حسام مطلق
الحوار المتمدن-العدد: 2424 - 2008 / 10 / 4 - 06:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
البناء الليبرالي للمجتمع يتطلب السير في عدة مسارات متوازية ولكن غير متساوية في سرعة حركة الإنجاز, أولها المسار الاقتصادي الرأسمالي الذي تحرر فيه الدولة الأسواق تماما من أي تدخل لها محتفظة بأمرين: 1- التشريعات الاقتصادية الضريبية التصاعدية الطابع والتي تؤمن لها المكانة المالية كي تكون قادرة على القيام بمشروعات غير ربحية, بما فيها الجيش وباقي الأجهزة الأمنية, ويعطيها مصدرا للمال لتقديم الإعانات الاجتماعية في مواجهة الفقر والبطالة تحقيقا للسلم الاجتماعي وتخفيفا للاحتقان الذي ينتج عن هذه الآفات. 2- سلسلة التشريعات السيادية التي تعطيها رقابة على مصدر المال المستثمر ونسبة ما هو أجنبي فيه وأوجه إعادة تدويره وذلك ضمن حد الضرورات الأمنية فقط.
أهمية البناء الاقتصادي المتين لتحقيق التطبيق الليبرالي تبرز من الترابط بين الليبرالية والسلم الأهلي وهذا ما يستلزم ضمنا إلغاء الفقر والبطالة, التفاوت الطبقي الحاد لا يشكل سببا واسعا للتناحر, التناحر يقع نتيجة للفقر الحاد الذي يلقي بكاهله على شريحة ما من المجتمع, التفاوت الطبقي محرك لدى قلة أضعف بكثير عادة من دفع الجماهير كي تخاطر بما لديها من أجل التغير, التغير تندفع إليه الطبقة التي لا تملك ما تخسر, وهذه ما لم تكن واسعة لا تقع الثورة, لا يحدث العنف, أي الحل في أن تجعل لدى الجماهير ما تفكر فيه كي لا تخسره, على سبيل المثال حين يكون لدى الموظف مرتب يكفيه قوتا عياله ووسيلة مواصلات وقورة وفرصة تعليم لأولاده بالإضافة إلى تأمين طبي يشمل أفراد أسرته فإنه لن يندفع في أي نشاط عدواني للمخاطرة براتبه التقاعدي من أجل تنظير أي طرف يساري أو ثوري أو حتى طائفي أو ديني أو عرقي, هو مستقر ولا شيء يدفعه للمخاطرة باستقراره.
إذن دور المخطط الاقتصادي هو في العمل على تحقيق الأمن الاقتصادي للمجموع الكلي للمواطنين وهذا يعني: أن يكون للناس وسائل كافية وواضحة لتحقيق حياة كريمة, لا أقول ثرية, لا أقول متساوية, بل كريمة, يكون فيها العمل متوافرا غير مرهق لحد العبودية ويحقق عائده مستلزمات الحياة المختلفة من المسكن إلى العلاج إلى التأمين الطبي وغيره من ضرورات العيش المستقر الكريم غير القلق.
المسار الثاني هو المسار الاجتماعي الذي يقوم على بناء وعي الفرد كي يكون ولائه للدولة, لا للنظام أو الطائفة أو الدين أو القومية, للدولة: أي مجموعة المؤسسات التي تشكل بتلاقيها البنية القانونية للدولة, إن تطبيق الديمقراطية, بغض النظر عن شكلها وقالبها, يتطلب أن يكون سيرها متجها نحو الليبرالية كآلية ديالكتيك حيوي للتحقيق الاستمرارية الطبيعية لكامل المشروع الوطني, أي أن تحوي, تنظيميا, في جوفها قوة الدفع الليبرالي الذي يؤدي في مرحلة ما إلى حريات عامة وخاصة واسعة تجعل الكل يشعر بأنه مساهم وحر ومحمي في آن, الكل كأفراد, وكتشكيلات مدنية على تنوعها, ذلك أنه بدون انتماء الكل, بكامله, إلى الدولة فإن الصراع الطبقي سوف يعاد إنتاجه لأسباب طائفية وعرقية ودينية, هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإن التطبيق الرأسمالي الليبرالي في الاقتصاد يعني أن التحول سوف يفرز في المرحلة الأولى حالة مساواة قائمة على قدرة جميع الأفراد على التنافس الحر لتحقيق مكاسب عالية وذلك ضمن طرف آخر للمعادلة هو الحد الأدنى من الدخل الذي تصونه الدولة بحقها في ممارسة العنف لتحقيقه, ولكن عمليا سوف يرفع التمركز المالي المتحقق لفئة النخبة الاقتصادية بمرور الزمن من قدرة هذه النخبة على استصدار تشريعات تعيد إنتاج رأسمالية لا ضرائبية, وهو صراع المحافظين والديمقراطيين في الولايات المتحدة, وتلك الطبقة بدفعها للإلغاء الضريبي أو تقنينه تكون قد جردت الدولة من مكانتها المالية في رعايا مصالح عموم المواطنين لصالحها الخاص وهنا تبرز أهمية الوعي الجمعي ودور البناء الأخلاقي السليم للمواطن في مواجهة هكذا تحول.
