أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - غريب عسقلاني - في فيافي الغربة - - قراءة في المجموعة القصصية - بيت العانس- للكاتبة سحرتوفيق















المزيد.....

في فيافي الغربة - - قراءة في المجموعة القصصية - بيت العانس- للكاتبة سحرتوفيق


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2778 - 2009 / 9 / 23 - 20:24
المحور: سيرة ذاتية
    


في فيافي الغربة
" قراءة في المجموعة القصصية " بيت العانس" للكاتبة سحرتوفيق


في قصص "بيت العانس" تقف سحر توفيق عند فاصلة الذهول, أمام صقيع يضرب مكونات الحياة, ويأخذ أقدار البسطاء إلى الفقد والخسران, ويصادر عليهم الأحلام, وصراخ الاحتجاج.. فتلوذ بذاتها تتأمل فعل الزمن وترصد ما هو خلف الظاهر لاستكشاف عوامل الهدم والتدمير, الذي يثبت الأقدار عند سكون الموات, فيما الزمن لا يتوقف عن الاندفاع وتكريس عادات وقيم ومثل مغايرة.. فنراها في النص القصير جدا الزمن يمر " تنتظر الحافلة, تصعد, تقف أو تجلس, تراقب البيوت والشخوص والإعلانات ولافتات المتاجر.. تسمع الضجيج.. وبعد سنوات تنظر في المرآة فتجد نفسها تغيرت "
هل تغيرت أم اغتربت؟ وهل قدمت النص مفتاحا أو علامة استدراك مسيقة لما تريد توصيله للقارئ.. من خلال مغامرات نصية هامسة, يتفاعل فيها الذاتي مع الموضوعي, ويعكس الهم الفردي وجع الجماعة, في عالم البسطاء والفقراء الذين تنتمي أو تنحاز إليهم..؟

تداعيات في فيافي الغربة
عندما تسكن الروح حديقة الحلم, تبحث عن فضاء أجمل بعيدا عن ضوضاء الحياة, وتقتات على الحب والبراءة, وتعزف مع الموجودات نغما مشترك يجعل الوقت جميلا, لكن الزمن سرعان ما يفرض قوانينه الجائرة, ويعيث دمارا وفسادا, ويتجرأ حتى على الأحلام, فيهرب الماضي زمنا جميلا يسكن الذاكرة, يعد أن دُمرت الشواهد عليه, ما عدا خسران الإنسان والتداعي نحو الغياب, كما في قصة شجرتا كافور, فقد هربا بحبهما بعيدا عن ضجيج وزحام المدينة, وأقاما بيتهما في فضاء بعيد, زرعا شجرتي كافور قصيرتين, تطلان على الفضاء المترامي, عاشا متحابين, وكبرت الشجرتان, يغسلهما ماء المطر أو قطرات ندى البكور, ويسكنهما زوج كروان, يغني لهما, ويحفظ أسرارهما..
لكن الناس زحفوا, وأقاموا البيوت, سكن رجل يعمل في ملهى ليلي, يشق سكون الليل ببوق سيارته, ورجل كثير الأولاد يصرخ فيهم: أريدكم رجالا ولا أسمع من أحدكم شكوى, وضابط يترك سيارته في منتصف الطريق بحراسة جنود ينتظرون أوامره, وامرأة مع أمها يأتيها زوجها يوما في الأسبوع, تترك فيه الأم البيت, وعندما أنجبت لم تعد أمها إلى البيت.. زحف عمال وموظفون, وارتفعت البنايات, وتزاحمت, وتآكل الفضاء وقطعت الأشجار وزادت الأتربة وقرر الناس أن الشجرتين تحجبان الهواء, ومصدر للنفايات لكثرة ما يتساقط منهما من أوراق جافة, ونزع أولاد الرجل كثير العيال اللحاء عنهما, فذبلتا, وسارتا إلى الجفاف, ونثرتا بذورا جافة لم تتمكن من النمو في بلاط الطريق.. ماتت شجرة منهما ببطء كما مات احدهما" الزوج", وقطعت حطبا للتدفئة, أما الثانية فقد عالجوها بالجاز..
