أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - مفيد عزيز البلداوي وقصيدة الحلزون















المزيد.....


مفيد عزيز البلداوي وقصيدة الحلزون


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2654 - 2009 / 5 / 22 - 07:43
المحور: الادب والفن
    



ديناميكية الحركة الداخلية
في قصيدة مفيد عزيز البلداوي
لا تخفي قصيدة البلداوي انتماءها الحميم إلى تراث القصيدة العربية بشقيها الكلاسيكي والمعاصر، ولكنه لا يتخذها هيكلاً مقدساً جامدا، وانماً يضفي عليها من روحه وفكره وبصماته الخاصة ما يميزها عن النسيج العام والمتداول. تلك السمات هي خلاصة التفاعل والتلاقح بين الموهبة والابداع من جانب والدراسة والتأمل من جانب آخر. وينعكس ذلك في أن نصوصه، رغم الانسيابية والتدفق التلقائي الذي يرافقها، تبقى نتاجاً واعياً ومثقفاً نجيّة عن الانفعال والعاطفية التي تشلّ سيطرة الشاعر على سيرورة الابداع.

البنية الخارجية
ثلاثة ركائز أساسية تقوم عليها قصيدة الشاعر مفيد عزيز البلداوي: طواعية التفعيلة/ شعرنة الملفوظ السائد/ مماحكة الواقع اليومي . معالجة هذه الخصائص الفنية تتوفر على قدر عالٍ – غير متناهٍ- من طاقة ومرونة داخلية تتيح للشاعر حرية حركة غير محدودة ضمن جغرافيا القصيدة أولا،ً وانعكاس الآثار النفسية والثقافية لتجربة المنفى الغنية وغير المحدودة، ثانياً، مما يجنب القصيدة الوقوع أسيرة نمطية من أي نوع. ان خصوصية الظروف والأحداث التي تصدت طلوع هذا الجيل منحته طاقة غير محدودة على مستوى الكم والنوع للتجديد والتجريب واجتياز المصاعب والمعوقات المحبطة التي وضعتها الانهيارات الشمولية في طريق حياته. ضمن هذه الخطوط العامة تتوالد وتتكشف تجربة البلداوي الشعرية عن مميزاتها الخاصة وحيويتها الداخلية المتجددة.

سمات داخلية
على صعيد آخر يستوقف قارئ نصوص البلداوي قدرتها الديناميكية على ديمومة التفاعل مع الواقع اليومي وبمستويات وأساليب واتجاهات متباينة تمنح النص حيوية دائمة وتجدداً متواصلاً. ويمكن ترجمة هذه الدالة على مستويين:
1- عمق الصلة بالمكان وأثره في خلق النص ووسمه بملامحه.
2- صلة النص بالعوامل النفسية والشعورية للذات الملهمة وبما يقربه (النصّ) من شواطئ السيرة. بيد ان عمق الموضوعية والتوازن النفسي داخل النص لا يسمح للذاتية أو السيروية أن تطفو على السطح وانما تبقى في الاعماق الشفيفة مثل أسماك ملونة لا تخفى عن الناظر.

