أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين النصير - بناء الجملية الفنية في مسرح محيي الدين زه نكه نه















المزيد.....



بناء الجملية الفنية في مسرح محيي الدين زه نكه نه


ياسين النصير

الحوار المتمدن-العدد: 2532 - 2009 / 1 / 20 - 10:12
المحور: الادب والفن
    


1-1- أن تكتب عن محيي الدين زه نكه نه ، المسرحي والروائي و القاص والإنسان والمنتج في الثقافية العراقية، فتلك مغامرة نقدية، فما كتبه في الرواية والمسرح و القصة اضافة الى العديد من المقالات و الدراسات في شتى شؤون الثقافة و الفكر و الفن ، يفيض على أي نقد، وما قاله فيها من آراء حول المجتمع والفكر لن تحتويه مقالة، وأن تكتب عن الجملة الفنية في مسرحه ضمن هذه الظروف الملتبسة والمعقدة التي أصابت اللغة كما أصابت الواقع بملايين القنابل والمتفجرات شيء أصعب بكثير،هذا التيار المتواصل منذ أواسط الستينات وحتى اليوم، يفيض على مفاهيمنا النقدية خاصة وهو يتناول الظواهرالحياتية والسياسية في مجتمع متناقض القيم، مضطرب الحياة،متصارع القوى.
نحن إذن أمام مهمتين معقدتين: كاتب كتب أكثر من خمسين عملا بين قصة ورواية ومسرحية، وأمام موضوع شائك وجديد هو الجملة الفنية عبر هذه التجربة الطويلة والمتشعبة. ولكي تكون مهمتنا واضحة لن نتناول قصصه و رواياته و لا جميع مسرحياته ، ولكننا سنختار للتدليل على الموضوع ببعض الجمل والفقرات المقتطعة من هذا النص أو ذاك، لأن مشروع الجملة الفنية يتطلب تفرغا تاما للكاتب وهو ما لا نستطع القيام به الآن. أما المهمة الثانية فهي إشكالية المواضيع التي تنشأ في ضواحي المدن العراقية، وليس في عمق العلاقات البنوية لها وفي ضوء ذلك، سنعالج بنية هذه الجملة ضمن تصورات نقدية بعضها يتصل بالمكان أي بأمكنة مسرحياته وبعضها يتصل بالشخصيات وأخرى تتصل بالأحداث، وسنجد أن ملامستنا لمثل هذا الموضوع تبقى ضمن الإجتهاد الشخصي وليست حكما نقديا قارا.
هاتان المهمتان تلقيان علينا عبئا كبيرا فيما يخص بناء الجملة الفنية لاسيما وأن المؤلف ونصوصه وأفكاره عاشت تحت هيمنة القوى الاجتماعية والسياسية الضاغطة، فلحق بها ما يجعل جملته الفنية، إما أن تتنجب الصراحة فتلجأ إلى الرمز والتهويم والمواربة كما في الكثير من نصوصه الابداعية، وهذا ما ينعكس سلبا أو إيجابا على بنية الجملة الفنية، وإما أن تكون الجملة صريحة النقد وواضحة المقصد، وهذا ما يجعلها مباشرة. وقد تؤدي الظروف فيها إلى المنع والملاحقة والتهجير وهذا ما حصل للكاتب.
نشر أول نصوصه المسرحية " احتفال في نيسان" عام 1959 وآخرنصوصه المسرحية"الضحك عقابا" في تموز 2007 وهو ما يشكل موقفا واضحا من حقيقة أن للثقافة دورا في رؤية المجتمع بطريقة مختلفة عما يراه السياسي والاقتصادي والرياضي والطبيب. وهذا الدور ارتبط عمليا بتجديد الخطاب الفني للمسرحية نفسها، فمعارضة القوى القامعة تتطلب تجديدا في الأسلحة الفكرية وهذا ما وضعه المؤلف نصب عينيه حيث اذا نجد تطورا في بنية النص المسرحي عنده تمثل في تخليص لغة وجملة المسرحية التي كتبها مؤخرا من الكثير من السردية التي لازمت نصوصه الأولى ويعني ضمنا أن مقاومة القوى الفاشية والمقنعة باقنعة إيدولوجية قامعة تطلبت تجديدا في الخطاب الفني وهذا ما انعكس على بنية الجملة الفنية عنده.
يضاف إلى ذلك،أن الأمكنة الوسطية في العراق، ونعني بها المدن والضواحي والبلدات والقرى المتحولة، لم تستقرلا على شكل إقتصادي واضح، ولا على شكل لغوي واضح أيضاً، عندئذ تصبح الجملة الفنية التي تعالج رؤيته للحدث غير مقتصرة على ما تحتوية من تراكيب وسياقات، بل وتشمل تأثير الأمكنة على هذه الجملة.
1-2
مهمتان تحكمان سياق هذه المقالة؛مهمة أن تكون الجملة تحت هيمنة القوى الضاغطة الكبيرة سياسيا وأجتماعيا، وهو ما ميز السنوات الماضية، فتغير هذه القوى من خطاب الثقافة، ومهمة أن تكون الجملة على إرتباط بمكان نشوئها. ولدى محيي تصبح المهمتان اشكالية معرفية، فهو يكتب بالفصحى المبسطة والمفهومة من قبل الجميع – وقد مثلت معظم أعماله في القاهرة والرباط ودول الخليج اضافة إلى العراق- مما يعني أن إعتماده الفصحى ينآى به عن محلية اللغة وتعقيداتها،ونتيجة لوضوح طروحاته الفكرية فقد منعت الكثير من أعماله المسرحية في العراق، بل وهدد بمحاكمته. والإشكالية الثانية هي إرتباط نصوصه بقضايا الناس البسطاء من سكنة الضواحي والقرى والبلدات، وغالبا ما تكون هذه القضايا عن النضال والثورة والوطنية والحرية والحق و العدالة .
إذن هي مغامرة نقدية أن نقف أمام نتاج فنان ومثقف كبير،من خلال جزئية الجملة في نتاجه، فنان رفد المسرح العربي طوال خمسين عاما ونيف بأكثر من خمسين عملاً بين نص مسرحي بفصول ونص مسرحي بفصل واحد، وروايات طويلة وأخرى قصيرة،وقصص قصيرة طويلة، وأقاصيص، ومايزال عطاؤه مستمراً بالروحية نفسها. مثل هذا الكاتب قادرعلى أن يتحدث بلغة فنية عالية عن طبيعة المجتمع العراقي، ويتحدث عن تركيبته وأفكاره وما مرّ ويمر به، متتبعا إنكساراته ونهوضه، تعرجات حياته واستقامتها، فهو أبن هذا الشعب، عاصر محنه وأشترك فيها، وناله منها ما ناله أي مواطن منتم لثقافة تقدمية.
لذا فعلى جملته الفنية أن تحمل هذا كله، فالمشكلة الجذرية التي طبعت نتاجه ،لا تقف عند حافة لمجرد ما يحدث،أوالتعليق على ماحدث،أو لتوجيه النقد لهذه الظاهرة أو تلك، وإنما للكشف عن المواقف التي تثير الأسئلة معتمدا في بناء نصوصه طريقة تجمع بين بنية فنية أكاديمية منضبطة،مسرحيات " السؤال" و"السر" و" الجراد"، وبنية تجريبية حديثة فيها من مران كسر للقوالب القديمة،مسرحية" حكاية صديقين" و" العلبة الحجرية" و"لمن الزهور" و" صراخ الصمت الأخرس" و"الاشواك" و"تكلم يا حجر"، وبنية تجمع بين الأثنين مسرحيات" كاوه دلدار" و"العقاب" و"القطط" و"رؤيا الملك"، فهل يا ترى ستقوم جملته الفنية بمثل هذه المهمات؟.
وبما أن معظم نصوص محيي الدين زه نكه نه ، كتبت قبل التغييرعام 2003، فهي تقع ضمن إطار المهمتين :القوى القديمة الضاغطة، والأمكنة الوسطية، وهو ما يغلف معظم الكتابة العراقية. في حين نشهد اليوم حالة فريدة في ثقافتنا العراقية ،ربما لم تشهدها الثقافة العربية، وهي أن التغيير الذي حدث في 9 نيسان 2003، شكل ملجأ آمنا للكتابة غير المقيدة، حيث الحرية اصبحت مادة متجذرة في النصوص فتوزعت الكتابات الأدبية، خاصة النصوص المسرحية على أربع طرق:
إما للعودة إلى الماضي لتحتمي به، وقد شكل التراث، بكل صنوفه القديم منه والحديث، لها حماية مضمونة لمواصلة ما ابتدأت به في أواسط السبعينات، وقد أخذ العمل التلفزيوني المهمة التراثية على عاتقه.
وإما العودة إلى الدين بوصفه الحال السائدة اجتماعيا وثقافيا، وهو ما نشاهده في الطروحات الأكاديمية والنصوص الكربلائية، ومعظم نتاج هذه الظاهرة محدود القيمة والفعالية الجماهيرية.
وإما الناي بعيداً صوب الحداثة الغربية حيث الإشكالية المعرفية، تتواءم مع الحرية وثورة الشكل والبحث عن أفق لأنسان جديد،و تعتبر الطريقة الثالثة هي الأكثر حضورا في المشهد الثقافي العراقي، خاصة وأن كتابها ممن عاصروا فترة الحروب العبثية المدمرة فنشطت لديهم الذائقة الأسلوبية للنقد والسخرية والتهكم والبحث عن أشكال جديدة تنسجم وروح التمرد والإحتجاج.
وشريحة رابعة من الكتابات بقيت ضمن سياقاتها المألوفة،وهذه هي الأقل حضورا قياسا لما يحدث من تجديد في القالب الفني عموما.
نشهد هذه الظاهرة أيضا على مستوى القصة والشعر والمقالة والفنون التشكيلية والفوتوغراف. مما يعني أننا على أعتاب مرحلة جديدة. من هنا يصعب على نقدنا العراقي الذي غالبا ما ينتظرأن يكتمل الأديب كي يتناوله، - ما عدا تلك المقالات المتتبعة للعروض المسرحية- معالجة مثل هذه الظاهرة المعقدة، ولذلك لن تجد دراسة مستفيضة عن عمل أي من الكتاب العراقيين، أو دراسة ظاهرة محددة في المسرح العراقي، كظاهرة الجملة الفنية، أوالشخصية المسرحية، أو الموضوع الفلسفي، أو الحدث المسرحي، أو النص المسرحي، فكيف بنصوص تتحدث عن جدلية المشكلات الإجتماعية والفكرية العميقة التي تعيش حال انفصام جذري بين طماح إنسان بالتغيير وموانع صارمة تحد من هذا الطماح.
كل هذه الأبعاد التي نرجوها وغيرها ستحملها الجملة الفنية للكتاب، ايا كان هذا الكاتب مسرحيا أم شاعرا أو روائياً. فنجد في الجملة ما هو بتراكيب ذاتية،لغة وبنية لفظية، وفيها ما هو بتراكيب جماعية، سجايا قوم وطريقة عيش وعادات وتقاليد ويومية مألوفة، وفيها ما هو إنعكاس لواقع مفترض وآخرحقيقي، وفيها ما هو تخيلي صرف ، وفيها من التجريب والتجديد الكثير، وفيها من التراكيب الكلاسيكية القديمة إلى جوار الأساليب الحديثة، فتُكتب الجملة تارة بالفصحى،تجنبا للنعت بأنها لصالح فئة أو شريحة دون أخرى، وتكتب أخرى بالمحكية إستجابة لواقعية الحدث والشخصية، وتقال أحياناً على ألسنة مفردة لتمثل صوتا مقهوراً، أوعلى ألسنة جماعة رغبة في تعميم الخطاب،أو تقال في صورة رمزية تجنبا لشرورحاكم أو رقيب، أو مباشرة بعد أن ضاقت سبل التعبير.
وكل هذه المشكلات الفنية قد وعاها محيي الدين في أعماله فجعل نصوصه كلها تنطق بالفصحى، متحدثة عن مواضيع تحركها تناقضات قائمة على العلاقة الجدلية بين الإنسان والفكر، الإنسان والبحث عن الحرية،الإنسان وقضايا العمل، الإنسان والبحث عن الموقف. هذه المجالات الجديدة وغيرها فرضت عليه لأن تكون جملته بلغة فصيحة مبسطة، فما يصيب الحدث من تغييرات جذرية يصيب اللغة وبناء جملته الفنية،وما يصوره لغويا نجد صداه اجتماعياً،في تجربة اللغة الفنية عند محيي واحدة من الظواهر الإشكالية التي تعيدنا إلى جذر المسرح الشعبي عندما تكتب الجملة بالفصحى تحيلك على مستويات القول الكوني والديني، فتعود تراكيبها وصورها إلى جذرها المثيولوجي وإلى بعدها الأسطوري، عندما تختلط فيها الحكاية القديمة بالحكاية الجديدة تحيلك إلى جذرها اليومي المباشر. لذلك كانت الفصحى المبسطة وسيلة لشمول قطاعات واسعة من الناس بخطابها، خاصة وأن محيي الدين زه نكه نه يختار لجملته الفئات الوسطية المثقفة، والتي تتكلم غالبا الفصحى طريقة للتعبير اليومي،وبمثل هذه اللغة التي تتحدث بها النخبة التي قادت الثقافة العراقية في الستينات إلى وعي التجديد والتحديث،أمكننا أن نتحدث وبصوت عال عن المشكلات في عموم العراق بالرغم من ان محيي من أصول كردية، من هنا ، وترادفا مع اللغة، اختار محيي لمسرحياته مناطق تجمع بين الريف والمدينة،حتى لتضيع فيها هوية المكان وشحناته الخاصة،واختار مواقع عمومية في هذه الأمكنة تنعكس فيها الصراعات السياسية والفكرية الكبيرة، كالمعامل،والمنظمات، ودوائر الدولة ،و المحلات الشعبية والسجون، والمنازل والأسواق. وتشعرأن هذه الأحداث والشخصيات والأمكنة واللغة تمتلك جذورا إنثروبولوجية عريقة، بحيث تختلط فيها حاجات ومهمات الإنسان الحديث بالرغبة في الحرية، فاللغة الفنية التي تتجاوب مع هذه النقلات المكانية والفكرية تمنح الحدث والشخصية عمقا أبعد مما نراها في الحياة اليومية لها
مسرحية " الجراد" مثلا عندما تحكي عن هيمنة القوى العمياء الأسطورية على تطلعات شعب ينشد الحداثة، خلال تجربة سياسية اتت على اخضر العراق ويابسه، فكانت جملته فيها مباشرة وحادة وقوية، في حين تصبح الجملة في مسرحية" الجنزير" مثلا صنو الدكتاتوريات أينما كانت وتحت أي مسمى ستكون،كأحد الجذور العميقة في الثقافة العراقية، ولذلك نجدها في المسرحية مستنسخة بدكتاتوريات أسروية ووظيفية صغيرة، فأصبحت جملتها مشبعة بالحال البيتية والإنشغالات الأسروية وتوزيع المناصب على الحاشية، مثل هذه الجمل مشحونة بأمكنة السلطة، وتجد اللغة متألقة في صورة المفكر في مسرحية" صراخ الصمت الأخرس" و"تكلم ياحجر"، وهكذا بقية أعماله، من هنا تقع على الجملة مسؤولية أن تحمل كل هذه التجديدات دلالياً، بل وتمنهجها على وفق سياق الحداثة،كأفق معرفي تحدده دلالة اللغة وليس شكلها.
من هنا لم يعد مسرحنا و- محيي في المقدمة من كتابه- كما إبتدأ، حين كان المؤلف يضع حواراً على لسان الشخصيات، ثم يقذف بها إلى خشبة المسرح، ليجد المشاهد فيها ما يسليه أو يحفزه أو يستغله، ثم يخرج العمل دون أن يحرك شيئاً.
1-3
ونظرة على الشخصية الفنية في مسرحيات محيي الدين زه نكه نه ، نجدها أفكاراً معبأة بأجساد حية، فهي ليست إنسانا عاديا أتي به دون وعي مسبق بما سيقوله، وإنما هي الإنسان المشكل، الإنسان الفكرة،الإنسان الذي يثيرالأسئلة ليكون بمواجهة ما سيحدث، هذا الإنسان نجده قريباً من المؤلف،أوهو من الدائرة التي يعرفها، يتغذى أحيانا بالتراث كما في مسرحية "السؤال" ويتغذى أحيانا بمشكلات الواقع الدموي كما في مسرحية " السر" و " تكلم ياحجر" و يتغذى أحيانا بالحكاية الشعبية والثورة كما في مسرحية" لمن الزهور" ولذلك، نجد هذه الشخصية تحمل أسماء تارة وبدون أسماء تارة أخرى، فهي الكائن المتحرك بين حقول معرفة متناقضة، نتعرف عليها في المعامل والوظائف والتنظيم الحزبي ومراكز الدولة، ونرآها في المظاهرات والمهمات السياسية، ونجتمع معها في المقاهي والقصور، ونتعرف عليها في السجون ومدن الهجرة، وتعيش معنا محن البلاد من تهجير وقمع وتشريد وجوع،هي الإنسان الذي تتشبع به أمكنة الضواحي الشعبية، فكانت هذه الشخصيات رفيقا للمؤلف، وخدينا له، يلقن أحدهما اللغة للآخر، ولذلك، سنرى هذه الشخصيات راوية تارة، ومنهمكة بمشكلات المجتمع لتروي أحداث غيرها تارة أخرى، وتقع ..بين بين في مرات أخر.
سيكون بالطبع مثل هذا الموضوع صعبا للغاية لأن الكاتب لم يقصد ذلك بالأساس وأنما ترشحت رؤيته عبر اختياره لنمط معين من الشخصيات وضعت تاريخيا ضمن هذه الدائرة، ليرسم من خلالها صوراعن المجتمع والإنسان المثقف البسيط والمهتم بمشكلات سياسية وحياتية يومية، إنه الإنسان العراقي الذي أغرقته الحياة بمشكلاتها، فما كان منه إلا أن يخوض صراعا حاميا معها، وتطلب هذا الصراع لغة تجمع بين صوتين: صوت المؤلف المفكر والراوي الذي يعلم بكل تفاصيل الموضوع، وصوت الشخصية الذي ينبع من حاجتها الفعلية لرسم مصائره اليومية والحياتية وبالتالي، ثمة رؤية أوسع يؤلفها الصوتان تعبرعن القضية الاجتماعية / السياسية التي تغلف معظم نتاج كتاب المسرح والرواية عندنا. أما بمدخل عنوانات تشكل أوليات عتبات النص وهذه العتبات ليس من السهل تجاهلها في بنية النص، - نتذكر شرحه لعنوان "صراخ الصمت الأخرس- وماذا يعني لغويا ودلاليا- وإما بتركيبة لا شعورية تمزج بين المتخيل والواقعي في بنية مجتمع يزاوج بين الحكاية المفترضة والحكاية الواقعية، وهاتان الطريقتان تبدءان من العنوان وحتى آخر جملة في النص،لا تجعل القارئ حرا في التفكير المغاير لسياقهما، بل تجعله أسير تصورات متداخلة بين وقائع يريد الكاتب أعادة سردها بعد أن حدثت، وكتابة نص فني يفرض شروطه الفنية والتعبيرية الجديدة المغايرة أحيانا لسياق الحادثة القديمة،ولذلك نجد أنفسنا نصطدم بين أونة وأخرى بالمقارنة بين ما نعرفه عن الحدث وما يريده المؤلف من الحدث، ليكون النص متأرجحا بين الربط بما هو سياسي / اجتماعي، وبين أن يكون ثمة نص يستبطن تاريخا وحالات قد لا تكون حقيقية.بمثل هذه الرؤية تتحكم الحداثة بسياق جمله فنيا وفكريا وبمثل هذه الرؤية يفرض النص شخصيته الجديدة بعيدا عن سياقات الشخصيات التي اشبعت مسرحنا بالمكرفونية..

