أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله تركماني - المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (2)















المزيد.....


المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (2)


عبدالله تركماني

الحوار المتمدن-العدد: 2673 - 2009 / 6 / 10 - 10:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أصول التجزؤ العربي
إنّ الدارس للتاريخ العربي يلاحظ أنّ العالم العربي كان يسير نحو التفكك منذ القرن العاشر الميلادي تقريبا، حتى في ظل الإمبراطورية العثمانية، التي يمكن القول أنها لعبت دورا مزدوجا، موحِّدا ومجزِّئا في الوقت نفسه، حيث ضمت أراضي السلطنة سلطة سياسية واحدة، لكنها قامت على أساس نمط من الإقطاع، يدعم التجزئة والتفتيت. ولكن لا بد من القول إنّ التجزئة العربية قد اتخذت شكلا محددا في ظل السيطرة الاستعمارية.
لقد كانت التجزئة، قبل الاستعمار، تتصل بأسلوب إنتاج الاقتصاد الطبيعي أو شبه الطبيعي وعلاقات إنتاج بدائية. وأصبحت بعد الاستعمار ترتبط، بالدرجة الأولى وعلى نحو متزايد، بعلاقات عصر الإمبريالية - العلاقات الخارجية للدول العربية والعلاقات الداخلية التي أنشأتها الإمبريالية داخل كل قطر عربي - واتخذ البنيان الاقتصادي والاجتماعي السابق والمتحول مكانه في إطار هذه العلاقات.
كما أننا لاحظنا أنّ الفترة بين القرن العاشر والقرن الثامن عشر شهدت مرحلة انعدام المركز الذي يلقي بتأثيره على كل المناطق المحيطة، من خلال لعبه دورا حضاريا يساهم في التطور العالمي. ولا بد أن نلاحظ أنه كانت هناك حركتان متعاكستان: حركة انهيار العرب، وحركة تقدم أوروبا. أي حركة أفول الدور المركزي الذي لعبه العرب، وبداية الدور المركزي الأوروبي. في هاتين الحركتين المتعاكستين تحققت تجزئة العالم العربي، ووحدة الأمم الأوروبية.
أما في الطور الأخير من أزمة حركة التحرر الوطني العربية، خاصة منذ هزيمة يونيو/ حزيران 1967، فقد انتكست مسألة الوحدة العربية من مسألة الحفاظ على التجزئة القطرية إلى مرحلة اضطراب الوحدات القطرية نفسها. وينطوي مشهد التجزئة هذا على مجمل السلبيات التي واكبت حالة التجزئة واستمرار منطقها، خاصة زيادة الاختراق الخارجي للمنطقة العربية. كما ينطوي على بعض الإيجابيات: انتشار التعليم، وارتفاع مستوى المعيشة، والاتساع في قاعدة الموارد، وبعض صور المقاومة لتردي الأوضاع. وربما يكون من أخطر نتائج مشهد التجزئة تَحَلُّلُ الهوية العربية القومية عموما، وتَحَلُّلُ بعض الهويات الوطنية خصوصا.
لقد تكونت بنية العالم العربي المعاصر خلال ثلاث مراحل: المرحلة العثمانية، ومرحلة الاستعمار الغربي، ومرحلة العهد الاستقلالي. ولا نبالغ إذا قلنا أنّ الاستقلال الوطني في العديد من الأقطار العربية لم يكن، في حقيقته، أكثر من تسوية وسطية قبل فيها المستعمِر بمنح الأقطار العربية استقلالها السياسي، مقابل تنازلات القيادات الوطنية عن مطلبها في الوحدة مع أقطار أخرى. وإذا كانت تجربة سورية ولبنان، في مطلع الأربعينيات، هي التعبير الصريح عن هذه التسوية، حيث تنازل الوحدويون في البلدين عن الوحدة مقابل نيل البلدين استقلالهما، فإنّ تنازلات مماثلة - أقل صراحة - جرت في العديد من الأقطار العربية الأخرى.
