أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر خدام - أزمة الديمقراطية في الوطن العربي















المزيد.....



أزمة الديمقراطية في الوطن العربي


منذر خدام

الحوار المتمدن-العدد: 770 - 2004 / 3 / 11 - 08:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


 (لماذا الديمقراطية؟)   عبد الكريم عبد الرحمن
تعقيب: د.منذر خدام
 ((النظرية رمادية أما شجرة
الحياة فدائمة الاخضرار))
غوته
          لدي بعض الملاحظات على مسار الندوة أود عرضها،قبل البدء بالمداخلة، وهذه الملاحظات هي التالية:
          1- الجميع هنا يوافق على الديمقراطية، ويطالب بها قولا أو شكلا، ولو أجرينا استفتاءً بين الحضور لما وجدنا شخصا واحدا يقول لا للديمقراطية، لكن ما إن يبدأ أحدنا بالحديث عن الديمقراطية حتى يتبين أن بداخله شخص آخر لا ديمقراطي، يطل برأسه بين الفينة والأخرى. ومن هنا تنبع فائدة الندوة علها تخفف من تأثير هذا اللاديمقراطي الساكن بداخل كل منا.
           2- تتحكم التربية الحزبية التقليدية والخلفية التاريخية والظروف الموضوعية بتصرف كل منا وطريقة تفكيره، لذلك لا بد من إرادة صلبة للتغلب على ما نحن فيه وتجاوز هذه الطريقة في التفكير.
           3- في مداخلتي لن أدخل في مماحكات نظرية، فهي ليست محط اهتمامي، ما يشغلني في هذه الندوة هو الهم السياسي لذلك سوف أركز حديثي عليه.
           4 - من مهام هذه الندوة، من بين مهام أخرى عديدة، هي أن نتعلم درسا في الحوار الديمقراطي، أن نجيد أدب الحوار واحترام الرأي الأخر المختلف.
          5-بعض الأخوة يحمل الديمقراطية مسؤولية السفالات التي ترتكبها البرجوازية الغربية ومسؤولية ما يحدث من مجاعات وحروب أهلية في العالم، وهي براء من هذا الاتهام..
مقدمة:
        مع صعود غورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفيتي السابق، وإطلاق جملة من الشعارات التي أصبحت عالمية فيما بعد، مثل إعادة البناء، والعلنية وإشاعة الديمقراطية..الخ كعناوين عريضة لبرنامجه الإصلاحي، بدأت أحداث جسام تتال في جميع بلدان المنظومة الاشتراكية، فانهارت جميعها، وأخذت تتحول إلى النظام الرأسمالي في الاقتصاد وإلى الديمقراطية في الحياة السياسية. منذ ذلك الحين انتشرت شعارات غورباتشوف في جميع دول العالم، وبدأ الحديث عن التعددية السياسية والديمقراطية والعلنية يجري حتى على لسان العامة. وكانت البلدان التي تحكمها أنظمة دكتاتورية أكثر تأثرا بتلك الشعارات، ووصلت إلينا نحن أيضاً، فكنا أكثر اهتماما ومتابعة لتلك المتغيرات وخاصة ما يتعلق منها بالجانب الديمقراطي.
          انطلاقا من ذلك حاولنا سابقا ونحاول الآن وسنتابع المحاولة مستقبلا من أجل تلمس طريق الديمقراطية واستشراف أفاق هذا الاتجاه بالخطوط العامة.فكما ذكرت في بداية مداخلتي: النظرية مهما كان الشخص الذي تصدر عنه عبقريا،تبق رمادية بالقياس إلى الحياة وغناها وتجددها.
            إن مساهمتي هذه، إلى جانب مساهمات الأخوة الآخرين في هذه الندوة، ومساهمات العديدين من المفكرين العرب ،سوف تؤسس لبداية مسيرة من التحولات الديمقراطية الواعدة، في داخل الأحزاب والقوى السياسية أولا ومن ثم في الحياة الاجتماعية ككل.وفي نفس السياق مهم  جدا أن تثقب الجدران السميكة للأنظمة الحاكمة من جراء تعميق الوعي بأهمية الديمقراطية في الفكر والممارسة.
            ومنذ البداية أود لفت الانتباه إلى أن مداخلتي قد لا تكون ناضجة بسبب الظروف التي نعيشها بما فيها من ضغوطات نفسية وعصبية وترقب،مع ذلك فإن ملاحظات الأخوة المشاركين في هذه الندوة والجمهور المستمع يمكن أن تفيد كثيراً في إغنائها وسوف نعيرها كل اهتمام.
           وبعد سوف أعالج المسألة الديمقراطية في ثلاث مستويات:في المستوى الاقتصادي وفي المستوى السياسي وفي المستوى الاجتماعي مع التركيز على المستوى السياسي، مع العلم أن هذه المستويات متداخلة فيما بينها وإن الفصل النسبي بينها ما هو إلا لمقتضيات الدراسة ولإبراز الأهمية النسبية لأحدها عن الجوانب الأخرى.
         أولاً؛ على المستوى العالمي يمكن التمييز بين نموذجين للديمقراطية:نموذج اشتراكي ونموذج رأسمالي.
           أ-بالنسبة لما كان يدعى بالبلدان الاشتراكية، يمكن القول أنها كانت تفتقر إلى أي إرث ديمقراطي،وإن تاريخ هذه البلدان كان تاريخا للقمع، الذي شمل المؤيدين والأنصار كما شمل الأعداء أو المخالفين.وإذا نظرنا في المستويات الثلاث السابقة الذكر في هذه البلدان يمكننا أن نسجل الملاحظات التالية:
           على المستوى الاقتصادي يمكن القول أن هذه البلدان قد بنت ما يمكن تسميته ((برأسمالية الدولة الاحتكارية))، التي تجمع في يدها كل شيء من اصغر منشاة إلى أكبر المؤسسات الاقتصادية الصناعية والزراعية والتجارية..الخ. وتستخدم الدولة هذه القاعدة الاقتصادية لتعزيز سيطرتها السياسية وتحقيق مصالح الطبقة البيروقراطية.لقد انتشرت في هذه البلدان العلاقات الشخصانية على نطاق واسع،وألغيت مبادرات الأفراد وأصبحت الامتيازات تعطى حسب درجة الولاء ،فانتشرت المحسوبية وفقد العاملون حماسهم للعمل والإنتاج لغياب الدوافع،وتعمقت الهوة بين العامل  وآلته الإنتاجية،وفي المحصلة تخلفت هذه البلدان كثيرا عن البلدان الرأسمالية..الخ.
            في المجال السياسي كان الوضع أسوأ بكثير،فالقمع هنا هو السلطان الأكبر.لقد قمعت ومنعت الأحزاب السياسية المعارضة ،ومنع التعبير عن الرأي حتى في صفوف الحزب القائد الحاكم الوحيد.لقد أصبح الحزبي بديلا عن المواطن والحزب الحاكم بديلا عن المجتمع والأمين العام بديلا عن الحزب..الخ.كانت هذه هي الوضعية العامة في جميع البلدان الاشتراكية السابقة،بل وتجاوزتها إلى جميع الأحزاب الشيوعية في البلدان الأخرى في العالم.وعندما يحاول أن يرتفع صوت ما في الداخل أو الخارج منتقدا ما يجري في هذه البلدان كان يتم إسكاته بمختلف الطرق والوسائل.لقد كتبت روزا لوكسمبورغ منذ السنوات الأولى للثورة البلشفية تقول((عندما تقدم الحكومة على تحديد الحريات تصبح الحياة الجماهيرية مزيفة وعديمة الثمار،وعندما تقهر الديمقراطية تنغلق الحياة عن مصادرها الخاصة التي تفوح بكل غنى روحي وتقدمي))/ مجلة دراسات اشتراكية،عدد122، شباط 1992،من مقالة بعنوان(( الدكتاتورية والديمقراطية)) بقلم فاليري روركين ،ترجمة يوسف إبراهيم الجهماني/.وفي نفس المقال كتبت أيضاً((كانت الحرية ولا تزال بالتعريف هي تلك الحرية التي تعطى للمعارضة ،أي حرية المعارضة،وليست هي الحرية التي تعطى لأنصار الحكومة أو لأعضاء الحزب الحاكم مهما كان عدد أعضائه كبيرا)).من الواضح أن قول روزا هذا ينطبق على الحرية السياسية التي بدونها لا تستقيم الحياة الاجتماعية بصورة عامة.
           على الصعيد الاجتماعي كان الوضع أفضل ،أو لنقل أقل سوءً، لقد كان ثمة تأمين بالحد الأدنى على الأقل للمسكن والعمل والتعليم والخدمات..الخ.لكن ذلك لا يلغي التمايز بين الحزبي والمواطن ،بين المسؤول وغير المسؤول،وسيادة علاقات القرابة أو الصداقة محل العلاقات الموضوعية.