1-3- في عموم تجربة القراءة لنتاج الكتاب نستطيع أن نميز بين جملة يكتبها محيي الدين زنكنة وتلك التي يكتبها قاسم محمد أو عادل كاظم، شأنها شأن أي فن قول آخر، حيث يمكننا أن نميز بين تمثيل سامي عبد الحميد على المسرح وتمثيل ابراهيم جلال أو يوسف العاني، فحركات الجسم وطريقة أداء النص حركيا ولفظيا يختلف من ممثل إلى آخر، الأمر نفسه عندما نقرأ الجملة الشعرية للسياب ونقرأ الجملة الشعرية لأدونيس أو شيركو بيكه س نجد ثمة فروقا كثيرة بين شاعر وآخر، ليس بطريقة رسم الصورة الشعرية فقط،، وإنما في تركيبة وبنية الجملة الشعرية، والأمر من السعة بحيث تضيق الأمثلة على أيضاحه.
أشعرأن بنية الجملة السردية أو الشعرية لدى المبدع، تبنى قبل اللغة لأنها تتصل بالكلام،هي خلاصة للتعبيرعن الجذور اللاواعية في التركيبة الصوتية والجسدية والفكرية للإنسان إضافة إلى خبرة الممارسة، وأول تحديد جذري لها أنها تنطلق من بنية عميقة كائنة في جوهر الفكر الذي يؤمن الكاتب به ، قد لا تفصح موضوعاته وعنوانات قصصه ومسرحياته وقصائده عنها بقدرما تحمل هذه الجملة بعداً لا مرئيا عميقا آتيا إلى كلماته وصوره من اهتمامته الفكرية القديمة، حتى لو لم يكن الموضوع متصلا بها كليا، أعتبر تلك البنية الجذرية العميقة هي توجهات الكاتب وأرضيته المثيولوجية والأنثروبولوجية، وتتصل عمليا بطريقة تنظيم أفكاره والرؤية الجمالية التي سيظهرها لاحقا في نتاجه. هل أتحدث هنا عن جذور اللاادبي في النص المسرحي .
يمكن بداية أن أنوه إلى مثل هذه الإشكالية المعقدة التي تظهر في ما نقوله دون أن نقصد أظهارها. هذه البنية اللاواعية التي تفرضها النصوص اللاأدبية تتحكم أحيانا بطريقة النطق وباللفظ وبالتراكيب، ونجد ذلك واضحا في الغناء مثلا وفي الروايات التي تكتب بالمحكية الشعبية كما فعل سمير نقاش في روايته "نزولة وخيط الشيطان" التي استخدم فيها المحكية العراقية الجنوبية وله عمل آخر بالمحكية الموصلية والكاتب محمود عيسى موسى في روايته "حنتش بنتش " عندما استخدم المحكية الفلسطينية، والكثير من أعمال نجيب محفوظ في أجزاء منها وهو يستخدم المحكية المصرية، كما نجد ذلك واضحا في المخاطبات اليومية بين الناس. وتستطيع أن تميز جملة أهل الوسط والجنوب العراقي في الشعر الشعبي كما هي عند مظفر النواب وعريان السيد خلف وسواهما مختلفة عن جملة أهل البادية كما هي عند سعدي الحديثي مثلاً.
وهكذا يمكنك أن تذهب بعيدا لتراكيب الجملة بالرغم من اصطفافها اللغوي ضمن منظومة القواعد والنحو- وسنجد أن أرضية هذه الجملة هي القاع الاجتماعي الشعبي الذي يبني تصوراته بلغة معاشة بينما تنطقها الشخصية بلغة فصحى.
ويبقى بعد ذلك السؤال الكبير من هم هؤلاء الناس الذين يشغلون القاع الاجتماعي؟ هل هم الشريحة الاجتماعية الوسطية التي تأتي لمشاهدة المسرحيات؟ أم هي تلك الفئة القليلة التي تقرأ الروايات والقصص؟ أم هم الشريحة المتنوعة الانتماءات التي تنتظم في إتجاه سياسي معين؟ أم هي الشعب بعموم فئاته؟ لا شك أن سؤالا كهذا لا تجيب عنه أعمال محي الدين زه نكه نه وحدها، بل الثقافة العراقية بمجملها لما يطرحه هذا التساؤل من إشكالية معرفية تؤشر إلى العلاقة بين الثقافة والناس. في ضوء ذلك نجد أن معنى الجملة فنيا هو غيره في معناها النحوي والبلاغي، سواء قيلت بالعامية أم بالفصحى، ومهما كان شكل كتابتها فصيحا أم محكيا، الذي يهمنا هو الطريقة وكيفية التوصيل. وهذه أشكالية أخرى تتعلق بطريقة تفكير المؤلف، وعلينا أن ندرك أن محيي الدين زه نكه نه ونتيجة لاشكالية اللغة عنده فهو كردي يكتب ويدرس اللغة العربية، وهو المؤلف الشعبي ولكنه لا يكتب إلا بالفصحى،ونكاد أن نقول أنه يختار اللغة الوسطى، لغة المحكي الفصيح،كي يتجنب السقوط في العامية أو الفصحى المشددة التعابير.
هل مثل هذه اللغة هي الملائمة فعلا لمثل موضوعاته؟ وهل استطاعت جملته الفنية أن تفي بأغراضها كي توصل ما يريده، لنخلص إلى أن الجملة الفنية هي هذا التركيب المكتمل المعنى، هي التي تختار نوعية التراكيب والكلمات التي تتناسب وسياق فكرة المؤلف في مرحلة ما، بحيث تغطي هذه الإختيارات حاجة المؤلف للتعبير عن موقف ما.؟
أسئلة من قبيل هذا وسواه سنحاول تسليط الضوء عليها في هذه المقالة.