ولا يستطيع أحد الادعاء أنّ التجزئة وحدودها المرسومة وفق مبدأ تقاسم النفوذ من جهة، وضمانات تعميق التجزئة بالنزاعات المحلية والداخلية القطرية ولجم إمكانات الوحدة والتقدم من جهة ثانية، وحدود المصالح الإمبريالية ومصالح الفئات المرتبطة بها عضويا من جهة ثالثة " لا يستطيع أحد أن يدّعي أنّ هذه التجزئة هي نتاج انفجار البنية المحلية أو تفككها الناجم عن تناقضاتها الداخلية فقط. إنها بالأحرى عملية تقسيم وتقاسم ارتكزت بالطبع على واقع التأخر التاريخي للشعب العربي ".
إذن من المؤكد أنّ التجزئة العربية هي نتاج فعل خارجي، يعبّر عن ويعكس الضرورة الخارجية، وما كان له أن يتحقق على هذا النحو لولا هشاشة وفوات البنية الداخلية، الناجمين عن الضرورة الداخلية، فالعامل الداخلي هو الحاسم في التقدم وفي التراجع على السواء.
ومما لاشكَّ فيه أنّ التاريخ العالمي المعاصر قد أخذ العرب موضوعا ومادة له، خاصة حين فرض الاحتلال الأجنبي تعمّق اندماج العالم العربي في النظام العالمي، اقتصاديا واستراتيجيا، لا بشروطه ولمصلحته، بل بشروط المحتلين ولمصالحهم. وقد تفاوتت تداعيات ذلك من قطر عربي إلى آخر، طبقا لعدة عوامل منها: طبيعة مرحلة التطور في كل قطر عربي عشية الاحتلال الأوروبي، وحسب الدولة الأوروبية التي قامت بالاختراق، وأولوية أهدافها من احتلال القطر المعني. ففي المشرق ووادي النيل والمغرب العربي " حيث كان هدف الاحتلال هو الحصول على المواد الخام الرخيصة، واحتكار الأسواق لبضائعها المصنعة، أدخلت القوى الأوروبية المحتلة الكثير من التغيّرات على نظام الإدارة الحكومية، والشؤون المالية، والضرائب، والنقل والمواصلات، وتطوير وسائل الري والزراعة الحديثة وتنظيم وتقنين الملكية الفردية. وقد أفادت هذه التطويرات فئات معينة من أهالي البلاد بالطبع. كما أنها تركت بنية أساسية لا بأس بها، بدأت بها معظم الأقطار العربية دولها الوطنية/القطرية بعد الاستقلال ".
وقد كان ثمن الجانب الإيجابي من هذه التغيّرات فادحا، حيث كانت معظم التطويرات انتقائية، مما يخدم المصالح المباشرة للمحتل الأوروبي. وإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك أقاليم جُزِّئتْ بشكل تعسفي صارخ. وكان إقليم المشرق العربي أكبر ضحية لهذا النوع من التشويه، فقد اصطُنعت فيه خمسة أقطار: العراق، وسورية، ولبنان، وفلسطين، والأردن.
لقد أدركت الدول الأوروبية الاستعمارية، منذ القرن التاسع عشر، أنّ الوحدة العربية عائق أساسي يضر بمصالحها التوسعية. ولذلك لجأت إلى أشكال متنوعة من المخططات المدروسة التي تقطع الطريق على هذه الوحدة، وتمهد للتدخل الأوروبي المباشر في شؤون هذه المنطقة، وأبرز تلك المخططات:
(1)- تشجيع التقاتل بين شعوب هذه المنطقة كما تجلى في حروب محمد علي والسلطنة العثمانية، والحرب العراقية - الإيرانية، والوصاية السورية على لبنان، والغزو العراقي للكويت وغيرها.
(2)- زرع كيان استيطاني صهيوني في فلسطين، يشكل قلعة متقدمة للقوى الإمبريالية، ويمنع – بالقوة - أي شكل من أشكال التوحيد العربي.
(3)- استخدام القوة المسلحة للسيطرة على الوطن العربي والتحكم بموارده الطبيعية كما تجلى في مختلف أشكال الحماية، والوصاية، والانتداب، وإقامة القواعد العسكرية على الأرض العربية.