           ب-بالنسبة للنموذج الرأسمالي فالوضع مختلف.على الصعيد الاقتصادي يمكن القول أن المجتمعات الغربية حققت تطوراً هائلا في هذا المجال،سواء في مجال التكنولوجيا وجودة المنتجات،أم في مجال العلم..الخ.وهذا لا يلغي بالطبع الأزمات التي يمر بها الاقتصاد الرأسمالي،كما لا يلغي الطابع العام الاستغلالي للنظام الرأسمالي، الذي يقوم بالأساس على الاستغلال للطبقة العاملة في داخل أوطانها ،وعلى نهب ثروات البلدان الأخرى بمختلف الوسائل.ومن المعروف أن الاقتصاد الحر هو السائد في جميع البلدان الرأسمالية على قاعدة ((دعه يعمل دعه يمر)) مع ما في ذلك من إجحاف وظلم للعديدين  يصل إلى حد ابتلاعهم أو تدميرهم.
           أما على الصعيد السياسي فقد بلغت الديمقراطية البرجوازية في تلك البلدان مستوى عاليا من التطور،وعلى الرغم من سلبياتها فهي بالنسبة لنا حلم بعيد المنال.لقد وصلت تلك البلدان إلى ما وصلت إليه على الصعيد الديمقراطي  بعد تاريخ طويل مليء بالنضالات والمعانات والضحايا كان من نصيب الطبقات الشعبية النصيب الأكبر./لمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى تاريخ الثورة الفرنسية/.لكن في النهاية  فقد سادت الديمقراطية في هذه البلدان،بما تعنيه من انتخابات وتبادل للسلطة وحرية الصحافة وتشكيل النقابات والأحزاب ..الخ.
            قد يقول البعض إن السلطات الحاكمة في البلدان الرأسمالية المتقدمة تلجأ إلى العنف عندما تشعر أن سلطتها مهددة. أقول نعم أحيانا تلجا إلى العنف، لكن ذلك هو الاستثناء وليس القاعدة.
           على الصعيد الاجتماعي يمكن القول أن هذا الجانب لم ينال الاهتمام الكافي إلا في السنوات الأخيرة.ومن الملاحظ أن ثمة ازدواجية  في البلدان الرأسمالية المتقدمة في معالجاتها للمسائل الاجتماعية،ففي الوقت الذي تتخذ فيه إجراءات هامة على صعيد التأمين الصحي والاجتماعي وتامين السكن والتعليم ..الخ،تنتشر الجريمة والبطالة والجوع ويتعمق الاستقطاب الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء..الخ.
            ومع أن الضوابط القانونية في البلدان الرأسمالية المتقدمة تحابي الطبقة البرجوازية،وتصون مصالحها على حساب مصالح الطبقات الشعبية،فهي تظل مثالا لنا في البلدان المتخلفة وهدفا بعيد المنال. فعلى سبيل المثال ما يأخذه عاطل عن العمل من أجر خلال شهر واحد في أي بلد متقدم،يعادل ما أخذه أنا الحامل لشهادة جامعية خلال أكثر من سنة، مع الأخذ بعين الاعتبار فروقات الأسعار.
            ثانياً؛ على المستوى العربي،سوف أعالج المستوى السياسي للديمقراطية في سياق تطوره التاريخي،لنجيب على تساؤل بسيط ،أين نحن من الديمقراطية السياسية؟وما هو النموذج المناسب لظروفنا؟
             لو نظرنا بصورة موضوعية في تاريخنا الطويل منذ فجر الإسلام وحتى الوقت الراهن،لرأينا أنه يخلو من الإرث الديمقراطي،ولن نعثر على أية تجربة ديمقراطية يجدر التوقف عندها،واستلهامها كدرس في الديمقراطية.في الواقع ثمة ومضات خافته متناثرة على امتداد تاريخنا السياسي الطويل،لكنها لا تشكل تجربة كاملة في مجال الديمقراطية، وربما أغناها كانت محاولة الخمسينات.
            من منظار الإسلام السياسي تعتبر مرحلة الخلفاء الراشدين،تجربة في الشورى كاملة وهي صالحة لكي تحتذ ،كبديل عن الديمقراطية،خصوصا وأنها جزء من تراثنا يسهل العودة إليه وتطبيقه./انظر مقالة الشيخ خليل عبد الكريم المنشورة في مجلة دراسات اشتراكية العدد(122) بعنوان((إقامة الشورى))/.
            في التاريخ العربي الحديث والمعاصر،وفي بدايات عصر النهضة والعقود الأولى من القرن العشرين،برز العديد من المفكرين،كدعاة للأخذ بالتجربة الأوربية ليس فقط في مجال السياسة بل وفي المجالات الاقتصادية الاجتماعية، مثل الطهطاوي ومحمد عبده ،إلى طه حسين وغيرهم كثير. وكان هناك بدايات لتجارب في مصر وسورية ولبنان..إلا أن مرحلة المد القومي في منتصف هذا القرن قطعت هذه البدايات.في الواقع العربي الراهن ثمة عدد من التجارب الديمقراطية الواعدة لا تزال في بدايتها لا يمكن إطلاق حكم قيمة عليها في الوقت الراهن مثل تجارب الأردن ومصر واليمن وبعض الهوامش الديمقراطية في المغرب العربي.ومن الواضح أن هذه التجارب قد بدأت في بلدان عربية متفاوتة من حيث مستوى تطورها  الاقتصادي والاجتماعي ،غير أنها جميعها تتميز ببنية مجتمعية مدنية متهيكلة إلى حد معين وخصوصا على الصعيد السياسي.
            ثالثا؛على المستوى المحلي. أعرف جيدا مدى  ترابط وتشابك الأوضاع الخاصة بكل قطر عربي مع الأوضاع العامة في الوطن العربي،مع ذلك سوف أعالج الوضع المحلي كحالة خاصة قائمة بذاتها.
أ-التجربة الديمقراطية في الخمسينات.
            كان بودي التوقف مطولا عند تجربة الخمسينات الديمقراطية ،غير أن وجود مداخلة خاصة بتلك المرحلة جعلتني أعدل،لذلك ما سوف أقوله حول تلك التجربة هو نوع من التعقيب المسبق على المداخلة المشار إليها.
           لقد تميزت تلك التجربة الديمقراطية بوجهين :أحدهما إيجابي والآخر سلبي.فالوجه الإيجابي لتلك التجربة الديمقراطية يكمن في كونها كانت بداية جيدة نوعا ما في بلد متخلف،حصل لتوه على الاستقلال ،وبصفتها كبداية كانت متفوقة على الديمقراطيات الغربية في بداياتها،فالمرأة الفرنسية مثلا لم تحصل على حقوقها الديمقراطية إلا في أواخر الأربعينات من القرن العشرين.ولو أتيحت الفرصة لهذه الديمقراطية أن تطور وتصحح مسارها،ربما لاقتربت من الديمقراطية الغربية.
          الوجه السلبي لتلك التجربة الديمقراطية يتمثل في أنها كانت مليئة بالعيوب والنواقص التي كانت موضوعا للتندر والدعابة،فأعضاء البرلمان كانوا ينامون في مقاعدهم،أو يرفعون أيديهم بالموافقة على مشاريع القوانين دون أن يعرفوا ما هي تلك القوانين..الخ.
ب- الديمقراطية والتنمية.
             في هذا المجال ثمة العديد من التساؤلات التي تطرح منها على سبيل المثال:هل الديمقراطية ضرورية للتنمية؟وفي ظل ظروفنا الخاصة هل يمكن تحقيق التنمية بدون ديمقراطية؟وهل من الممكن تحقيق تنمية مستقلة بالاعتماد على الذات وعلى الإمكانات المحلية؟ أم أن التنمية مرهونة بالتبعية للغرب الرأسمالي،القطب الوحيد المسيطر؟…الخ.
            لا يتوهمنّ أحد أن الديمقراطية عبارة عن وصفة سحرية قادرة على انتشالنا من واقع التخلف والصعود بنا إلى أعلى عليين ،كما لا يتوهمنّ أحد أنه حتى في ظل الديمقراطية يمكن تحقيق تنمية مستقلة.لكننا نعتقد أن الديمقراطية هي المدخل لكل ذلك،هي نقطة البداية لحل العديد من المشاكل والمصاعب التي نتعرض لها.إنها تطلق المبادرات الفردية والجماعية وتكشف عن إمكانات العمل والاستثمار.فعندما تسود الحرية ،ويكون هناك قوانين لحماية رؤوس الأموال تتنشط حركة الاستثمار والتنمية.غير أن التنمية المنشودة هذه وفي ظل غياب المعسكر الاشتراكي سوف تكون مرتبطة بشكل من الأشكال بالسوق الرأسمالية ،تعتمد عليها في مجال التقنية الصناعية والزراعية،أو في مجال التصدير والاستيراد ضمن شروط غير متكافئة.لكن ذلك لا بد منه في العالم الراهن، مؤقتا ، على أن يستمر العمل للحد من التبعية بالتدريج ،وفك الارتباط شيئا فشيئا حتى الوصول إلى الحد الأدنى من الشروط غير المتكافئة مع العالم الرأسمالي.