2
بنية الجملة الفنية

2-1- الملاحظة الأولى على جملة محيي الدين زه نكه نه الفنية،انك تجدها مشبعة بالعقائدية الأدبية،وليس بالتلقائية الفنية حسب، ثمة شرط داخلي يحكم سياق جملته الفنية هذا السياق هو العقيدة الوطنية حيث توجه خطابه باتجاه صدقيتها ومشروعيتها في القول والممارسة والفعل، مادة هذه الجملة العقائدية هي النص اللاأدبي الذي يكمن تحت النص المسرحي، وبسبب عمق النص المثيولوجي وهيمنته، تحمل الجملة في أحشائها البنية القصصية، ولذلك نجدها من حيث التركيبة متشابهة في أعماله القصصية وأعماله المسرحية، لكنها مختلفة من حيث الدلالة والتعبير، فجملة الرواية غالبا ما تكون مشحونة بالبحث والتأويل وتوسيع دائرة الخبر،ولا تحسم موقفاً، إنها ضمن سياق تصاعدي تتبع المبنى والمتن الحكائي للنص، بينما تكون جملته المسرحية آنية وحوارية وثرية ومعمقة بدوران الأسئلة، لتحفيز الصراع وحسم الموقف. وهذه ليست مثلبة أو قلة دراية بتحديد نوعية الجمل التي تختص بالمسرحية أو الروائية، ولكن طبيعة الحوار في المسرحية تفرض سياقا لحظوياً لحسم موقف ما، على العكس من الرواية، كلما كان الحسم مؤجلا فيها إزداد العمل تشويقاً، إن ما يميزالجملتين،هو أن الشخصيات في الرواية تختفي خلف أسماء صريحة ومكتملة، بينما الشخصيات في المسرحية مبهمة ونكرة في الغالب، وتختفي خلف صفات، أو رموز، أو أسماء مفردة، وسنأتي على هذه النقطة بالذات .

2-2- يجمع محيي الدين في جملته الفنية بين سايكولوجيتين: سايكولوجية الإنتماء الوطني للشعب وحرصه الشديد على تبيان مراحل نضوجه الفكري، وسايكولوجية التداخل الأثيني بين القوميات وأطياف المجتمع العراقي. والسايكولوجيتان هما عصب منطقة ثقافية حرجة في العراق، وقد جنبته اللغة الفصحى هذا التباين بين شخصية كردية تجيد اللغة العربية، وشخصية عربية تجد مكان نضالها في المنطقة الكردية. السايكولوجية الأولى فرضت عليه أن تكون شخصياته وسطية وثورية امتصت نقم وقضايا السياسة والملاحقة وعاشت بيئات شعبية منتوعة وانتقلت بين مدن وحواضر وأعمال مختلفة، أما سايكولوجية الإنتماء الأثيني فهي التي تجمع في داخلها؛ البنية الأثينية العراقية كلها؛ العربية مع الكردية، وهذه السايكولوجية لم تدفع به لأي تعصب بقدر ما كانت أداة لكشف العسف الذي لحق بالجميع. فنجد شخوصه من مختلف الطبقات والقوميات والأديان، فيها العربي والكردي، المسلم والمسيحي، اليهودي و الإيزيدي وغيرهم، ومادته قديمة مستلة من الحكايات ومن الف ليلة وليلة ومن الأساطير الكردية " مم وزين" و" كاوه الحداد" و سواها،ومن مواقف حديثة مأخوذة من الحياة الأجتماعية المعاصرة مثل "ئاسوس" كي يطرح قضية الإنسان العراقي عبر مئات السنين، فهو لا يطل على مشكلات المجتمع من عل، بل من المعايشة الفكرية والسياسية له، باحثا عن وجوده ، لذا تراه قريبا لمسرح اللامعقول والعبث، ولكن بأثواب ولهجة وسياق واقعيين" مسرحية صراخ الصمت الأخرس، " ومسرحية " تكلم ياحجر" . من هنا يستطيع محيي أن يقول عن هذا المجتمع ما يجعل قوله فصلا في طرائق التفكير السياسي، وفي سلوك وممارسات الناس العاديين ايضاً، وله رؤية أبعد من أن يقدم شخصيات بمواقف وأحداث مرت دون موقف فلسفي بامتياز تتلخص بأن يضع الشخصية الشعبية بمواجهة وجودها، هذه المواجهة التي تأخذ طابعا نضاليا حادا في احيان كثيرة، فتجدها متجددة من عمل لآخر.لا أعني بالطبع هنا أن محيي يلجأ للشخصيات المثقفة، الشخصيات المشبعة بتاريخية نضالية ووطنية فقط،، أو أنه يقلد مسرحا ثورياً سبق وأن عالج مثل هذه الشخصيات، بل عندما إكتشف الإنسان المنتمي – وهو محور معظم أعماله- وجد نفسه يبحث عن أسئلة جديدة عنه، لكنه وهو يبحث كان يضمحل تدريجيا بفوضى أسئلته تلك ،إنه يتلاشى في القضايا كي يفسح لغيره بالظهور، ولذلك عندما تقرأ مسرحية" السر" أو "الجراد"، تجدها موجودة في مسرحية "حكاية صديقين" و"تكلم ياحجر" و"السؤال" و"لمن الزهور" وغيرهأ، ولكن بطريقة أكثر تقدما من تلك، أنه إذ يتجدد يتلاشى في التجربة. هذا هو السؤال الوجودي المبني على الشك الدائم بالفلسفة والإيديولوجيا،ً لأن شخصياته كيانات بشرية تتصل بمثيولوجيا الأديان والحضارات القديمة وتتعمق عبر القضايا الوطنية المحلية وتحلق في فضاء تجربة لم تنته بعد، لذلك يرتفع حواره عن طبيعة طرح المشكلات الانية لتعالج جوهر السؤال الوجودي.وهو أناضل فأنا موجود. لأن الوجود عند محيي هو البحث عن سعادة بشرية ممكنة ضمن ظروف ممكنة أيضاً، وهو موقف إنساني وليس قضية عابرة أو فكرة طارئة، يفرض على جملته الفنية أن تكون يقظة وواضحة ومختصرة – عدا المنولوجات الطويلة والمستفيضة و أحيانا-. من هنا تتحول الكتابة إلى أداة حفر في طبيعة هذا الإنسان وقضاياه وما يفكر به. لأن محيي لا يتحدث عن شريحة محددة ذات هوية أثينية أو جغرافية من المجتمع العراقي ،ولا عن قومية أو شخصيات معينة، بل عن جدلية العلاقة بين الإنسان وموقفه، أنه الكاتب الذي تجد في نتاجه كل الشرائح العراقية،وكل منعطفات الاحداث التاريخية في العراق، ثورة تموز 1958 ودموية شباط 1963 وانتكاسة المجتمع في الحروب ، وكل ما يمكننا أن نؤرخ بها مجتمعنا. لذلك لا تجد شخصياته محجوزة بين جدران أو قويسات أيديولوجية، فهو يطلقها خارج فضائها، باحثة عن مصيرها، فتجدها تعبر المدن والقوميات واللغات والحدود، وتتجول في تونس والمغرب ومصر وفلسطين واليمن ودول الخليج، وهولندا وألمانيا،كما لو أنها مصممة لإلقاء الأسئلة على الناس جميعا. فالإبداع الحقيقي لا يغّربك عن مجتمعك، بل يقربك إليه، وهذا ما يفعله عندما يشدنا دائما إلى مشاهدة مسرحياته.

