أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد الرحيم الوالي - دولة الإسلام أم دولة بني ساعدة؟ (2)















المزيد.....

دولة الإسلام أم دولة بني ساعدة؟ (2)


عبد الرحيم الوالي

الحوار المتمدن-العدد: 2721 - 2009 / 7 / 28 - 07:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بدأ نظام الخلافة، في سقيفة بني ساعدة، باجتماع الأنصار، أي سكان المدينة المنورة، لاختيار أمير لشبه جزيرة العرب. و اختاروا سعد بن عبادة زعيم الخزرج. ثم انتهى الخبر إلى أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب فحضرا إلى السقيفة و قام جدال حاد بين الأنصار و المهاجرين حول أحقية كل فريق بأن يكون الخليفة منه. و لم يتوقف الجدال إلا بعد أن فرض عمر بن الخطاب الأمر الواقع على الجميع و قال لأبي بكر: "أبسط يدك نبايعك". ثم داس عمر و عدد من المهاجرين على سعد بن عبادة، الذي كان مصاباً بمرض طارئ، و حدثت الفوضى. و وسط هذه الفوضى تم تنصيب أبي بكر الصديق خليفة على المسلمين.
لا يهمنا هنا الدخول في متاهات تفاصيل هذا الحدث التي تزخر بها مصادر السيرة النبوية و التاريخ الإسلامي. و إنما يهمنا أن المسلمين، بعد وفاة الرسول، لم تكن لديهم مسطرة واضحة لاختيار من يحكمهم. و هذا يدحض تماماً كل الادعاءات التي تروج أن دولة إسلامية قامت في عهد النبوة و أن النبي كان رئيسا لهذه الدولة. ذلك أنه لا توجد دولة لا تعرف كيف تختار خليفة رئيسها بعد وفاته. فكل ما جاء به الإسلام كان مبدأ عاما يتمثل في الشورى في تدبير "الأمر"، أي الشأن المشترك بين المسلمين باعتبارهم أتباعا للنبي، أي باعتبارهم مجموعة دينية، لا باعتبارهم مواطنين في دولة. و لم يثبت أبدا أن القرآن خاطب المسلمين باعتبارهم رعايا للرسول أو مواطنين في دولة الرسول، و إنما كان الخطاب القرآني موجها إلى المسلمين باعتبارهم "الذين آمنوا" (يا أيها الذين آمنوا). ذلك أن ما يربط بين المسلمين من جهة، و الرسول من جهة أخرى، لم يكن علاقة محكومين بحاكم و إنما كان علاقة مؤمنين بنبي.
و لأن القرآن لم يحسم في كيفية اختيار الحاكم، و لا في طبيعة نظام الحكم، و لأن الرسول لم يصدر عنه بدوره ما يمكن أن يفيد في هذا الباب؛ فقد كان الجدال الذي دار في سقيفة بني ساعدة خالياً من أي احتجاج بأي سند من القرآن أو من الحديث النبوي. و هذا ما يفسر دخول الصحابة في خلاف مع بعضهم اعتمادا على قدراتهم الجدالية و التفاوضية الخاصة. فقد قال أبو بكر للأنصار: "نحن الأمراء و أنتم الوزراء"، و كان جواب الحباب بن المنذر: "لا و الله لا نفعل. منا أمير و منكم أمير" (أنظر صحيح البخاري ـ ج 5 ـ ص 8). و هذه مفاوضات سياسية صرفة لم يستعمل فيها هذا الجانب أو ذاك أي سند غيبي، و لم يدع فيها أي طرف شرعيةً سماويةً لنفسه، عكس ما تفعله الجماعات و الأحزاب الإسلامية في العصر الحالي إذ تزعم أن تصوراتها السياسية جزء من الشرع، أي من الدين المنزل من عند الله.