فهل تقف القصة عند كونها, معزوفة رومانسية حزينة عن الزمن الجميل, والحياة مع البراءة بعيدا عن ضوضاء المدينة والزحام الذي يلوث البيئة, ويقتل البكارة في النفوس, ويلوث البياض في السرائر؟ أم هي صرخة إدانة للتمدد العشوائي الذي طال كل مناحي الحياة, وأصبح سمة الحياة في القاهرة والمدن الأخرى؟؟
وفي قصة بيت العانس,تعيش الراوية صقيع الوحدة, تلوذ بالحلم, وتنداح مع الأشواق واختبار العواطف والرغبات.. وتعود إلى محاكمة ذاتية بعد فوات الأوان, لكنه فجأة يطل عليها من نافذة الحلم..
كانا زملاء فصل دراسي واحد وجيران لبيتين متلاصقين, كان هو مندفعا نحو الحياة, يعب كؤوسها ما استطاع إلى ذلك سبيلا, أينما حل, يثير الدهشة والأسئلة أينما حل, وكانت هي تهرب منه إليه, متسترة بكتاب تقرؤه, بينما هي تقرأ كل حركة وهمسة تصدر عنه.. تنتظره في الليل..يعود متأخرا متسللا, يقفز عن سور الحديقة إلى حجرته, ويطلب منها أن لا تخبر أهله عن تأخره, وتسأله دائما:
- ماذا كنت تفعل في بيت العانس؟
- كنت أتفرج على ألبوم صورها..
يدعوها إلى الحديقة, فتحاججه في أحوال الرجال, ويحاججها في أحوال النساء, أيهما يملك لجام الآخر ويقود دفة الحياة.. لكنه رحل وتركها مسمرة عند فاصلة الانتظار تهاجس نفسها بحقيقة مشاعرها " ما رأيتك ترحل, وما أردت أن أراك ترحل, أسألك وأنا أمام الإحساس بالندم.. لماذا رحلت حينئذ.. وما الذي أقحم وجهه في حلمي هذه الليلة..؟"
تسقط حالها على شجرة وحيدة امتلأت بأزهار حمراء في طوبة, فهل أزهر حلمها في غير موعده؟ وهل مازالت في البيت الصغير القديم, تطل على شجرة مانجو كبيرة تظلل الحديقة..يحضرها.. تراه يتسلل إلى غرفة نومه, وهي الوحيدة لا يتسلل إلى بيتها أحد ليتفرج على البوم صورها " الماضي الجميل" كما كان هو يفعل في بيت العانس..؟
وفي قصة أطياف الخماسين, تهويم الخوف والشوق, والمرأة مثل شجرة وحيدة تقاوم بأذرع معروقة بالشقوق, تنتظر ضيفا يشرب من ماء الزير ويرحل.. أسفل الزير تتساقط قطرات الماء,وينبت عشب أخضر تتوسطه زهرة صفراء..
هل هو الفقد؟ أم العذاب؟ أم انتظار بعيد ربما يأتي؟!!
ربما..