              قد يتساءل البعض وكيف لنا أن نحقق ذلك؟وهل من ضمان أن لا تبتلعنا السوق الرأسمالية؟من الصعب الإجابة على هذه التساؤلات مسبقا ،فالإجابة تحددها شروط العمل ومسيرته الفعلية على الأرض.وفي هذا المجال يمكن الاستئناس بتجربة اليابان.بصورة أولية يمكن القول أنه بالعمل الجاد والمسؤول وبالإخلاص والمثابرة يمكن الوصول إلى نوع من الاستقرار.أما في ظل غياب القانون الذي يضمن للمستثمرين أموالهم فلا يمكن أن يغامروا  برؤوس أموالهم،التي تهددها تدخلات الجهاز البيروقراطي،واحتمال مصادرتها..الخ.هذا يقودنا إلى ضرورة الديمقراطية ليس فقط في المجال الاقتصادي وإنما في المجال السياسي أيضاً.
ت- ضرورة الديمقراطية السياسية.
             إن الديمقراطية السياسية كما هي معروفة في العالم الرأسمالي،بما توفره من حريات؛حرية الرأي والتعبير والنشر والتظاهر والإضراب ،وبما تعنيه من تعددية سياسية وحزبية وتداول السلطة وسيادة القانون..الخ ، تمثل حلما بعيد المنال في الوقت الراهن،وهو بحاجة لكي يتحقق بالحد الأدنى الممكن، إلى نضال طويل وشاق،خصوصا في ظل دولة أمنية تقبض على كل شيء .في ظل هذه الظروف القائمة لا بد من اعتبار الديمقراطية مهمة مركزية،تتجمع كل الجهود في سبيل تحقيقها.الديمقراطية كما نرى تمثل غاية بحد ذاتها في الوقت الراهن،يجب العمل بكل الوسائل السلمية والقانونية لتحقيقها ، ومن خلال ذلك يمكن أن تتحول إلى وسيلة لخلق المواطن الحر الديمقراطي الذي يشعر بدوره وأهميته في بناء مجتمعه ووطنه،ومن ثم خلق المؤسسات الديمقراطية سواء في المجتمع السياسي أو في المجتمع المدني.
            ومما له أهمية خاصة في هذا المجال أن تتحول قوى المعارضة إلى قوى ديمقراطية فعلا وان تتعاون فيما بينها،وأن تكسر حاجز عزلتها عن الجماهير،وفي المقدمة من كل ذلك تغيير خطابها السياسي..الخ.وإن قيام جبهة وطنية ديمقراطية عريضة تضم جميع قوى المعارضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار،من التيارات الدينية إلى  البرجوازية المحلية بمختلف شرائحها وصولا إلى الشيوعيين بتلويناتهم المتعددة،إضافة إلى الشخصيات الوطنية المستقلة وكل من له مصلحة في الديمقراطية،له أهمية بالغة في هذا المجال.ولا شرط لقيام هكذا تحالف عريض سوى نبذ الإرهاب والعنف،والقبول بالأخر المختلف.ومن خلال اللجوء إلى تكتيك(( حرب المواقع)) على طريقة غرامشي،حيث يتم التشبث بكل موقع أو موطئ قدم نحقق فيه مكسبا ديمقراطيا مهما كان ضئيلا،في أية مؤسسة أو نقابة أو هيئة مدنية،والتخلي نهائيا عن تكتيك ((كل شيء أو لا شيء)) الذي أثبت فشله.فالسياسة فن الممكن،فن التعامل مع الواقع،وبالتالي علينا أن نغير خطابنا مع الجماهير ومع السلطات القائمة،فلا يصح أن ننصب أنفسنا أوصياء على الناس،كما لا يصح الوقوف وجها لوجه مع السلطات،بل النفاذ من خلال أخطائها ونقاط ضعفها.ففي المناخ الدولي الجديد يصعب الحكم بالطريقة السابقة،خصوصا وان رايات حقوق الإنسان والديمقراطية تجوب العالم،مكنسة من طريقها الأنظمة الكليانية في أوربا الشرقية وفي غيرها من مناطق العالم.لقد بدأنا نلمس بعض التغيير في الخطاب السياسي المحلي،بدء من ضرورة تحديث القوانين والأنظمة والدولة والمؤسسات،إلى ضرورة توسيع هامش الحرية بإلغاء قوانين الطوارئ والسماح بالتعددية الحزبية..الخ.
          إن التغيير الجزئي في السياسات المحلية يعود كما نرى إلى عوامل عديدة من أبرزها:أولا؛ حرص السلطات القائمة على استمرارها في الحكم.ثانيا؛ المناخ العالمي السائد.ثالثا؛الضغط الخارجي الاقتصادي والسياسي.رابعا؛استيعاب الدرس العراقي البليغ.جميع هذه المعطيات يجب أن تستوعبها المعارضة وهي تمارس تكتيك حرب المواقع ،إلى جانب حرصها على أي ديمقراطي بغض النظر عن انتمائه السياسي،يساريا كان أم يمينيا ، المهم هو أن يؤمن بالديمقراطية.
            هنا قد يسأل سائل أين أصبحت المسألة الوطنية والاشتراكية في اهتماماتكم أنتم الشيوعيين؟على مثل هذا التساؤل أجيب على الشكل التالي:
            أولا؛ فيما يخص المسألة الوطنية بما تعنيه من تحرير الأرض الوطنية والحفاظ عليها وتحرير فلسطين،أقول أن  هذا الهم يقلقني كثيرا،لكن تحقيق هذا الهدف،كما علمتني التجربة لا يمكن أن يتحقق في ظل الأنظمة الدكتاتورية و في ظل القوانين الاستثنائية ،وسياسة تجويع المواطن وإهدار كرامته وزرع الخوف فيه وتعميم الفساد..الخ.إن هكذا مواطن لا يستطيع الدفاع عن وطنه،بل وليس متحمسا لذلك.فقط المواطن الحر الذي يشعر بوجوده، المفعم بروح المواطنية،والذي يملك إرادته ويشعر أن كرامته مصانة هو وحده القادر على الدفاع عن وطنه والمستعد للتضحية في سبيله.
              ثانيا؛ فيما يتعلق بقضية الاشتراكية،فإن موقفي واضح وهو أنني لا أزال من المؤمنين بالاشتراكية والشيوعية كهدف أسمى،فهي وحدها القادرة على تحقيق إنسانية الإنسان وتحريره من كل أشكال الاستغلال.لكن هذا الهدف هو في الوقت الراهن بالنسبة لي هدف مؤجل،هو في ظروف التخلف نوع من المحال خصوصا بعد الذي حدث في العالم.أضف إلى ذلك إن نظرية ما يسمى ((بحرق المراحل)) هي نظرية خاطئة وقد تسببت في حصول كوارث اجتماعية في البلدان التي حاولت تطبيقها.لذلك لا بد من مراعاة مراحل التطور الطبيعي ، والمرور بالمرحلة الرأسمالية كاملة قبل الانتقال إلى الاشتراكية.وعلى الرغم من أن ذلك يعني عمليا التسليم باستغلال الطبقات الشعبية، لكنه يعني في نفس الوقت ضرورة النضال ضده من خلال الإضراب والتظاهر..وغير ذلك من أشكال النضال السلمي القانوني.
             إن البرجوازية المحلية ،وعلى الرغم من تبعيتها،لو أُتيح لها المجال لاستثمار رؤوس أموالها داخليا بلا معيقات،لكان من الممكن أن تساهم في بناء الاقتصاد الوطني وتطويره أفضل ألف مرة من البرجوازية البيروقراطية التي نهبت كل شيء.لا بد إذن من المرور باقتصاد السوق مع وعينا الكامل للمآسي التي يمكن أن تنجم عنه بالنسبة للطبقات الشعبية،مع أنها سوف تكون أقل حدة بالتأكيد من تلك التي سببتها البرجوازية البيروقراطية./انظر مقالة د.عارف دليله حول ((القطاع العام :الواقع والأفاق)) المنشورة في مجلة دراسات اشتراكية،العدد (127) لعام 1992/.
ث- الديمقراطية وسيادة القانون.
             على الرغم من الخلل الكبير في القوانين والدساتير المعمول بها في البلدان العربية،إلا أن الخلل الأكبر ليس في النصوص،وإنما في تغييب هذه القوانين والدساتير وعدم العمل بها،من جراء الأخذ بحالة الطوارئ والأحكام العرفية وما تتطلبه من قوانين استثنائية.وفي كثير من الحالات تحل الإرادة الفردية أو الأمنية  محل القانون الاستثنائي نفسه.وهذه العملية هي من الشمولية والاتساع بحيث تشمل جميع مناحي الحياة،من أصغر قضية إلى أكبرها.هذا ما نلاحظه في مختلف دوائر الدولة وفي الحياة السياسية المعترف بها رسميا،وفي النقابات وفي مختلف مسرحيات الانتخابات ..الخ.
  إن اغلب الدساتير في البلدان العربية تنص على احترام الحريات العامة والخاصة،لكن عند التطبيق يتم تجاهلها ،لذلك من الأهمية بمكان من الناحية النضالية العملية مطالبة السلطات العربية باحترام قوانينها الخاصة ،كخطوة أولى ومن ثم تصعيد المطالب تدريجيا للوصول  بها إلى ضرورة تطوير القوانين والتشريعات وإلغاء كل ما هو مخالف للدستور من قوانين استثنائية،إلى حرية الرأي، إلى الديمقراطية في الانتخابات ..الخ.إن السير في هذا التكتيك يمكن أن يفضي في النهاية إلى تحقيق انتخابات برلمانية حرة وديمقراطية تتولد عنها حكومة تمثل الشعب ،تنتهج سياسة فك الارتباط التدريجي مع السوق الرأسمالية من خلال تنمية صناعية وزراعية مدروسة.ومن خلال فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها البعض ،و بناء دولة القانون والمؤسسات يمكن للمواطن أن يشعر بحرية حقيقية تدفعه إلى العمل والإبداع..الخ.في إطار ذلك يمكن لمختلف الطبقات الاجتماعية ومنها البرجوازية المحلية أن تعطي ما عندها لتنمية البلد من خلال إقامة توازنات معينة بينها تقوم على توازن المصالح في إطار القانون.فعلى الرغم من الطابع الاستغلالي للبرجوازية الذي سوف أقف ضده بعناد ،فإنني أرى أن لها دورا هاما عليها أن تلعبه في تنمية البلد وتعزيز الحياة الديمقراطية .ولا أجد أي تناقض بين دعم البرجوازية لتأخذ دورها كاملا في الحياة المجتمعية وبين النضال ضد طابعها الاستغلالي،فالضرورة التاريخية تحتم المرور بالرأسمالية،وليس من طريق آخر.
ج- الديمقراطية الاجتماعية.
            الديمقراطية السياسية مهما بلغت من الكمال ،تظل ناقصة بدون الديمقراطية الاجتماعية ،بما تعنيه من عدالة ومساواة.فالتمايزات الطبقية من ناحية الثروة ،تبقي السيادة والسيطرة بيد من يملك رؤوس الأموال .من جهة أخرى لا يمكن تحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية والاقتصادية بدون المرور بالديمقراطية السياسية،حيث تنبني شخصية المواطن الحر،وتسمو قيمه الروحية والأخلاقية والوجدانية،التي بدونها يصبح الحديث عن الديمقراطية الاجتماعية لغوا فارغاً.نحن نعتقد أن غياب الديمقراطية السياسية والحرية الفردية من الأسباب الجوهرية لانهيار المعسكر الاشتراكي السابق،إلى جانب إهمال الجانب الروحي في الإنسان والاهتمام بالجوانب المادية فقط.
ح- الديمقراطية والدين.
  هل يجوز أن تحجب الديمقراطية عن الأحزاب الدينية بحجة أنها أحزاب غير ديمقراطية؟ أو أحزاب ((لا وطنية))حسب زعم البعض الأخر.
            بداية أود القول أن للدين حساسية خاصة في مجتمعاتنا العربية ،لذلك فإن موقفنا المبدئي يتلخص في احترام  حرية الأديان وحرية ممارسة الشعائر الدينية.ونظرا للتكوين الطائفي والمذهبي في مجتمعنا ،فإنه لا يمكن أن تتقدم الديمقراطية بدون احترام رأي الأغلبية وتعبيراتها السياسية.وإن تجربة الإخوان المسلمين قد أقنعتهم بأنه يستحيل عليهم تحقيق شيء من أهدافهم عن طريق العنف،فالعنف يجر العنف ولا شئ غير العنف. ومن خلال معايشتنا للكثيرين منهم تبين لنا أن فيهم العديد من المتنورين،الذين يقبلون بالأخر وبنوع من العمل الديمقراطي. بالطبع لا يمكن تعويل أهمية كبيرة على التيارات الدينية وعلى عمق التحولات في خطابها السياسي وقبولها الديمقراطية ،فذلك مرهون بالظروف وبمدى التغيرات المحتملة على المجتمع السياسي عندنا.غير انه في الظروف الراهنة لو جرت انتخابات ديمقراطية فسوف يفوز بها الإخوان المسلمون والقوى القومية غير الديمقراطية،لكن هذا الفوز سوف يكون مؤقتا،فسرعان ما سوف يلتف الشعب حول ممثليه الحقيقيين ويرفض الإخوان المسلمين.لدينا أكبر دليل على ذلك في مرحلة الخمسينات حيث لم يكن للإخوان المسلمين أي دور يذكر حتى في معاقلهم الراهنة.مع ذلك لا تستقيم الحياة السياسية بدون وجود أحزاب دينية بل وقد تفشل قضية الديمقراطية بسبب شعبيتهم الكبيرة.لقد تحول الإخوان المسلمون إلى قوة جماهيرية في ظروف الدكتاتوريات،ولا يمكن الحد من نفوذهم إلا في ظروف الديمقراطية والحرية.
خ- الديمقراطية والأقليات.
             إن المنطلق الأساسي في معالجة قضية الأقليات هو مبدأ ((حق تقرير المصير))،هذا يتعلق بالأقليات الكبيرة أما بالنسبة للأقليات الصغيرة،فيمكن استيعابها في إطار الديمقراطية،مع منحها حقوقا ثقافية كاملة.
خاتمة.
          في ختام مداخلتي يمكن استخلاص بعض النتائج الأولية أوجزها بما يلي:
          1-إن الديمقراطية ليست علاجا سحريا قادرا على معالجة جميع المشاكل والأزمات التي نعاني منها،هي في الواقع المدخل لمعالجتها في سياق مسار طويل من العمل الجاد والمسؤولية.
            2- الديمقراطية ليست نظرية سحرية ،فليس هناك من نظرية للديمقراطية،إنما الديمقراطية فعل يمشي على الأرض،إنها ممارسة تصحح أخطائها دون وصاية من أحد.
           3-الديمقراطية ليست ملكا لأحد، لا لطبقة ولا لشعب ولا لأمة ،إنها معطى حضاري إنساني ،وهي نتيجة لنضالات طويلة خاضتها الشعوب منذ ما قبل الميلاد وحتى الوقت الراهن،وما الديمقراطية البرجوازية سوى حالة خاصة منها نظرا لسيادة الحضارة الأوربية على العالم.
            4-الديمقراطية للجميع بدون استثناء،ويتم انتزاعها بالعمل الجاد،وبتحالف جميع القوى الديمقراطية.
             5-لا يصح اشتراط الديمقراطية بالقومية أو الوطنية،فذلك ينفيها في الممارسة العملية.
           6-إن تاريخ المنطقة العربية فقير جدا بالإرث الديمقراطي،فتاريخنا هو تاريخ للقمع والاستبداد،وإن الشكل الديمقراطي المناسب لظروفنا سوف نهتدي إليه في الممارسة،لأن الديمقراطية ليست سلعة يمكن استيرادها،بل تبنى على الأرض لبنة لبنة .
            7-في ظروف الواقع العالمي الراهن وهيمنة الإمبريالية على العالم من المستحيل القيام بأية تنمية اقتصادية مستقلة بالاعتماد على إمكاناتنا الذاتية بعيدا عن شروط التبعية.مع ذلك في ظل الديمقراطية والحكومة المعبرة عن الشعب يمكن الحد من التبعية وتقليصها تدريجيا.
            8-إن ضمان وجود الديمقراطية هو وجود المواطن الحر الديمقراطي الذي يشعر بكرامته وأهميته لمجتمعه ووطنه،وهذا يحصل في ظل المناخ الديمقراطي.
           9-إن الديمقراطية هي المدخل الصحيح لحل المسألة الوطنية والقومية وتحقيق الإنماء الشامل.
            10-في مجتمعاتنا الإسلامية لا يمكن تحقيق الديمقراطية بدون وجود تيار إسلامي متنور يقبل بالديمقراطية،مع اعتماد التشريع الإسلامي كمصدر من مصادر التشريع.
             11-ليست الديمقراطية هي المسؤولة عن السفالات والجرائم التي ارتكبتها وترتكبها الدول الإمبريالية بحق الإنسان والإنسانية والطبقات الشعبية ومجتمعات البلدان المتخلفة.
             12-لا يتصور أحد أن الديمقراطية خالية من العيوب والنواقص فهي ككل قيمة من القيم الإنسانية الأخرى تحتوي على جانبين متناقضين،لكن طابعها العام إيجابي مع أنها تحتوي على درجة معينة من القمع تختلف باختلاف الظروف.
 
تعقيب
د.منذر خدام
             ربما من المفيد ،قبل الحوار مع نص مداخلة الأخ أبي الحارث ،أن نحاور ،ولو بإيجاز ملاحظاته العامة على مسار الندوة  ،التي تضمر قولا هو فيها محدد منهجي لمسار الفكر في مداخلته،ومن هنا فهي تكتسب أهمية خاصة.بكلام أخر، إنها ليست ملاحظات عامة على مسار الندوة بقدر ما هي منطلقات منهجية تحكم قراءة الفكر المغاير،المخالف، تنتظم المداخلة لتفصل القول فيه.
            وهكذا ففي الملاحظة الأولى يرى الأخ أبو الحارث أن ثمة ازدواجية في تكويننا فيما يتعلق بالديمقراطية،نوافق عليها لفظا لنتنكر لها في الممارسة.القضية في الواقع أعمق  وتتجاوز حدود القول أو الموافقة الشكلية،لتطال جملة العلاقات الاجتماعية والثقافية المكونة للذات الاجتماعية وتتحكم بسلوكها العام.وأعتقد أن الأخ أبا الحارث لو نظر في المشكلة من هذه الزاوية لزال استغرابه.
            إن الميل اللاديمقراطي الذي يحكم سلوكنا هو حصيلة تاريخ طويل من الاستبداد،ساهم في تأصيله فشل التنمية ، يتكثف في الفضاء الثقافي العام،والتكوين النفسي بما فيه من ميول واستعدادات تجعل تقبل العلاقات الشخصانية،بما تحتويه من نزعة الإنابة شيئا طبيعيا ومقبولا.ويبدو لي أن الأخ أبا الحارث يستشعر ذلك كما هو واضح من ملاحظته الثانية التي يقول فيها((تتحكم التربية الحزبية والخلفية التاريخية والظروف الموضوعية بتصرفات كل منا وطريقة تفكيره)).
             ما العمل لا نستطيع أن نستورد واقعا أخر مغايراً،ولا نستطيع تغيير واقعنا فورا وحتى لو استجبنا لمطلب الأخ أبي الحارث،واستطعنا كنخب ثقافية وسياسية تجاوز هذا الواقع وغيرنا ((طريقتنا في التفكير الكلاسيكي))،فما هو العمل بالنسبة لبقية فئات الشعب؟.الأخ أبو الحارث ليس لديه جواب،لذلك يعفي نفسه في ملاحظته الثالثة من الدخول في ((المماحكات النظرية)) والتركيز على الهم السياسي باعتباره الهم الذي يشغله.
            في الملاحظة الرابعة يدعونا الأخ أبو الحارث إلى تعلم درس في الديمقراطية وفي الحوار الديمقراطي والابتعاد عن لغة التدريس والخطاب المتعالي الفوقي.
            أما في الملاحظة الخامسة فإن الرفيق أبا الحارث يدعونا إلى تبرئة الديمقراطية من جميع السفالات التي ارتكبتها البرجوازية الغربية،فهي براء منها حسب زعمه.غير أن المفكر الفرنسي غارودي يرى عكس ذلك،ففي كتابه ((الأصوليات المعاصرة)) يقول ((إن الأصولية الوضعية الغربية هي أصل كل الأصوليات، من الأصولية الستالينية، إلى الأصولية الأرثوذوكثية، إلى الأصولية الإسلامية.وتحت شعار الحرية، وشعار في سبيل الاشتراكية ارتكبت أفظع الأعمال المنافية للحرية والاشتراكية.ولا تزال ترتكب مثل هذه الأعمال تحت شعار الديمقراطية)).
             لقد اختار الأخ أبو الحارث مصطلح ((أزمة)) كعنوان لمداخلته وقد بينا سابقا أن هذا المصطلح لا يخاطب واقعا محددا في الدول العربية،مع ذلك سوف نغض النظر عنه لندخل في صلب مداخلة أبي الحارث.
              في مقدمة المداخلة يحيل أبو الحارث اهتمامنا الراهن بقضية الديمقراطية إلى التغيرات التي حصلت في بلدان المعسكر الاشتراكي السابق،ويرى أن الديمقراطية بدأت تستحوذ على اهتمام أوسع الفئات الشعبية.يحاول الأخ أبو الحارث إسقاط ما يشغلنا الآن على الواقع الجماهيري في الخارج،ما يشغل الناس ليس الهم الديمقراطي،بل هموم الحياة الأخرى من مآكل وملبس ومسكن وأمن شخصي..الخ.وحتى البرجوازية المحلية التي يفترض بها نظريا أن تكون أكثر اندفاعا وتحمسا للتغيرات العالمية ومغزاها،لا تركز في مطالبها على الهم الديمقراطي بل على الشأن الاقتصادي.لقد ذكر أحد الزملاء أن اهتمام الناس بالديمقراطية لا يعادل عشر اهتمامنا بها نحن المشاركين  في هذه الندوة وهذا أمر طبيعي وله دلالته،بل ومن المشكوك به أن يكون اهتمامنا بها أصيلا وليس انسياقا مع الموجة الجارية.
            في تعقيبات الأخ أبي الحارث وتدخلاته الشفهية على العديد من المداخلات كان يركز دائما على ضرورة الفصل بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية في الحقل الاقتصادي والاجتماعي،غير أنه في مداخلته هذه يرى العكس تماما أي ((أن هذه الجوانب على المستوى العملي الممارساتي لا تنفصل عن بعضها أبداً،فالاقتصادي متداخل مع السياسي ويصعب الفصل بينهما،كما إن السياسي متداخل مع الاجتماعي)).وإذا حصل وفصلنا بينهما فذلك لاعتبارات منهجية ،ومن أجل التركيز على دراسة جانب معين دون الجوانب الأخرى.
              لا يصعب على القارئ العادي أن يكتشف تحامل الرفيق أبي الحارث على البلدان الاشتراكية السابقة ،وهي إلى حين كانت نموذجه المهتدى،خصوصا عندما يقارنها بالبلدان الرأسمالية المتقدمة، فتاريخ هذه البلدان هو تاريخ ((القمع والتسلط والبيروقراطية)).ويتساءل دون أن يجيب ما علاقة التخلف بظاهرة القمع؟ما علاقة الأيديولوجيا الماركسية بالقمع؟ هل في الماركسية نظرية في الديمقراطية السياسية؟ما هو دور التدخل الخارجي في انتصار خيار الدكتاتورية في الاتحاد السوفييتي؟ومع أن هذه الأسئلة مهمة جدا  يتجاوزها أبو الحارث ليركز على القمع الاشتراكي!.ونحن بالطبع لن نبرر ما قامت به الأنظمة الاشتراكية السابقة من قمع وظلم، وليس بودنا أن نقلل منه، لكن باعتقادنا لم يشكل هذا القمع إلا جزء بسيطا من القمع الذي مارسته البلدان الرأسمالية تجاه شعوبها وتجاه البلدان المتخلفة وتجاه الإنسانية جمعاء.أضف إلى ذلك ثمة خطأ منهجي كبير عندما نعاير التاريخ استنادا إلى معطى واحد هو الديمقراطية،فالتاريخ يجب أن يدرس بشموليته في إطار شروطه وظروفه وصيرورته.وعندما نأخذ كل ذلك بعين الاعتبار لا نستطيع سوى أن نسجل إعجابنا بما أنجزه الاتحاد السوفييتي السابق خلال سبعة عقود احتاجت البرجوازية الأوربية إلى أكثر من خمسة قرون لإنجازه وبدماء أكثر بكثير.لنلقي نظرة على المعطيات التالية التي تقارن بين ما أنجزه الاتحاد السوفيتي بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقد وردت هذه المعطيات في كتاب الجغرافيا الاقتصادية الذي يدرس لطلاب المرحلة الثانوية في فرنسا.