ما حدث في سقيفة بني ساعدة، بالنسبة للجماعات و الأحزاب الإسلامية، هو المرجع في نظام الشورى. فهل كان الأمر كذلك بالفعل، أم أن أول نشأة لدولة الخلافة كانت مخالفة لمبدأ الشورى إذا ما افترضنا، جَدَلاً، أنه مبدأ في الحكم؟
يذكر السهيلي في الجزء الرابع من "الروض الأنف" أن عمر بن الخطاب، في آخر سنة له على رأس دولة الخلافة، ألقى خطبة قال فيها: "فلا يغرن امرأً أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه". فبيعة أبي بكر الصديق كانت في نظر عمر بن الخطاب "فلتة فَتَمَّتْ" و كان يمكن أن تكون مصدراً للشر لولا "أن الله قد وقى شرها". و لذلك فهي ليست ـ في نظر عمر بن الخطاب ـ مقياسا لاختيار الخلفاء. و هذا ما جعله يعلن أن "من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه".
معنى هذا الكلام أن بيعة أبي بكر، حسب ما ذُكر عن عمر بن الخطاب، كانت "عن غير مشورة من المسلمين". و قد كانت كذلك نظرا للأجواء التي تصفها رواية عمر بن الخطاب التي أوردها السهيلي حول ما وقع في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي. يقول عمر بن الخطاب: " فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف فقلت : أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة : قال فقلت : قتل الله سعد بن عبادة".
في هذا المشهد المليء بالعنف اللفظي و الجسدي، و التهديد المتبادل بالقتل، تم تنصيب أبي بكر الصديق دون مشورة. و هو الأمر الذي تداركه، في ما بعد، عمر بن الخطاب من خلال خطبته التي ذكرناها. و معنى هذا أن أول نشأة لدولة الخلافة لم تكن بإعمال مبدأ الشورى الذي تريد الجماعات الإسلامية أن تجعلها مرجعاً له أو أن تجعله مرجعاً لها، و أن تجعل منه تالياً مبدأ نظام الحكم "الإسلامي". فالشورى لم تمارس في سقيفة بني ساعدة بكل تأكيد. و بقي أن نسأل ما إذا كان عمر بن الخطاب نفسه، ثاني رئيس لدولة الخلافة، قد تولى الحكم بناء على الشورى؟
كل مصادر التاريخ الإسلامي تذكر أن عمر بن الخطاب تم اختياره لتولي الخلافة من طرف أبي بكر الصديق الذي كتب في هذا الشأن كتاباً معروفاً باسم "كتاب العهد"، و مَنْ ثَبَت لديه مصدر تاريخي يقول عكس هذا فليفدنا به. و إذ نفهم تماما سلوك أبي بكر الصديق بأنه اتقاء لتكرار ما حدث في سقيفة بني ساعدة، فإننا نفهم في نفس الوقت أن ثاني خليفة في تاريخ الإسلام تولى الحكم، هو الآخر، دون احترام لمبدأ الشورى. و بعد أن مات عمر بن الخطاب مقتولاً حَسَم في أمر الخلافة خمسة من بين المقربين منه هم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام. و تذكر المصادر التاريخية أن عمر بن الخطاب، بعد أن تلقى الطعنة التي أودت بحياته، هو مَنْ دعا إليه هؤلاء الخمسة و طلحة بن عبيد الله. لكن هذا الأخير لم يكن حاضرا ساعتها. و هناك أسند لهم، أي للخمسة المذكورين، أمر اختيار خليفة للمسلمين من بينهم فاختاروا عثمان بن عفان. و هكذا فثالث خليفة إسلامي لم يتول الحكم بناء على الشورى، و إنما تولاه بقرار من دائرة ضيقة جدا، مقربة من عمر بن الخطاب، لا تتعدى خمسة أشخاص. أما خلافة علي بن أبي طالب فغني عن البيان أنها كانت منطلق الحرب الأهلية بين المسلمين الذين انقسموا إلى ثلاث فئات كبرى: أنصار علي، و أنصار معاوية بن أبي سفيان، و الخوارج الذين خرجوا عليهما معا.
إن دولة الخلافة، التي قامت بعد النبي محمد (ص)، لم تمارس أبدا مبدأ الشورى، و مات ثلاثة من خلفائها مقتولين، و كانت سبباً في اندلاع حرب أهلية. فهي، إذن، ليست مرجعاً في ما تسميه الجماعات و الأحزاب الإسلامية "نظام الشورى". و لم يستقر نظام الحكم إلا بعد أن تحول المسلمون إلى النظام الملكي بدءً من عهد معاوية بن أبي سفيان. فالذي قام منذ معاوية ليس خلافة قائمة على الشورى و إنما هو نظام ملكي قائم على الوراثة، و هو الذي استمر في التاريخ الإسلامي ابتداء من هذه اللحظة، حتى و إن تسمى ب"الخلافة" أو اتخذ من الإسلام، أو من فهم معين للإسلام، عقيدة للدولة.
إذا كان الأمر كذلك فبأي معنى تكون "دولة الخلافة" هي دولة الإسلام النموذجية و قد خالفت مبدأ الشورى نفسَه؟ و بأي معنى تكون هذه الدولة نموذجا للحكم في العصر الحالي؟ و بأي معنى تعتبر هذه الدولة دولة "راشدة"؟ و أين يتجلى رُشدُها مقارنة مع باقي أنظمة الحكم، "القاصرة" في نظر الأحزاب و الجماعات السياسية التي تسمي نفسها "إسلامية"؟
لم يقدم القرآن، و لا الحديث النبوي، أي تصور في مجال الدولة، بما في ذلك كيفية اختيار مَنْ يحكم المسلمين الأوائل في شبه الجزيرة العربية. و هذا ما يفسر الخلاف الذي نشأ حول موضوع "الخلافة" بين صحابة الرسول الذين ما كانوا قطعاً ليختلفوا حول أمر الدولة لو كان القرآن أو الرسول قد أصدرا فيه حكما واضحا. لكنْ ـ و لأن الأمر ظل موكولاً لاختيارات الناس فيما بينهم ـ فنظام الخلافة نشأ كنظام وضعي أفرزته الأحداث التي شهدتها سقيفة بني ساعدة. و من هنا فهو لا يمثل أي تصور قرآني أو نبوي للدولة حتى يكون بمثابة "دولة نموذجية" للإسلام أو "دولة إسلامية". و الأحزاب و الجماعات الإسلامية، المنادية ب"دولة الخلافة"، أو ب"الحكم الإسلامي"، لا تستطيع أن تبتدع قرآناً جديداً و لا أن تخترع أحاديث نبوية بكل تأكيد. كما لا نراها قادرة على إنكار ما ورد ذكره في مصادر التاريخ و السيرة النبوية التي ذكرنا بعضها هنا (و غيرها أكثر من أن يحصى!). و هذا كله يعني، في آخر التحليل، أن ما تدافع عنه الجماعات و الأحزاب الإسلامية ليس تصورا إلهيا للدولة و إنما هو تصور سياسي بشري و قابل للمناقشة باعتباره كذلك. و هو، من هذا المنطلق، لا يتميز بأي صفة تجعل منه نظاما سياسيا "راشدا" في مقابل أنظمة أخرى "قاصرة". و مدى صلاحيته ـ أو لا صلاحيته! ـ يتقرر بناءً على ما تفضي إليه مناقشة هذا التصور و مقارنته، علمياً، بباقي تصورات و نماذج الحكم الأخرى. بمعنى أوضح، فنظام الخلافة ليست له أي شرعية إلهية و إنما هو، مثل سائر أنظمة الحكم، تتقرر شرعيته أو لا شرعيته على الأرض، أي بين البشر، مثلما تقررت في سقيفة بني ساعدة، و في استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب، و في حَصْرِ هذا الأخير أمر اختيار الخليفة في خمسة أشخاص، و في الحرب الأهلية التي قامت بسبب خلافة علي بن أبي طالب. فقد كان الناس في كل هذه المحطات دون أي موجه من السماء، بعد وفاة النبي و انقطاع الوحي، و كانوا يحتكمون (كما هو الشأن في السياسة دائماً!) إلى اعتبارات المصلحة و مقتضيات موازين القوة، و كان الجدال في أمر الخلافة بالرأي لا بالوحي و لا بالحديث النبوي.