2-3- في سياق البنية الفكرية لمسرحياته لم يتعكز محيي على أيديولوجية معينة بالرغم من وضوح هواه الماركسي في طروحاته،هذا يعني أن المثقف الكبير لاتقوده إيديولوجيات بقدرما يغتني بالإيديولوجيات ثم يغادرها لمساحة أوسع منها. وفي مجتمع مثل مجتمعنا وما مربه، تصلح الإيديولوجيا إطارا عاما للرؤية الجدلية له، لكن المشكلات التي يجب أن يعالجها الكاتب يمكنها أن تخرج على هذا الإطار لتذهب بعيدا إلى تلك الجذور التي تجعل الفن المسرحي جزء من لعبة فنية كونية متطورة، وبالطبع أن من يشاهد المسرحية وهي تمثل على الخشبة، يجد ثمة بنية للعبة فنية بدائية موشاة بالحلم وبأثواب واقعية تحكي بطريقة تجسيدها للأشكال عبر لغة الحركة والجسد واللسان، حكاية ما
هذا على المستوى الستاتيكي والفيزيقي للعبة، بينما على مستوى الدلالة، نعم، ثمة لعبة كونية يمارسها البشر للتعبيرعن مواقفهم،عن حاجاتهم،عن أفكارهم، هذه اللعبة كانت موجودة منذ القدم وتكررها الشعوب كطقوس موسمية، بحيث يجري المحافظة على شكلها ومحتواها، وتؤدى سنويا ضمن إحتفال جماهيري، لكنها بعد فترة تتحول إلى رسالة تعبّر عن موقف وعن حاجة، شأنها شأن الموسيقى والرقص والغناء والحزن والفرح والغضب والحرب، فاللعبة الفنية،لا تستقر على شكل أو لغة، ولا على نص أو مدونة، أنها لعبة بحث منفتحة على التأصيل و التجريب والتجديد معاً، فهي من جانب حافظت على القديم ومن جانب آخر غيرت من دلالته كلما استدعت الضرورة لذلك. ولذلك على من يتعامل مع المسرح أن يجد لهذه اللعبة القديمة والبدائية الجملة الفنية التي تستوعب هذا التنويع والتجريب والتجديد.
في مسرح محيي الدين زه نكه نه نجد أنفسنا دائما في دائرة طقسية قديمة ولكن أطرها ومحتوى ما فيها يتغير باستمرار حتى ليعبر الحاضر. يبدو لي أن محيي الدين فيه شيء من بدائية لعبة الشكل المسرحي، شيء ما من لاوعي الشكل القديم يتحرك ضمن نصوصه،ويحرك نصوصه، أنه اللعب الفني على الشكل والثيمة والإنسان، لعب يستوعب الجديد وبخطاب مغاير لكنه يبقي على أن يقدم للجمهور ويحاورهم ويعرض مشكلاتهم ثم يسألهم. وعموم تجربة هذا اللعب الفني الماقبل، يعتمد على شخصيتين مركزيتين فمعظم بنية الحدث في مسرحياته قائم على شخصيتين بالرغم من تعدد الشخصيات في النص، وهو ما يجعلنا نؤكد أنه ينفتح على التجربة من كوة ضيقة ثم يشطر الشخصيتين إلى شخصيات أخرى فتجد المسرحية باربع أو خمس او ست أو عشر شخصيات ولكن الرئيسية منها إثنتان. فمحيي الدين لم يتخرج من أكاديمية الفنون الجميلة، ولم يدرس الفنون المسرحية دراسة خاصة،- نشر أول مسرحية عام 1959- كل ما يعرفه عن لعبة المسرح هو أنها تجسد دراما شعبية بلغة قريبة من العامة، وبإديولوجيا الناس المغيرين،فيمثل كل طرف بشخصية واحدة ثم يشطرها إلى شخصيات أخرى تقف مع هذا أو ذاك، هذا النوع من التأليف نما واتسع كطريقة لادارة الحوار بين عدة أصوات ريئسية وثانوية في الثقافة العراقية تحديدا تحت ظل الحس الوطني والثقافة التقدمية كتمثيل أولي للبنية الديمقراطية- كل روايات الروائي غائب طعمة فرمان مثلاً تعتمد تعددية الأصوات وقد اختصرها بـ خمسة أصوات،ولكن ما حولها عشرات الأشخاص، كمثل على تعددية الفئات والطبقات الإجتماعية- هذه التعددية فرضتها الثقافة الوطنية في تأكيدها لظاهرة النقد والسؤال المنفتحين على جذور المشكلات وتشعباتها الاجتماعية.
من هنا نجد أن للعبة المسرح المثيولوجية عند محيي دورا في ترسيخ فن المسرح كشكل يتواصل مع القديم باثواب معاصرة. وأعني باللعبة المثيولوجية وجود شيء من الفطرة المسبقة في الحوار ووعي الشخصية، لالتقاط الحدث والدوران في ثيمة وجود الإنسان وحقوقه ومتطلباته والمتغيرات التي سيحدثها، فاللعبة الفنية لماهية المسرح تفرض على الكاتب أن يكون ضمن سياقها القديم ولكن بأطر وأساليب حديثة، فمن جهة عليه أن يكون مغايرا للطرق التأليفية القديمة، ومن جهة أخرى عليه أن يحافظ على أصول اللعبة الفكرية. ولكن هذه المغايرة وهذه المحافظة اقتصرت على تنوع الحدث ونمط الشخصيات لتأتي الجملة الفنية حاملة الأثنين معا وهو ما نلمسه في جملة محيي عامة وليست في جملة أو جملتين نستلهما من هذا النص أو ذاك. أنها البنية اللاشعورية التي تتحكم عن طريق الحوار في صياغاته الفنية.. فالتجديد لا يأتي على كل مفردات العملية الفنية القديمة، بل على الحلقات القابلة للتغيير، والجملة وما تحتويه من بنية مركبة وعميقة ليس من السهل أن يغيرها الكاتب كما يفعل مع الحادثة أو الشخصية. فنحن قد نكتب اللامعقول بجمل واقعية، وقد نرسم لوحة ما بعد الحداثة بتقنية اللوحة الإنطباعية، وقد نغني الأغنية الحديثة بطورالعتابة، وقد نكتب قصيدة الحركة الثانية للحداثة الشعرية بأسلوب ولغة حركة حداثة السياب الأولى.
محيي الدين زه نكه نه يترصد هذا الخروج ويتبناه كي ينأى بجملته عن أن تكون مباشرة ومحسوبة على هذه الايديولوجيا أو تلك ، لكنها – أي الجملة- تعكس حقيقة تغيرات المجتمع وجوهر نضاله، وتسعى لرصد حركته بأدواتها قديمة ومستحدثة.من هنا فكتابات محيي أبعد من أن يخندقها أسلوب أو مصطلح ما، فهي أقرب ما أن تكون إلى شعر الحياة اليومية الذي نتنفس منه روائح التغيير بهدوء.
ومع مشروعية هذا التحول والتراجع للجملة الفنية، نجدها عالقة بأثواب الواقعية، حتى لو كان النص من اللامعقول، ويذكر في تجربته الحيايتة، أنه كان ملتزما بقضايا شعبه إبتداء من بداية الخمسينات وحتى يومنا هذا، ويسرد ذلك بشعرية جميلة في مقدمة كتبها لمسرحية " صراخ الصمت الأخرس"، تحدث فيها عن رحلته مع التعليم ومع البيشمركة ومع أحداث البعث الدموي في 1963، ومع كردستان ومع الحزب الشيوعي العراقي، ونجده وهو يقلب صفحات العراق يتقلب معها متنقلا بين مدن وبيوت وأفكار ومواجع. فالتجربة الغنية مبثوثة في أعماله وتحملها جملته الفنية بطريقة مباشرة
هذا الخزين من المشاعروالوعي واللاوعي، أستبطنه الإنسان العراقي في مرحلة تشكل ذاته العليا منذ كلكامش وحتى صفوان- أحد أبطال مسرحية السؤال-،ثم جعلها طريقة للحوار بين صديقين، وفي تكلم ياحجر، فحينما يبحث في "صراخ الصمت الأخرس" عن وجود كائن بشخصيتين نجده هو هاتين الشخصيتين اللتين لم يسمهما المؤلف إلا بـ الأول والثاني، هذه اللحظة الوجودية هي بحث عن ذات عليا ضمن تشظي الذات الواحدة،كي يداور بين صوتين موجودين فيه،وقد أعطت دلالة النكرة "الأول والثاني" – بالرغم من وجود أل التعريف،- ترتيبا جنسانيا كما أعطى اسمي :حسن وحسين في مسرحية " حكاية صديقين" آخر للدلالة على الواحد ايضاً، ومسرحية " صراخ الصمت الأخرس" التي يتحدث عن عنوانها الملتبس نجدها لا تكتمل بالعنوان فالعنوان جملة مبهمة ليس إلا عتبة أولى للدخول إلى النص فتصبح العتبة كلها مبتدأ ، بعد ان يتحول النص الى أداة للبحث عن معنى وجودهما في عالم يتطلب الحركة لا الوقوف، فالنص ينمو في دائرة البحث الوجودي لذاته أي دائرة العمل والفكر المستمرين، دائرة النضال اليومي، عندئذ يكون النص كله خبراً لجملة العنوان المبتدأ. أن تحقيق وجود الذات التي شكلها الأول والثاني جاء عن طريق الخبر- النص- وهذا يعني ضمنا أن سياق الحياة المعقدة بعد دموية شباط 1963 قد شظى الشخصية الواحدة إلى إثنتين، فهو من الصعب أن يكتب نصاً دون أن يضع شريحة من حياته فيه، فالنص مجسه لدخول غابة المجهول وأداته للكشف عن المثيولوجي فينا، ومحراثه لنبش نار الأعماق المستعرة. كل ذلك مشبع بالبنية اللاواعية ذات الجذر المثيولوجي والتي تعتبرأولى المدامك الفكرية التي بنى عليها عمارته المسرحية.

