من العمارة التيمورية بآسيا الوسطى ؛ ولعل مسجد " بـيبي خانـوم " (1399-1404 م ) ومجمع مباني " غـور اي مير " ( نهاية القرن الرابع عشر – بداية الخامس عشر ) في سمرقنـد ، تجسدان هذا النوع من الممارسة الانشائيـة والتصميمـية .

ينزع بناة " مسجد امام " في اصفهان الى ايجاد تكوين فضائي ، يتّسم على قدر كبير من التعقيد ، تعقيد العناصر المعمارية ، ونظام معالجاتها التصميمية ، بالاضاقة الى تشابك واسلوب تعاقب تلك العناصر وتسلسلها الحـيزّي ؛ ومع ان المقـاربات التكوينية الموظّفة في عمارة مجمع المسجد ، وكذلك طرائق الانشاء ، هما امران معروفان ؛ فان جديد عمارة مسجد اصفهان يكمن في فعاليّـة معالجة الكتل والحجوم ، فضلا ً على التغييرات الجذرية المدخلة على منظومة التزينات الزخرفية التى تكسي بالكامل سطوح القّبة ، وكذلك جميع اسطح جدران الافنيـة المكشوفة وايواناتهـا ومنائـرها .
ان سلسلة توالي الفضاءات المفتوحة والمغلقة في المسار الفاصل بين خارج المسجد وداخله ، وكذلك غزارة التعاطي مع تنوع ارتفاعات العناصر المعمارية وتباين علوّ احيازها في التكوين المبتدع يجعل من الحل التصميمي المعتمد في المسجد حلاً مكتنزاً بالمتغيرات البصرية والحسّية ؛ تلك المتغيرات الطامحة الى نأى وابعاد زائر المبنى بعيداً عن الشعور برتاية العمارة المرئية وعناصرها التكوينية ، واذا أضفنا الى ذلك كثلفة الحضور اللوني وتعدد صبغاته ، فان دخول مجمع المسجد وزيارته تكتسبان بعداً أضافياً يفوق مهام اقتصار المجنع على تلبية غاية واحدة او مسعى منفرد .
ثمة اهمية خاصة تكتسي طريقة توقيع المبنى ضمن مفردات التخطـيط العـام لمجمـع " ميدان شاه " ؛ فلكي يتم تـثبيت اتجاه قبلة المسجد نحو مكة المكرمة ، اتخذ مخطط المبنى موقعاً منحرفاً بزاوية 45 درجة عن ضلع مستطيل الميدان المقابل لجهة الشمال ، الامر الذي اكسب المسجد مشهداً بانورامياً واضحاً ، مكنّه لان يُرى من جميع نقاط نظرالمشاهد الواقف في الميدان ؛ وبهذا فقد جمع معماريو المسجد وبناته ، وفي اصطفائهم لهذا النوع من التوقيع ، جمعوا مزايا استحقاق تكوينات الصيغة التماثلية وجلالها ، مع امكانية اتساع الرؤية المنظورية ؛ وهي حالة اغنت التكوين المبتدع لريادتها واسهمت في تفرّده المعماري ليس ضمن نشاط العمارة الاسلامية حسب ، وانما في عموم الممارسة المعمارية العالمية . ولعل محاولة " لويس كان " Lois Kahn المعمارية في تأكيده على انحراف كتلة مبنى المسجد عن الكتل الاخرى في مجمع برلمان بنغالادش في دكا ( 1971 ) لهي ايماءة احترام شديدة الوضوح لذلك الحل التصميمي الفريد الذي انطوت عليه عمـارة " مسجد امام " ؛ والتـوق نحـو ربط معالجة المعمار العالمي القديـر تلك ، بمرجعيتها السابقة .

يلعب الماء وحضوره الواسع في عمارة " مسجد امام " دوراً اساسياً في اثراء المعالجات التكوينية للمبنى . وتنبغي الاشارة ،بان معماري العصر الصفوي عامة قد اولوا اهتماماً استثنائياً لعنصر الماء ومنظومات عرضه في حلولهم المعمارية ، بحيث يندمج الماء ويتماهي مع خصوصية الاحياز المصممة وتشكيلاتها الهندسية . فالماء موجود بكثافة من خلال الاحواض المائية التى نصادفها امام المدخل الرئيسي للمجمع ، وفي وسط فناءه المكشوف ، كما نصادفه ايضاً في سواقي فنائي المدرستين وقنواتها ، الواقعتين على جانبى قاعات الصلاة . وتعكس سطوح هذه الاحواض المائيه الكثير من اقسام المبنى وجوانبه ، وتعمل في احيان عديده الى مضاعفة ارتفاع عناصره المعمارية زيادة ًفي تكثيف الاحساس باهمية تلك العناصر ودورها الكبير في خلق التكوينات المبتدعة .

لا يمكن للمرء ان يتغاضى عن رؤئة فعّالية التزيينات اللونّية والزخرفية ودورهما في تكريس واثراء المشهد المكتمل لعمارة " مسجد امام " في اصفهان . فمناطق استخدام تطبيقـاتهما لا ينحصر في اماكن معيّنـة ومختارة ؛ وانما ينزع المعمار لجعل معظم سطوح الهيكل الانشائي ملوناً برمته تقربياً . وقد استعاض فنانو " مسجد اصفهان " تقاليد الفسيفساء المنقوشة ، الشائعة سابقاً ، بتربيعات ملونة ومقترنه باستخدام الطوب ذي البريق المعدني والمغطى بالميوليق Majolica ، في حين اتّسم الطيف اللوني المستخدم ، على زيادة ملحوظة في عدد الالوان ليصل الى سبعة الوان ، مما وسم الكتل البنائية لمجمع " مسجد امام " بمنـاخ لوني وزخرفي مفعم بالانـاقة والبهاء والسطوع ، وادى كل ذلك الى رفع اهميّة الفعالية التزيينية وتقييمها كحدث ابداعي يشترك باقتدار في تأسيس وارساء المشهد التكويني العام لعمارة " مسجد امام " في اصـفهان .□□


------------------------------------------------------
د.خـالد السـلطـاني
مدرسة العـمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
كوبنهاغـن
------------------------------------------------------

#خالد_السلطاني (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات