تتخذ معادلة "التعايش والوجود" وطابع العلاقة الجدلية بين مركبيها في السنوات الاخيرة أبعادًا مأساوية من حيث مدلولاتها الخطيرة بالنسبة لحياة ومعيشة وتطور جماهيرنا العربية، الاقلية القومية العربية الفلسطينية المتجذرة في وطنها، في مدنها وقراها. "أبعادًا" تتخطى الحدود التقليدية لسياسة التمييز القومي العنصرية التي انتهجتها حكومات اسرائيل المتعاقبة في تعاملها مع المواطنين العرب في شتى مجالات الحياة والتطور وبشكل منهجي. فسياسة التعايش بين اليهود والعرب التي انتهجتها الاوساط الرسمية الحاكمة كانت مبنية على أساس التمييز القومي العنصري ضد العرب ولكن في اطار تحجيم وتقزيم مكانة ودور الوجود العربي في المجتمع الاسرائيلي سياسيًا واقتصاديًا وخسف حصته من الملكية على الارض في هذا الوطن المشترك من خلال مخططات مصادرة ونهب الاراضي العربية، سياسة منهجية استهدفت بقاء الاقلية القومية العربية قوة احتياط هامشية منقوصة حق المواطنة بالمساواة القومية والمدنية وتخدم مصالح ارباب الرأسمال اليهودي والمشترك مع الرأسمال الاجنبي كسوق استهلاكية وكقوة عمل رخيصة نسبيًا (حرمان الوسط العربي من التصنيع الحقيقي) وتحويل مدننا وقرانا العربية الى ما يشبه الجيتوات بعد عمليات المصادرة.
وفي رأينا ان الجديد الخطير في السنوات الاخيرة في سياسة تعامل السلطة مع المواطنين العرب هو تسارع نزعة نسف جسور طابع التعايش القائم، حتى بصورته المشوهة، كقاعدة انطلاق وكجزء عضوي من مخطط استراتيجي يضع علامة سؤال كبيرة حول مصير وجودنا وحق وجودنا في وطننا الذي لا وطن لنا غيره. سياسة مدلولها الأساسي الانتقال درجة اعلى من حالة التمييز التقليدية الى حالة العداء السافر للعرب والدمقراطية وفي ظل تزايد مخاطر الفاشية العنصرية، بعد ان تربع على عرش السلطة في السنوات الاخيرة اكثر قوى اليمين والاستيطان تطرفًا ومغامرة وعنصرية فاشية معادية للعرب وللشعب العربي الفلسطيني عامة ولحقه في الوجود والحرية والاستقلال الوطني. حدث تغير نوعي في سياسة التعامل السلطوي مع الشعب الفلسطيني والمواطنين العرب في اسرائيل برزت مؤشراته ومعالمه من خلال طرح ومناقشة مختلف برامج وأشكال الترانسفير للعرب وللفلسطينيين على مختلف الصعد الرسمية والاكاديمية الاسرائيلية، ومن خلال تصعيد الممارسات العدوانية ضد الفلسطينيين في المناطق المحتلة وضد العرب من المواطنين في اسرائيل، خاصة بعد مجزرة القدس والاقصى وانفجار الانتفاضة الفلسطينية وهبّة جماهيرنا العربية في اكتوبر ضد جرائم الجزارين. وبدأت تبرز ملامح هذا التغير الخطير في عهد رئاسة ايهود براك للحكومة وتعززت اكثر بعد صعود جنرال المجازر والاستيطان اريئيل شارون وقوى اليمين والاستيطان الى السلطة. وبدأت تتجسد هذه الملامح بغرز انيابها الوحشية المفترسة مرتكبة الجرائم والمجازر الدموية في المناطق المحتلة وضد العرب في داخل اسرائيل. ادعى ايهود براك ولكسب اصوات الناخبين العرب انه سيكون "رئيسًا للجميع" وسينتهج سياسة مساواة في "دولة للجميع"، ولكنه انتهج سياسة "دولة تقتل مواطنيها العرب" في هبة اكتوبر ادت الى قصف اعمار 13 من خيرة الشبان العرب وجرح المئات، لا لسبب الا لأنهم عبّروا عن موقفهم ورأيهم واحتجاجهم الشرعي ضد مجازر المحتل بحق شعبهم في المناطق المحتلة. فقتل العرب كان متعمدًا وهذا ما اكدته "لجنة أور" من خلال مناقشاتها واستجوابها للمجرمين وقراراتها. ولكن "العبر" التي استخلصتها حكومة الكوارث اليمينية الشارونية من تقرير لجنة اور كانت تصعيد الهجمة العدوانية ضد العرب والفلسطينيين، تصعيد عمليات الهدم والتدمير للبيوت العربية في النقب واللد والرملة. ابادة مزروعات العرب البدو بالسموم الحارقة وارتكاب المجازر الدموية في جنين ومخيمها ونابلس وغيرها في اطار ما اطلقوا عليه "السور الواقي".