2-4- الغرف واللغة الممحاة

الملاحظة الأخرى التي بني عليها المؤلف عمارته الفنية، هي أن كل مسرحياته بنيت في أمكنة ضيقة: غرف،سجون، بيوت، معتقلات، زوايا،مقاهي،أزقة، عربات،كهف،قصر،ودلالة الأمكنة الضيقة تؤكد الواحدية والعزلة والمراقبة والإنتظار، إنها أمكنة مشحونة بقوة الصوت المفرد، ولأنه يكتب بالفصحى اختفت ملامح المنطقة الشعبية، والمدينة الكبيرة،أو أصبحت ظلالا في تلك الأمكنة الضيقة، ولكنك تشعر أن جملته الفنية قد حملت،الحس الجماعي للأمكنة الكبيرة،والذي يؤكد هذا الحس هو إنتمائية مطلقة لتلك الأمكنة. فمن يبني بيوت مسرحياته في ضواحي المدينة، وتحديدا في المناطق التي أشرنا إليها،يتشبث كثيرا بالتاريخية،بالتقاليد،بالنمط الكلاسيكي للحوار،بالرؤية المستقيمة للأمور،بالوضوح في القول، واللغة الفصحى جزء من هذه البنية التاريخية التي نحملها، فما تحملها اللغة من أحداث لا يمكن أن تكون طافية وبلا أعماق، فلو كانت أمكنته في المدينة لحملت أفعال وخصائص ولغة المدينة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولتشربت الفصحى بعشرات الأقوال المختلفة البنية والنطق، ولتسرب الكلام اليومي إليها بسهولة، ولبنت علاقاتها بطريقة أسرع مما نجده في الضواحي .
صحيح أن محيي لا يرى مكاناً آخر سوى خشبة المسرح، العلبة والمكان الضيق، وعلى هذه الخشبة بني بيوت نصوصه ، لكن ديكور هذه الخشبة/ العلبة- يحمل السمات الشعبية للمناطق و الضواحي والمناطق المعزولة والمفردة والمشحونة بطاقة الفرد. أن هذا يجعلنا نربط بين إستخدامه للفصحى المبسطة بالتغيب المتعمد للأمكنة الكبيرة. لأن الفصحى تعمم الحدث وتمنعه من التخصيص، وبمثل هذه المزاوجة، بين الأمكنة الضيقة أمكنة الضواحي واللغة الفصحى، تتحول القضايا الوطنية الكبيرة إلى حوارأفكار،يقال في جلسة شاي أو في سفرة بطريق أو في عربة متنقلة أو في زنزانة ضيقة، أو بين مصلوبين على جدار أو خلاصة لسؤال وجودي، كما تجدها في طبيعة الريف والبلدات الصغيرة،أيضا.
والأمر لا يقتصر على محيي الدين فقط، بل يشمل ذلك عموم نتاجنا الثقافي. ففي روايتنا وشعرنا ومسرحنا، لا توجد علاقات للمدينة الحديثة فيها، ولا حتى لهوية وسياق مدينة مثل بغداد، بل وجدت لسياق وعلاقات المحلة الشعبية، والمعمل، والأسرة، والسجن، والزقاق، والمقهى، أي العلاقات التي تولدها الأمكنة الضيقة، ولكن محيي يغيّب متعمدا هوية وملامح الأمكنة الكبيرة مكتفيا باستعماله اللغة الفصحى دائما كممحاة كبيرة لمحو الفوارق بين الأمكنة..

من هنا لم يلجأ محيي الدين إلى نثر الحياة، في تلك المشكلات التي تحدث في العيادة أو دائرة العمل أو الأسرة، والسوق، أوالتي تكتفي بعرض الأحداث اليومية،أو التي تكتفي بالشكوى وعرض الحال، أو تلك التي يلخصها العرضحالجي بأسطر قليلة ثم يضع عليها طمغة الابهام والطابع،ويرسلها لمدير الناحية، بل ذهب مباشرة إلى شعر هذه الأمكنة الضيقة والضواحي، إلى النوى الجديدة التي تمزج بين عملها وفكرها، بين أن تتطلع للعيش في المدينة وأن تختفي من عسس وشرطة وسجون المدينة، شخصياته تتطلع دائما إلى إثارة سؤال الوجود ، فذهب إلى تلك الينابيع التراجيدية الشعبية الغنية بالمحتملات، وقدمها لنا بجمل يتداخل فيها الصوتان: صوت المؤلف وهو يعيش تجربتها، وصوت الشخصية وهي ترسم مصائرها. لتحمل جملته الصوتين معا، فيتحدث في حواره وهو مشبع بضمير المتكلم، ويتحدث بضمير المتكلم وهو يعلن عن صوت الفئة الأجتماعية الأوسع. فشخصياته وكلاء لأفكاره، لا تبدو الشخصيات قليلة التجربة، ولا هي من تلك التي لاجذور لها، بل هي الفئة المثقفة والمختبرة وذات الماضي النضالي، ومن أعمار متوسطة، والكثير منها محدد السن، ما بين الخامسة والعشرين والخمسين عاما،. كما أن أحداثه ليست من تلك التي تظهر وتنطفئ سريعاً، إنها متحولة قبل البدء بمعالجتها إلى حكاية يتداولها سكان المنطقة،هي من تلك التي لاتمر بسهولة، وتعتبر كتابة مسرحية عنها بمثابة توالد جديد لها، وعندما تمثل على المسرح – ثمة قائمة يرفقها المؤلف للمرات التي مثلت بها مسرحياته على مسارح العراق ومدنه وعلى مسارح الدول العربية- تتجدد، وتنمو كظاهرة ثقافية، وعندما تنقلها من الحياة إلى المسرح تلتحم بمسار ثقافي أعم،هو الحياة الموضوعة تحت الأضواء وتطلب لظهورها مخرج وممثلون وجمهور، أعادة أنتاج الحادثة ثانية هي الطريقة التي يخرج محيي بها أحداثة من أزقتها وسجونها وضواحيها وغرفها إلى الشارع، لذلك يرتبط فنه بمصائر البسطاء الذين يفكرون ،البسطاء الذين لايحتاجون إلى ميكروفون لشرح حالهم، ولا إلى مندوب ينوب عنهم، أنهم يتكفلون القول عما مروا به. من هنا يمكنك أن تضع نتاجه كله دون أن تستثني عملا له ضمن إطار التراجيديا الشعبية المعاصرة والممثلة بنمط من الشخصيات التي إبتنت مسرحها الفكري في ضواحي المدن، أما جمهورها فمتشابهون مع ممثليها، ولذلك يصدق كل ما يقال فيها، فالإطار الذي تصنعه الحكاية اليومية، وتجسده المعاناة الفكرية لإنسان شعبي بسيط، وترسم حدوده صراعات العمل والممارسة الحياتية، هو الطريقة الفنية لأعمال محيي كلها.
ولكن ذلك لا يتم بغفلة من تأثيرات صادمة قوية،ففي مجتمع مثل مجتمعاتنا المتأرجح بين القرية والمدينة، لا يمكنك أن تعلن إصلاحات كبيرة منطلقة من غرف السجون وضواحي المدن والصحارى دون أن تصطدم بالقوى القامعة المانعة للحرية، كما لا يمكنك أن تركن دائما في التغيير إلى موضوعات بسيطة وأسرية وشخصية التي تسعى إلى ثبات اللغة وديموتها خاصة تلك التي يتمنطق بها الحكام والقوى القامعة، ثمة إنزياحات تتم بين الفصحى والمحكية يمكن أن تتحول قطاعات فيهما من واحدة إلى الأخرى نتيجة ما يحدث من تبدل أو تطور، هذه السمة رصدها محيي بدقة لذلك أبقى على الفصحى الوسطية لاحتوائها مشاعر ومواقف الأثنين، وفي الوقت نفسه يمكن أن يرصد من خلالها التحولات الداخلية فيها. اللغة عنده جسر موصل بين منطقتين، ولكن بقواطع يمكن اختراقها وتجاوزها. ونجد أن قوى التسلط في المدينة تستخدم آليات قمع جديدة ومتطورة لتمنع الأمكنة المحيطة بها كي لاتزحف إلى المدينة، ثمة قصدية لإبقاء سكنة الضواحي مرتبطين بالعمل البسيط وبالإنتاج السلعي اليومي، وبالثقافة الهامشية، وبقدرما تكون السلطة مؤسسة لسياق لغوي خاص بها، سياق مشبع بالثقة وبالفردية وبالقرارات السياسية القامعة، تصبح جملته المسرحية المنبثقة من الأمكنة الضيقة والضواحي عرضة للإختراق من قبل بسطاء الناس ليضيفوا إليها أو يغيروا من سياقها، قد تكون مثل هذه الطريقة مخاتلة لقناعة البسطاء بأنهم قادرون على التغيير، لكنها الطريقة الوحيدة لتغيير مواقعم واستحصال حقوقهم، فمن أجل أعادة تركيب جملتهم من جديد يأتي حضورهم الدائم على مسرح الحدث صدمة مباشرة للسلطات، وهذه الطريقة الفنية واحدة من خصائص مسرح محيي الدين زه نكه نه بالرغم من أن لا عملا له معينا قد عالجها، اذ يمكن الإشارة إلى مسرحية " الجنزير" ومسرحية " تكلم ياحجر" ومسرحية "السؤال"و" مسرحية الجراد" ولكن ليس بالطريقة التي نذهب إليها كلياً. فاللغة. فالمسرح الذي لم تتغير تراكيب جملته بعد حدوث صدمات داخلية وانزياحات مكانية وعملية وسياسية واقتصادية وحروب كبيرة، هو تكرار لتقليدية خمسينية سابقة، ومحاولة للبقاء ضمن دائرة اعادة الأحداث، محيي الدين يحاول أن يحمّل لغته المعنيين: معنى الثبات الذي لا تريده السلطة القامعة، ومعنى التغيير الذي تريده الفئات الاجتماعية الوسطى، في حين أن لغة القوى القامعة والمتسلطة في المجتمعات الغربية تختفي وتظهر بدلا عنها لغة قوى الإنتاج الضاغطة ومهيمنات السوق والإيديولوجيات الإمبريالية، ولغة الحقوق والقوانين، وبناء الإنسان والنظم المعرفية والبحث عن افاق جديدة للتعليم ومساواة الناس والضمانات الكثيرة لحياة حرة وكريمة، في حين أن دائرة الصراع في مثل مجتمعاتنا تأخذ منحى هو أقل بساطة، ولكنه أعتى قوى وتسلطية وقهرا،لأنها تستخدم لغة غير مختبرة اجتماعيا، وسياسياً، وهذا يتطلب تغييرا جذريا في طبيعة اللغة الفنية وفي تراكيب الجملة في المرحلة القادمة، وعندي أن يصار مستقبلا إلى جملة لا يكون الكلام وحده هو ما تحتويه، ففي المسرح التجريبي اليوم وجدت لغات كثيرة في الجملة الفنية أقل حضورا فيها هو الكلام. فالقوى القامعة في مجتمعاتنا عندما إحتلت مكان الآلهة في التراجيديا الكلاسيكية، مارست سلطة مزدوجة؛ دينية وسياسية، وعليه أن تعود بخطابها وجملتها إلى نصوص قديمة مقدسة وغير مقدسة، وعندما وضعت نفسها محل قوى الإستغلال الطبقي في المجتمعات الرأسمالية،استعانت بقوى ولغة الأساطير، ومن يحتل مثل هذه المواقع في مجتمعاتنا العربية اليوم نجده يستعير لغة الدين والنصوص المقدسة، علينا كي نجدد خطابنها الفني أن نبدأ باللغة نفسها .