يذكر الطبري في الجزء الثالث من "تاريخ الرسل و الملوك"، على لسان أنس بن مالك، ما يلي: "لما بويع أبو بكر في السقيفة؛ و كان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر؛ فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس؛ إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي؛ و ما وجدتها في كتاب الله؛ و لا كانت عهداً عَهِدَه إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم" (ص 210). و يقصد عمر بن الخطاب بهذا ما قاله في أمر الخلافة في سقيفة بني ساعدة و الذي كان مجرد رأيه الشخصي و ليس تنزيلا من عند الله و لا عهدا من الرسول.
هل يعقل أن يترك الله أمر دولة الخلافة، أي "دولة الإسلام" كما يزعم الإسلاميون، دون أن يخصها بما يلزمها من أحكام في القرآن بينما أنزل أحكاما في أمور أبسط بكثير من الدولة مثل النكاح و النميمة؟ و إذا كانت هذه الدولة، بالفعل، "دولة الإسلام" فإن تبليغ كل ما يتعلق بها سيكون و لا شك ضمن ما يلزم أن يبلغه النبي. فكيف لم يكن للنبي أي عهد في شأن الخلافة و لا في شأن "دولة الخلافة"، و مات تاركاً ذلك للرأي، أي للاجتهاد البشري؟
لا يمتلك الإسلام نظرية في الدولة، و لم يقدم نظرية في الدولة، لسبب بسيط هو أن الإسلام دين موجه إلى البشرية جمعاء. و أن تكون للإسلام دولة، معناه أن الدعوة إلى الدين ستتحول إلى دعوة لتوحيد العالم أجمع في نظام سياسي واحد طيلة العصور. و حَالََمَا تقوم هناك دولتان، تزعم كلٌّ منهما أنها "دولة الإسلام"، سنصبح أمام إِسْلاَمَيْن و سيصير الإسلام، لاحقاً، متعددا بتعدد دُوَله. و أول محاولة لإقامة "دولة الخلافة" على أساس كونها "دولة الإسلام" بدأها عمر بن الخطاب في سقيفة بني ساعدة ثم تراجع عنها في اليوم الموالي. فقد أورد الطبري في تاريخه أن الحباب بن المنذر، عندما قال لأبي بكر الصديق "منا أمير و منكم أمير"، أجابه عمر بن الخطاب: "هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! و الله لا ترضى العرب أن يُؤَمِّرُوكُم و نبيهم من غَيْرِكم؛ و لكن العرب لا تمتنع أن تُوَلِّي أمرَها من كانت النبوة فيهم و ولى أمرهم منهم؛ و لنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة و السلطان المبين؛ مَنْ ذا ينازعنا سلطان محمد و إمارَتَه، و نحن أولياؤه و عشيرته إلا مُدْلٍ بباطل، أو متجانفٌ لإثم، و متورط في هلكة" (ج 3 ـ ص 218). و هذا هو، بالضبط، ما تراجع عنه عمر بن الخطاب عندما قال في اليوم الموالي: " أيها الناس؛ إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي؛ و ما وجدتها في كتاب الله؛ و لا كانت عهداً عَهِدَه إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم" (ص 210). ف"سلطان محمد و إمارته"، و ربط الحكم بالنبوة، أو بعشيرة النبي أو قبيلته، لم تكن من كتاب الله و لا من عهد نبيه و إنما كانت من رأي عمر بن الخطاب. فكيف تتمسك الجماعات و الأحزاب الإسلامية بما تراجع عنه ثاني رئيس لدولة الخلافة، و تظل حتى الآن تعتبر أن تصورها لنظام الحكم هو "دولة الإسلام" التي أمر الله بها في القرآن و أقامها النبي؟
لا تستند الدعوة إلى إقامة "دولة الخلافة"، إذن، لا إلى القرآن و لا إلى عهد من النبي بشهادة عمر بن الخطاب. و بالتالي فليست هناك أي شرعية في الإسلام للعمل السياسي باسم إقامة "دولة الإسلام" أو "حكم الإسلام" أو "دولة الخلافة". فالجماعات و الأحزاب الإسلامية، بهذا المعنى، لا يمكن أن تستمد أي شرعية لمشروعها السياسي من الإسلام نفسه. و حتى الرأي الذي قدمه عمر بن الخطاب في سقيفة بني ساعدة، ثم تراجع عنه، لم يكن يصدر باسم "دولة الإسلام" ـ و لا باسم الإسلام ـ و إنما باسم قبيلة قريش. فوازع عمر بن الخطاب، في سقيفة بني ساعدة، لم يكن وازعا دينيا و إنما كان وازعا قبلياً، في مواجهة وازع قبلي آخر يمثله زعيم الخزرج، سعد بن عبادة. و الوازع الديني هو الذي جعله يتراجع عن قوله السابق حتى لا يختلط في أذهان الناس تصوره الشخصي للحكم مع الإسلام كدين، و يظن الناس أن ما قاله من كتاب الله أو من وصايا الرسول.
