|
أنغولا غيت!
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2471 - 2008 / 11 / 20 - 10:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل يمكن لمتغيّرات السياسة أن تصادر صلاحيات القضاء في البلدان المتقدمة؟ لقد واجه مثل هذا السؤال المحرج القضاء الفرنسي مؤخراً بشأن ما أطلق عليه «أنغولا غيت»، لاسيما وقد تعرّض لضغوط سياسية لإلغاء محاكمة المتهمين في قضية «أنغولا غيت»، الأمر الذي لو حصل فسيؤدي إلى توجيه ضربة لاستقلاله الذي ظل يحرص على المحافظة عليه، رغم بعض محاولات تطويعه، وكانت قضية «أنغولا غيت» قد استدعت توجيه اتهامات مباشرة إلى عدد من المسؤولين الأنغوليين، لاسيما المحالين إلى محكمة باريس. ففي 16 أكتوبر 2008 انطلقت في قصر العدالة بباريس جلسات المحاكمة في قضية الاتجار غير المشروع في الأسلحة الحربية، وبيع صفقات سلاح غير مشروعة إلى حكام جمهورية أنغولا بين عامي 1993 و1998، وقد شملت قائمة الأسماء عدداً من الشخصيات السياسية، إضافة إلى بعض رجال الأعمال، بمن فيهم أركادي غايدا مايك «الإسرائيلي» من أصول روسية، وهو ما زال مطارداً ولم يلق القبض عليه، رغم صدور مذكرة اعتقال دولية بحقه، والمدعو بيير فالكون الفرنسي الذي حصل على الجنسية الأنغولية. وتضم لائحة الشخصيات المتهمة يساريين ويمينين فرنسيين، ومن بينهم نجل ميتران المعروف باسم جان كريستوفر وجاك أتالي ووزير الداخلية الأسبق شارل باسكوا. وتتضمن الصفقات العسكرية موضوع المحاكمة خصوصا تزويد أنغولا بـ 420 دبابة و150 ألف قذيفة و12 طائرة عمودية، وتقدّر الأموال التي أنفقت على سبيل شراء السلاح، والتي وزعت كرشا وإكراميات وعلاوات، بحوالي 790 مليون يورو، وارتبطت تلك الصفقات بالحرب الأهلية التي عاشتها أنغولا منذ استقلالها عن البرتغال عام 1975. وخلال الحرب التي دامت 28 عاماً، كان الأنغوليون ينقسمون إلى معسكرين: أحدهما يميل إلى الشرق والآخر إلى الغرب، فقد كانت الجبهة الشعبية لتحرير أنغولا التي استولت على الحكم بعد إحراز الاستقلال تميل إلى المعسكر الاشتراكي، أما الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا فكان يميل إلى الغرب، وحاول حكام أنغولا التكيّف مع النظام العالمي الجديد، لاسيما بعد انتهاء الحرب الباردة، حين أخذوا يبحثون عن شركاء غربيين، كانت فرنسا من بينهم، لاسيما بتقديم إغراءات الاحتياطات النفطية التي تتمتع بها بلادهم، فضلاً عن إغراء الثروات الماسية الهائلة.
وفي مطلع التسعينيات -وبفعل الوضع العسكري المتدهور للحكم في أنغولا- اضطر المسؤولون فيها رغم ولاءاتهم للمعسكر الشرقي السابق، إلى اللجوء إلى فرنسا للحصول على السلاح، يومها كان ميتران الاشتراكي رئيساً للجمهورية في حين أن حكومته كانت يمينية، ولكن كليهما سهّلا مهمة حصول أنغولا على السلاح عبر طريق ثالث غير رسمي، وهو الذي يقف اليوم المتهمون بسببه أمام القضاء. رفضت باريس تزويد أنغولا بالسلاح وبيعه إلى الرئيس الأنغولي دوس سانتوس، الأمر الذي دفع أنغولا إلى الاتصال بجهات غير رسمية لتأمين ما تريده من السلاح، وقيل إن سياسيين يساريين ويمينيين هم الذين سهّلوا لها صفقة السلاح، الأمر الذي أثار اتهامات بشأن صفقة بيع الأسلحة السرية ودور المسؤولين فيها. لقد شكّكت حكومة أنغولا الحالية بما يسمى «أنغولا غيت»، وسعت إلى رفضها لاسيما بمنحها كبار المتهمين الجنسية الأنغولية، كما عبّرت صراحة عن اعتراضاتها على تحريك الدعوى، وعيّنت نقيب المحامين الفرنسيين السابق محامياً لها في القضية، وطالب محامي الدفاع بسحب الوثائق الأنغولية الرسمية التي تم تقديمها الى القضاء كوثائق ثبوتية، معتبراً ذلك أمر يخصّ سيادة أنغولا وأنه انتهاك ومساس بأسرارها العسكرية وسيادتها. وتسعى أنغولا لثني القضاء الفرنسي عن السير في الدعوى، ملوّحة بالنفط الذي تسهم في استخراجه شركة توتال الفرنسية، إضافة الى ثرواتها الماسية