وغني عن التوكيد أنّ المواد الخام المكتشفة، ولاسيما النفط ، شكلت حافزا هاما للإمبريالية كي تزيد من رقابتها على هذه المنطقة الاستراتيجية البالغة الأهمية من العالم. ويمكن تحديد عام 1840 كبداية لتبلور مشاريع التجزئة الاستعمارية في المشرق العربي، حين أسفر الصراع الفرنسي- البريطاني في المشرق العربي عن تقسيم جبل لبنان إلى قائم مقاميتين: مسيحية ودرزية. فقد بنى الفرنسيون مشروعهم الأساسي لتجزئة المشرق العربي انطلاقا من حمايتهم للأقليات المسيحية فيه، ولاسيما الكاثوليك والموارنة. في حين أنّ المشروع البريطاني بُني، في الجانب الأساسي منه، على دعم الحركة الصهيونية، وجمع شتات اليهود من العالم وإسكانهم في فلسطين بعد ترحيل سكانها العرب.
لقد شخّصت الدول الاستعمارية هذا الموضوع وبنت عليه سياساتها إزاء العالم العربــي " فبعد أن اتخذت الإجراءات العملية في اتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور وقامت الدولة الوطنية/القطرية واحتدم الصراع العربي- الصهيوني، أصبحت مهمة تكريس التجزئة موكلة إلى النخب الحاكمة بدلا من الدول الاستعمارية بصورة مباشرة. لذلك، نلاحظ أنّ الدول الاستعمارية انسحبت إلى الخلف واقتصر نشاطها على التوجيه غير المباشر والحماية للدولة القطرية بشتى الوسائل وبدرجات متفاوتة حسب مقتضى الحال. ويُلاحَظُ أنّ هذه الدول التزمت التقليل من الكلام والتصريحات المعادية للوحدة العربية، غير أنّ مراكز البحوث في الجامعات والمستشرقين استمروا بالنهج القديم نفسه في التنظير المبطن للتجزئة وتعميق الحس الانقسامي عند الأقليات الطائفية والعرقية بهدوء وليس بصيغة هجوم واسع النطاق ".
وهكذا نلاحظ أنّ التجزئة العربية كانت إطار مشروع السيطرة الاستعمارية على المنطقة العربية ونقطة تقاطع شروطه ونتائجه. وإذا كان العنصر الاقتصادي شكل العنصر المقرر لوجهة السيطرة الاستعمارية العامة على المنطقة العربية، فقد تمت عملية تسييجه بانتدابات استعمارية عدة، وحضور عسكري مباشر، وبسلسلة معاهدات واتفاقات عسكرية، لضمان السيطرة على مراكز الإنتاج وعمليات النقل والتصدير. كما أنّ الاستعمار كان يرى في المنطقة العربية منطقة تلعب دور الممر الضروري لعلاقات النهب الاقتصادي لموارد المستعمرات في قارتي آسيا وأفريقيا، لما تتمتع به من موقع استراتيجي هام بفضل مضائقها وممراتها البحرية.
ونضيف إلى ذلك أنّ حصار الاتحاد السوفياتي كان يشكل هما رئيسيا من هموم الاستراتيجية الاستعمارية، مما كان يرشح المنطقة العربية، في نظر الاستعمار، لدور متجدد لا يقل أهمية عن دورها التقليدي. إذ " أنّ تشابك الحلقات الجغرافية والسياسية للمدى العالمي للسيطرة الاستعمارية كان يجعل من سلامة أية حلقة مشروطة بسلامة الحلقات التي تحيط بها. لذا كان من الطبيعي أن ينظر الاستعمار إلى المنطقة العربية على أنها موقع استراتيجي حيوي تتبدى أهميته أيضا في كونه يشكل ظهر الاتحاد السوفياتي من وراء تركيا وإيران، ويشغل حيزا مهما من شواطئ البحر الأبيض المتوسط ".
إنّ اعتبار العامل الخارجي رئيسيا في التجزئة العربية لا ينفي الدور الحاسم للعامل الداخلي، خاصة دور سلطة الدولة الوطنية/القطرية. فما هي الأسس التي قامت عليها هذه الدولة ؟ وما هي سماتها ؟ وما هي أدوار القوى المكونة لها ؟
إنّ الدولة الوطنية/القطرية قامت على مجموعة أسس أهمها:
(1)- خريطة رسمتها القوى الإمبريالية، لا تستند إلى مقومات جغرافية طبيعية، خارج إطار التقسيم الإمبريالي. وقد رُسمت هذه الحدود لاعتبارات سياسية متعددة منها:
أ- ضمان الضعف العام.