مكابدات مدار الهامش
تقف الكاتبة شاهدا مبهوظا منكسرا عند حافة الشلل, أمام التغيرات التي أحدثها الانفتاح, الذي قذف الكثير من الشرائح والطبقات إلى مدارات الهامش, وكرس القيم والعادات والتقاليد الطارئة, التي تعتمد النجاح والطموح الفردي بديلا وخيارا وحيدا, يحيل الهم الجماعي طيفا باهتا, ويضع المستضعفين في مارثون الحفاظ على الذات عند نقطة سكون خاسرة, لا يملكون غير الوعي المريع بفداحة ما آلت إليه أمورهم
في قصة وقرن في بيوتكم,خليط من الهواجس والمشاعر, والأسئلة تصطرع في رأس موظف متعب في رحلة العودة من العمل.. يجلس في الأتوبيس, وتقف إلى جانبه امرأة مسنة..يتذكر مجهوده مع ابنته في حفظ كلمات جديدة, ويستعيد حياته الجافة مع زوجة مسروقة بين العمل وطلبات الأولاد, تمر أيام دون أن يكون بينهما كلام, وزملاؤه في المقهى افتقدوه لأنه الخاسر في اللعب دائما, وعليه يدفع الحساب.. يتساءل: لو لم تخرج النساء من البيوت تصبح الحياة أسهل, ولو بقيت زوجته في البيت لأصبحت حياته أفضل, لكنه ضيق ذات اليد,. .زوجته تسبقه إلى الأتوبيس كل صباح, وتنجح في الركوب مهما كان ازدحام الركاب.. المرأة الواقفة إلى جانبه تصطدم به وتتأسف.. يقترب من محطته, ويقوم محاولا أن لا يسبقها أحد لمقعده..
- تفضلي
لماذا تعاطف معها, وأعطاها أولوية الجلوس مكانه؟ هل هو الإقرار بما تعانيه مثله لمواجة ظروف حياة لا ترحم؟؟ وهل هي الخاسرة مثله في لعبة الحياة, وأن عليها دفع الحساب من حياتها وسعادتها!!
وفي قصة وجه الزمن, يأخذ الروتين الحياة على منوال واحد, هو الوجه الآخر للموت, وراوية القصة معلمة تمارس مشوارها اليومي إلى المدرسة, وتقيم علاقة اضطهاد عجيبة مع مدير شئون العاملين الذي تنفحه ست علب سجائر شهريا, ولكنه لا يتورع عن وضع الخط الأحمر تحت اسمها, إذا تأخرت بضع دقائق, تستمع لشكوى حكيمة المدرسة من كثرة الحوامل بين المعلمات, وتراقب من بعيد والأستاذ يحى المجهد, وهو يعد الجميع بمراعاة ظروفهم عندما يضع الجدول النهائي.. لا تلتفت لتحريض زميلتها زوجة الضابط, التي ترتدي الملابس غالية الثمن, وتفتقد إلى ذوق عند الاختيار.. تقف ذلك الصباح في ذات المكان من طابور الصباح.. وتدخل الفصل كالعادة.. لكن ثمة صرخة ترج المدرسة..
الأستاذ يحى سقط ميتا, بعد أن أعطته الحكيمة حقنة حسب وصفة الطبيب.. يتبارى الجميع لتقديم الواجب, يقرر الكل أن تليق الجنازة بالفقيد العزيز, فيما الراوية تهاجس نفسها " كلنا يعرف ما عنده, ولكن كلنا ساعدناه على الموت"
من قتل الأستاذ يحى؟
هل هو انكسار المجموع أمام التغيرات الطارئة؟ أم هو الحال الذي يقود إلى الموت المبكر قبل أن يمارس الفرد ما يشيه الحياة..؟؟
ذلك اليوم أطل الزمن بوجهه الهازئ يتحدى:الأستاذ يحى لا يحيا
قصة عشم ابليس,وسط زحام مدينة القاهرة, وبين السيارات وزحام الأرصفة واكتظاظ الباعة, ثمة رجل قصيرأنيق يغني
"يا اللي بتسأل عن الحياة..خدها كده زي ما هيه
فيها ابتسامة, يقطع الغناء"عشم ايليس", ويواصل
فيها آه.. وفيها أسيه وحنيه
فهل يستطيع القصير بلوغ ما يتمنى؟ أم أن الأماني تجاوزت قامات البشر, ولم تعد في المتناول إلا في الأحلام؟
وفي قصة ثلاث أوزات وفرخ وحيد, تتأمل الراوية المشهد, والحال هدوء نسبي في ميدان الجيزة, بالمقارنة مع ازدحام ساعات الذروة, وتتابع ثلاث نساء وطفل في الرابعة أو الخامسة من عمره, يظهر بينهن بسعادة بلهاء, لا يدري ماذا يفعل.. النساء يرتدين عباءات على النمط الخليجي, وغطاء رأس, فتبدو الواحدة منهن من حريم أيام الإمارات الإسلامية الغابرة..