3

لعبة الأسماء والجمل
3-1
بدءا علينا أن نميز بين جملتين كبيرتين: الجملة التي ينطقها أشخاص بأسماء محددة ومعينة، جملة : حسين، حسن، محمد، في مسرحية "حكاية صديقين"و مسرحية "موت فنان"...الخ، والجملة التي ينطقها أشخاص ليست لهم أسماء، كالجملة التي ينطقها : الأول، الثاني،المعلم،الفتاة، العجوز،هو، هي،الشاعر، المذيع، المؤلف،العريف، المخرج، القاضي، الحاكم،..الخ. احتوت مسرحيات محيي النوعين من الأسماء، وبالتالي على نوعين من الجمل. ففي مسرحيات مثل: مسرحية "صراخ الصمت الأخرس" ومسرحية "المائدة المستطيلة" ومسرحية "هو..هي..هو" ومسرحية "العانس" و مسرحية "تكلم ياحجر" ومسرحية "زلزلة تسري في عروق الصحراء"
في مسرحية "الجنزير" كل الشخصيات تحمل اسماءها و هي تنتمي جميعا الى إسرة واحدة هي الـ العاكول أو العوجة ..و تاكيداً لذلك صغيت بوزن واحد هو أفعل - أو أحقر في حين أن مسرحية "حكاية صديقين" الحوار فيها يدور بين أسماء،لها أباء ومهن وخلفيات، وثمة مسرحيات ثالثة يدور الحوار فيها بين الإثنين؛ أسماء وصفات : مسرحية "القطط" مثلاً.
تمنحنا هذه الملاحظة دلالة على أن الشخصية عند محي ليست شخصيات مسماة بالكامل حتى تلك التي حملت أسماء مثل حسين،حسن ، محمد، علي، بل هي شخصيات تحمل أفكاراً،ومسألة الأسماء من عدمها لم تكن ذات أهمية كبيرة في سياق إختياره للجملة الفنية، ولكني أشير ببساطة إلى أن الشخصية التي تحمل إسما حتى لو كان مجردا من الأب، هي حاملة لأفكار، قد لا تكون مؤمنة بها، ولكنها شخصيات جسور وشخصيات تبليغ، بينما الشخصيات التي لا إسم لها هي أفكار،حتى لتكاد أن لا تجد ملامح شخصية أوهوية مكانية أو زمانية لها، والفرق واضح بين أن تكون الشخصية حاملة لفكرة، وشخصية تمثل فكرة، الأولى يمكن تعميمها، والإشارة إليها، ومعظمها شخصيات من الحاضر، من الوسط الشعبي، ومسرحنا غني بها، بينما الثانية التي بلا أسماء، تكون مختزلة ومحدودة الوجود، بعضها بلا زمان أو مكان، مثل الأول ، الثاني، الجندي، القاضي، وغالبا ما تكون جزء من المؤلف نفسه، وهي الأكثر حضورا في مسرح محيي الدين زه نكه نه، ولذلك، فالجملة التي تنطقها هذه الشخصية تنطلق من موقعها الفكري، عندما نسمعها تتكلم نشعر ثمة جماعة تتكلم- سنجد ذلك أكثر تجسيدا ووضوحا للفكرة عندما تمثلها شخصية مصحوبة بالصوت والحركة، لأن الممثل لا يحمل هو الآخر إسما عندما يكون على خشبة المسرح- الشخصيات التي بلا أسماء تعيش في فاعلية النكرة التي تحيلك على الإحتمالات وتوسع من أفق التأويل، مما يجعلها الموقف خارج أطرها المكانية والزمانية. في حين أن الشخصية المسماة باسم، المجرد من الأب واللقب، تقترب من الشخصية العمومية التي تنطلق من موقع واحد فقط، هو موقعها الفكري. فعندما يكلمني مالك أو فاضل أو حسن أو حسين، أشعر أني أعرف مثل هذه الشخصيات عندئذ لا أنتبه - وليس من شأني الإنتباه- لحركاتهما وهما يتحدثان إلي، فالممثل الذي يجسدهما يحمل الأسم نفسه، فيضيّق علي مساحة التأويل والإحالة، والأمر مختلف عندما تكون شخصية :القاضي أو الشرطي، أو الحارس، أو الأول والثاني...الخ فهي الأخرى تقع في دائرة النكرة وما اشارتها إلى فئة معينة، إلا لتحديد وظيفتها. لكنها تحيلني إلى مبادئ كالحق والعدالة والأمن والمطلق، ومثل هذه الشخصيات تشكل عندي نقطة تحول كبيرة في إلغاء الفواصل بين المدينة والضواحي عندما تكون الأفكار والدلالات التي تمثلها شاملة لكل المناطق والمواقع، بينما الشخصيات التي تحمل أسماء يمكن أن تحددها بمنطقة دون أخرى وبهوية سكانية قد تقترب من تحديد جغرافيتها،كما لو كنت اشير إلى اسم كاكه حمه مثلا أو إلى أسطورة مم وزين، فلا يخفى على أحد أنني أشير إلى المنطقة الكردية، وهكذا تجبرني الأسماء المحددة على البحث عن جغرافيتها، بينما الأسماء الوظائف والأفكار والنكرات والمبهمات تحيلني إلى المناطق المتأرجحة بين الريف والمدينة.

3-2- سنقرأ الحوار الآتي: للشخصيات الأفكار
....
....
....
الثاني: إن لاقترابك معنى ، ولابتعادك معنى
الاول : ولوقوفي حيث أنا معنى
الثاني: لامعنى، لا معنى البتة
الاول : ولوقوفي حيث أنا واقف؟
الثاني: لامعنى .. لا معنى البتة
الاول: كنت أحسب أن الوقوف يعني الصمود، يعني الإصرار، يعني التصميم، يعني العزم، يعني الكبرياء، يعني الشموخ، يعني الإباء، يعني الرفض، يعني البطولة، يعني الإنتصار، يعني ...
الثاني: ذلك منطق الجبناء، الخائرين، الخاسئين، المهزوزين، المهزومين، المدعين، الكذابين، المنافقين،الفارغين، التافهين...
الاول: ياه .. ياه.. أنت تشتم الأمة كلها ،
الثاني: بل بعضها، ذلك البعض الذي يخرب عقل الأمة وقلبها.
الاول: و.. و.. و .. و الحركة.. الحركة ماذا تعني؟
الثاني: تعني الشجاعة وإختيار الموقف..