إن مقالة عمر بن الخطاب في سقيفة بني ساعدة هي التي جعلت بشير بن سعد يقول "ألا إن محمدا صلى الله عليه و سلم من قريش، و قومه أحق به و أولى" (المصدر السابق ـ ص 221)، ليحدث بذلك انشقاق في صفوف الأنصار، استغله عمر بن الخطاب ليفرض الأمر الواقع و يبايع أبا بكر الصديق هو وبشير بن سعد. و هذا معنى قول عمر بن الخطاب، الذي رأيناه سابقاً، بأن بيعة أبي بكر "كانت فلتة"، أي أنها من إنتاج الذكاء البشري و لا هي من كتاب الله و لا من عهد نبيه بشهادة عمر بن الخطاب أيضاً. و استنتاجاً، فمنظور عمر بن الخطاب للحكم، باعتباره حكم قريش، هو الذي أنتجته سقيفة بني ساعدة و هو الذي استمر في عهد الخلفاء الأربعة و ما بعدهم لقرون. لكن هذا الحكم ـ و إن مورس باسم الإسلام ـ قد انطلق باعتباره حكماً للعرب لا حكماً للمسلمين. و يكفي أن نلاحظ ما جاء في مقالة عمر بن الخطاب في سقيفة بني ساعدة: " و الله لا ترضى العرب أن يُؤَمِّرُوكُم و نبيهم من غَيْرِكم؛ و لكن العرب لا تمتنع أن تُوَلِّي أمرَها من كانت النبوة فيهم و ولى أمرهم منهم؛ و لنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة و السلطان المبين". فالحديث هنا عن حكم شبه جزيرة العرب، و عمر بن الخطاب لم يستعمل لفظ "المسلمين" أو "المؤمنين" أو "الذين آمنوا"، و إنما استعمل لفظ "العرب". فالإسلام رسالة دينية كونية يتساوى فيها كل الناس من حيث هم "من آدم و آدم من تراب" كما جاء في خطبة النبي بعد دخوله إلى مكة. أما تصور عمر بن الخطاب للحكم فلم يكن يهم إلا شبه جزيرة العرب التي كان ينبغي أن تسودها قريش حسب رأيه، من موقع كونها صاحبة الفضل و المأثرة بانتماء النبي إليها، بينما قال النبي نفسُه إن "كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعَى فهو تحت قدمي هاتين إلا سَدَانة البيت و سِقاية الحج"، و كان أول ما خاطب به قريشاً، أي قبيلته، أنه قال: " يا معشر قريش؛ إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، و تَعَظُّمَهَا بالآباء". أما رؤية عمر بن الخطاب فقد كان فيها بعض من النخوة و التعظم القَبَلي بالانتماء إلى قبيلة النبي التي تمتلك الأفضلية و هي الأحق بالحكم حسب رؤية عمر بن الخطاب. و ذلك بالفعل ما حصل، أي أن النظام الذي أنتجته سقيفة بني ساعدة، هو حكم قَبَلي لم يكن من كتاب الله و لا من سنة رسوله.