تستبصر الراوية سلوكهن, وتعطي لكل منهن اسما, وتتخيل ماذا يمكن أن يكون وراء التصرفات, وتشرك القارئ في تركيب الحدوتة على منطق ما هو حادث في الحياة..
تستجيب الجميلة سنية, وهي أم الطفل حوده إلى مناوشة عبود, أحد صبيان الموقف, الذي يدعوها, بحاسة شهواته, لشرب حاجه ساقعه, فتواصل معه بحوار يحمل لغة ملغزة!!
" – حاجه ساقعه إيه؟ مش كفايه انتَ؟
- أنا ساقع يا بنت ؟ دنا سخن قوي!! "
وتتواطأ هنيه, وهي اقل جمالا, مع سنية في مجاراة عبود, لعلها تحظى بشيء, فتهدد نبوية قليلة الحظ من الملاحة, بإبلاغ المعلمة, وتأخذ الطفل بحنان إلى حضنها, وتشهده على ما يحدث..
وفي السيارة تدور معركة بين نبوية وسنية, وتسحب هنية الطفل إلى حضنها, وتأخذ دور المحايد, يتدخل السائق لوقف العراك, ويهدد بإبلاغ المعلمة, فتتحالف المرأتين في الهجوم عليه لتدخلهما في خصوصياتهما, وتسحب سنية الطفل الذي يشعر بالأمان, وتعاتبه..
عند هذا الحد تصل الراوية إلى محطة سكنها في الضاحية .. تهبط من السيارة باتجاه بيتها, تسير على إسفلت مغطى بأوراق أشجار دبقة بفعل ما التصق بما من العوادم.. وتستكمل الحكاية بتوقعات محتملة, فقد تكون المعلمة قوادة, أو صاحبة مقهى يعملن عندها, أو تاجرة تزودهن بالبضائع لبيعها..
لوحة تبدو للقارئ سيريالية, ولكنها مكونة من مفردات شديدة الواقعية..
لماذا ثلاث نساء؟ هل هن ثلاثة أنماط من البشر؟ أم هن امرأة واحدة في ثلاث حالات, بين النشوة والرغبة والحرمان, والطفل ما هو موقعه؟ هل هو الجيل الذي ينتظره مستقبل مقلوب, في غياب أب أو موته أو عدم وجوده واقعا شرعيا!!
والى أي مدى تشكل حياة العشوائيات والأحياء الفقيرة مشهدا شكل صفاته وبات ملحا بغرائبيته على صدر مدينة لاهية بفوارقها الطبقية والاجتماعية؟ وما الذي تريد الراوية توصيله وهي من سكان هذه البيئات, وتشكل أحد مفرداتها؟
هل هي صرخة تصدرها في فسحة قلما تتوفر مثل الهدوء النسبي الذي يوفر بعض تأمل ويسحب الفرد إلى همومه الحقيقية؟ أم هو اجترار الألم لتأكيده على جلود الآخرين!!؟
ربما كل ذلك وغيره, ولكن الراوية أخذتنا إلى تأويلاتها, وأشركتنا في تخيل تفاصيل أخرى تصب في مرمى الحالة..