ان الترابط العميق بين دالتي المكان والذات، تتيح تنسيق نصوص الشاعر وترتيبها ضمن تسلسل مكاني متدرج يؤرخ لحركة الشاعر المستمرة داخل خريطة الادريسي من آسيا إلى أفريقيا إلى أوربا، من جهة وداخل القارة الالمانية من الشرق إلى الغرب من جهة أخرى. هذه الحركة المستمرة في المكان انعكست داخل النص عبر التفاعل النفسي/ المنظومة الشعورية للذات القلقة مع المكان الجديد. في الحقيقة، ليس المكان هو الذي يستبعث النصّ، وانما غمرة المشاعر النفسية التي تضطرب وتتشظى باتجاهات متفاوتة في اصطراعها مع عوامل المكان الجديد والمتغير باستمرار. هذا يجعل قصيدة الشاعر أو قاموسه الشعري محتقناً طافحاً بالألم والمرارة والرفض/ الاحتجاج اليائس، الذي يبيح لها الدخول إلى نفس القارئ وذاكرته واستفزاز عواطفه بلا وعي منه. هذه السعادة التي يحسّ القارئ ازاء تفاعله مع النص، تفاعل النص معه، ثمنها مبلغ كبير من شقاء الذات الشاعرة ونزيف المعاناة المتصل. هذا الشقاء والألم ازداد بشكل ملحوظ في العامين الأخيرين [انتقاله إلى الجزء الغربي من ألمانيا]، التي أنتجت جملة من روائع قصائده، منها قصيدة - وظائف- التي توقف لديها الدكتور أسامة العقيلي في دراسة تحليلية قيمة. في نفس الوقت شهدت هذه المدة تراجعاً كمياً في نشرياته. تخللتها قصائد (مقارنة) طافحة بالألم والاحتجاج الداخلي العميق. ضمن هذه المؤشرات يمكن تقسيم مراحل نمو تجربة البلداوي الشعرية:
1- المرحلة العراقية. مرحلة ما قبل النشر. ولا يعرف عنها شيء، رغم إفادة الشاعر بوجود قصائد غير قليلة من تلك المرحلة لديه.
2- المرحلة الليبية. وهي المرحلة التي بدأ النشر في أواخرها، العام الأخير تحديداً قبل انتقاله إلى ألمانيا. تمثل الغربة والحنين الهاجس العام لشعر المرحلة ومن أبرز نماذجها قصيدة (غريب على الأبيض المتوسط) التي يحاكي عنوانها قصيدة السياب المعروفة – غريب على الخليج- ، و(دراسات في الحزن المقارن) يعقد فيها مقارنة طبقية وسياسية بين نيويورك وبغداد.
3- المرحلة الألمانية الأولى، الممثلة بإقامته الأولية قرابة العامين في الجزء الشرقي القريب من الحدود النمساوية. ومن نماذج هذه المرحلة قصيدة نوستالجية عن نهر صغير في المدينة يذكره بدجلة ، وقصيدة (ماجينه) التي تؤرخ لحصوله على الاقامة وتتضمن صور مقارنة ومشاعر متضاربة بين طقس الطفولة الرمضانية حيث يدور الأطفال على البيوت في ليالي الصيف [يهل السطوح.. تنطونه لو انروح] وبين تطواف العراقيين على البلدان ومراكز الهجرة واللجوء ومعاناة الاجراءات البيرقراطية ونتيجتها غير المضمونة بين [العيديّة] أو [أهل السطوح تشبو علينه الماي] كناية عن الطرد والرفض.
4- المرحلة الألمانية الثانية والممثلة بانتقاله إلى الجانب الغربي بالقرب من شتوتغارت وعمله في شركة لاطارات حديد العجلات الي وصف ارهاصاتها في قصيدة (وظائف). وهي المرحلة المستمرة والمفتوحة لحين استقرار الظروف المادية والنفسية للشاعر، وعندها تتجلى سمات مرحلة ذات خصائص نفسية وملامح مكانية مميزة في حينها.