جدول مقارن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي
في مجال بعض المنتجات(1976)
الطاقة                   U.S.A                                      U.R.S.S
الفحم م.ط                 633                         491
فحم اللينيت م.ط           23                          163
البترول م.ط              402                          521
غاز طبيعي م،ر.م3       556                          318
الكهرباء م،ر.ك.و.ب     2118                         1118
منها كهرباء مائية         303                          130 (1974)
الزراعة   القمح م.ط                 58                           97
الذرة م.ط                 158                          10
صويا م.ط                34                           0.8
شوندر سكري م.ط        27                           88
نبيذ م.هل                 14                           30
قطن م.ط                 2.2                          2.6
أبقار م.و                 128                          111
أغنام م.و                 13                           141
خنازير م.و               50                    58
الصناعة حديد م.ط         46                          143
فولاذ                   116                            147
ألومنيوم                 3.8                            2.2
سيارات سياحية م.      8.4                            1.2
سيارات نقل م.         2.9                             0.8
أسمنت م.ط            61                               124
حمض السلفات م.ط    30                              20
قطن خيوط م.ط        1.4                             1.5 (1974)
نسيج م.م2             4                                6.7
صوف خيوط م.ط     0.2                               0.4 (1974)
خيوط صناعية م.ط    3.2                             1.0
الأسطول التجاري م.ط   14.9                            20.6
            وتصبح المعطيات السابقة ذات مغزى أكبر إذا علمنا أن اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية كان في عام 1913 أكبر من اقتصاد الاتحاد السوفيتي ب(13) مرة كما أشار غورباتشوف في إحدى خطبه وكما هو وارد في العديد من المراجع السوفيتية.و تميل كفة المقارنة إلى صالح الاتحاد السوفيتي إذا أخذنا بعين الاعتبار إن ما تم إنجازه تحقق بفضل تضحيات شعوب الاتحاد السوفيتي السابق وليس نتيجة لاستغلال بلدان أخرى كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلدان الرأسمالية المتقدمة ولا تزال تفعل.وقد تحققت هذه المنجزات رغم الدمار الهائل الذي تعرض له الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية وقبله في الحرب الأهلية.إن ما كان يدرس على أنه أعجوبة حقيقية ،أصبح ينظر له من قبل العديدين من بيننا على انه خطأ تاريخي كبير.
              لا شك بأن غياب نظرية في الديمقراطية السياسية الاشتراكية والفهم الخاطئ لدكتاتورية البروليتاريا قد ساهم في وجود الأنظمة الدكتاتورية الشمولية في البلدان الاشتراكية السابقة.كما إن تدخل أوربا في الحرب الأهلية في روسيا مهدت لظهور ستالين حسب روجيه غارودي،وعزز بالتالي سيطرة الدولة على المجتمع.هذا لا يعني أن الاشتراكية والديمقراطية لا يجتمعان ،بل على العكس لا يمكن تصور الاشتراكية بدون الديمقراطية.غير أن المسألة غير محلولة نظريا،وهي قضية مفتوحة لذلك ثمة فسحة كبيرة للعمل النظري في هذا المجال.
            من جانب آخر تبدو المسألة أكثر تعقيداً في ظروف التخلف ،نظرا لتداخل مهام التنمية الوطنية مع مهام الحرية والديمقراطية،بحيث تبدو الديمقراطية شرطا للإنماء الشامل في الظروف الراهنة.
            بالنسبة للديمقراطية في البلدان الرأسمالية المتقدمة يرى الأخ أبو الحارث أنها بلغت مستوى عاليا من التطور هو بالنسبة لنا((طموح بعيد المنال)) ،ونضيف أنها وصلت إلى ما وصلت إليه في سياق تطور تاريخي طويل كانت الديمقراطية تغتني خلاله بمكونات جديدة.فالانتخابات الحرة لم تكن حرة على طول الخط،وتشكيل الأحزاب السياسية لم يكن مسموحا به دائما ،إلا ما يخدم منها المصالح العليا للبرجوازية .هل علينا أن نذكر الأخ أبا الحارث أن الحزب الشيوعي الأمريكي لم يرخص له إلا في بداية التسعينات وبعد أن حل شقيقه الأكبر في الاتحاد السوفيتي السابق ،إنها لمفارقة كبيرة أليس كذلك!.ولو بحث الأخ أبو الحارث بعمق في تاريخ الديمقراطية البرجوازية لاكتشف الأخ أبو الحارث،ليس فقط حجم السفالات التي ارتكبتها البرجوازية تحت راية الديمقراطية ،بل وكيف أن هذه الديمقراطية ، كانت مفصلة على مقاس البرجوازية ،تعيد إنتاج سيطرتها السياسية بصورة مستمرة.وعندما كانت تتعرض هذه السيطرة للتهديد كانت تلجأ البرجوازية للدولة ولكل الأنظمة الاستثنائية لتعيد الأمور إلى نصابها.ثم لماذا هذا التحفظ والخجل في إبراز المآسي الاجتماعية التي تعاني منها فئات عديدة في البلدان الرأسمالية الديمقراطية.تشير مصادر الأمم المتحدة إلى أن[(( مدينتي نيويورك ولوس أنجلوس كلتيهما تضمان آلاف الأطفال المشردين الذين لا مأوى لهم،يعيشون كالجرذان، يروجون المخدرات. وتقوم فرق خاصة في البرازيل بالبحث عن صغار المشردين لا لإيوائهم وإنما لقتلهم تخلصا من مشاكلهم،عدى عن وجود منظمات تتاجر بأجسادهم((بالمفرق)).أما تجارة القاصرين السرية الرائجة في أسواق الجنس فهي ظاهرة تزداد خطورة وإجراما يوما بعد يوم..ففي ولاية كاليفورنيا الأمريكية يتم استغلال أكثر من مليون قاصر في أعمال يدوية تتراوح بين جمع المحاصيل والدعارة،ويبلغ عدد أطفال السوق السوداء في إيطاليا خمسمائة ألف ،ويقدرون بمليونين في إنكلترا وعشرة ملايين في المكسيك و مئة مليون في الهند..ثمة في عالم الرأسمالية في نهاية القرن العشرين أكثر من (300) مليون طفل ما دون الخامسة عشرة في سوق العمالة..)) ] /جريدة تشرين السورية2-2-1993/.لو بعث ماركس من قبره ونظر في سفالات البرجوازية على أعتاب القرن الواحد والعشرين،لاعتبر سفالات البرجوازية في عصره مزحة..
            وعندما ينتقل الأخ أبو الحارث لدراسة الأوضاع العربية ، يكتشف أن تاريخنا يكاد ((يخلو من الإرث الديمقراطي))،وليث فيه تجربة واحدة يمكن ((التوقف عندها لدراستها واستلهامها كدرس تاريخي)).نعم يكاد يكون تاريخنا تاريخا للأنظمة الدكتاتورية الشمولية،وإن الاستثناءات قليلة وفي معظمها تعود إلى فترة الخمسينات وما بعدها .كنت أتمنا على الرفيق أبي الحارث أن ينظر في الديمقراطية اللبنانية بدلا من العودة إلى القرامطة الذين لم يشكلوا أية حالة ديمقراطية كما نعتقد.وهناك تجارب واعدة في الأردن ومصر واليمن والجزائر والكويت  وغيرها من البلدان العربية،ومع أنها لا تزال في بداياتها إلا أننا بدأنا نتلمس أثرها في بقية الأقطار العربية الأخرى.
            يثمن الأخ أبو الحارث عاليا تجربة الخمسينات في مجال الديمقراطية ويرى أنه لو أتيح لها الفرصة((للاستمرار وتصحيح مسارها،مع متابعة نضالات الطبقات الشعبية لاقتربت من التجربة الأوربية))،وفي بعض جوانبها كانت متفوقة عليها ويضرب على ذلك مثلا بإعطاء المرأة حقوقها الديمقراطية كاملة.مع احترامنا لرغبة الأخ أبي الحارث، فهناك ديمقراطيات مستمرة ولم تنقطع ،مع ذلك لم تقترب من وضعية الديمقراطية الأوربية ،مثل تجربة الهند والمكسيك.فالاقتراب من وضعية الديمقراطية الأوربية يتطلب بالضرورة الاقتراب من المستويات الحضارية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الأوربية..الخ.ثم لماذا يكون الاقتراب من وضعية الديمقراطية الأوربية هدفا لنا ؟نحن في الواقع نريد هوامش ديمقراطية مستقرة يمكن أن تفتح مع الزمن عملية تصير ديمقراطي راسخة،ويبقى للأسف مطلبنا هذا حلما في العديد من الأقطار العربية.