الدولة التي انطلقت إذن من سقيفة بني ساعدة، أي "دولة الخلافة"، كانت في الواقع دولة قريش بناءً على تصور سياسي بشري كان يرى أنها القبيلة الأحق بالحكم باعتبارها قبيلة النبي. و هي ليست، بأي شكل من الأشكال، "دولة الإسلام". و ذلك ما نقرؤه بوضوح في قول سعد بن عبادة عندما دُعِيَ إلى تقديم البيعة لأبي بكر: "أما و الله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، و أخضب سنان رمحي، و أضربكم بسيفي ما ملكته يدي، و أقاتلكم بأهل بيتي و من أطاعني من قومي؛ فلا أفعل، و أيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بَايَاعْتُكُم، حتى أُعْرَضَ على ربي، و أَعْلَمَ ما حسابي" (المصدر السابق ـ ص 222). فسعد بن عبادة لم يكن يجادل في أمر إلهي، و لا في شخص الخليفة بعينه، و إنما في حكم قريش الذي انبثق من سقيفة بني ساعدة. و لذلك قال "مَا بايعتُكم" قاصداً بذلك القبيلة لا الشخص.
دعوة الجماعات و الأحزاب الإسلامية إلى إقامة "الخلافة" هي إذن دعوة خاطئة من أساسها، إذ تعتقد هذه الجماعات أنها تدعو إلى إقامة "دولة الإسلام" ذات المصدر الإلهي، بينما هي تدعو إلى تصور بشري لم يأت به القرآن و لا السنة النبوية، أي إلى نظام وضعي. و هي أيضا دعوة خاطئة لأنها تعتقد أن "دولة الخلافة" تمثل نموذجاً للشورى الإسلامية، بينما هذه الدولة لم تمارس الشورى أبداً. و هي، أخيراً، دعوة خاطئة لأنها ترى أن هذا النظام هو الكفيل بتحقيق الاستقرار و الازدهار بينما هو لم يحقق، في تجربته التاريخية الوحيدة، حتى أمن رؤساء الدولة الذين مات ثلاثة منهم مغتالين دون أن يُعْرَفَ قَتَلَتُهُم حتى الآن، قبل أن ينهار هذا النظام تماما بعد أن أنتجت الصراعات داخل قريش، القبيلة الحاكمة، نظاماً ملكياً بداية من العهد الأموي.



#عبد_الرحيم_الوالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو بناء ثقافة تنويرية تشاركية
- رسالة مفتوحة من صحافي مغربي إلى السفير الأميركي بالرباط: رجا ...
- دفاعاً عن الإسلام و الحرية
- سيناريو اختطاف لم يتم
- نحن و إسرائيل: حرب دائمة؟
- جولة بوش في الشرق الأوسط و الخليج: مزيد من الأخطاء و الدماء
- أسئلة ما بعد 7 شتنبر بالمغرب: بؤس السياسة و سياسة البؤس
- نضال نعيسة: مشروعية السؤال و سؤال المشروعية
- هَل تُصلِحُ الأمم المتحدة ما أفسده جورج بوش؟
- تموز العراقي أمريكياً: قتلى أقل، نيرانٌ معاديةٌ أكثر!
- ما قبل جورج بوش و ما بعده: عالمٌ يوشك أن ينهار
- من الحزام الكبير إلى الأحزمة الناسفة
- انخراط شعبي تلقائي يفشل المخطط الإرهابي بالمغرب
- انتخابات 2007 أو معركة الأسلحة الصدئة: المغرب بين المراهنة ع ...
- أميركا والإسلام والعرب: من أجل العودة إلى الأصول
- تحسين صورة أميركا في العالم العربي: أسباب الفشل وفرص النجاح
- الحركة الأمازيغية بالمغرب: وليدة الديموقراطية أم بذرة الطائف ...
- التجربة -الليبرالية- بالمغرب: نحو مقاربة نقدية
- الإرهاب و الدواب
- تفجير الدار البيضاء الأخير: هل كان عملية عَرَضِيةً بالفعل؟


المزيد.....




- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد الرحيم الوالي - دولة الإسلام أم دولة بني ساعدة؟ (2)