اللغة الشعرية في قصيدة البلداوي
تحتفظ قصيدة البلداوي بقدر عالٍ من الموازنة بين الشكل والمضمون، فلا يتقدم أحدهما على حساب الآخر. وينقسم الشكل إلى المعالجة الفنية للنص، وتقنيات اللغة. ومع نمو حركة الشكل وتغيره المستمر تبعاً للنص، يمكن الوقوف على ملامح مشتركة للتقنية اللغوية التي يعمل عليها الشاعر. من الظواهر اللغوية المتعارفة تطعيم النص بمفردات تكسر حدة المألوف أو رتابة الجملة العربية، وهي متنوعة ومتجددة حسب المكان والبيئة الثقافية، فتارة يلجأ إلى الاستعارة من القاموس الشعبي العراقي أو العربي، مثل: أسحلُ [من السحل = السحب/ الجرّ]، قواويد و صوابين [صيغ تكسير من ( قواد وصابون) من الاستخدام الدارج]، وتارة يستعير مفردة ألمانية لزيادة حيوية الجملة وتقريب الصورة من القارئ، مثل: [هيد أوند شولدرز] = للرأس والكتفين وهو( نوع شائع من الشمامبو) من قصيدة (حلزون)، أو كلمة: شايسه (scheiße) الألمانية الشائعة بمعنى [خراء] في قصيدة (وظائف)، وتارة أخرى يميل إلى التغريب في اللغة عبر إخضاع مفردات جامدة أو ممنوعة من الصرف لقواعد تصريف الفعل العربي في أزمنته المختلفة وكما يرد في نص (حلزون) مثل: أتجغرفُ [ من جغرافيا]، أتضرس [من تضاريس] ، مطريّون = صيغة جمع من (مطريّ) وهو استخدام توليدي غير معروف بإضافة ياء النسبة إلى مفردة (مطر) لتوليد صيغة [إسم الفاعل]. وأحيانا تنمو المفردة إلى عبارة أو صيغة تعبير تتكون من عدة كلمة، أو أستعارة كاملة أو مختزلة من نص ديني أو شعري [التناص].

صيغة التراتب والتكرار
وبالعودة إلى نص (وظائف) نجده يقوم على مقاطع متدرجة تفرز نفسها من خلال اللغة، جملة الايقاع المدورة في الحديث مع المكان الأول (الماضي/ الوطن)، وجملة النثر في المفاطع الخاصة بالحديث عن المكان (البديل/ المنفى) في مصنع العجلات، وبشكل تراتبي متسلسل. غير بعيد من هذه التقنية تأتي قصيدة (حلزون)، عبر استهلال (توطئة) يتضمن رباعية شعرية موزونة مقفاة أرادها أن تكون على غرار نظام (الأبوذية) في الشعر الشعبي العراقي.
رأى فيما يرى النائم
سريراً فوقه نائم
وفي الأحلام يحلم أنه نائم
فكم يحتاج من يقظة؟!!..
فتكررت مفردة النائم ثلاث مرات، والشائع في الأبوذية أن تكرار المفردة في أواخر الأسطر الثلاثة يفيد معاني مختلفة [الجناس]، تختتم بـ(القفلة) في السطر الرابع التي تكون مختلفة الوقع (حرف الروي) ومتصلة بقفلات المقاطع الأخرى. وهذا يحيل إلى مقدرته الأدبية في الشعر الشعبي ، وله نصوص ومساهمات شعرية مهمة في هذا المجال. يعرف التمازج أو المزاوجة بين النص الشعري الفصيح والشعبي بـ(الملمّع) لدى المعنيين، وهو معروف لدى الشعراء الشعبيين ، قبل أن تطرق قصيدة الشعر الحر (الحديث) هذا الباب وتعمد للافادة من فنون الأدب الشعبي وتقنياته اللغوية والفنية في النص الفصيح. وكانت بدايات هذه التجربة مع جيل الستينات، أمثال شفيق الكمالي الذي عرف بمحاكاة/ ترجمة بعض نماذج الشعر البدوي (الرباعيات) للعربية الفصحى مع المحافظة على الاطار والمعنى، وتجارب سعدي يوسف في هذا المجال. ومن الأجيال اللاحقة، للشاعر كريم الأسدي مساهمات جميلة وجادة على صعيد الأبوذية والدارمي (بالعربية الفصيحة) مع التزام تام بقواعد الموسيقى والعروض. بينما حاول شعراء آخرون مزاوجة الفصيح والشعبي في سياق النص الشعري دون تمييز أو فواصل مثل سعد جاسم في قصيدة (الحداد لا يليق بكريم جثير) وصاحب هذه السطور في قصيدة (المنفى العراقي). لكن الشاعر مفيد عزيز البلداوي تجاوز صيغة الأبوذية المجردة إلى - نمط- الأغنية العراقية الشائع بالابتداء ببيت (أبوذية) يليه الدخول في الأغنية قصيدة كانت أو (بستات). التوطئة (الأبوذية) تخدم كذلك لعبة الغش والمراوغة على صعيد الاطار [القناع]، مدعومة باستخدام (خطاب الغائب)، لتصوير حالة نفسية لا شعورية يكون العقل الباطن هو المتحدث في القصيدة، إذا يحلم النائم أنه نائم، نوم داخل نوم. يصنف علماء النفس النوم إلى أربعة مستويات متدرجة. يحصل الحلم في المرتبة الثالثة منها. لكن الشاعر أسقط مرتبة واكتفى باثنتين. وجاءت عبارة [فكم يحتاج من يقظة؟!!..] مع علامة استفهام وعلامتي تعجب للتعبير عن ضراوة الحالة النفسية للشخص. ثم انسابت القصيدة بصيغة المتكلم، وكأننا أمام [نص داخل نص] أو [قصيدة داخل قصيدة]، ثمة قوس كبير يتضمن قوساً أصغر. وبذلك يبرر النص أو يبيح لنفسه اقتراف التماسات فوق بنفسجية دون الوقوع تحت طائلة الرؤية المباشرة.
لقد استخدم الشاعر خاصة التكرار داخل المقطع لتوليد جوّ نفسي معين والايحاء بوجود ظاهرة - تدوير- شعري لتجميع انتباه القارئ في بؤرة/ فكرة محددة تتمثل هنا بالنوم / الحلم. فتكررت كلمة نائم ثلاث مرات. وتكررت كلمة الحلم [الأحلام - يحلم] مرتين، وكذلك [رأى - يرى] وهو تكرار متقارب في نفس السطر والجملة. تكرر حرف الجر (في) الدالّ على التوغل مرتين [فيما – في الأحلام]، وتكررت (هاء) الغياب (عن الحاضر/ الوعي) مرتين [فوقه - أنه]. وجاءت قفلة المقطع استنكارية متهكمة [كم يحتاج من.. ] بينما تتعدد دلالات القفلة عند القراءة بين [يقظ (ه)- يقضّ (ه)]. وبالتالي يلتبس المعنى أو تتوتر العبارة جراء العوامل / الاحلام التي تقضّ مضجع (ه) وتتسبب في تدمير أو تشويه علاقته بالمكان/ الحالة الراهنة. وتظهر علاقة التقابل بين [نائم - يقظة] من جهة وعلاقة التوازي والتبادل بين [يقظة - يقض]، إضافة إلى تراتبية المقاطع على التوالي أو التبادل.