والهروب إلى أسئلة الحيرة
في قصة السنترال الآلي, يتأمل عوض سنترال تمثال رمسيس المقطوع القدمين, وينظر إلى عيون نفرتاري التي تشبه بائعة الفجل التي أحبها في شبابه,.. ورمسيس ما زال مطروحا على الأرض, وقد نالت من الرطوبة منذ نقلوا أخاه إلى الميدان البعيد, وسط تشييع نساء القرية تشييعا يليق بعزيز لن يعود.. تلح عليه ذكريات يوم داهم الجنود بيوت,قريته التي بنيت من بقايا حجارة المعابد, بحثا عن حجارة قديمة, يومها شحذ سكينه, وأزاح الصندوق عن حجر في الجدار,وأخذ يطمس الرموز المنقوشة عليه, ويختزنها في عقله, وعندما انتهى ربت أبوه على كتفه وقال:
- اليوم أنجبت رجلا..
وها هو يقف اليوم عاجزا, في مواجهة السيول, التي أخذت ثلاثة من رجال القرية, وعطلت بعض التليفونات, منها تليفونه, وقطعت عليه سبل الاتصال بالبدرشين لإصلاحه, وهو من أخذ على عاتقه إصلاح تليفونات القرية منذ عمل في سنترال البدرشين, قبل أن يعمل في المصنع الجديد, وأطلقوا عليه في القرية لقب عوض سنترال, واليوم يعجب احدهم من غدر الأيام, ويطلق المفارقة نكته:
- عوض سنترال يتصل بالسنترال!!
يغادر المكان عائدا إلى القرية, ويفتح كابينة السنترال, ويقف عاجزا أمام ضفيرة الأسلاك الرفيعة, يعبث فيها, فيدوي انفجار يدمر الكابينة, ويصيبه بحروق في وجهه ويديه.. وتضيء في رأسه الرموز إلي ادخرها في ذاكرته..
أي رسالة تحمل هذه القصة المغزولة بمهارة,تجاور فيها التاريخ والتراث والفقر والجهل والتدفئة على نار القوالح والسنترال الذي يعمل بفعل طاقة الالكترونات؟؟
قصة مكتظة الإشارات والرموز والشفرات, واستحضار الماضي والحاضر, والعلم والجهل, والتطور والتخلف, ما يدفع القارئ إلى العديد من الأسئلة الملحة والتي في مجموعها لا تدين عوض, ولكنها تنحاز إلى أن ما قام به هو ثورة على واقع شاذ, يأخذ الحياة إلى الخلف رغم مظاهر التحديث المتاحة, وكأني بالكاتبة تتساءل أيضا:
- أين الخلل؟
هنا التساؤل ليس من باب الجهل بالأسباب, ولكنه وخز ذكي نحو البحث عن وسائل الخروج من البلبلة.. ولعل في قصة عودة, ما يجيب على بعض الأسئلة, فهل يموت الإنسان باختيار غيره؟, وهل الموت هو خروج الموت من الجسد, أم هو الذهاب إلى الغياب عند خسران مبررات الحياة..؟
جدلية الموت والحياة يطرحها الراوي العليم, قصة ظاهرها الكوميديا, وباطنها المأساة, فالنساء يجتمعن لأداء طقوس الرحيل, حسب ما تعارف عليه المجتمع المصري في الريف وأطراف المدن, ينحن ويرددن, وتتقصف شفاههن, وتدمع عيونهن, ويغطسن في غيبوبة الفقد, فيما الرجل العجوز مدفون تحت الأغطية, يعد أن عزف عن الطعام والشراب..
يحضر الابن بعد طول انتظار, ويطلب من أمه طرد النسوة النائحات, يصحو الغافي تحت الأغطية معاتباً:
- جئت أخيرا
همس بالقرب من أذن أبيه:
- لا تدع النساء ينتصرن عليك, أنا لا احتاج إلى أب ميت!!
يبتسم المريض, ويشير له أن يقترب, ويخرج صوته واهنا:
- يا ابن الكلب..
يطلب منه الابن أن يكف عن التمثيلية, ويطلب من الأم تحضير الماء الساخن والطشت والعطر, يقوم بغسله وتدليكه ولفه بالأغطية, ويتركه ليعرق..
