أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - درس في الرسم :قصة قصيرة















المزيد.....

درس في الرسم :قصة قصيرة


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 2442 - 2008 / 10 / 22 - 05:58
المحور: الادب والفن
    


(الى ذكرى الرسّام الشهيد سعد محسن الصفار ، اثناء الصعود الى فردوس الألوان ) .
هاتان العينان المؤطرتان بالزجاج الشفّاف ، جوهرتان فريدتان خلف واجهة العرض . جوهرتان نابضتان ، تشعّان بلا كللٍ . عينان شغوفتان بالحياة ، هائمتان بالحسن والجمال !..
أقول له : العيون ترهق كثيراً اذ تشعشع هكذا . فيبتسم صامتاً .. يبتسم صامتاً هذا العصفور ( الأنطباعي ) الشهيد .. عصفور بريشٍ بنيٍ غامقٍ من الرأس حتى الذنب ، وعلى صدره يزهو ريش قرنفلي جذّاب .. عصفور بجسدٍ دقيقٍ ، لاأنسى أبداً أغاريده الشجيّة التعسة .
مثل زهرةٍ بريّةٍ ، غريبة العطر والجمال ، انتضاها الله من أكمات الجنة وأطلقها بين الناس لوحة فنيّة تموج بالحركة والظلال والألوان والرهافة والدفء والحنان ..
أقول له : هل خلقت اللون الأبيض أم بعد ؟ ..
يقول : بعد ..بعد .. ليس الآن .
التقيته في خضمّ الناس ، وقد غار بعيداً .. صادف آفات الدنيا وأمراضها العضال ، عرك الحياة والأيام ومسّه بأس شديد منها . ومذ تعارفنا أدركت معنى الفن الحقيقي .
كان لرقة طباعه وطفولة روحه البيضاء ، انطباعاً سلساًً عذباً في نفسي ، باقٍ لا ينمحي . فعلى الدوام كان يخطر في مخيلتي - حين يرد ذكره - مثل قدح حليب أمام نافذةٍ مشرقةٍ أو قفة بيضٍ تحملها فتاة قرويّة في الصباح الباكر..
عكف زمناً طويلاً على دراسة الضوء واشتقاق الألوان ، حتى صار استاذاً لا يبارى ، وكانت فرشاته الثريّة موشوراً يفرز ألوان الطيف ويسكبها في لوحاتٍ مثيرةٍ .
رسم الناس .. رسمهم موحلين بالفقر ، مصفدين ، مقذوفين على طول وعرض الطرقات ، موشومين بالعذاب .. رسم نساءً تبيع الأسمال ، ورجالاً يسعون بلا املٍ .. رسم الدنيا كما هي : خراب وغثيان . وأعاد بناءها اذ رسمها تفاحة يغلفها شغاف ملاك ،ويحملها سرب عصافير بملاءة نبي من بستان الله ..
كان صراخ لوحاته ،وأنينها ، وتحديها ، ومقاومتها ، نشيداً ماضياً ، محفزاً ومحرضاً ، يهدر في الأسماع ويشرع العيون ..
احياناً تستثير الروائح ذكريات أو حالات معينة في النفوس ، أو ان الذكريات والحالات تلك هي التي تستحضر روائح محفوظة في الأعماق . وهذا ما كان يشعر به دائماً ، اذ يضوع طعم ورائحة النارنج الصارخة في عروقه حين يهدأ ويروق مزاجه ويسترخي جسده ..
وكان قد سلخ شطراً من أوقاته محاولاً جمع ألوان الطيف الشمسي واعادتها ضوءاً أبيض من جديد بفرشاته وألوانه ، ولم يفلح في ذلك ، فقد بدا هذا الأمر عسيراً وشاقاً عليه ، وكم من الأوراق والألوان أفنى من أجل ذلك ..

