|
حادثة الكلم 9 -قصة من صميم الواقع -
عزيز باكوش
إعلامي من المغرب
(Bakouch Azziz)
الحوار المتمدن-العدد: 2581 - 2009 / 3 / 10 - 03:02
المحور:
الادب والفن
كنت أسوق سيارتي "الداسيا " الحمراء على الطريق الوطنية الرابطة بين تطوان القنيطرة عبر العرائش مثل سائق محترف ، كان الصباح دافئا ، وكانت الموسيقى الأندلسية تصدح بتواشيها السبع ،فيما صهيل المحرك يشبه أنين شيخ هرم وسط حشد صاخب لا يكاد يسمع ، وفيما كانت المسافة تمتد ، و الطريق تتمطى وتتثاءب ، كانت العجلات تتنفس الصعداء كلما داهمتنا حفرة ،أو اقتحمناحا بدافع المفاجأة ، كانت التروس و الدواليب تشتغل بسمفونية هادرة وهادئة ، تدور وتدور كما لو صممت خصيصا لذلك ، وبات المحرك يكشف لي وبجد عن تصميم آليي لا يقاوم . في الأفق ، بدت الشمس حماما تغتسل بطقسه الكائنات ، ولاح سراب كثيف شرع يتبدد شيئا فشيئا كلما اقتربت السيارة منه ، خيمة كبيرة ثم شاحنة ، فشبح سيارة خرجت لتوها من حادثة مرعبة ، هيكل السيارة الذي بدا يلوح في الأفق لا لون له ، وكلما اقتربت الحمراء منه كلما أضيف إليه تشكيل جديد ، إلى أن اكتمل نهائيا ، وبدا منظر غطائها الأمامي المشدود إلى الأعلى ،يشبه مظلة سوداء في شاطئ مهجور. وغير بعيد منه، أطل شبح أدمي في صورة شخص ملتح وهو يشير بيدين مغموستين في السخام الأسود ، ملوحا، آمرا إياي بالتوقف. وعلى الفور شرعت ذاكرتي في استحضار أعطاب تقنية مماثلة كنت ضحيتها ، واتضح أمر خطورة الصدمة الآلية في هذا الفضاء المترب الخالي الذي يمتد بلا ضفاف ، على التخوم من الجانبين الفضاء القريب الممتد ، تترامى قناطر منهارة ، وبنايات هشة ومفككة وجدران متلاشية توحي بان طوفانا عاتيا مر من هنا لساعات ، أشجار مغروسة بلا ذوق ، وكتل من الرمال تم شحنها وإفراغها على عجل ، فبدت تراكمات بلا هندسة ، أما المناخ الجميل الذي يصنعه هدير المكيف ، والموجود في الداخل ، فقد بات لا يعبئ بموج الحر الذي يذيب ويشعل الحرائق في الخارج . لم أستشر أحدا من مرافقيي كعادتي في مثل هذه المواقف ، لقد انتابني إحساس شبيه بالعطف ،أو هو العطف نفسه ، شعرت أن الرجل الذي يقف أمامي وعلى بعد أمتار قليلة ، ويطلب المساعدة هو أنا ، إذ كثيرا ما حصل الأمر نفسه في طرقات الله الواسعة السوداء المتربة وغير المعبدة، وكان ذلك الأنا – الآخر هو المنقذ ولطف الله. خفضت السرعة إلى الدرجة الثالثة فالثانية ، وقمت بتنشيط إشارة الوقوف بعد أن انزحت يمينا حتى توقفت العجلات ، لحظتها خفضت الزجاج قليلا وقلت بنبرة جدية ومسئولة: - هل لنا أن نساعدك سيدي ؟؟؟ كانت لحية الرجل تسبقه فتمنحه وقارا لابد منه ، وفيما بدت يداه مشمرتين غارقتين في سخام زيت أسود ،ظلت شفتاه لا تكفان عن الصلاة والشكر لله . لاحول ولا قوة بالله .. أخي الكريم ..لقد شاء الله ..والمومن مصاب ، قال ، ثم أسبل عينين منهارتين بكبرياء مسلم حنيف وبدا غاطسا في بحر الآلات والأجهزة ، يختبر أداء بعضها غير مكترث بما يجري ويدور من حوله . قدرت ذلك ، وكان واضحا أن الرجل في وضع صعب حقا ، وبدت الحاجة إلى المساعدة ماسة ، بل أفضل ما يمكن القيام به الآن ، لكن كبرياء الرجل تمنعه فيما يبدو ، فقد بدا ذلك واضحا من خلال تجاهله دعواتي له بان الأزمة لاشك عابرة، وان السائق المحترف لا تاخد منه ولا تنال منه مثل هذه المواقف ، كان شعوري قويا ، وانتابني لحظتئذ إحساس بتخطي كل المعيقات ، وتقديم يد العون إلى شخص في موقف صعب ، وهو أمر لا يقبل التأويل أو المماطلة. ناديت الرجل ، واستفسرته بمودة فائقة ،سيدي ، ماذا، وكيف ومالذي حدث بالضبط ؟ - نعم، سيدي- زازاك- الله خيرا : قال كنت أقود عليك ياألله، قالها بخشوع و بضعف ثم أجهش وأضاف ، فجأة ، سبحانك يا الله ، كنت متوجها لزيارة الأحباب في وجدة ، في لحظة ،شعرت كمن اضغط برجلي على فراغ، لقد انقطع كابل السرعة..ومن ألطاف السميع العليم أنني حي أرزق ؟ - مالعمل الآن؟ - احتاج إلى كابل السرعة..حتى أتمكن من الخروج من هذه الورطة والعودة إلى الأبناء سالما ؟؟؟؟ - كيف..؟ وبعد أن سمعني بانتباه ، أمسك بيديه حزمة أسلاك متشابكة قائلا: هذا المنحوس فاجأني بعد رحلة دامت 6 ساعات انطلاقا من وجدة....آه . وأشار إليها بعينين ذابلتين وفم متيبس ، وبينما أنا أقوم بالتفاتة إلى المقاعد الخلفية ملتمسا ولداي توسيع الفضاء حتى يتسع المكان لراكب جديد، إذ بالرجل الفاضل يرفض أي مبادرة من هذا القبيل ، مستغيثا بكل الأنبياء والأولياء الصالحين ،أن يحفظ العائلة من كل مكروه. خمنت وقدرت ، كانت أبعد نقطة من الكلم 9 إلى باب فاس بمدخل مدينة القنيطرة تحديدا حيث محلات بيع قطع غيار السيارات لا تتجاوز العشر كيلومترات..واحترت بين أمرين ..أذهب رفقة الأولاد ، ثم اقتني الكابل إلى حين عودتي وبعد ذلك أترك أمر النقود سلفا إلى ما بعد ، أم أناوله ما استطيع على أن يتكفل ذلك بنفسه ، لكن ، ما بدد حيرتي هو إشراقة عاجلة جعلت من أمر المساعدة واقعا ممكنا، وشرعت في تجريب فرضيات كثيرة رجحت إحداها وقلت في أدب : - مستعد سيدي لمساعدتك..ماذا تقترح ؟؟؟ لم يكف الرجل عن الذكر، وقراءة طوفان من الاحاديت والصلاة على النبي ، حتى انه قرر أن يصلي ركعتين شكرا لله وهو على ذا الحال. في لحظة، أحسست أن السيدة والأولاد شرعوا في التعبير عن انزعاجهم من الأمر ، وقال إلياس ساخرا : بابا..هل سنتغذى هنا؟ وأضافت آية بسخريتها المعهودة : بابا....الشمس تستبد بي ؟؟ لكن السيدة كظمت غيظها ، وهي تستحضر عشرات المواقف التي كنا مسرحا لها ، قبل أن تنفجر قائلة -طيب ، افعل ما تراه مناسبا كي ننصرف . وبعد أن عرضت ثلاث فرضيات على صاحبنا ، رجح الملتحي إحداهن ، وكانت تقضي بأداء ثمن الكابل حوالي 90 درهما على أن يحتفظ بعنواني ورقم هاتفي وحسابي الى حين عود ته إلى بيته بوجدة ، فيتكفل بالواجب ، فوافقت على الفور . لم يتردد الملتح عبد الصمد في بسط كفيه متضرعا إلى العلي جل وعلا استغفارا وحمدا لاستجابته له ، منبها إياي إلى ضرورة الإسراع في تقديم المساعدة ، لان الشمس ستشتد وطأتها داخل صندوق معدني قد يتحول إلى مجمر بعد ساعات . وبينما أنا أسلم عبد الصمد المبلغ وفي نيتي عدم الإقدام على توثيق أي من تعاقداته واعتبار الأمر صدقة جارية . وإذا بسيارة جيب للدرك الملكي تقف على وقع احتكاك حاد لعجلاتها الأربع ، وفيما أنا أهم بالمرور إلى السرعة الثانية ، إذ بسيارة درك ثانية تأمرني بالتوقف يمينا مستعملة منبها قويا ، لم يكن لدي من خيار سوى الامتثال على الفور حياني الدركي ، ثم طلب مني أوراق السيارة ، ابتعد قليلا وشرع يقلبها ، استغربت موقف الدركي الذي لم يلتفت إلى الشخص الملتح الذي ظل في مكانه ، والذي كان يحاول جاهدا إخفاء وجهه عما يقع ، وتساءلت أليس الأجدر به طلب المساعدة من رجال الدرك ، أليست من مهامهم تقديم المساعدة لأشخاص في حالة صعبة ؟؟؟ التفت الدركي جهتي قائلا في أدب : يبدو أنك فعلت خيرا هذا الصباح لكن في غير محله ، لم افهم الأمر للوهلة الأولى ، لكن بعد أن حكيت له ما جرى حرك ، الدركي رأسه علامة على الموافقة وإدراكه حسن نيتي ، ثم ذهب صوب الشخص الملتحي ، طالبا إياه الكف عن الكلام والسماح له بتفتيشه ، مخاطبا إياه بلغة لم افهمها ، وما لبث أن عاد وهو يسلمني مبلغ 90 درهما كاملا .وهو يقول خذ هذا مبلغ الكابل .... -أنت الضحية العاشر هذا الصباح...؟ - لا ..لا" أشاف".. لم يمض على وقوفي إلا دقائق معدودة ...والله الآن فقط أتيت .. وقفت..؟ قال الملتح في حياء مفتعل . -ألم اقل لك ، أنك أصبحت أشهر من نار على علم ، ثم ..وهذه اللعبة القذرة ، الم تكف عن استبلاد نفسك .....ثم صرخ الدركي بأعلى صوته " الم اقل لك انك تسيء إلي قبل أن تسيء إلى لحيتك ، ألم أقل لك... لن أطلب منك أن تغرب عن وجهي هذه المرة ، أتفهم ، سأنجز لك محضر نصب واحتيال ، سأودعك السجن ، ...هل تريد أن تفضحني ، على الأقل افعل ذلك ، لكن خارج منطقة نفوذي، أتفهم ..الله يعطيك مصيبة؟ استقرت مفردات مبهمة على لساني، وظلت تناور بدهاء للخروج مثل عاصفةً هوجاءً ، لكن صفاء اللحظة وصدقها ، أسقطت جفون الملتح حول عينيه ، ستارا أسوداً حجب عنه نور الحقيقة الصادمة. فيما أنار أمامي بقية الطريق . عزيز باكوش
#عزيز_باكوش (هاشتاغ)
Bakouch__Azziz#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
داء السكري بالمغرب الراهن والتنبؤات في ندولة تواصلية بفاس ال
...
-
أكاديمية جهة فاس بولمان الثانية وطنيا من حيث الاستحقاق والتف
...
-
الانترنيت العربي بعيدا عن العلم ..قريبا من الجنس
-
بناء الوعي وتوجيه الرأي العام في العالم العربي والتأثير المب
...
-
تأملات في جسد-الإشاعة الصحفية - أو عندما تلبس الإشاعة ثوب ال
...
-
إنهم يغشون يا جلالة الملك ، كانت تغوص في الشارع العام ، وأصب
...
-
توقفت الدراسة بفاس لفترة تضامنا مع غزة .. ولم يتوقف الإبداع
...
-
القصيدة العمودية قصيدة لكل الأزمنة حوار كاشف مع شاعر شفيف اس
...
-
الانترنيت .. من أجل نصرة غزة وإرساء ثقافة الاحتجاج الواعي لد
...
-
الحمار يحتل مرتبة الشرف بفاس العالمة
-
حوار مع المخرج السينمائي المغربي بوشتى المشروح
-
حوار مع رئيس النادي التازي للصحافة عبد الاله بسكمار على ضوء
...
-
الكريدي… ذلك الإدمان
-
تحديد السعر الأدنى للتسول بفاس في درهم واحد
-
الوكالة المستقلة للنقل الحضري لولاية فاس بين الحال والمآل
-
المساء والشيشة بفاس
-
الكاتب المغربي أجير بالدولار في المشرق، مناضل ببلاش في المغر
...
-
حذاء يزار
-
الصحافة: سؤال الماهية ومنطق الممارسة تقديم وحوار: عزيز باكوش
-
قراء المساء المغربية يدفعون ثمن جرأتها4/6
المزيد.....
-
مرتديًا بذلته الضيقة ذاتها .. بينسون بون يُصدر فيديو كليب سا
...
-
-الزمن المفقود-.. الموجة الإنسانية في أدب التنين الصيني
-
عبور الجغرافيا وتحولات الهوية.. علماء حديث حملوا صنعاء وازده
...
-
-بين اللعب والذاكرة- في معرض تشكيلي بالصويرة المغربية
-
مفاجأة علمية.. الببغاوات لا تقلدنا فقط بل تنتج اللغة مثلنا
-
بيت المدى يستذكر -راهب المسرح- منذر حلمي
-
وزير خارجية إيران: من الواضح أن الرئيس الأمريكي هو من يقود ه
...
-
غزة تودع الفنان والناشط محمود خميس شراب بعدما رسم البسمة وسط
...
-
شاهد.. بطل في الفنون القتالية المختلطة يتدرب في فرن لأكثر من
...
-
فيلم -ريستارت-.. رؤية طبقية عن الهلع من الفقراء
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|