يخرج حوار الأول والثاني عن إطار الشخصيات المفردة ليدخل في إطار الشخصيات الفكرة، وعندما يُشخص الحوار تمثيلا على المسرح – وهو شرط أساس في تقبل مثل هذا الحوار وفهمه- هو أن نربط بين حركة الأول والثاني وموقعهما الفكري على المسرح، ثم نربط أفكارهما والمرحلة.
فنجد الترسيمة التالية:
لكل من الأول والثاني إطار خاص يحدد حركة أفكاره.
يكون إطار الثاني محددا بالحركة، أي تحريك الناس وعدم الإكتفاء بالوقوف متفرجين على ما يحدث.
بينما يكون إطار الأول محدداً بالوقوف والسكون .
وهكذا نجد الحوار يتحرك داخل هذين الإطارين: إطار منفتح هو الحركة وإطار ساكن هو الوقوف .
وخلاصة القول أن هذه الشخصيات تختفي خلف الفكرة فتصبح الجملة الفنية معبرة عن الفكرة وليست عن الشخصية ،إذ بامكان أية شخصية في أي زمان أن تنطق بالجملة نفسها، مادامت الفكرة غير محسومة بعد. هذا التماهي بين الشخصية والفكرة لا ينتج إلا جملاً عائمة وغائمة ، لكنها جمل في صلب موضوعها.
ثمة نغمة تهكمية أرسطية في المحاورة داخل بنية الجملتين، لينتهي المشهد إلى تغيير قناعة ورؤية الأول، من أن الوقوف هو التنصل عن القضية، بينما الحركة هي الفعل حسب رؤية الثاني، لكنهما يعودان في مواقع أخرى للدائرة نفسها وللإطارين السابقين. بمعنى أن النهاية المفتوحة للفكرة لم تستو على محاورة واحدة، وهذا النهج التهكمي الساخر قد لا يكون بكلمات ساخرة بقدر ما هو بحث عن الفكرة بظلال شفافة.
المسرحية التي إقتبسنا منها هذا النص هي " صراخ الصمت الأخرس" التي تتحدث عن ما حدث في العراق بعد دموية شباط 1963 وكيف آلت الأمور إلى إباحة دماء الوطنيين. إذن نحن في سياق جمل تبحث وتؤكد الموقف الرافض، الموقف الذي يقترن بالحركة، بالفعل، بالتأويل، وليس الموقف الذي يقترن بالوقوف، والجمود،والصمت، الحركة تعني الفعل والإرادة. لذلك لا تقرأ أية جملة في هذا النص دون أن تربطها بمحتوى المسرحية، وعندئذ تكون الشخصيات هي الأطر التي تحتوي جدلية هذه الجمل.
لو قرئت مسرحيات محيي الدين زه نكه نه، دون تمثيل أو مشاهدة لتحولت إلى نصوص قصصية، وهذا يعود في جزء كبير منه إلى تركيبة الجملة نفسها، حيث تشحن بما هوفكري، أكثر مما هو شخصاني، بالرغم من موضوعاته الجماعية،ولكنها عندما تشخص على المسرح تتعدد مقولاتها، ويتسع أفق التأويل، لذا لا تصلح مسرحيات محيي إلا أن تكون على خشبة المسرح، حيث تضفي الواقعية الفنية على النص ظلال الحدث المعاش لا الحدث المقروء.علينا أن ندرك أن لغة المسرح تحمل معاني ومضامين الأمكنة التي تشخص عليها النصوص المسرحية، وهي طريقة إخراجية، ومثل هذه الأمكنة لا نراها في الجملة المنطوقة، بل نراها في الجملة المتحركة على الخشبة، وعلى المخرج أن يقّشر الجمل من قصصيتها، فانتماؤه الواضح للفئات الوسطية المناضلة من المجتمع، رسم طريقة فنية تقترب من التراجيديا الشعبية حيث أتاح له أن يتحدث بلسانها الشعبي بالرغم من كون لغتها فصيحة، في حين أن أفكارها تتجاوز البعد الشعبي المحكي، لتحاكي الوجود، السيرورة، الفعل النضالي، الموقف الوطني.
يخرج مفهوم التراجيديا في مسرحيات محيي عن إطارها القديم الذي كان يحاكي أفعال الآلهة وصراع البشر معهم، إلى أفعال الناس اليومية، وصراعاتهم المحلية ، فتدخل إلى مواقفهم الوطنية، إلى تشكلاتهم العملية، إلى الصراعات الأسروية، إلى تلك البنى التي ليس فيها آلهة أو سلاطين، فتجد نفسها وسط فئات وسطية صراعها الفكري فرضته ظروف ومصالح طبقات وفئات. هذا النوع من التراجيديا الشعبية ممتلئ بالسخرية والتهكم، وبتلك اللغة المشحونة باليومي والرؤى الفردية المضطربة. ولذلك لا تؤخذ أفكار هذه الشخصيات لتعمم بقدرما ترسم حالة تتراكم فيها الحكايات المتشابهة. نحن إذن في بنية جمل تحاكي المواقف الوسطية لفئات شعبية عاشت محناً اجتماعية وسياسية، لأن المشكلة ما تزال تعيش بين ظهرانينا، وعلينا أن لا ننساها،هذه المحنة الأسلوبية تعكس محنة فكرية أعمق، وهي أن الشخصيات /الأفكارلم تغادرمواقعها القديمة بعد بالرغم من مرورأربعة عقودعلى جريمة 8 شباط 1963. ولذلك تبدو الشخصيات /الأفكار أكثر ملائمة للعب الفني في تأسيس بنية لجملة غير محسومة بعد، فما زلنا ولفترة أربعة عشر قرنا بحاجة لأن نتحرك لا أن نقف، ما زلنا ندور في دوامة العنف والقتل والتهجير والحروب، مازلنا نعمق التراجيديا الشعبية بموروثات قديمة تذكري فينا البكاء والندب والتهكم أيضاً فنحن بعد اربعة عشر قرنا ما زلنا نندب الحسين وننصب التعازي لمأساة كربلاء، لا لرفض ما حدث أو للتغيير، وإنما للقبول السلبي لما حدث،وكأن المأساة قدر ملتصق بجلودنا، هذه القدرية جزء منبنية عقلية نألف العيش الدائم معها، فجمل واقعة الطف تقال على ألسنة العامة والخاصة معاً، وتؤلف حولها الحكايات التي تؤمن بها شرائح مختلفة الانتماءات، ومثل هذه التراجيديا تخرج من إطارها الفكري القديم لتعيش في إطارها الشعبي الحديث لتستمر في دائرة التأويل.وكأننا نعمل المونتاج بين حكايتين واحدة قديمة تمثل إطارا كبيرا وشاملا وهي مأساة كربلاء، واخريات أصغر تمثل تراجديا الحياة الشعبية والسياسية،فإنتاجنا هذا لا يتم عبر شخصيات من لحم ودم بل خلال أفكار تتلبسها الشخصيات عبر الأزمنة. وقد يعود البعد التراجيدي إلى ابعد من كربلاء إلى ذلك الحزن البابلي والسومري والطقوس القديمة التي يتكرر أجزاء منها في طقوسنا الشعبية.

3-3- سنقرأ الحوار التالي للشخصيات الأسماء،

سأختار حوارا من مسرحية "الجنزير" وهي نص يتحث عن حالة مألوفة في الحكومات الدكتاتورية التي تنصب للوظائف الأقارب ومن هو من الشجرة العائلية، وحتى الغرباء الذين يدخلونها سيتطبعون بطباعها، هذه المسرحية تكاد تكون بجملة فنية واحدة ولكنها طويلة ومتنوعة لرصد التبدلات الداخلية لأسرة الحاكم " الجنزير" ولحاشيته ولما يحدث من ردود أفعال خارج القصرعلى داخله، ومن تغييرات في المناصب ومن احداث وانقلابات على الإسرة بعضها على بعض أننا في دوامة فعل بيتي أسروي تتكرر فيه كل الأشكال التي عاشها العراق لفترات طويلة..هذا النص مألوف معاش ويومي للعراقيين وكثير التفاصيل ويعتمد شعبيا على التهكم والسخرية والكاركتيرية، ولذلك لا نجد فيه فواصل درامية كبيرة، ولكثرة ما عرف لا ترسم المسرحية إلا تراجيديا محبطة وسلبية، الدرامية في مثل هذه النصوص هي في الحكاية المنفتحة على غيرها، وفي تأويلها شعبيا بما يضاف إليها، ومحيي يحيل القارئ إلى ما يشبه الحكاية المسرودة أمامنا يومياً، يدخلنا في الجو الشعبي العام الذي نعرفه جميعا عن تصرفات وسلوك الحاشية )الجنزيرية(، وبإمكان أي واحد منا أن يضيف إليها أو يحذف منها. ولكن ما يهمني في هذا النص الشعبي المألوف هو الكيفية التي تبنى الجملة فيه عندما يكون المكان محدداً،بقصرأو ببيت، وعندما تكون الشخصيات من أسرة متقاربة النوازع والأهداف، حتى لتجد أن الحوارلا ينمو، بل يدور في حلقة مغلقة وسرية فرضتها طبيعة المكان، ليصل في النهاية إلى تراجيديا سوداوية شخوصها لعب كارتونية تصطنع جملتها. والمؤلف نجح في إظهار مثل هذا المستوى المتدني من الشخوص.
في هذا النوع من الجمل نجد أن الجملة تتوازن مع الشخصية، الشخصية لا جملة مهمة لها، لأن جملها معلبة وجاهزة ومعدة مسبقا وما يحدث أمامنا هو التكرار لها. أما الجملة فهي الأخرى لا شخصية لها غير شخصية الحاشية المتهالكة على المناصب. وضمن هذا التوازي يدور الحوار في حلقات الألسن المتشابهة.
أجلد: تعالي ..تعالي قدمي مراسيم الطاعة والولاء.
.......
.......
.......

أسماء:أنه ..هو..بابا..ولا أحد غيره.. هو..يا أجلد ولا أحد سواه..أنها ..أنها هديته / المفاجأة هديته/ الصاعقة.
أجلد: يبدو كان الأمر كذلك،
أسماء:بل هو كذلك يا أجلد.. كذلك بكل تأكيد،آه..يا بابا...ما أعظمك.. ما أقدرك..روحي ..فداك.
أجلد: وروحي مع روحك.. ومع هذا يجب أن لا ننسى فضل عمنا أيضا..
.......
.......
.......
أرشد: على أن يتفضل معاليه بتقديم الهيكل التنظيمي والإداري والمالي لوزارته،مع جميع مرافقها من مؤسسات ومديريات خاصة وعامة.
........

