رشدي علي
الحوار المتمدن-العدد: 2768 - 2009 / 9 / 13 - 07:41
المحور:
سيرة ذاتية
دخلت البصرة بعد رحلة مضنية وطويلة استمرت يوما كاملا من الحدود السورية وحتى بيتنا الحبيب. لم اكن لاتحدث عن السائق الخسيس لو لم يقل لي اخي انه نموذج لكل سائقي العراق, حيث اضاف: كلهم هكذا.. لصوص وغدارين..وكلهم يكذب. وعدنا السائق بانه لن يطفئ مكيف الهواء نهائيا, ولكنه لم يدره الا نصف ساعة مدعيا ان حرارة السيارة ارتفعت.. وهذه لم تكن مشكلة لو لم نكن في اواخر تموز, ومعنا طفل في الثانية من عمره! اصبح الطريق جحيما يغلفه بكاء طفل لا ينضب.. وسيطرات التفتيش لا تنتهي.. كل ربع ساعة سيطرة تسال نفس السؤال الذي تكرر الف مرة من سوريا الى البصرة. كذلك لم اكن لاتحدث عن سوريا لو لم يحكمها البعث, الذي حكمنا عقودا طويلة.
كان التراب يحتضن البصرة.. والحر ليس له وصف..للهواء حد السكين, صحراء فتية هي البصرة, الاوساخ في كل حدب وصوب, الناس مكفهرة الوجوه, رثة المناظر, وحزينة, راحة الاباط وجثث الحيوانات وانهر المجاري لم تفارق انفي طيلة اقامتي..الشحاذون من الجنسين في كل زاوية.. بقايا النساء ملفحات بالسواد في حر خرافي من الراس الى القدم, اما الجوامع والحسينيات فلا تكف عن النعيق في ذلك الخراب المهول.
استمرت العاصفة الترابية طوال الاسبوع, وكان اواخر تموز, الدنيا كانت حمراء من بداية الصباح حتى اواخر الليل "موعد ذهابي الى الفراش" لا نرى الغيوم ولا ترانا, ولا النجوم.. في الصباح الباكر لا نسمع طيورا تغني, لم اشهد عرسا واحدا طوال اقامتي.. قالوا: ان الدق والطبل قد هربا مع الطيور. ولكن اين الفتيات الجميلات يلبسن الالوان الزاهية في اسواق البصرة؟ لماذا السواد, وكأنك في منجم للفحم؟ التراب والسواد ونعيق الحسينيات ورائحة الجيف والآباط والحر الذي بلا وصف وحزن الناس المحبطين ونزقهم والكلاب السائبة بعضها التصق بالشوارع والى الابد وبعضها في البرك الآسنة هاربة من القيض يشاركهم فيها اطفال المدينة.. والرعب من دوي قد ياتي في اي لحظة,كل ذلك كان في رأسي وانا في طريق عوتي من السوق.. نعق جامع بقرآن مبين في اذني المنهكة :هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون!
الطريق كله صحراء قاحلة.. نادرا ما ترى زرع اخضر وماء.. من الرمادي حتى البصرة. لم ارى في البصرة نخيل ولا ماء, سوى الزبل في كل زاوية ومكان.. اغلب الناس تبدو عليه القذارة. فوضى السيارات, طابور البنزين, المشاريع التي بدات ثم توقفت تركت الخراب ورحلت. الشوارع قديم اسفلتها.. كلها حفر ومطبات.. عيادات الاطباء مهزلة! الجميع يدخن ويبصق فيها.. والحر يكاد يذيب الاشياء من حولنا.. المريض يدخل ويخرج بسرعة وفي يده ورقة, وكأنه دخل ليحصل على ختم لا استشارة وعلاج.. القمامة في اركان العيادات.. اغلب الادوية مزيفة وغالية جدا. العشار كئيب.. وفي فروعه يتسطح شحاذون بلا ارجل وبعضهم بلا ايدي او سيقان.. لباسهم والقذارة شيء واحد.. في الحقيقة لرؤيتهم سطوة الرعب. كل شيء مهدم وقديم ووسخ. لا احد يثق في المستقبل, الكل يريد الهرب الى الخارج.. ويحلم به. اغلب البضائع زهيدة الصنع فاحشة الثمن.. الحياة في تموز وآب في البصرة "مدة اقامتي" شيء لا يطاق.
البصرة في تلك الايام كانت تشبه معسكرا لللاجئين.. وليس مدينة لها ما لها من حضارة. وحين ازف موعد العودة.. قررت ان نستقل الطائرة, فذاكرة العواصف والرمال تدخل علينا السيارة لازالت طرية.. المطار الذي بنته شركة المانية في ثمانينيات القرن المنصرم كان الشيء الوحيد النظيف والمكيف في البصرة!! وفيه غرف خاصة للتدخين. وبعد ساعات انتظار اقلعت الطائرة متجهة الى سوريا.. حيث سنقيم اربعة ايام في انتظار رحلة العودة الى امريكا.
اسواق وشوارع سوريا كانت نظيفة وجميلة.. يدل لباس الناس على انتمائهم الى مذاهب مختلفة, لكن لا احد يعبأ بالآخر, ولا يزعج الاخر.. نظام المرور واضح, وهناك تشعر بالامان الذي فقدناه في العراق. نساء سوريا جميلات جدا, اجمل من نساء امريكا.. ويظهرن من المفاتن ما لذ وطاب. الجو جميل,, قال لي سائق التكسي: هنا افعل اي شيء تريد الا الاقتراب من الحكومة!
وانا في طائرة العودة.. شعرت بألم شديد.. كاد يخنق قلبي, حسرة ومرارة وشوق عارم الى اهلي.. اختلط كل شيء واستعدت المشاهد البصرية المقفرة واحدا تلو الآخر.. تلك المدينة التي نشأت بها صغيرا.. المدينة التي احببت الى الابد.. المدينة التي صنعت ذاكرتي وصبري على المدن الاخرى.. تركتها مرة في يد الخوف وها انا ذا اتركها في يدي ذوي القلوب السوداء, وحدها تنازع.. فأهلها اصابهم الهلع.. ونخيلها اقتلعه الخوف.. ماؤها جف من الالم, اين غيومك يا بصرة, واين قلبك؟ اين الفرح في زرعك؟
كيف استحالت مدينة بهذا الكم من الرعب الى سحر اوهج رأسي سنين طويلة؟
#رشدي_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