لا اعرف لماذا لاحق مخيلتي هاجس تسلسل هذه الاحداث وانا جالس مع وفد المكتب السياسي لحزبنا الشيوعي في خيمة الاعتصام والاحتجاج في البعنة الشاغورية الجليلية المقامة على اطلال البيوت المهدومة التي محتها الاقدام الهمجية وجرافاتها عن الوجود. لا اعرف لماذا لاحقت مخيلتي صورة محيا الفنان الكبير والممثل القدير محمد صالح بكري وفيلمه الوثائقي "جنين جنين" الذي يعتبر افضل من وثّق مجزرة الهمج المحتلين في مخيم جنين ونقلها الى الرأي العام المحلي والعالمي فاضحًا الوجه الوحشي الحقيقي للمحتل الملطخة أيديه بجريمة قتل المدنيين الابرياء وتحويل بيوتهم ومخيمهم الى ارض محروقة تعيد الى الاذهان صورًا لم تنس من تاريخ جرائم الحرب للغزاة من هولاكو مغول التتار حتى الاحتلال النازي الهتلري لمناطق ومدن وقرى في الاتحاد السوفييتي وغيره ابان الحرب العالمية الثانية. لا اعرف لماذا قفزت الى مخيلتي عبارة "البعنة البعنة" هذه القرية المنكوبة التي يسطر تاريخها مجلدًا من المعاناة في مواجهة سياسة القهر القومي السلطوية وممارساتها الاجرامية فمن شرفات بيوت اهل البعنة يمكن مشاهدة بنايات مدينة كرميئيل القائمة على اراضي اهالي البعنة وغيرها من القرى المجاورة المصادرة والمنهوبة من اصحابها الشرعيين بشكل قسري ووفقًا لخطة التهويد العنصرية. "البعنة البعنة" رمز يعكس الرابطة العضوية لنهج سلطوي ممارس يواصل شحذ انيابه المفترسة منذ النكبة الى كفرقاسم الى "جنين جنين" الى "البعنة البعنة" مرة اخرى. فما حدث في البعنة اكثر من مجرد هدم اربعة بيوت للاهل من عائلة شوباش التيتي القائمة على ارض الآباء والاجداد بحجة البناء غير المرخص. ما حدث كان عملية سلطوية انتقامية لمعاقبة اهالي البعنة جماعيًا بهدف اذلالهم وتلقينهم درسًا لا يُنسى. وكانت جريمة هدم البيوت الوسيلة لممارسة العقوبة الجماعية الاجرامية ضد جميع اهالي البعنة. وكانت العملية حسب رأينا، مخططة ومبرمجة مسبقًا.
ولممارسة عملية الاذلال الانتقامية جندوا "ونقّوا على الطبلية" قوى وافرادًا من الشرطة وقوة القمع الخاصة "يسام" ومن حرس الحدود وغيرهم من السفلة والعنصريين الفاشيين من المحقونين بالعداء والكراهية للعرب. لقد تجسد على ارض الجريمة والعدوان ضد اهالي البعنة ما اكده مسؤول التربية الرئيسي في الجيش الاسرائيلي، العقيد اليعيزر شتيرن (يديعوت احرونوت 23/2/2004 "بأن معايير قيم وأخلاق الجيش الاسرائيلي قد تغيرت خلال سنوات الانتفاضة الفلسطينية" وانه وفقًا للاخلاق والقيم المنحطة الجديدة وضعت معايير تسمح المس بالمدنيين من الناس الابرياء المسالمين وقتلهم. وما حدث في البعنة يعكس حقيقة الغربة والقطيعة بين تصرفات وسلوك قوات القمع السلطوية وبين القيم والاخلاق الانسانية. فلم يكتف المجرمون بهدم البيوت ظلمًا وعدوانًا، بل لاحقوا الناس الى بيوتهم حيث عاثوا فسادًا وتخريبًا وعدوانا بضرب كل من واجههم من شيوخ واطفال وشبان ونساء، فأكثر من الفي شرطي وجندي احتلوا مداخل البعنة وبشكل يعيد الى الاذهان احتلال البعنة في سنة النكبة. لم يرحموا الاطفال الذين القوا عليهم القنابل المسيلة للدموع. وبشكل رذيل ومنحط كان بعضهم يكشف عن عورته ويبول في الشارع وبشكل استفزازي، كما روى لنا بعض شهود العيان، دون احترام حرمة النساء. كانوا يستفزون الشبان والرجال بالسؤال عن الفتيات والنساء وبأنهم "سيفعلون ويتركون" بهن. لم ينج رئيس مجلس الشاغور، احمد ذباح، والمسنون والشباب من عصيهم ورصاصهم المطاطي وغير المطاطي، حتى ان الجرحى الذين وصلوا الى المستشفيات لم ينج بعضهم من ملاحقة وعدوان افراد قوة القمع. لقد كان يعوي بعض ذئاب العدوان في وجه الذين يطاردونهم من اهالي البعنة: "اذهبوا الى الاردن والسعودية"، الأمر الذي يعكس ان العدوان الانتقامي كان مبيتًا. وما يؤكد ذلك اكثر ان بعض العنصريين الفاشيين كان يسأل عن مكان وجود بيت الفنان والممثل محمد صالح بكري. وهدفهم من وراء السؤال معروف.
ان عملية الاذلال الانتقامية هذه تعتبر بمثابة مؤشر بارز يعكس طابع سياسة السلطة العدوانية ضد جماهيرنا العربية ونهج تعاملها مع المواطنين العرب. ولهذا اعتبرنا ان هدم البيوت في البعنة والعدوان الانتقامي السافر على أهلها هجومًا عدوانيًا على جميع جماهيرنا العربية، الامر الذي يستدعي اوسع وحدة صف جماهيرية لمواجهة هذه السياسة الكارثية ودفنها، يستدعي ليس فقط مساعدة اهلنا ممن هدمت بيوتهم باعادة بناء البيوت المهدومة، بل العمل على مختلف الصعد البرلمانية والشعبية ومن خلال هيئات الجماهير العربية القطرية ومجلس الشاغور المحلي لاقامة لجنة تحقيق محايدة للكشف عن الجريمة ومعاقبة المجرمين امام انظار الرأي العام المحلي وأنظار العالم.
ويفعل خيرًا، ولمصلحة القضية العادلة، ان يوثق مخرج ومنتج "جنين - جنين" محمد بكري، باخراج وانتاج عمل وثائقي "البعنة البعنة" يجسد عمق ومدلول الجريمة السلطوية المرتكبة في البعنة.