في التنغيم الصوتي [Phonix]
وإذا اعتمدنا أن الأبوذية لا تقرأ [قراءة] وانما تغنى [غناء]، أي تدخل الموسيقى في النص أو تتضخم وتتقدم على المفردة لدى السامع، يمكن معها إعادة كتابة المقطع حسب الطريقة الدارجة في تقديم هذا النوع من الشعر/ الغناء باختزال أو فصل الكلمة الأخيرة لتوزيع الحوار بين الشاعر والمتلقي أو تمييز الصوتين..
رأى فيما يرى...... | نائم
سريراً فوقه...... | نائم
وفي الأحلام يحلم أنه.. | نائم
فكم يحتاج من | يق(ظ)ة
ي ق (ظ).....ه!
لأن معرفة تقنية الأبوذية سوف يغني عن لازمة التكرار اللفظي ويستبدلها بتكرار (نفسي) داخل المتلقي مما يعمق جوّ القصيدة ويزيد تلاحم الشاعر والجمهور. وإذا كان تكرار مفردة (نائم) ينقسم بين صوتين نبريين [نون، ميم] الصادرين من بداية الفم: أحدهما من أول اللسان والآخر من التصاق الشفتين، ليمتزجا عند الترديد أو يذوبا في الأثير مع بعضهما [نمنمننمنمنممممم]، التي تنتهي إلى رنين الصمت/ النوم. فأن حركات داخلية بينية تتخلل موسيقى الاستهلال، تتوزع إلى حركتين رئيستين: موسيقى الراء في السطرين الأول والثاني، وموسيقى الحاء في السطرين الثالث والرابع. يصدر الراء من بداية الفم بالتقاء مقدمة اللسان مع سقف الفم ويتخذ لدى الاستمرار هيئة ذبذبة [رررر] في حالة أقرب للهذيان، وقراءة البيت بحسب ذلك..
[رررررآ (فيما ي) ررررررر] [نم]
[ (س) رررررر(ي) رررررررر (فوقه)] [نم]
حيث تتعرض الأحرف الداخلية (الخاملة) إلى [خبن] أو تتخف أو تهمس أو تهجس فلا تكاد تسمع إزاء قوة النبر والايقاع [نم (دُم)]، بينما يقع السطران التاليان (الجملة الموسيقية) تحت هيمنة صوت حرف (حاء) الصادر من أعماق الحنجرة وهو الآخر حرف متكرر ثلاث مرات فتكون القراءة..
[ (وفِلأ) حححححححح (لَمي) ححححححح (لم انه)] [نم]
[(فكمي) ححححححححح (تج من)] [(يقض/ه)]
ليس الحاء صوتاً نبرياً لذلك يأتي أكثر هدوء واتصالاً [حححح] – هواء يندفع للخارج (زفير) وعودة للسكون والنوم- من الضربات الايقاعية لحرف الراء المتفاعلة مع ضربات الميم في دائرة موسيقية صوتية. فتكون بداية المقطع قوية على درجة الجواب [High Ton] بينما تنخفض نهاية الاستهلال تدريجياً مع الحاء المتكررة (مرتين) في السطر ما قبل الأخير إلى (مرة واحدة) في السطر الأخير المنتهي بقلة المقطع [بدون (دُم)] وهو ما يدعى بطبقة القرار [Low Ton]، مقدمة للتحول إلى لغة الحديث العادي والهادئ المنسجمة مع أجواء مفردة [أسبت/ سبات] التي تتكرر ثلاث مرات متقاربة قبل أن تنمو لغة القصيدة من جديد وينمو التفاعل الدرامي النفسي مع الأجواء الجديدة.
هذا التدرج أو التحول التدريجي من لغة الايقاع والتفعيلة إلى مقاربات النثر اليومي تزداد وضوحاً في نصوصه الأخيرة. وهو ما يدعم ظاهرة حيوية النص وصيرورته المستمرة رافضة التقوقع والتكرار في نمطية يابسة. فمع التزام الشاعر بركائز فكرية وفنية في قصيدته إلا أن تعامله وتوظيفاته لتلك العوامل تتمتع بحرية غير مقننة.