وهكذا طوال المسرحية لا يوجد غير الحديث الذي يدور في فلك الأسرة ومشكلاتها وهمينتها على الدولة.وتشعر بأن القوى الضاغطة والمهيمنة تفرض سياقاتها على الجملة الفنية فتشحبها وتقصرها على امنيات وأفعال صغيرة، وفي الوقت نفسه تتحول اللغة إلى فراغ فكري يدور في حلقة بيتية ويعايش حالات متكررة وممجوجة.
كنت متقصدا لإدراج مثل هذا الحوار، لأن الموضوع لا يتطلب لغة عالية: فالشخصيات من الوضاعة والسخف والأمية ما يجعل مستوى كلامها سوقيا، ومرة أخرى ينجح المؤلف في إظهار مستويات قول الشخصيات الطارئة فتصبح الجملة طارئة وغير ذات معنى وقد اوضح زه نكه نه نفسه ذلك بجلاء ، اذا قال في مقدمة المسرحية (…..و كذلك اللغة الخشنة . اليابسة .الفجة …..و حتى الركيكة احيانا ، و الخاطئة ايضا .مقصودة هي الاخرى ) ص4
بالطبع ليس حوار كل الشخصيات الأسماء هكذا،وإنما عندما يحدد الأسم بدلالة "الجلد" تكون لغته جزء من شخصيته، بينما الشصية النكرة لا يلتصق حوارها بجلده بل بما تفكر فيه.

3-4- الجملة بين الفصحى والمحكية.
من يقرأ مسرحيات محيي الدين زه نكه نه يجدها جميعا مكتوبة باللغة الفصحى، كذلك رواياته وقصصه القصيرة، ولكن النغمة الشعبية موجودة في بنيتها وجزء من سياقها بحيث تحيلك جمله على مستوى ومواقع الشخصيات المتحاورة مهما كانت هذه الشخصيات شعبية أم غير شعبية،وقد تكلمنا عن هذه النقطة كثيراً، فعن طريق الفصحى يكشف عن تنوع الشخصيات فليس كل من ينطق الفصحى متشابه، ولا كل شخصية تنطق الجملة الفصيحة هي نفسها النبرة والسياق الذي تنطقه شخصية أخرى، ولكن وكما يبدو أن النص المسرحي لا يُقرأ بل يعاش ويمثل، وهذا المستوى من التعبير وحده القادر على إبراز التلاوين الأسلوبية بين جملة وأخرى وشخصية وأخرى.، ربما ستخفف عنها المحكية الكثير من هذا التلوين،ولذلك يتعمد المؤلف أن يُظهر شخصياته تتكلم بطريقة يفهمها المشاهد و القارئ في أي بلد عربي، فالذي ينغمر في الحدث المحلي يكتشف أن اللغة ليست هي المعنية بالإيصال عنده، بل هي آداة وطريقة لإدارة الصراع، فاللغة الفصحى تحمل المحلية وتنشرها، ولكنها لا تنطقها ربما ثمة هدف من هذا النوع هو أن الكاتب وبعد أن لقيت مسرحياته إقبالا في المسارح العربية، تعمد أن يكون خطابه كله فصيحاً
في جانب آخرقد قد لا تكون الفصحى السليمة، بالرغم من تراكيبها الشعبية، تعكس كل الخلجات والمستويات النفسية والاجتماعية لظلال الحدث المحلي وأبعاده، مثلما لو عبرعنه باللهجة المحكية. لا شك ان بعض مستويات الشعور والسياق تفتقدها اللهجة الفصحى عندما تعبر عن حدث محلي، وكما يبدو لي أن الكاتب نفسه لا يجيد الحوار باللهجة المحكية، نتيجة تريبته، وسكناه، وطريقة حياته، وانشغاله بتدريس اللغة العربية لعشرين عاما تقريبا قبل احالته على التقاعد عام 1984 لاسباب صحية بسبب التردي الذي اصاب نظره جراء اصابة شبكية العينين ، كما أن اهتمامه باللغة الفصحى متأت من أن العربية وعاء جيد لكل مستويات القول، ولكل ما تفكر به الشخصية مهما كان مستواها وموقعها. ولذلك نجد تباينا كبيراً بين جمل نص فيه حدث متميز وإنساني مثل " تكلم ياحجر" وبين جمل نص مثل" الجنزير" الذي لا تنسجم معه إلا تلك الشعبية المفرطة بمحليتها. ومن هنا نجد تباينا في جمله الفصيحة وتدرجا في مستوياتها.
الملاحظ في كل هذه المستويات الفنية للعبارة الفصيحة أن بعض جمله فيها من الطول و الاسهاب وهو ما يعكس عدم قدرة الشخصية على توصيل الفكرة،إلا بالمنولوج الذاتي الطويل، فالكاتب يسعى لأن يشرح عن طريق المنولوج الطويل تفاصيل الموقف، لذلك جاءت بعض جمله لا تتناسب وطبيعة المسرح الذي يعتمد الإختزال والتركيز، وجزء من هذا السبب يكمن في أن محيي بالاضافة الى كونه مولفا مسرحيا فهو كاتب رواية وقصة، وهذا النوع من الـتأليف يميل إلى السرد، والإيضاح،في حين أن حوار المسرح يميل إلى التركيز والإبهام، وعندما يتداخل فن السرد بفن الحوار يختلط فن المنولوج بفن الديالوج، والطريقتان موجودتان في نصوصه المسرحية، وقد أكون واضحا إذا قلت أن الأمكنة الوسطية المتحولة،، تلك التي تتأرجح بين الريف والمدينة، والتي لم تحسم فيها طرق العيش والتفكير هي التي تنتعش فيها الحوارات التي تجمع بين السرد والحوار، فتجد الشخصية التي تعبر عن ذاتها بمنولوج طويل إلى جوار الشخصية التي تعبر عن ذاتها بحوارقصير جنباً إلى جنب،
في مسرحية "حكاية صديقين" وهي عندي واحدة من أجمل المسرحيات التي عكست ظلال الحرب على شخصيتين عاشا معا محنها وظروفها وها هما في الصحراء يستدجيان ماء، نجد في صفحات كثيرة منها شبة تساو في حوار الشخصيتين حسن وحسين،وكان الحوار يتبع دلالة الاسم،حتى من حيث الأسطر والجمل، وكان التوازي اللساني يعكس التوازي الإنساني، لا سيما وإن جملاً كثيرة تقول عنهما أنهما وجهان لعملة واحدة، خذ مثلا على ذلك ص 370 وما يليها من كتابه " عشرة نصوص مسرحية" - دار الشؤون الثقافية العامة 2004 .وخذ حوار محمود ومسعود في مسرحية " الشبيه" وهي ثيمة قريبة جدا من مسرحية "حكاية صديقين" فنجد جملها متناوبة الطول أيضاً
ليس المهم طول الجملة أو قصرها، فمثل هذا القياس خارجي ولا يدل إلا على أن الشخصيات الكثيرة الكلام هي جزء من طبيعة وثقافة شعوب تريد أن تقول كل شيء عن طريق الكلام،ومثل هذه السجية نجدها لدى الشعوب الفقيرة ثقافيا،ومن طبيعة الاحداث التي تحدث في القرى والصحراء والمنافي والسجون، في حين أن اللغة واحدة من طرائق إختزال القول ولكن ليست طريقة الوحيدة لتبني كل القول، فالثقافة الحديثة المرتبطة جذورها بالمدينة اختزلت الكلام، واعتمدت العلامة والإشارة بدلاعنه، وأصبحت الإيماء والإشارة والكلمة الدالة أسلوبا شائعا بين الناس، حتى أن هذه الطريقة الإختزالية تعلم لطلبة المدارس وتصبح واحدة من أساليب التفاهم اليومية، بل وأصبحت طريقة اقتصادية، ولها تيارات واتجاهات، ربما ما نجده في المسرح الغربي الحديث من اقتصار الكلام على الفاظ قليلة ،و جزء من هذه الثقافة المقتصدة والمكتفية، في حين أن العرض المسرحي هنا يستمر لأكثر من ساعة ونصف لاعتماد العرض على ثقافة وتكنيك الجسد ودور الميزانسين ومكونات الخشبة..

4
وبعد فهذه رحلة قصيرة ووجلة في عالم محيي الدين زه نكه نه الواسع والكبير والممتد لأكثر من خمسة عقود، والمنشور و المعروض ليس في العراق حسب بل في عموم البلدان العربية، هذا الكاتب الإستثناء واحد من أعمدة الثقافة العراقية، لم تحدده قومية ولم تؤطره لغة ولم يسيجه مكان، عاش كما ابتدأ مرتبطاً بأحزان وأفراح الشعب العراقي، هاجر عن مدينته بعقوبة بعد
أن احتل بيته، من قبل الإرهابيين، ولوحق لسنوات طويلة متنقلا علنا وخفية بين مدن العراق،ومنعت مسرحياته كجزء من نضال المثقفين الديمقراطيين عبر عقود، اليوم يسكن، سكنا وكتابة في أحد أزقة السليمانية ، ومن هناك يواصل- وهو المريض-اصابة في شبكية العنين كلتيهما، قد تفقده الرؤية تماما- مسيرة الكتابة التي لا عمل له غيرها
ترى كم هي شاقة هذه المهنة التي لا تسعف مريضاً ولا تسد حاجة، ومع ذلك يبقى مهووسا بالكتابة كأنه يطارد نصا لم يلحق به بعد او حلما لما يتحقق حتى الان.




#ياسين_النصير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- متى يصدر المالكي قانونا لمكافحة المفسدين؟
- الأمية وقانون الإنتخابات
- بسام فرج فنان كاركتير الفكاهة
- الكلب الذي لم ينبح ليلاً
- لنقرأ ماركس
- اليأس الذي بدأ ينخر قوانا
- شكد حلوة بغداد ..مو
- الصورة مبهرة لكن الضوء يهتز
- ملفات عن مبدعي المسرح العراقي
- إنهم يغتالون المواهب الكبيرة
- لا تتركوا المالكي وحده أيها العراقيون
- أحزاب الإسلام السياسي ونغمة الوطنية النشاز
- هل بدأ ت مرحلة الأحتواء العربي لإيران؟
- غياب فلسفة الدولة العراقية
- لمن تتوجه حركة -مدنيون-؟
- دور الإعلام في نداء قوى اليسار الديمقراطي
- لينهض اليسار العراقي ولكن دون تهميش للإسلاميين المعتدلين
- كيف ينتفض أهلنا في الجنوب
- اميركا والثقافة العراقية
- سيناريوهات العيد السياسية في العراق


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين النصير - بناء الجملية الفنية في مسرح محيي الدين زه نكه نه