فمع بلوغ أفراد المجتمع حدا مقبولا من الوعي السياسي يصبح تحرك الجماهير لحماية المكتسبات سريعا وخاطفا وهو ما يجعل فرصة أصحاب النفوذ الاقتصادي في إعادة الهيكلية الاقتصادية إلى الحالة الرأسمالية الصرفة ضعيفة, هذا من طرف, ومن طرف آخر فإن آلية الدفاع عن المكتسبات, أو الحقوق سمها ما تشاء, لن تكون عنيفة ولكن مدنية تستند إلى القدرة العالية والواسعة على الفهم والتكاتف وبذلك نكون قد نقلنا المجتمع من الفقر والبطالة إلى الرخاء والكرامة وبنفس الوقت أسسنا لا لانتهاء الصراع بين الطبقات لأنه أزلي ولكن وضعنا للصراع ضوابط جديدة تقوده نقابات ومؤسسات مدنية وحزبية, فنحن نسمع عن إضرابات في أوربا ولا نسمع عن قتل على الهوية, ما سبق يتطلب قبل كل شيء أن ينجز المجتمع تعريفه لهويته وفي حالتنا العربية لابد من مراجعة شاملة وواضحة لمفهوم القومية والدين ودورهما في إدارة الدولة أو حتى في تشريعاتها, فيصبح الدين ممارسة فردية صرفة غير تنظيمية على الإطلاق ويكون الانتماء القومي هو الانتماء الثقافي للدولة لا للفرد, أي الفرد مواطن في دولة تنتمي للحضارة العربية تماما كما الفرنسي مواطن في دولة قادمة من الحضارة الأوربية.
نظريا يمكن أن نقبل بالانتماء الديني والقومي غير المتعارض مع الدولة, هذا في حالات النقاء الواسع, كالأردن والسعودية ومصر واليمن, إلا أنه حتى في هذه حالات, وهي الأكثر تجانسا ثقافيا, لا يمكن القول بالنقاء المطلق, فالجزر الشيعية في السعودية تتحرك وإن بمحدودية في التأثير ولكنها موجودة, وفي اليمن هناك تصادم بين الراديكالية الدينية و الدولة من طرف وبينها وبين القبائل من طرف آخر, وفي الأردن التصادم قائم بين الليبراليين والأصوليين, نعم هو منضبط بالمؤسسات الدستورية, إلا أنه يؤشر إلى انشقاق ثقافي مستقبلي حاد الطابع, وفي مصر المواجهة بين الأقباط والمسلمين علنية, عليه, وبمجموع الشواهد, فإن بناء الفرد المنتمي للدولة هو الخيار الأمثل كي تصبح لدينا مجتمعات مستقرة غير منشقة على نفسها, التنوع نعم مطلوب, ولكن الحديث هنا عن الحالة التصادمية بحكم الولاء الأخلاقي لا عن الممارسة الفردية في العبادة أو السلوك الثقافي اليومي للمواطن.
بخلاصة الشرح السابق يمكننا أن نحكم بفشل أي تطبيق ليبرالي, بل وحتى ديمقراطي, في الشرق الأوسط قبل قيام سوق اقتصادي حر وقوي تقصى فيه الدولة من الممارسة المباشرة ويقصر دورها إلا عن التحصيل الضريبي, فبدون فرص عمل للجميع وتأمينات اجتماعية وصحية لن يكون بالإمكان دفع الأفراد للتخلي عن معاقل الحصانة البديلة التي يجدونها في الطائفة والقبيلة والتقسيمات الأخرى التي تمارس مهاما إنجازها أساسا منوط بالدولة وليس بخاف على أحد أن فشل الدول العربية في رعاية المواطن هو ما يعطي التنظيمات الأصولية سوقا رائجة بمشاريعها الرعوية المختلفة, يمكننا أن نقول أن الحل بالليبرالية ولكن وفي نفس الوقت يمكننا أن نقول أن الليبرالية غير قابلة للتطبيق وفقا لمعطيات اللحظة الراهنة, الأمر عائد للدول التي تبحث عن خلق حالة استقرار دائم كي تحرك الملف الليبرالي بدلا من أن تستمر في محاربته.
#حسام_مطلق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