ب- ضمان أدوار سياسية لطوائف أو جماعات إثنية، كما هي حال السودان والعراق ولبنان وسورية.
ج- ضمان توازن إقليمي محدد.
ولذلك، فإنّ لهذه الخريطة ضماناتها. فهي تملك قوة حماية من الخارج، لأنّ القوى الخارجية التي رسمتها لها مصلحة في بقائها. ثم أنّ لهذه الخريطة حمايتها الدولية عبر منظمة الأمم المتحدة، التي تنتمي إليها الدول الوطنية/القطرية، من بين دول العالم الأخرى.
(2)- سلطة سياسية، تحمي هذه الخريطة من القوى الخارجية المعادية، ومن القوى الداخلية الناقمة.
وهكذا، فإنّ ظهور الدول الوطنية/القطرية كان نتيجة لمساومة تاريخية بين دول التحالف المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، واقتسامها الجغرافي لممتلكات الإمبراطورية العثمانية في المشرق العرب. وضمن هذه الرؤية يمكن تتبع نشوء وتطور هذه الدول خلال مرحلتين رئيسيتين:
(أ)- المرحلة الكولونيالية، إذ كانت تعني الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية المباشرة، لكنّ التطورات الدولية، وبالأخص منها ظهور الاتحاد السوفياتي وإشعاع ثورة أكتوبر الاشتراكية، وبروز الأنموذج الأمريكي الذي لم يمتلك مستعمرات - في ذلك الوقت - وإشعاع مبادئ الرئيس ويلسون حول حق تقرير المصير، إضافة إلى تنامي فعالية الوعي الوطني، ساهمت جميعها في تسريع الانتقال من صيغة الانتداب إلى منح الاستقلال الوطني بتدرج. الأمر الذي أدى إلى نشوء شكل من أشكال الاستقلال الوطني، المرتبط بمعاهدات واتفاقيات ثنائية، ترتكز على المساواة الشكلية والشراكة الاسمية المتبادلة، ولكنه حمل مضامين إيجابية تمثلت في تبلور وتشكّل الهوية الوطنية/القطرية.
(ب)- مرحلة التحرر والسيادة الوطنية، حيث ساعدت التطورات الدولية اللاحقة، بعد الحرب العالمية الثانية وتصاعد حركات التحرر الوطني، على تعزيز مكانة السلطات الوطنية، واغتنائها بمحتوى جديد يمكن تلمسه من خلال مؤشرين: الاستقلالية – النسبية - في اتخاذ القرار السياسي، وزيادة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. وقد تعمقت هذه الاتجاهات بعد وصول قوى راديكالية إلى السلطة من خلال الانقلابات العسكرية، خاصة في الستينيات، حيث وقع انقلاب 8 فبراير/شباط 1963 في العراق، وانقلاب 8 مارس/آذار 1963 في سورية.
لقد دلت التجربة على أنّ عمليات تأميم المصانع وتحديد سقف الملكية الزراعية، وإن بدت تقدمية من الناحية التاريخية، حيث أوجدت شكلا من أشكال " رأسمالية الدولة الوطنية "، إلا أنها أدت إلى نتائج عكسية. فمن ناحية، عمقت التبعية الاقتصادية للاحتكارات الأجنبية. ومن ناحية ثانية، ساهمت في تشويه تطور مجتمعاتها حين جرى قطع هذا التطور الرأسمالي الجنيني في المراحل الأولى من نشوء الدولة الوطنية.
ومن ناحية ثالثة، فُرضت أنظمة حكم الحزب الواحد، وغُيّبت الديمقراطية عن الحياة السياسية، مما أضعف مبدأ السيادة الوطنية الفعلية.