وفي المساء كان يصيح يطلب طعاما!!
والسؤال التي تقذفه القصة هو متى يحدث الموت الحقيقي؟
هل عندما تفارق الروح الجسد؟ أم عند التهميش وانعدام لغة التفاهم, وغياب البراءة والحب والاهتمام من الوسط المحيط!!
قصة خداع البصر, عندما عير المترو النفق, سألت امرأة تشبه نفرت, وكنها شاحبة ممصوصة تسأل عن محطة التحرير, رجل أشيب ممصوص يخبرها: أن المحطة القادمة هي محطة سعد باشا زغلول, والتحرير بعدها, ورجل آخر يرد: القادمة محطة سعد زغلول.. والراوي يقرأ في الجريدة" لا مزيد من الأعباء للمستثمرين" عصب العين يرسل إلى الدماغ كلمة مزايدة بدلا من مزيد, ويواصل " أن الإعتمادات للمستثمرين يعني مزيدا من فرص العمل للشباب" لكن عينه ما زالت ترسل مزايدة بدلا من مزيد..تستعد المرأة للمغادرة, قال أحدهم المحطة القادمة سعد زغلول, رد العجوز الأشيب سعد باشا زغلول.
لفته ذكية وهامسة تقارن بين زمن سعد زغلول باشا الزعيم " مصر للمصريين", وزمن الانفتاح, ومترو الأنفاق, ومشاريع الاستثمار, ومصر "نفرت" التائهة المحتارة الكالحة المجهدة اللاهثة وراء الفرص المخادعة..
وفي قصة ربابة.. آبا علي, شجن بمذاق آخر, يلتقي الجميع بعد صلاة العشاء في زاوية الجامع, حول جمرات القوالح, وأنفاس الجوزة المغمسة بالحشيش الذي يتوفر صدفة في كل مرة, وكأنها هبة من السماء..وكان في بعض الحالات ينضم اليهم البستاني وابنه البناء.. يستمعون إلى حكايات عجوزين يتباريان بالكذب "الفشر", يعتمدان على مخزون خبرة المعايشة مع الحياة..
يستجيب آبا محمد إلى احدهم, ويحدثهم كيف كان يطعم القرية سمكا عندما كان يعمل صيادا, ثم يحدثهم كيف اصطاد القرموط العملاق بعد أن اعد العدة, وكيف وصل برأس القرموط إلى الدارو وما زال ذيله في الترعة, ما يجعل آبا على يقاطعه, ويحدثهم عن زيارته لسوق النحاسين في المدينة, فوجدهم يصنعون قدرا ضخما, وعندما زار السوق بعد ثلاث سنين وجدهم لم ينتهوا من صناعة القدر..
تلهب الحكاية آبا محمد فيشكك فيها فيرد عليه آبا على: حتى يتسع القدر لقرموطك.. فيجر آبا محمد نظيره للحديث عن عائلته وخاصة جدته..
يتحدث آبا علي عن جدته ميمون بشجن ممزوج التقدير والحزن, فقد كانت امرأة قوية يخافها الرجال وأزواجها, وهي التي أنزلت جندي الهجانة عن ظهر الهجين, عندما نعتها "يا مره" وتسببت في معركة حامية الوطيس بين رجال القرية والهجانة سقط فيها الكثير من الرجال والكثير من الهجانة, وعندما انتشر الجنود للبحث عن المرأة التي فجرت المعركة وشى بها زوجها للتخلص منها, فأدركت خيانته وحبسته في الصندوق, وتسللت من باب الزريبة, ثم أجبرته على طلاقها..
يصمت آبا علي, ويسود الهدوء, فيسحب ربابته, ويعزف محدثا بأخبار الزناتي خليفة, وقصة عزيزة ويونس.. تم يعزف منفردا, فيشعل شهوة الرقص في الحضور, فينهض البستاني وابنه إلى الرقص, يحاكيان خطوات الخيل وتحليق الصقور..