الحركة الداخلية في قصيدة (حلزون)..
يتكون النص من توطئة (رباعية) وأربعة مقاطع.. المقطعان الأول والثالث يمثلان خطاب الداخل (أنا) والمقطعان الثاني والرابع خطاب الخارج (هم). المقطع الأول يتناول صورة ذاتية [نفسية داخلية] تعكس تفاعلات واضطرابات جوانيات اللاوعي، والمقطع الثالث يتناول انعكاس الحاجات الداخلية النفسية والشعورية نحو الخارج في صيغ تصورات ذهنية. تنتهي المقاطع جميعاً نهايات صادمة عنيفة تعبيراً عن غضب محتدم ورغبة عارمة في التمرد على [الآخر] ضمن معادلة [الذات - العالم] غير المتوازنة وغير المتعادلة. فالمقطع الأول الذي يتمحور حول احتراقات الذات ينتهي باحتجاج نفسي [ أترك الله خلفي/ عالماً خالياً من الله]، والمقطع الثالث المتمحور حول تصورات وانتظارات من الخارج ينتهي باحباط وخيبة [ فأجأتني السنة الجديدة برأسها الأقرع]. وهنا تظهر الاستعارة الحضارية من البيئة الجديدة في ربط الأمنيات والأحلام بجعبة السنة الجديدة وطقوس احتفالات رأس السنة ودلالة شخصية بابا نوئيل [Weihnachtsman] وكيسه المحمل بالهدايا والتلبيات، فابتدأ المقطعان الثالث والرابع بعبارة (رأس السنة) كناية عن الوعود والانتظارات ووضع نهاية للحزن والألم والحرمان، ولكن الاحباط كان حليف الشاعر الذي لم يطرق بابا نوئيل بابه في ليلة رأس السنة ولم يتسلل لغرفة نومه ويضع صندوق الهدية قرب الوسادة. ربما جاء البابا نوئيل ورأى سحنة الشاعر السمراء أو لم يجد في منزله أضوية شجرة الميلاد دالة الاحتفال والتفاؤل فذهب للمنزل المجاور. وبدلاً من طاقية بابا نوئيل الحمراء ولحيته البيضاء الطويلة وجد (رأس أقرع)، والقرع في التعبير العراقي الشعبي دالة الخيبة والاحباط والنحس. وهنا تتقابل ظاهرة (القرع/ الصلع) مع ظاهرة الشعر الطويل / الأصفر المتكررة في المقطعين الثالث والرابع.
ويمثل المقطعان الثالث والرابعً الصوت الآخر في القصيدة، وهو من الاساليب التي سبق تلمسها في قصائد سابقة للشاعر منها قصيدة (وظائف) التي يتداخل فيها صوتان ومكانان ضمن متوالية المقاطع. وكأن التقسيم المقطعي هنا دالة لخطاب مركب متعدد المستويات. فالصوت في المقطعين (2، 4) يأتي من صندوق بثّ (راديو) في سقف الحجرة، أو (قاع الحلم) ربما. هو نفس الصندوق / الصوت الذي أذاع رباعية الاستهلال في صيغة الغائب [الآخر:(هو/ هم)] كذلك. بينما كان خطاب الداخل [حرف الحاء] يتلون بالأمل والانتظارات، جاء خطاب الخارج [حرف الراء] سوداوياً فاقعاً لئيماً محملاً بصور الادانة المختلفة [يبيع الساسة ذممهم، المرابون مروءاتهم، القواويد غيرتهم] في المقطع الثاني مقابل [قمل أسود، مبيدات آدمية، سلطة غبية] في المقطع الأخير.
في المعنى العام للنص، ثمة احباط داخلي يصل إلى درجة العجز في مواجهة عوامل المكان البديل يتطور إلى حالة تمرد واحتجاج ورفض (إلغاء نفسي) للآخر. العجز الذاتي ازاء المعادلة غير المتعادلة أو المتكافئة انتهى بالشاعر بالعودة للمطلق والتعويل على الغيب الممثل لآخر درجات اليأس وفق مقولة: [ التسليم بالشيء دلالة العجز!]. وهو هنا عجز الذات (العراقية/ العربية) عن الوصول إلى مخرج للأزمات النفسية والمادية/ الاقتصادية والسياسية المتعاقبة عليها في عقدة الألفية، ازاء الغياب الكامل للدور العراقي والعربي وانكشاف أنياب السياسة الدولية ضدّ الروح العراقية أينما كانت. فجاءت نهايتا المقطعين الأول والأخير مرتبطتين بالغيب [ كي أوخز عالماً أمامي خالياً من الله]، في إدانة للعالم، و[ حجة لله على عفونة مياه الدولة] في إدانة صورة الدولة كمؤسسة ضالعة في التدمير والفساد منحرفة عن مبرراتها الأساسية.
وتبقى القصيدة مفتوحة للكثير من القراءات الدلالية ذات الصلة الوشيجة بالمشهد الاقليمي والعالمي الراهن وفي اتجاهاته وبنياته المختلفة. وتبقى قصيدة (حلزون) علامة فارقة في تدرج مسيرة الشاعر مفيد عزيز البلداوي، على الأصعدة الفنية والفكرية والنفسية عامة. فيها يغادر الشاعر فرحه المعهود وتفاؤليته اشفافة ويغرق في التشاؤم والحنق والاحباط، وهي الحالة الحقيقية التي يعاني منها الانسان العربي عموماً والعراقي خاصة وهو يرى ضياع وطنه وضياعه بين أقطاب العالم المتصارعة وقاراته التي لا تغني من جوع ولا تدفئ من قرّ. من الممكن متابعة قراءة النص بكثير من الألم والتمزق لنكشف عمق هراءاتنا وحجم تفاهات العالم وخرافات مفاهيم التقدم والمدنية والحضارة والانسانية، ولكن الممكن أيضاً، ترك فرصة الاكتشاف هذه للقارئ المطالب دائماً بمواجهة نفسه بعيداً عن المراوغة والتعلل بما لا ينفع العلة.
10 – 2 - 06
* مفيد عزيز البلداوي (19/12/1971- بلد) بكالريوس، أدب ولغة عربية، عمل في ليبيا. مقيم في ألمانيا. له ثلاث مخطوطات شعرية.
مفيد عزيز البلداوي
حلزون
توطئة..
رأى فيما يرى النائم
سريراً فوقه نائم
وفي الأحلام يحلم أنه نائم
فكم يحتاج من يقظة؟!!..