لقد تضخمت الذات الوطنية/القطرية، من خلال: بناء دولة، بكل مظاهر الدولة، والتوسع في إنشاء الأجهزة السياسية والأمنية، والإغراق في المظاهر الاحتفالية، والتعبئة على أساس الولاء للأسرة الحاكمة والزعيم الملهم، والمبالغة في الحديث عن المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، والإسراف في تأكيد الدور الإقليمي والدولي.
أما القوى التي لعبت أدوارا في الدولة الوطنية/القطرية فهي عديدة، ولكنها متفاوتة التأثير ويمكن تصنيفها كما يلي:
(1)- العائلات الحاكمة، سواء كانت عائلات تقليدية، حكمت نتيجة توارث السلطة، أو عائلات حاكمة جديدة، جاءت نتيجة الانتخابات أو الانقلابات، فإنّ هذه العائلات لا تمسك بزمام السلطة فقط، بل بزمام الحياة الاقتصادية أيضا. وهي ذات مصلحة بالمحافظة على السلطة في القطر الذي تحكمه، لأنّ وجودها في السلطة مصدر قوتها وسلطتها.
(2)- البورجوازية – العقارية – التجارية - المالية، وهي خليط من أبناء وأحفاد العائلات الإقطاعية وكبار التجار والملاكين العقاريين في العهد العثماني، ومن العائلات العقارية - التجارية التي نمت وترعرعت في عهود الاستعمار الغربي، ومن البورجوازيين المتوسطين الذين أثْروا في عهود الاستقلال.
(3)- القوى الطائفية، وهي تضرب أسس الوحدة القومية العربية، لمصلحة حالة دون القومية، أي للمصلحة الوطنية/القطرية الضيقة.
(4)- الشرائح العليا من البورجوازية الصغيرة المستفيدة من العائلات الحاكمة والبورجوازية العقارية – التجارية - المالية، والتي تحتل مواقع مهمة في الدولة والجيش والشركات.
ومرة أخرى، نؤكد أنّ إشكالية التجزئة ليست ناتجة عن العامل الخارجي، الذي أوجدها ودعّمها وأمدّها بكل سبل القوة والاستمرار، فحسب. فهو لا يستطيع دعم وإدامة التجزئة حين لا توجد عوامل داخلية تسمح بذلك. إنّ العامل الخارجي يفعل فعله في ظروف مؤاتية، ولا يستطيع الفعل حينما تكون الظروف الواقعية منافية له، وقادرة على تجاوزه. وعليه، فإنّ تكريس حالة التجزئة العربية لم يكن بفعل خارق قام به الاستعمار، بل أساسا بفعل بنية داخلية مفككة، غير قادرة على التطور، وعاجزة عن إنجاز الاستقلال الحقيقي والوحدة القومية. فحين تتأسس القوى المعنية جديا بقضية الوحدة القومية، يكون من الممكن مواجهة التأثيرات الخارجية، ونسف أسس التجزئة.
ومع أنّ " الحرب الباردة " قد تميزت، في العالم العربي، باكتساح " المد القومي " للساحة العربية، المد الذي رفع شعار الوحدة العربية جنبا إلى جنب مع شعاري الاشتراكية وتحرير فلسطين، فإنّ انفصال الإيديولوجية عن السياسة ظل الظاهرة المميزة للوضع في العالم العربي. ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه شعار " الوحدة العربية " و " القومية العربية " على كل لسان، في أوساط الجماهير كما بين صفوف النخب وعلى لسان بعض الحكام، خاصة في سورية والعراق، كانت السياسة تتجه وجهة أخرى، وجهة بناء الدولة الوطنية/ القطرية.
إنّ انهيار السقف القومي لم يؤدِّ إلى " تبرير" الكيانات، كما تراءى للبعض، وإنما قاد، وهو يقود في كل لحظة، إلى تدمير الكيان نفسه لمصلحة كل ما هو محلي وخصوصي، من عناصر عرقية وطائفية ومذهبية وجهوية واجتماعية، وما تستتبع من تعارض ولا تجانس تصل، بفعل الانتشار السريع للخصوصيات الثقافية، إلى حد التناقض، كما في أكثر من حالة من حالات المجتمعات العربية المشرقية.