عصر كل يومٍ ، حيث تؤوب الشمس متعبة ، محمرة الجبين والخّدين ، يلج غرفته المتواضعة ، المطلّة على حديقة البيت ، القائمة أمام باب البيت الحديدي ، المفتوح على الدوام . وفي هذه الغرفة كان يعمل . يجلس متأملاً فيض الألوان المندلق من ثنايا غصون الأشجار وأفنانها حين تتكسر عبرها خيوط الشمس .. كان يتأمل ذلك تارة ويرسم تارة اخرى ..
أما هذا اليوم ، بالذات ، استرخى ومسحة شفافة من الغم خضبت ثنايا غرفتة الصغيرة . حاول أن ينهمك في الرسم لكن أحاسيسه الغائمة لم تستجب له ، اتكأ بكوعه على حافة المنضدة دافعاً ذقنه الى الخلف بأطراف أصابعه ، متفكراً برجال الآمن الذين كانوا يجوبون الأسواق والطرقات ويقتحمون البيوت ويتسلقون الجدران والسطوح بحثاً عن الثوّار الذين انفرطوا وتواروا بعد فشل انتفاضتهم .. كان هناك العديد من الأصدقاء والناس الأبرياء ، هم اليوم بلا سندٍ ، العقاب الوخيم يدقّ أبوابهم !..وكان قلقاً بصددهم ..بل كان قلقاً بصدد نفسه أيضا ، أولم يقف في عرض الشارع ويهتف مع الجموع بحياة الوطن ؟..
كان الهواء دبقاً وثقيلاً ، والريح الجنوبية الشرقية تجلب الصداع الى رأسه . تهب قليلاً ثم تستكين مكدرةً ومنذرة. كان يشعر بأفكاره طائشة ، ولم يفلح في أيما عملٍ .
كانت علب الألوان موزعة بفوضى على منضدته ، تتوسطها اضمامة من فرش الرسم مغموسة في علبة معدنية كبيرة . وأمامه لوحة صغيرة بيضاء ، يحاول الرسم على قماشتها . ظلّ مستغرقاً في محاولته تلك بلا جدوى ، حتى هبط الظلام .
تحت جنح هذا الظلام ، تقدم اثنان بهيئةٍ بوليسيةٍ من الباب الخارجي لبينه ، وأخترقاه بجرأةٍ وثقة ، ودلفا الى غرفته مباشرةً ، في الوفت الذي وقف فيه الرسّام مصعوقاً من الرعب والذهول !..
كان كل منهم يعرف الآخر.. الرسّام والمرسوم ..
جرى كل شيء بسرعةٍ .. سرعةٍ فوق أي توقعٍ . هوى على رأسه عقب بندقيّة ،أسقطه في كرسيّه بين الموت والحياة ، حينذاك أحسّ بإنغراز آلة حديديّة في صدره ثلاث غرزات عميقة وكاوية ومميتة !.. تفجرت من أعماقه صرخة مروعة ، أعقبها سيل أنينٍ حارق ..
استدار المسلّحان وانسحبا بجرأة وثقة ايضاً ، غلاظ القلوب ، وجامدي الدم ، كما كان يصورهما في لوحاته من قبل .
لم يدم الأمر طويلاً ، فسرعان ما انتفض جسد الرسّام ، وانزلق بقوة من الكرسي ٳلى بلاط الغرفة ، واعصار من الألم يعصف به ، ونزف من الدم المهرق سال على قميصه الأبيض . وتأرجحت على الحائط خلفه لوحة قديمة لصرخة مدوية حمراء مقذوفة من كوم أنقاضٍ أصفرمحمر مليء بالدخان .
كان متشبثاً بالحياة لايريد أن يموت .. لا يريد على الأطلاق ، بل لم يخامره شك بأنه سيموت في أي وقت ٍ من الأوقات . بعد برهةٍ تنبه قليلاً ، راح يكابد نزفه وآلامه الفضيعة ، ومدّ يده ببطءٍ ٳلى كرسيّه محاولاً سحب جسده ، ومجاهداً في الوقوف ، غير ان يديه سرعان ما ارتجفتا واهتزتا بشدةٍ ، وهوى مجدداً . كان يحسّ بضعفه ويأن أنيناً خافتاً . كرّ مرةً أخرى ، رافعاً يده إلى حافة المنضدة ، وأتكأ بعناءٍ بيده الأخرى على الكرسي ورفع جسده عن أرضيّة الغرفة ، حتى نجح في الوقوف أخيراً وقفةً واهنةً مترنحةً . اصطبغت يداه وقميصه بدمٍ كثيفٍ . فتح عينيه الغائرتين ، مقلباً نظره في أرجاء مرسمه .. تسنى له أن يرى الألوان والأصباغ قد تبعثرت على الأرض ، وان الأصباغ سالت مع انسياب بلاط الغرفة ، بأتجاه الباب ، وقد شكّلت خطوطاً رفيعةً بمختلف الألوان .
كان واقفاً منحنياً بجذعه إلى المنضدة ، ودفق غزير من دمه أخذ يشكّل خطاً أحمرعلى أرض الغرفة ، انطلق بين خطوط الأصباغ الرقيقة ، وراعه أن يرى لأول مرةٍ في حياته تدفق الدم من جسده النحيل على هذا القدر!.. راح يتأمله يجري هو الآخر بٳتجاه باب الغرفة ويمتزج بالأصباغ .
في خضم هذا الموت الكئيب ، أسرت انتباهه تدريجياً لوحة خلابة ، مكنته من الأعتدال في وقفته نوعاً ما . رمحها بنظره ، وهو أشدّ انبهاراً وعجبا ، اذ لاح له توهج لون أبيض تكشف غداة التقاء الألوان وامتزاجها بدمه ، عند عتبة الباب ، لون تمخض لوحده . فكّ اسارعينيه وخض دمه
وجعله يمعن النظر بحدةٍ. طافت على محياه الشاحب ابتسامة حقيقيّة ، وغمره احساس عارم بالجمال ، تهللت أساريره وهو يرنو بهدوءٍ الى هذا اللون المهيب ، الذي بذل من اجله جهداً وفيضاً من العرق . كان يرنو اليه مشعاً ، جليلاً ، صافياً . اتسعت حدقتاه وارتجفت أغصان الأشجار أمامه قليلاً ، فيما رشقه نسيم بارد جعله يحسّ بهدوءٍ عميقٍ جداً ، أمسى يتنسم عبره
رائحة النارنج زكيّةً فواحةً ، تهفّ في مرسمه وتجعل فلبه يستكين .. وتراخت أصابع يديه متراجعةً عن حافة المنضدة ، وغمرته لذّة النعاس ..