القصيدة..
أسبت مثل نملة جمعت طعاماً في ثقب أرضي مفقود
أسبت كي لا أفقد طاقة غير معوّضة
أخرج من سباتي لسبات آخر
كالحلزون..
أسحل خلفي دواوين شعراء مطريين
وحكايات ملغومة بالعفن
أتجغرف مثل الحياطين
أتضرس مثل مسطحات مائية آسنة
ساحباً همومي كالحلزون
قليلة رطانة الصيف
كثيرة هواجس الشتاء
أترك الله خلفي وأسرق من نبتة شوكتها
كي أوخز عالماً أمامي خالياً من الله
....................
.................
يبيع الساسة ذممهم
يبيع المرابون مروءاتهم
يبيع القواويد غيرتهم
يبيع الشعراء كلاهم
علّقت على باب المجازات ضرائبي
كتبت بالفحم المتبقي من احتراق حدبقتنا على جدران وهمية
: مواطن مثقل بالتفاهات
قادر على العيش بخصية واحدة
يعرض خصيته للبيع!!
.................
.............
رأس السنة
حملت مشرطاً مصنوعاً من أظافر الجميلات
تخيلتها تخرج من حمامها الاسطوري
مبللة بالسعادة
تخيلتها عارية الكتفين
ترشّ على نحرها لمعاناً جنوني
تخيلت رأسها برغوة (هيد أوند شولدرز)
بلا قشرة محزنة
بلا آثار لخدوش قاسية
تخيلت أني أدفئ أصابعي بشعرها الكثيف
فاجأتني السنة الجديدة
برأسها الأقرع.
................
.........
في رأس السنة
قمل أسود يحاول الهروب إلى شعر مستعار
خوفاً من خراطيم المياه الباردة
خوفاً من المبيدات الآدمية
لكن صوابين السلطة الغبية
تصنع سمّها المنقوع بالجهالة
برذاذ: عودوا إلى شعوركم الأصلية
تبايضوا هناك
وفقّسوا هناك
وموتوا هناك
لو دخلتم إلى شعر أصفر
ستصبحون وليمة للملائكة
وحجة لله على عفونة مياه الدولة!.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سعد جاسم وقصيدة الحداد لا يليق بكريم جثير
- دراسة في مجموعة ” نون ” لأديب كمال الدين
- حمّالة الحطب.. عن المرأة والغزو!..
- (عَنترَهْ..)
- (فراغ..)
- (إلى صلاح نيازي..!)
- جدلية الزمان والمكان في رسالتين إلى حسن مطلك - قراءة تحليلية
- (شيخوخة..)
- الدكتور يوسف عزالدين في حوار شامل
- (حزن..)
- الانسان.. ذلك الكائن الأثيري
- (مساء..)
- عن المكان الوجودي..
- المرأة والمكان.
- (شوسع الدنيه وما لمّتني..)
- مظفر النواب.. من الرومانتيكية الثورية إلى الاحباط القومي
- (سوبرانتيكا)..
- (رجل وامْرأة..)
- صلاة نافلة
- نوال السعداوي.. قليلاً من السياسية


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - مفيد عزيز البلداوي وقصيدة الحلزون