أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم كطافة - كرسافة















المزيد.....

كرسافة


كريم كطافة

الحوار المتمدن-العدد: 816 - 2004 / 4 / 26 - 09:36
المحور: الادب والفن
    


كرسافة هذه، قرية مجهولة تماماً. لا أعتقد أنها قد وجدت حتى على خارطة المدينة التي تتبعها.
قرية كغيرها من قرى سهل الموصل (الدشت)، لا يعرفها غير ساكنيها. تقع على مدخل أحد الشقوق الجبلية التي تحزز آخر سلسلة من جبال الأكراد الجنوبية. تبدو للناظر إليها من علوٍ كأنها صخور وأحجار قد لفضها الجبل، هكذا رفسها بقدمه العملاقة لتتناثر على حافته عشوائياً، تاركاً إياها تشكل مصيرها على شكل بيوت وزرائب، متراصة ومتباعدة في نظام هندسي لم يهتد إليه مهندس من قبل.
هذه القرية هي الآن في خبر كان وأخواتها السبعة. لأن بلدوزرات الحكومة وأصابع ديناميتها قد أتت عليها تماماً، كأنها أرادت مناكفة رفسة الجبل الأولى، لتعيدها إلى الأصل، صخوراً وأحجاراً مركونة على بعضها، أو مبعثرة هنا وهناك، سالبة منها نظامها الهندسي الفريد، ومعه حيوات ومصائر ساكنيها من الطائفة اليزيدية، أولئك الذين ولو بوجوههم ، أما إلى قرى شبيهة بقريتهم، إنما نجت من خطط الأنفال السابقة، ليشاركوا ساكنيها مصائرهم المتشابهة، أو إلى المدن والنواحي القريبة ليشكلوا مع غيرهم ذلك الوقود البشري لحروب الأنفال الجديدة.
القرية بحد ذاتها، إن كانت موجودة أو ممسوحة، كما قلت قبل قليل لا تعني شيئاً للآخرين، لكنها بالنسبة لي صارت إحدى المفردات التي دخلت حياتي، وتركتني مشدوهاً، مشتت الفكر، أقلب رؤاي وأحلامي ولا أفهم منها شيئاً.
كرسافة هذه كانت موضوع حلم دهمني في ظهيرة صيف. حلم لا يشبه أحلام الفلاسفة ومدنهم الفاضلة، بل هو اقرب إلى أحلام العجائز. مع ذلك أنا من حلمه وليست جدتي.
كنت مع مفرزتي، حين قرر مسئولها الاكتفاء بهذا القدر من المسير الجبلي المضني، والانكفاء إلى إحدى الاستراحات المعروفة لدينا. توزعنا على عادتنا إلى مجاميع تناثرت تحت أشجار الجوز الوارفة الظلال، من تحتنا ينساب جدول نمير بخرير مخدر، ومن حولنا بساتين فيها كل الفواكه التي تشتهيها النفس قبل المعدة. كنت أقطف الخوخة الريانة التي اشتهتها عيناي، أنزل إلى الجدول النمير أغسلها في ماءه البارد، اتأملها أولاً مقلباً خدودها الملونة، أرى من تحت غشاءها الشفاف إلى تلك الخطوط الدقيقة التي غبشتها برودة الماء، ثم أكلها على مهل، على مهل، كأني أُريد بهذا التروي أن أُبعد عني تهمة الالتهام.. هكذا كنا يا أصدقائي؛ نأكل الخوخ والرمان والعنب والتين والتفاح، ولا نلتهم شيئاً. نتكاسل في استراحتنا هنا وهناك، طلباً لاسترخاء الأطراف والأعصاب، حتى تتشابك علينا خيوط النعاس الرقيقة الناعمة، يختار الواحد منا ظلاً كثيفاً، بساطه أوراق الجوز، وغطاءه السماء المتسربة من خلال أغصان شجرة الجوز المهيبة. ليصل إلى إغفاءته، قيلولته الصيفية.