               تحت عنوان الديمقراطية والتنمية يطرح الأخ أبو الحارث العديد من التساؤلات مثل: هل الديمقراطية تحقق التنمية؟ هل من الممكن تحقيق التنمية بدون ديمقراطية في ظل شروطنا الحالية القائمة؟وهل يمكن تحقيق تنمية مستقلة بالاعتماد على الذات؟..الخ.بالطبع الأخ أبو الحارث يبدو مقتنعا بان الديمقراطية لا تمتلك قوة سحرية لحل كل هذه المشاكل ،لكنه يعتبرها المدخل لحلها.ويمكن تفهم موقف الأخ أبي الحارث إذا ربطناه بمرجعيته الاجتماعية والأيديولوجية،لكنه لا يصح كحالة عامة وفي جميع الظروف والأحوال.في الواقع نحن نشاركه رأيه المستند لدينا أيضا إلى مرجعية أيديولوجية وسياسية معينة،بأن التنمية الوطنية غير ممكنة بدون الديمقراطية ،وأن لا معنى للديمقراطية إلا بقدر ما تساهم في تنمية الوطن واستقلاله.وإذ نشدد على ذلك نرى بوضوح إمكانية القيام بتنمية وطنية معينة بدون ديمقراطية،وكذلك إمكانية وجود الديمقراطية مع تنامي علاقات التبعية وتنمية التخلف.ونشارك الأخ أبا الحارث رهانه على دور القطاع الخاص وحركة رأسماله،وعلى المبادرات الفردية ،إلا أننا نعتبر أن للدولة في ظروف التخلف دورا هاما في التنمية لا يتعارض مع دور القطاع الخاص بل يكملان بعضهما بعضاً.وإذا كان الأخ أبو الحارث لا يرى إمكانية للتنمية خارج إطار التبعية،فإننا نقول له إن الذي سوف ينمو ،في هذه الحالة ،هو التخلف.أما في إطار التبعية المتبادلة والتكيف المتبادل ،يمكن عندئذ الاستفادة من المزايا النسبية وتحقيق تنمية وطنية متوازنة تستفيد من قسمة العمل الدولي،ومن التكامل العربي..الخ.كان بودي أن يستأنس الأخ أبو الحارث برأي الاقتصاديين المتخصصين من العرب والأجانب قبل أن يصدر أحكامه،وفي هذا المجال ذو فائدة كبيرة كتاب الدكتور رمزي زكي((الاقتصاد العربي تحت الحصار)).
            إن التنمية الوطنية هي التنمية التي تعتمد على الإمكانيات المحلية في المشاركة في قسمة العمل العالمية والاستفادة من المزايا النسبية في تطوير القوى الإنتاجية المحلية.وفي هذا الإطار فلا خوف من التعاون الدولي والعمليات الاندماجية الجارية على المستوى العالمي .ولا ننسى أن هناك أفقا واسعا لم ينفتح بعد كما يجب هو أفق التعاون العربي  وصولا إلى سوق عربية حرة واحدة ،تمهد مع الزمن للوحدة العربية.ليس الخوف من استقدام رؤوس الأموال في إطار التعاون الدولي والإقليمي والعربي على قاعدة التكيف المتبادل،بل الخوف كل الخوف من تحويل البلد إلى محطة لرأس المال العالمي الجوال ،الذي ينهب البلد ويخربها بدلا من أن ينميها.
            لكن رأس المال له متطلبات  ليس فقط على الصعيد الاقتصادي وإنما على الصعيد السياسي أيضا،إنه يريد ضمانات سياسية ،وهنا تبرز القضية الديمقراطية كمهمة من الدرجة الأولى.لكن كيف سوف تتحقق هذه القضية،فالجواب على ذلك يكمن في حقل الممارسات السياسية.غير أن واقع الحال في هذا الحقل يبين أن الهم الديمقراطي لا يزال هما نخبويا،يتحرك في الحقل الثقافي،وجزئيا في الحقل السياسي.لقد ذكرنا في أكثر من موضع في تعقيباتنا على مداخلات الزملاء أن الهم الديمقراطي ليس هما عاما لكل فئات الشعب ،ومن المشكوك فيه أن تتحرك الجماهير تحت راية الديمقراطية وهي جائعة ،لا تتوفر لها مقومات الحياة الكريمة الآمنة.وحتى قوى المعارضة التي يعول عليها الأخ أبو الحارث دورا هاما وكبيرا،لن يوحدها شعار الديمقراطية كما لم يوحدها في السابق شعار الوحدة أو الاشتراكية ، فهي الأخرى بمعنى معين الوجه الأخر للدكتاتورية،إنها قوى استبدالية،وليست قوى نقض للدكتاتورية. هذا ما هي عليه في الوقت الراهن ،فهي إفرازات لبنية اجتماعية بطريركية معقدة،لم يحصل فيها أي انقلاب صناعي ، يثقلها ارثها  الدكتاتوري التاريخي.نحن هنا نفرق بين مجال الخطاب الديمقراطي وهو مجال واسع يمكن أن يوجه إلى أوسع الفئات الاجتماعية،وبين التحالف في سبيل الديمقراطية.ففي الوقت الذي نسعى فيه إلى تكتيل جميع القوى الديمقراطية أو التي لها مصلحة في الديمقراطية ،يجب أن لا ننسى أن للدكتاتوريات أحزابها وقوى اجتماعية تدعمها وتقف وراءها،بالإضافة إلى أجهزة الدولة المختلفة.
            إن الوعي الكامل بهذه الشروط والظروف هو الذي يسهل علينا العمل في سبيل انتزاع أي هامش للحرية والديمقراطية،وقبل ذلك في إنجاز تحالف القوى الاجتماعية والسياسية الديمقراطية.استنادا إلى هذا الوعي نحن نفرق بين القوى الاجتماعية والسياسية الديمقراطية فعلا ومستعدة للتحالف في سبيل الديمقراطية،وبين القوى التي لها مصلحة في الديمقراطية لكنها ليست مستعدة بعد للتحالف والعمل في سبيلها،وبين من ليس له مصلحة حقيقية فيها لكنه لاعتبارات عديدة يمكن أن يقف على الحياد ولا يعيق العمل في سبيل تحقيق الديمقراطية.ف((السياسة ليست فن الممكن)) بل علم في المصالح ،وفي احتمالات تحقيقها. ربما ممارسة السياسة فيها الكثير من الفن،لكنها بدون علم السياسة تتحول إلى بهلوانيات فارغة.وإذ نشدد على ذلك لا يجوز كما يفعل العديد منا،إسقاط رغباتنا على الواقع ،وإذ نفعل فلن نساهم قيد أنملة في تقدم قضية الديمقراطية،بل على العكس سوف نعيقها.يحضرني في هذا المجال ما يبنيه الأخوة من آمال كبيرة على التغيرات التي تجري على الصعيد العالمي وعلى تقدم قضية حقوق الإنسان والديمقراطية في الخطاب السياسي العالمي.فلا يجوز أن نتوقع أن تقدم لنا الديمقراطية على طبق وفي جو احتفالي،فالتغيرات العالمية على أهميتها لا تجد صدى وتأثيرا في مختلف المناطق وبنفس الدرجة وذلك بسبب ضغط المصالح الإمبريالية والتخوف من صعود قوى اجتماعية وسياسية محلية تهددها. هذا هو واقع الحال عندنا ،أضف إلى ذلك ثمة العديد من الأنظمة العربية التي أصبحت متكلسة وذات بنية انكسارية،لا يحصل التغير فيها إلا عبر ما نسميه بالزمن السياسي التطوري الذي يتحدد بفترة بقاء الحكم بيد فئة معينة،تطول هذه الفترة أو تقصر  بحسب طبيعة أولئك الذين ((يقفون في  طليعة الحركة))،وحسب ما ينسجونه في الواقع من علاقات شخصا نية ومصالح .
             مع تقديري الشديد لوطنية الأخ أبي الحارث ،فإن الوطنية لا تعاير فقط بمسطرة الديمقراطية،الفاشية والنازية شكلتا في حينه قمة في الوطنية،وقد استطاعت المثل الاشتراكية في فيتنام أن ترفع الوطنية الفيتنامية إلى ذرى عالية،وقد ارتفعت الوطنية السوفيتية خلال الحرب العالمية الثانية إلى أن أصبحت قيمة بحد ذاتها يضحي الناس بأرواحهم في سبيلها..الخ. وكما هو معروف لم تكن جميع هذه الأمثلة ديمقراطية. من جهة أخرى وجود الديمقراطية لا يجعل كل مواطن بالضرورة وطنياً بصورة تلقائية،وإن تجربة لبنان خير مثال على ذلك.
            إن مفهوم حرق المراحل كثيرا ما يفهم خطأ على أنه تجاوز للرأسمالية إلى الاشتراكية وتسريع بناء هذه الأخيرة .ولذلك نرى هؤلاء يصرون على ضرورة المرور في جميع المراحل التي مرت بها الرأسمالية في البلدان المتقدمة.نحن نرى إن حرق المراحل لا يعني بالضرورة تجاوز الرأسمالية إلى الاشتراكية،بل اختصار زمن التطور الرأسمالي وذلك بالاستفادة من الخبرات العالمية ومن الإمكانيات التي يتيحها التعاون الدولي والإقليمي والعربي.
