أصدر مجلس الأمن الدولي في العشرين من شهر من شهر أيار/مايس 2003 القرار رقم 1483 بناء على طلب من كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى يقضي بجعل العراق تحت إدارة الاحتلال الأمريكية – البريطانية. والقرار لم يعترف بصواب الحرب ولا بصواب الاحتلال, بل أكد على ضرورة قيام هاتين الدولتين بحماية الأمن والاستقرار بعد سيادة شريعة الغاب في بغداد في أعقاب سقوط النظام الدكتاتوري الدموي, إضافة إلى إعادة الاستقلال والسيادة الوطنية للعراق بأقصى سرعة ممكنة.
هذا يعني أم مسؤولية الحفاظ على أمن المواطنات والمواطنين أنيطت بقوات الاحتلال, وهي التي فرطت بها منذ البدء عندما لم تتخذ الإجراءات الضرورية والكفيلة بحماية الإنسان وممتلكاته وممتلكات الدولة ومتاحفه من النهب والسلب والضياع والتدمير, كما لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بحماية حدود البلاد وإلقاء القبض على المجرمين الذين أطلق النظام سراحهم قبل الحرب بفترة وجيزة ...الخ.
لقد كان لهذا التقصير البارز وغير المعقول إشارة واضحة, سواء أكانت مقصودة كما يعبر عنها البعض وغير مقصودة عند البعض الآخر, ولكنها في المحصلة النهائية كانت مدمرة شاء الجميع أم أبو ذلك, لقوى عديدة في العراق وخارجه أنها قادرة على العمل فيه أو الوصول إليه بكل حرية والقيام بما تشاء من أعمال إرهابية وتخريبية دون حسيب أو رقيب. وقد تم ذلك في الفترة الأولى ضد قوات الولايات المتحدة الأمريكية والقوات البريطانية وضد مؤسسات الدولة الموجهة لخدمة المواطنات والمواطنين مثل منشآت الماء والكهرباء والنفط والغاز ...الخ, والتي شملت بدورها كثرة من المواطنين. ولكن اتخذت هذه العمليات تدريجاً أبعاداً جديدة واتساعاً كبيراً عندما دخلت على خط التخريب قوى أخرى كثيرة ومتنوعة في وحشيتها وإرهابها ورغبتها في القتل والتدمير والانتقام. وكان الطرف المتضرر الرئيسي من كل ذلك الشعب العراقي. وها نحن اليوم نواجه توسع هذا التخريب والهدم ليقتل بين فترة وأخرى مئات المواطنات والمواطنين العزل, إنها الطعنات التي توجه من الظهر إلى هؤلاء الناس البسطاء والأبرياء والراغبين في الحصول على فرصة عمل لتوفير لقمة العيش لهم ولأبنائهم. إنها الخيانة الفعلية للشعب وأنه الجبن الحقيقي من هذه القوى التي يطلق عليها البعض بالمقاومة, حتى من أولئك الذين تميزوا بروح المسؤولية ولكنهم يتحدثون بلغة قومية خشبية عفا عليها الدهر وأصبحت متهرئة لا تواكب القرن الجديد, لأنها تزيد في الطين بلة لا غير, وتحاول عبثاً منح العمليات الإرهابية الشرعية باعتبارها عمليات هدفها مقاومة المحتلين, وهم من هذه التهمة براء, إذ أن همهم هو القتل والتخريب والتدمير وليس المقاومة الفعلية التي تمارسها الغالبية العظمى من الشعب في الصراع اليومي السلمي والديمقراطي مع قوات الاحتلال لإنهاء وجودها في العراق.
إن سلطة وقوات الاحتلال مسؤولية بشكل كامل حتى الآن عن الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية. ورغم ما قامت به من أعمال يذكرها بعض أعضاء مجلس الحكم الانتقالي بين فترة وأخرى, كلما أرادوا ذكر الجوانب الإيجابية في الوضع القائم, وهي موجودة فعلاً, فأن المسالة المركزية التي غابت عن الوضع في العراق هو الأمن والاستقرار وسلامة المواطنات والمواطنين في بلدهم. وهو ما يعوز الجميع وهو الذي يمنع أيضاً عشرات ألوف البشر من العودة إلى وطنهم وتقديم خدماتهم له. إن سلطة الاحتلال وقواتها مسؤولة بالكامل عما يجري في العراق ما دامت السلطة في أيديهم, وما دامت الأخطاء الفادحة ترتكب من جانبهم, وخاصة الرفض منذ البدء بتسليم السلطة للعراقيات والعراقيين بدلاً من الاتكاء على قرار الاحتلال ومحاولة الهيمنة الكاملة على العراق. إن تسليم السلطة المتأخر للعراقيات والعراقيين يمكن أن يلعب دوراً إيجابياً في إيجاد ظروف أمن واستقرار أفضل. إلا أن هذا يتطلب جهداً إضافياً لتجاوز الوضع القائم, يتطلب الاتفاق على قواسم مشتركة بين أطراف الحركة السياسية العراقية داخل وخارج مجلس الحكم الانتقالي. وما يزال في الإمكان توسيع مجلس الحكم وشموله لقوى جديدة قائمة أصلاً سواء أكانوا من القوميين العرب أو من أطراف أخرى دينية لم تمثل بشكل سليم حتى الآن أو منت قوى علمانية ديمقراطية أو من محافظات عراقية تريد التمثيل أيضاً. إن هذا سيسمح بتمثيل سياسي واجتماعي أوسع يساعد على تسلم الحكم العراقي وعلى العمل من أجل التحضير لانتخابات عامة ديمقراطية ونزيهة في نهاية عام 2005 أو بداية عام 2006, وهي فترة كافية لاستعادة الأمن والاستقرار والتحضير الجيد لانتخابات عامة, كما سيكون في مقدور المرشح للانتخابات أو الذي يريد التصويت قد تعرف جيداً على القوى السياسية المختلفة وعلى البرامج والاتجاهات المختلفة, عندها ستكون الانتخابات شرعية وعادلة لجميع وذات نتائج يقبل بها الجميع. إن الأمل معقود على تركيز الجهود لحماية الأمن والاستقرار ثم البدء الممنهج للتحضير الفني والسكاني للانتخابات القادمة وليس العجالة بحجة عدم وجود شرعية للقوى الراهنة لأنها لم تمثل في المجلس لأي سبب كان, إذ يمكن تمثيلها أيضاً.