#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الندّاف
- تهيؤات : قصة قصيرة
- الحب من آخر نظرة : قصة قصيرة
- برعم وردة على صدر العجوز
- اسقربوط البحر المظلم
- في أرض رجل ليس مريضاً :قصة قصيرة
- غسق الرشّاد البرّي (قصة قصيرة )
- غسق الرشّاد البرّي
- ضريح السرو : قصة قصيرة
- كرابيت GRABEIT
- هكذا تكلمت (خميسة )وهكذا سكتت
- خلدون جاويد: قلب يغرد بالمحبة
- تفاح العجم
- احتباس
- الرجاء الصالح (الى استاذي د.شاكرخصباك )قصة قصيره
- أللوز ..من ذلك ألجبل أ لبعيد


المزيد.....




- إعلامية لبنانية تتوعد المطربة أصالة بالسجن
- موعد عرض “ولاد رزق 3” سينيما عيد الأضحى.. قائمة أفلام عيد ال ...
- وكالة أنباء أميركية تفضح زيف الرواية الإسرائيلية لتبرير حرب ...
- المؤسس عثمان ح161 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 161 مترجمة HD ...
- ملحمة تاريخية… مسلسل صلاح الدين الأيوبي الحلقة 25 باللغة الع ...
- الثقافة واليونسكو يؤكدان أهمية دعم القطاع الثقافي في فلسطين ...
- الشعلة الأولمبية على السجادة الحمراء لمهرجان كان السينمائي
- فستان الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت يثير جدلا في مهرجان كان ...
- -عائدة-.. فيلم وثائقي يحقق حلم العودة إلى فلسطين
- افتتاح متحف لأعمال الفنان بانكسى فى نيويورك


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - درس في الرسم :قصة قصيرة