ومشاريع البناء الضخمة التي أبرمت بشأنها عقوداً هائلة لإنجازها مع شركات فرنسية. إن قضية «أنغولا غيت» تُظهر حجم الفساد والرشوة والعمولات التي تعتبر إحدى الوسائل غير المشروعة في تعامل المسؤولين في البلدان المتقدمة مع البلدان النامية، وذلك عبر تقاسم بين مسؤولين في السلطة وامتدادات المسؤولين في الدول المتقدمة، ولعل حادثة «أنغولا غيت» تذكر بما حصل في نيكاراغوا وإيران غيت وغيرها. ويعوّل المتهمون الفرنسيون كثيرا على الموقف الأنغولي لإنقاذهم من الورطة التي هم فيها، خصوصاً وأن الأضواء أصبحت مسلّطة عليهم بعد تقديمهم إلى القضاء! كما يراهنون على العلاقات بين باريس ولواندا، خصوصاً بعد زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي للمستعمرة البرتغالية السابقة في مايو 2008، وتأكيد عزمه على طي صفحة الماضي. وقد حاولت وزارة الدفاع الفرنسية الدخول على الخط في يوليو 2008 بإرسال رسالة مفادها أن السلاح الذي تم بيعه لم يعبر الحدود الفرنسية بما يسحب مبررات تقديم المتهمين في قضية «أنغولا غيت» إلى المحاكمة. وإذا كانت وزارة الدفاع الفرنسية هي التي حرّكت الدعوى في قضية صفقات الأسلحة عام 2001، فإن مبرراتها قد اختلفت اليوم، والأمر لا يتعلق بوزارة الدفاع فحسب، بل بالإعلام الفرنسي أيضاً، الذي كان يقف مع الحركة الشعبية لتحرير أنغولا لكنه يعتبر اليوم أن صفقات الأسلحة هي التي حسمت الموقف لصالحها حيث ما تزال تتربع على سدة الحكم حتى الآن. إن العلاقة بين السياسة والقانون وبين المصلحة والقضاء لا تسمح لباريس بالتغوّل على السلطات القضائية، كما أن ليس بامكانها إلغاء محاكمة المتهمين وإلا فإنها ستُحدث انقلاباً في القضاء الفرنسي لا يمكن القبول به من جانب الجمعية الوطنية الفرنسية والرأي العام والمجتمع المدني، فاستقلال القضاء ونزاهته أمرٌ لا يمكن التفريط به، خصوصاً وهو مُنجزٌ تراكم عبر عشرات السنين. ولعل فرنسا في هذا المضمار هي أول من دعا إلى فصل السلطات وإلى احترام السلطة القضائية وعدم التدخل في شؤونها. ولعل حنكة وحصافة القضاء الفرنسي ستجدُ مخرجاً قانونياً يحافظ به على استقلاليته ويراعي في الوقت نفسه المصالح الوطنية الفرنسية العليا، ولعل ذلك أحد اختبارات القضاء الفرنسي الذي يواجه «أنغولا غيت» حالياً.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موريتانيا والديمقراطية إلى أين؟
-
العراق منجم الخطر
-
من المستفيد من استئصال المسيحيين في العراق؟
-
المستوطنات الإسرائيلية: الصقور والحمائم!!
-
حين يكتب رجل الدين قصائد الغزل!
-
ثرثرة الديمقراطية
-
كيسنجر وموعد الانسحاب من العراق!
-
هل جاء دور أوكرانيا بعد جورجيا؟
-
انها الرأسمالية.. يا صديقي
-
هل ثمة يوم للديمقراطية؟!
-
ما بعد الصهيونية
-
الحرب من الداخل والبرنامج السري!
-
الأبعاد الأخلاقية في حقوق اللاجئين!
-
النووي الصالح والنووي الطالح
-
أربعة خيارات في حل مسألة كركوك!
-
الحُصيري: الشعر والتمرد الدائم!!
-
بين الواقعية السياسية والاستهلاك الشعبي
-
التحدي الإيراني بين المناورة والمغامرة
-
حالة تسامح!!
-
آثار العراق ذاكرة العالم
المزيد.....
-
إيران تقترب من المصادقة على قانون لتعليق التعاون مع الوكالة
...
-
وزير دفاع إسرائيل عن خامنئي: -لو أبصرناه لقضينا عليه-
-
ضربات ترامب لإيران تُرسّخ قناعة كوريا الشمالية بالتمسك بسلاح
...
-
أكبر قواعد واشنطن بالشرق الأوسط: العديد... استثمار قطري ونفو
...
-
إيران وإسرائيل والشرق الأوسط الجديد
-
حتى نتجنب مصير مُجير أم عامر
-
وزير الدفاع الأمريكي: ترامب هيأ الظروف لإنهاء الحرب الإسرائي
...
-
مرشح ليكون أول مسلم يُصبح عمدة نيويورك.. من هو زهران ممداني
...
-
مبابي يتهم باريس سان جيرمان بـ-الاعتداء الأخلاقي- في شكوى جن
...
-
هل تناول تفاحة في اليوم مفيد حقّاً لصحتك؟
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|