إن الشعب العراقي بحاجة إلى فترة هدوء وتفكير هادئ وعقلاني والعودة به إلى وضعه الطبيعي المتوازن والمفقود حالياً بسبب سياسات العقود الأربعة المنصرمة وبسبب الحروب والاحتلال والإرهاب الراهن, وبسبب سياسات الاحتلال العنفية والمتعالية على المجتمع والمرفوضة حقاً.
وعلينا أن ندرك بأن أية اتفاقيات سياسية واقتصادية وعسكرية تعقد حالياً أو في فترة الانتقال يمكن أن ترفض من قبل المجلس الوطني العراقي القادم, إذ لا يمكن القبول بأية اتفاقيات مخلة باستقلال وسيادة العراق وباستقلال قراره السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
إن النواة الحقيقية لمثل هذه الوحدة الوطنية وعلى أسس ديمقراطية والحدود الدنيا للقواسم المشتركة في السياسة العراقية هي القوى التي تسعى لبناء الحياة الحرة والديمقراطية في العراق والتي تريد أن يتمتع الشعب بحقوق الإنسان كاملة غير منقوصة, سواء أكانوا من النساء أم الرجال, تلك القوى التي تريد الفيدرالية والوحدة للعراق والازدهار للاقتصاد والمجتمع. إن المجتمع المدني الدستوري ودولة القانون الديمقراطي هما البديل الوحيد المقبول للشعب بعد معاناته الطويلة والتي ما تزال مستمرة حتى الآن في ظل ظروف وعوامل مختلفة.
يفترض في قوات الاحتلال وإلى حين تسليم السلطة أن تلتزم بمهمة الحفاظ على الأمن والاستقرار وحياة المواطنات والمواطنين وهي مسؤولة عن موت كل إنسان أينما يسقط في العراق ميتاً على أيدي القوى الإرهابية أو على أيدي قوات الاحتلال. وعليها أن تسلم المسؤولية للعراقيات والعراقيين بصورة كاملة, ولكنها ستبقى مسؤولة أيضاً ما دامت موجودة في العراق وإلى حين خروجها منه.
إن إجراءات الأمن للحفاظ على حياة المواطنات والمواطنين هي مسؤولية المجتمع بأسره وهي عملية علمية وفنية وشعبية في آن واحد يفترض أن نفقه هذا العلم والفن وأن نتعلم أيضاً كيفية التعامل مع الشعب ليساعد على وضع حدٍ لإرهاب الموجه ضد الشعب أساساً. إنها عملية معقدة جداً ولكنها ممكنة وضرورية ضرورة الماء والهواء للإنسان لكي يستطيع أن يتنفس بكل حرية واطمئنان. لا يكفي أن نعلن بأننا نعمل من أجل ذلك, بل يفترض أن نبدي اليقظة الكافية لكل ذلك والحذر والعمل من أجل الوصول إلى جحور وبيوت أولئك الذين ينظمون عمليات القتل ضد الشعب لتنطلق العناصر الخبيثة منها لتنفيذ ما عهد إليها من أفعال إجرامية. إن التحالف المعادي لطريق التطور الديمقراطي في العراق سيتسع تدريجاً وسيزداد تخريباً ما لم تتخذ الإجراءات الكفيلة لمواجهة ذلك بحزم وصرامة من جهة, وما لم يجد الشعب ما يدفعه إلى العمل ضد أولئك المخربين, وبشكل خاص توفي فرص العمل والعيش الكريم وصيانة كرامته وحريته وحياة أفراد عائلته, وهو ما افتقده الشعب طوال عقود.
برلين في 12/2/2004 كاظم حبيب