أي أسئلة تقبع في ثنايا القصة؟ وهل في الهروب جفاف الواقع؟ اعتماد ما فوق الواقع وسيله مقاومة لبؤس الحال؟ وهل في الهروب إلى الحشيش في زاوية الجامع ذهاب إلى وجد قدري يزودهم بطاقة الصمود؟ وهل العودة إلى الماضي استنكار غير معلن للحاضر؟ وهل صناع الحياة المزارع والبناء فهما المنتجان, وهما من يملكان الوصول إلى المستقبل بقوة الخيول وتحليق الصقور, لأنهما صناع الحياة؟؟
وهل هذا ما أرادت سحر توفيق تفجيره في فضاء الحكاية؟..
وبعد:
فنحن مع كاتبة على وعي بشروط الكتابة, ورسالة الفن, تبحث عن نصّ مختلف, تملك لغة هامسة ومحسوبة وحكاية سلسة طيعة, تلوذ بالحدوتة بمقدار وتلعب مع المفارقة بحساب الفن, وتشكل الفنتازيا بأدوات ومفردات الواقع, وتنثر عذاباتها بعد طول تأمل في عذابات المجموع, الذي يدفع الضريبة في زمن الأقوياء الذين يمتطون الزمن, وتستلهم طبائع البشر, وتستقصي دوافع التصرفات والأفعال, تتعامل مع واقع المرأة وقضاياها بشفافية المشارك والمهروس كما الرجل, وتنثر الأسئلة أمام المتلقي مفتوحة للتأويل والاشتباك..



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فاتنة الغرة امرأة مشاغبة حتى التعب
- ترنيمة نادل الوقت - نص
- الذهاب إلى بئر الرغبات
- مارثون مفارقات القهر - - قراءة في المجموعة القصصية - إحراج - ...
- على جناح القبرة
- مقهى الذاكرة - نص مشترك
- حكاية الليلة الثانية بعد الألف..- نص مشترك مع هناء القاضي
- تجليات الرغبة في مدار الوردة
- كله تمام يا فندم, وغياب الحقائق
- البراءة في عالم متوحش
- مكابدات الواقع في زمن بعث المراثي
- القمر لا يدخل مدار الهامش
- في جغرافيا ما فوق السحاب
- البحر - قصة قصيرة
- يسرا الخطيب.. وعطش البحر
- شرفة الانتظار
- شظايا آمال الشاذلي وسؤال النوع الأدبي
- مقهى الذاكرة
- مرايا لا تعكس الصور
- حكاية الليلة الثانية بعد الألف..


المزيد.....




- طيور وأزهار وأغصان.. إليكم أجمل الأزياء في حفل -ميت غالا 202 ...
- حماس تصدر بيانًا بعد عملية الجيش الإسرائيلي في رفح وسيطرته ع ...
- التعليم حق ممنوع.. تحقيق استقصائي لـCNN عن أطفال ضحايا العبو ...
- القاضي شميدت يتحدث عن خطر جر بولندا إلى الصراع في أوكرانيا
- فيتنام تحتفل بمرور 70 عاماً على نهاية الاستعمار الفرنسي
- نشطاء مؤيدون للفلسطينيين يحتلون باحة في جامعة برلين الحرة
- الأردن: إسرائيل احتلت معبر رفح بدلا من إعطاء فرصة للمفاوضات ...
- باتروشيف: ماكرون رئيس فاشل
- روسيا.. الكشف عن موعد بدء الاختبارات على سفينة صاروخية كاسحة ...
- الإعلام العبري يتساءل: لماذا تسلح مصر نفسها عسكريا بهذا الكم ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - غريب عسقلاني - في فيافي الغربة - - قراءة في المجموعة القصصية - بيت العانس- للكاتبة سحرتوفيق