إنّ اعتبار التجزئة نقيضا للوحدة يؤدي إلى إفقار الوحدة، وإفراغها من كل محتوى أو مضمون. فمضامين الوحدة، أية وحدة على العموم، والوحدة القومية على الخصوص " تنبع من واقع التعدد والاختلاف والتناقض. فانقسام المجتمع إلى قبائل وعشائر وجماعات قومية وإثنية وثقافية ولغوية، وأديان ومذاهب ... وإلى طبقات وفئات اجتماعية وجماعات مصالح .. وقوى وتيارات واتجاهات، فضلا عن الفوارق الجغرافية، وعوامل التكون التاريخي .. واقعة تاريخية، وواقع راهن، والإشاحة عنه، جهله أو تجاهله، لا يغيّر في الحقيقة شيئا. وبالتالي، فإنّ تماسك المجتمع أو عدم تماسكه، قوته أو ضعفه، وحدته أو تجزؤه، تقدمه أو تأخره، إنما تتوقف على نوع العلاقات القائمة بين مختلف عناصر تكوينه ". وعملية التوحيد القومي هي تجاوز واقع التجزئة دون إلغاء التعدد والاختلاف، فهو مستحيل موضوعيا. إنها عملية توحيد المتعدد والمختلف والمتناقض والمتعارض. لذلك كانت العقلانية، والعلمانية، والديمقراطية، والحداثة، مضامين عملية التوحيد القومي.
وبناء على ذلك كله، يبدو أنّ المدخل الوطني/القطري أضحى حقيقة عربية، لم يعد من الجائز تغييبها أو إهمالها، لأنّ الدولة الوطنية/ القطرية أصبحت واقعا يفرض نفسه على المستويين القومي والدولي. وقد كان يجب إعطاءها حقها، والاعتراف بأنّ أية دعوة للوحدة العربية على حسابها أو من فوقها، هو عبارة عن قفز إلى المجهول، والدخول في حقل ألغام الصراع العربي - العربي.
مع العلم أنّ الأقطار العربية متباينة من حيث مكوناتها التاريخية، ومن حيث بنية المجتمع ومدى تلاحمه، ومن حيث عمق الحضور الإمبريالي، وبالتالي من حيث إمكانات التقدم، ومدى نضوج النزوع الوحدوي. فالعالم العربي فيه المتأخر جدا أو المتأخر والأقل تأخرا، إنه عالم مفوَّت، فيه الفقر الذي يقترب من التسول والغنى الفاحش الذي يؤدي إلى التخمة.
وإذا كانت السلطات الوطنية المهيمنة على الدول القطرية هي العائق الرئيسي أمام المشروع الوحدوي العربي، فإنّ الدول الوطنية/القطرية " هي الممر الإجباري والوحيد نحو الدولة القومية الأرقى، التي لن تقوم بضربة سحرية من طليعة قومية حالمة، أو بعمل جماهيري صاعق، بل هي بالأحرى عملية أو سيرورة تاريخية لها، ككل عملية تاريخية، مكونات تناقضية تصنع تاريخها الخاص، فكل مكسب تحرزه الجماهير الشعبية (مكاسب ديمقراطية أو اجتماعية) يقرّب الهدف الوحدوي من إمكانية التحقيق ". وقد نستطيع أن نعارض الدول الوطنية/القطرية الراهنة، أو نبدي شكوكنا في منشئها وآفاقها ووظائفها، ولكننا " لن نستطيع تجاهلها، أو القفز من فوقها، أو التقليل من أهمية وضرورة تبلورها كدول ديمقراطية حديثة، تشكل اللبنات الأساسية للبناء القومي، إذا أردنا أن نهجر الخطاب القومي الشعوري المتشنج، وأن لا نبرح أماكننا على أرضية السياسة والتاريخ ".
وثمة افتراض جدير بالدراسة والتحليل ينطلق من أنه كلما نضج النظام الوطني/القطري وحقق وظيفته التاريخية في التنمية القطرية الموصلة للنمو القومي، كلما " اقترب الموعد التاريخي للوحدة القومية وتم تجاوز المرحلة القطرية لذاتها ". ولعلها ليست مصادفة " أنّ الكيان القطري الأقدم والأنضج بين الكيانات القطرية العربية، وهو الكيان المصري، كان أسبق الكيانات لقيادة حركة الوحدة العربية في التاريخ المعاصر، وباتجاه أقدم كيانين في المشرق، وهما سورية في مشروع الجمهورية العربية المتحدة، والعراق مع سورية، في مشروع الوحدة الثلاثية ".