طرحني النعاس برفق كما طرح غيري. وفي عالم النعاس وما تبعه، وجدت نفسي نازلاً من الجبل الصخري إلى (كرسافة) إياها، مع أثنين من رفاق مفرزتي، أحدهم كان (روبرت) والآخر (أبو نصير). كان الوقت غروباً ملأ الدنيا احمراراً وهدوءاً، مؤذناً بموعد هجوع الكائنات في هذه البقعة الجرداء. كان الغروب كأنه مبالغاً في غروبه.. في حمرته الصفراء، وهو ينازع الليل، الذي يزحف ببطء مثل غول مخيف يبتلع في جوفه كل ما يصادفه من موجودات الكون، غول أمسك بتلابيب الكون حتى أتى عليه. في هذه اللحظات.. لحظات دخولنا جوف الليل العملاق ، كنا في داخل (كرسافة). خرج علينا ذلك الصوت الصارخ المستغيث كأنه خارجاً من جوف الليل لا من البيوت.. صوت يصرخ بندائه الوحيد ليل...ليل.. ليل.. يصطدم الصوت في صخور الجبال، ويعود مستجيراً.. ليل.. ليل.. ليل.. ثم ينتشر في المدى المفتوح، حتى يختفي في تلافيف ذلك المدى.. خرجت الكائنات من جحورها، وخرجنا معها، وهناك في الظلام لم ألحق تمييز الوجوه الخارجة من الغرف والبيوت والمتجهة إلى عمق الظلام، غير تلك الحركات التي تؤديها أجساد الخارجين والتي توحي برقص غريب ملتاع.. ركضت وصاحبيَّ، تهنا بين الجموع الراكضة الراقصة، كنا ندور في الفضاء الأسود، ندور حول أنفسنا. حتى لمحت جمعاً كأنه الجمع المختار من هذه الكائنات، جمع من وجوه ليست غريبة، إنها وجوه مضيفينا في هذه القرية. كان الجمع يدور بذات الرقص حول نقطة لم أستطع تمييز ما أنتظم حولها، غير تلك الصحون الفضية الصقيلة تلمع في سواد الليل، تاركة الفراغات فيما بينها أشبه بزخرفة سوداء لخلايا نحل. كانت في تلك الصحون مأكولات غريبة هي الأخرى، لا أعرفها، وصوت يستحثني لأمد يدي كغيري من المتجمعين حول هذه الزخرفة الليلية. وكان الصوت صوت (روبرت)، وحين سألته مستغرباً: "هل أكلت أنت منها أيضاً؟ " أجابني مبتسماً ابتسامته المعروفة لي، التي لا تنتمي للضحك ولا للعبوس، لا للوم ولا للمسامحة، لا للود ولا للسخرية، هي ابتسامة تخرج من نقطة ما من كل هذه المسميات:" أكلت يا صديقي، جربتها، كل أنت وجربها أيضاً ستجدها لذيذة." لم أمد يدي، لكني كنت أداور في رأسي ما قاله (روبرت)، وكأنه قال ما لا أستسيغه. النداء من حولي مازال يستجير، يستغيث ليل.. ليل.. ليل.. في تلك اللحظات، لا أدري كيف داخلني ذلك اليقين الجاهز، أني الآن في الجنة.. هذه هي الجنة، وهؤلاء اليزيديون هم الوحيدون دون سائر الكائنات من أصحاب الأديان الذين دخلوا الجنة أخيراً، وجدتني أصرخ وأنادي وأدور معهم، إنما بنداء غير نداءهم ليل.. ليل.. ليل.. بل: الجنة.. الجنة.. الجنة..
وبين اليقظة والغفلة انعقدت خيوط الأسئلة على ذاكرتي، التي أخذت تفقد تفاصيل الحلم، مثل خيوط تنزلق من بين أصابعي، لم تبق لي غير هذه المشاهد الباهتة التي ذكرتها يغلفها سؤال حائر: كيف وجدنا أنفسنا صاحبيَّ المسيحيين، وأنا المسلم في جنة اليزيديين، لماذا أكلوا هم ولم أكل أنا؟ وبعد حوالي أسبوعين من ذلك الحلم الرؤيا ، نط أمامي سؤال آخر، سؤال جائر في قسوته.. هل كان لكل ذلك علاقة باستشهادهما معاً؛ (روبرت) و(أبو نصير)، في عملية اصطدام مع مفارز الاستخبارات في عمق الدشت، ومن ثم سحبهما مع الجرحى، ودفنهما في مقبرة كرسافة..؟ أسئلة.. أسئلة.. أسئلة
اكتوبر/ 1988