            غير أن حرق المراحل في هذه الحالة،خصوصا في ظروف التخلف، يتطلب وضعية مجتمعية معينة، لا يمكن الاستغناء فيها عن دور البرجوازية كما كان يُتصور في السابق. فثمة وضعية جديدة تقتضي إيجاد تناغم معين بين دور القطاع الخاص ودور القطاع الحكومي في مجال التنمية الاقتصادية.وفي كلتا الحالتين لا بد من إجراء إصلاح إداري وقانوني وتنظيمي شامل يتيح مجالا للعمل بكفاءة وفعالية.وفي هذا الإطار لا يخيفنا الاستغلال الذي يتحقق بالوسائل الاقتصادية الطبيعية ،فما دمنا نتحدث عن تنمية في إطار الرأسمالية فالربح هو القانون العام.غير أن الربح(الاستغلال) الذي يجب محاربته هو ذاك الذي يتحقق بالوسائل السياسية.وهذا يقودنا إلى علاقة الديمقراطية بالقانون،ففي ظل الديمقراطية وسيادة القانون ينتفي عمليا الاستغلال الذي يتحقق بالأساليب السياسية.نتحدث عن سيادة القانون أي عن تطبيقه،وليس عن وجود القانون،فنحن لا نفتقر إلى وجود القوانين ،لكننا نفتقر إلى تطبيقها المستقيم،وهذه ليست مسألة سهلة في ظروف التخلف،وفي ظروفنا العربية على وجه التحديد.لقد ذكرت في أكثر من موضع أن مفهوم القانون غير متأصل عندنا وهو يندمج بشخصية من ينفذه ،حسب مقتضيات المصلحة الخاصة وتبرز هذه الحالة في ظل الأنظمة الدكتاتورية .
            إن تأصيل مفهوم القانون واحترام سيادته وتطبيقه يتطلب وجود إنسان ثقافي جديد مختلف،لا يمكن أن يتصير إلا في ظل الديمقراطية.وحتى ذلك الحين لا بد من خوض نضال حقيقي في سبيل سيادة القانون خصوصا وأن هناك فئات اجتماعية لا تستطيع أن تحقق مصالحا الطفيلية إلا في مناخ الفساد واللاقانون ،ونخص بالذكر منها البرجوازية البيروقراطية والطفيلية والكمبرادورية.لذلك نحن على خلاف مع الأخ أبي الحارث لا نراهن على البرجوازية بكل شرائحها ،لتلعب دورها في التنمية الوطنية ،بل فقط على البرجوازية المنتجة الوطنية التي لها مصلحة حقيقية في تنمية السوق الوطني والاقتصاد الوطني.
             في سياق الندوة،وفي الخلوات، كنا نسمع ،بعض الطروحات ذات الطابع الطائفي فيما يخص الديمقراطية ،ومن من ؟ من أولئك الذين كانوا، إلى حين، يرفعون راية الشيوعية! وكانت هذه الآراء تلقى الرد المناسب . لكن لأول مرة يعبر أحد المشاركين في الندوة عن موقفه هذا كتابة.فالأخ أبو الحارث يرى ((من المستحيل إقامة ديمقراطية بدون الأخذ بعين الاعتبار الأغلبية المسلمة(السنية) تحديدا))،وهو يريد أن يقول كما أفصح عن ذلك غيره ،يجب توزيع مقاعد البرلمان حصصا على الطوائف!.الغريب أن الأخوة الذين يروجون لمثل هذه الآراء لم يستفيدوا من تجربة لبنان في مجال الطائفية السياسية وما جرته على البلد من مآسي.من جهتنا لا يمكننا القبول بمثل هذه الآراء،وإن الديمقراطية التي نؤمن بها هي التي تنفتح على المواطنين جميعا بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو الإثنية أو الحزبية أو الطبقية..الخ.ثم لماذا هذا الخوف المضمر أو المعلن من الحركات الإسلامية الأصولية؟ الذي يدفع الكثيرين إلى الارتماء في أحضانها،وبناء الأوهام الكبيرة على دورها المستقبلي في منطقتنا العربية.لو أن الأخ أبا الحارث اكتفى بالتنظير لمشروعية الأحزاب الدينية،لكان موقفه مفهوما ومقبولا،أما أن يطالب بأن تأخذ الديمقراطية بعين الاعتبار حقوق الأغلبية (السنية)،فهذا مدخل طائفي لمعالجة القضية الديمقراطية لا نوافق عليه.بالطبع إنه لتطور كبير على الصعيد السياسي والاجتماعي أن تتحول الحركات الإسلامية السياسية باتجاه القبول بالخيار الديمقراطي،بما يعني ذلك من الاحتكام للشعب والاعتراف بحق الاختلاف،وتبادل السلطة ومبدأ سيادة القانون ..الخ،لكن علينا أن لا نعلق أمالا كبيرة على ذلك.هذا لا يعني أبدا أن نضع جميع الحركات الإسلامية السياسية في سلة واحدة ونعاملها على هذا الأساس.ثمة فرق كبير بين حركة الأخوان الجمهوريين في السودان وحركة النهضة في تونس وحزب الله في لبنان..وبين الأخوان المسلمين في مصر أو في سورية أو جبهة الإنقاذ في الجزائر أو العديد من الأصوليات الدينية المتطرفة التي تعمل تحت مسميات مختلفة..الخ.
            إن تحول الحركات الإسلامية السياسية إلى حركات ديمقراطية، يتوقف إلى حد بعيد على عمق التحولات المجتمعية الاقتصادية والثقافية في البلدان العربية ،وعلى مدى فعالية القوى الوطنية الديمقراطية،من هنا كانت مسئوليتنا مضاعفة.إن الديمقراطية تغتني كثيرا، بلا شك، بوجود أحزاب سياسية دينية تؤمن حقا بالديمقراطية،لكنها ليست شرطا مسبقا لقيام الديمقراطية.وعلى العموم المسالة برمتها سواء ما تعلق منها بالأحزاب((العلمانية)) أو(( الدينية))، غير خاضعة للتخطيط المسبق، أو لإرادة هذا الطرف أو ذاك،بل هي نتيجة التفاعلات التي تجري في المجتمع وطبيعة التحديات التي نواجهها سواء على الصعيد الوطني أو على صعيد التنمية الاقتصادية ،أو على صعيد علاقات الخارج بالداخل الوطني..الخ.فالتشوهات التي تعاني منها الحركات السياسية في المنطقة العربية بدون استثناء وخصوصا من ناحية مدى نضجها الديمقراطي هي تعبير عن عمق الأزمة الشاملة التي تعاني منها منطقتنا،على جميع الصعد الوطنية والقومية،الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية ..الخ والتي تتحمل مسؤولياتها الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة في البلدان العربية.
               في نهاية المداخلة يكثف الأخ أبو الحارث ما استعرضه فيها من أفكار ،كنا في حينه قد عقبنا عليها،ولا نرى ضرورة لتكرار ما كتبناه بهذا الصدد.



#منذر_خدام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البناء الاجتماعي ومفاهيمه الأساسية
- المادية التاريخية وسؤالها الأول
- الديمقراطية: معوقات كثيرة …وخيار لا بد منه
- المادية الجدلية وسؤالها الأول
- الديمقراطية بين الصيغة والتجسيد
- المنهج الماركسي واشتراطاته
- شي بحط العقل بالكف....
- منطق الفكر
- نقد الفكر مقدمة لنقد السياسة
- الديمقراطية وبيئتها المفهومية في الوعي السياسي العربي
- الديمقراطية والنخبة
- الديمقراطية والعلمانية والليبرالية
- الديمقراطية والمجتمع المدني
- عندما -تحاول- أمريكا التفكير بعقل -غير- إسرائيلي يظل مثقفونا ...
- الديمقراطية وحقوق الإنسان
- الديمقراطية والحرية
- الديمقراطية الحديثة بين نخبوية لوك ومساواتية روسو
- الديمقراطية: ولادة المصطلح وحدوده الواقع
- هموم التنمية العربية ومشكلاتها
- العولمة وطبيعة العصر


المزيد.....




- طبيب فلسطيني: وفاة -الطفلة المعجزة- بعد 4 أيام من ولادتها وأ ...
- تعرض لحادث سير.. نقل الوزير الإسرائيلي إيتمار بن غفير إلى ال ...
- رئيسي: علاقاتنا مع إفريقيا هدفها التنمية
- زيلينسكي يقيل قائد قوات الدعم الأوكرانية
- جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة الجعف ...
- طفل شبرا الخيمة.. جريمة قتل وانتزاع أحشاء طفل تهز مصر، هل كا ...
- وفد مصري في إسرائيل لمناقشة -طرح جديد- للهدنة في غزة
- هل ينجح الوفد المصري بالتوصل إلى هدنة لوقف النار في غزة؟
- في مؤشر على اجتياح رفح.. إسرائيل تحشد دباباتها ومدرعاتها على ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر خدام - أزمة الديمقراطية في الوطن العربي