وليس من المبالغة القول أنّ التاريخ السياسي العربي منذ التجزؤ المبكّر لإمبراطورية الخلافة الإسلامية، ثم تأرجحه المستمر بين التشكل المتعاقب لوحداته الكبرى والصغرى دون ثبات " كان يشهد باستمرار عملية استئناف تشييد الدولة من الصفر "، حيث كانت الدولة في المنطقة العربية في تكوّن وانحلال دائمين .. إلى أن قامت الدولة الوطنية/القطرية في العصر الحديث، وثبتت بحدودها وإقليمها الجغرافي وقاعدتها السكانية ومؤسساتها المتنامية، مما يوفر التجارب والنماذج الأولى في التاريخ السياسي العربي لنواة الدولة بمعناها " العضوي " والمتكامل.
وهكذا، يبدو أنّ الدولة الوطنية/القطرية لم تمثل فقط إقامة السلطة السياسية، وإنما مثلت بالإضافة إلى ذلك - في أكثر الحالات - مشروعا عمليا توحيديا بين ولاياتها ومناطقها وأجزائها غير الملتحمة مجتمعيا وسياسيا ودولويا في السابق. ولذلك، فهي تبدو " نواة " وتأسيسا للدولة وللوحدة في وقت واحد، فلا وحدة دون مقوّمات دولة. وعلى هذا الأساس، فإنّ الخطأ الكبير لحزب البعث العربي الاشتراكي أنه لم يدرك هذه الحقيقة أولا، وأنه لم يدرك – ثانيا - أنّ الدولة الوطنية/القطرية في البلدان العربية (خاصة في سورية والعراق) لم تصل إلى مرحلة الدولة المكتملة التكوين والنضج والمؤسسات والتقاليد والنظم، بالرغم من قوة، بل وجبروت، جهازها السلطوي القمعي.





#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (1)
- أي لبنان بعد الانتخابات ؟
- اليمن ليس سعيداً
- جدل العلاقة بين التنمية والديمقراطية
- انتصار الأنموذج الديمقراطي الكويتي
- زمن حقيقة العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية
- العرب والحاجة إلى التنمية الشاملة
- الصحراء الغربية على طريق إجراءات الثقة
- إنجازات رجل مثابر
- الديمقراطية والمسألة الاجتماعية في سورية
- المجتمع المدني في العالم العربي - الواقع والمعوّقات والآفاق
- سؤال الهوية في دول الخليج العربي ؟
- معوّقات الحداثة في العالم العربي
- الإطار الاستراتيجي للعلاقات الأمريكية - الروسية
- مؤشرات الانتخابات البلدية في تركيا
- تساؤلات بشأن التحول الديمقراطي في العالم العربي ؟
- الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (6)
- الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (5)
- الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (4)
- الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (3)


المزيد.....




- جبريل في بلا قيود:الغرب تجاهل السودان بسبب تسيسه للوضع الإنس ...
- العلاقات بين إيران وإسرائيل: من -السر المعلن- في زمن الشاه إ ...
- إيرانيون يملأون شوارع طهران ويرددون -الموت لإسرائيل- بعد ساع ...
- شاهد: الإسرائيليون خائفون من نشوب حرب كبرى في المنطقة
- هل تلقيح السحب هو سبب فيضانات دبي؟ DW تتحقق
- الخارجية الروسية: انهيار الولايات المتحدة لم يعد أمرا مستحيل ...
- لأول مرة .. يريفان وباكو تتفقان على ترسيم الحدود في شمال شرق ...
- ستولتنبرغ: أوكرانيا تمتلك الحق بضرب أهداف خارج أراضيها
- فضائح متتالية في البرلمان البريطاني تهز ثقة الناخبين في المم ...
- قتيلان في اقتحام القوات الإسرائيلية مخيم نور شمس في طولكرم ش ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله تركماني - المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (2)