هوامش:
أبو نصير: هو الشهيد هرمز اسطيفان، كان آمراً للسرية الرابعة التابعة للفوج الأول. آثوري من مواليد إحدى قرى دشت الموصل. عائلته المؤلفة من زوجته وأبنه نصير ذو العشرة سنوات عند استشهاده، وأبنه الصغير الذي كان وليداً حينها، ظلت في كنف الحزب في مقر مراني، لحين عمليات الأنفال الأخيرة، التي اضطرتها مع عشرات من عوائل الرفاق والشهداء، لتسليم أنفسهم إلى الجيش. ومنذ ذلك الحين إلى الآن لا أحد يعرف عنهم شيئاً. مصيرها هو مصير مئات الألوف من المفقودين العراقيين.
روبرت: هو الشهيد خليل اوراها، كلداني من مواليد بغداد. عند استشهاده كان في العشرينات من عمره. قبل دفنه في مقبرة القرية تم حصر مقتنياته الشخصية، وكان من ضمنها دفتر مفكرة صغير، خط فيه أشياءه الخاصة. من جملة ما كان قد خطه عبارة صغيرة زرعت الدهشة والذهول فينا جميعاً. العبارة تقول: أنا لا أتألم لأني سأستشهد يوما ما، لكني أتألم فقط لأني سأؤلم من يحبني. لا أدري إن كانت من بنات أفكاره، وهواجسه، أو هو قد وجدها في مكان ما ونسخها.. في كل الأحوال كانت تلك العبارة تعكس روبرت قبل استشهاده.



#كريم_كطافة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صلح الحديبية الثاني..!!
- تغيير اسم حزب البعث
- فقهاء الأجراس
- توريات عراقية في زمن الاحتلال
- لكم أن تكذبوا أمريكا الدهر كله.. إنما صدقوها هذه المرة!!
- قصة طف معلن
- لماذا لا يكون لنا طريق ثالث..!!؟
- ماذا تعرفون عن العلمانية لتطردوها..!؟
- أيها الإسلاميون من كل الأطياف.. رفقاً بدينكم!!
- هل يتحول مرقد الإمام علي (ع) إلى لجنة اولمبية جديدة!!!!
- ألفت انتباه السادة المشاهدين..إلى حلقة الاتجاه المعاكس القاد ...
- من أجل أن لا يضحك علينا الفرنسيون..
- انتخابات.. نعم.. لكن ليس بأي ثمن وبأي شكل
- خواء المستنقع
- ماذا نريد..؟


المزيد.....




- الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب
- الفيلم الفلسطيني -الحياة حلوة- في مهرجان -هوت دوكس 31- بكندا ...
- البيت الأبيض يدين -بشدة- حكم إعدام مغني الراب الإيراني توماج ...
- شاهد.. فلسطين تهزم الرواية الإسرائيلية في الجامعات الأميركية ...
- -الكتب في حياتي-.. سيرة ذاتية لرجل الكتب كولن ويلسون
- عرض فيلم -السرب- بعد سنوات من التأجيل
- السجن 20 عاما لنجم عالمي استغل الأطفال في مواد إباحية (فيديو ...
- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...
- الامتحانات في هذا الموعد جهز نفسك.. مواعيد امتحانات نهاية ال ...
- -زرقاء اليمامة-... تحفة أوبرالية سعودية تنير سماء الفن العرب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم كطافة - كرسافة