|
من هم الأشرار... وكيف التخلص منهم؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2404 - 2008 / 9 / 14 - 08:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من هم ال إن شرعنا في البحث عن شرير نحمله مسؤولية أزماتنا السياسية والاجتماعية والفكرية، فلن تستقر أنظارنا في النهاية إلا على جماعات معرفة بهويات ثابتة لا تتغير، دينية أو مذهبية أو إثنية. لا يصلح شريرا من قد يمكن تعريفه بلغة المصالح العارضة أو الانحيازات السياسية أو الخيارات العقلانية إلى هذا الحد أو ذاك. الشرير هو من ينبع شره من ماهيته بالذات، من هويته المتأصلة القارة، المدونة تفضيليا في دينه أو طائفته أو عنصره. الحزب السياسي أو المنظمة الاجتماعية، الروابط الطوعية بصورة عامة، قلما تناسب كأشرار، بسبب الصفة العارضة والتعاقدية لعضويتها. الشرير هو المسلم أو المسيحي، العربي أو الكردي..، السني أو العلوي أو الدرزي..؛ البعثي أو الشيوعي أو الديمقراطي أو الليبرالي... أقل صلاحية للتشرير، هذا حين لا ينظر إليهم كهويات ثابتة هم أنفسهم، أو حين لا يعتبرون واجهات لهويات كهذه. في العموم، يشكل البحث عن أشرار والطائفية والنظرة الماهوية إلى المجتمع وجوها لعالم سياسي وثقافي واحد، تقيم فيه قطاعات غير ضئيلة من النخبة السورية. ويصلح حضور منطق الاتهام، الذي لا يرتاح قبل أن يعثر على كيان ينبثق الشر من ماهيته بالذات، مؤشرا على انتشار الطائفية في الوعي العام. فإذا شئنا مقاومة الطائفية في تفكيرنا وسلوكنا وفي الواقع، فلا مناص من التضحية بمتعة الاتهام، والتحول منه إلى النقد، ومن الهويات الثابتة إلى الواقع الاجتماعي المتغير. وفي الحياة السياسية الثقافية السورية، لا يكاد يكون ثمة موقع فكري وسياسي وأخلاقي يقع خارج نزعة البحث عن شرير أو كبش فداء، فيطور نقدا متسقا لها وممارسات عملية متحررة منها. قد نختلف في من هو الشرير، لكن قلما نختلف على أنه هناك. إنه "هم" وليس "نحن". وأعنف الصراعات هي التي تنشب بين شركاء في التشرير مختلفون في تحديد الشرير. ومألوف أن مشرري طرف هم مبررو نقيضه المفترض. فالتشرير والتبرير وجهان للعالم نفسه. وكما قد نتوقع، يتغلب هنا نازع البحث عن مسؤولين عن الأوضاع الصعبة على التطلع العقلاني إلى التفسير بالأسباب. فلولا"هم" لكانت الأمور بخير. أما لماذا يفعلون تلك الأشياء الشريرة، فبكل بساطة لأنهم أشرار. بيد أن هذا المنطق لا يخذل مطلب تفسير عقلاني، بل هو يقتل مبدأ المسؤولية ذاته. فإذا كانوا "هم" جميعا أشرار، وإذا كان الشر ينبع من جوهرهم، فإن استئصال هذا الجوهر وتدميره هو العلاج الجذري والصحيح للشر. أما التمييز بين مسؤولين وغير مسؤولين بينهم فيغدو تدقيقا نافلا. فهم "في الجوهر مثل بعضهم"، كما يقول كثيرون بيننا. ليس وجود أبرياء بينـ"هم" هو ما يخفى على هذا الضرب من التفكير، بل بالضبط وجود مجرمين. وإذا ضاع التمييز بين بريء ومجرم، انهار مبدأ المسؤولية رأسا. ووحدهم المجرمون يستفيدون من انهياره. وهنا بالضبط مشكلة المنطق التخويني الذي استمرأته السلطات السورية حيال معارضيها في الداخل وخصومها في المحيط العربي. إذ يفضي تبذيل مفهوم الخيانة برفعه في وجه كل معترض وناقد إلى تبذيل مفهوم الوطنية نفسه. ووحدهم من يحتمل أن يكونوا خونة فعلا يستفيدون من التلاعب قصير النظر بهذه التهمة المطلقة وجعلها مطاطة ونسبية جدا. وإذا أضحت الخيانة شيئا مبتذلا، ومثلها الوطنية (ومثلهما الكفر والإيمان، على نحو ما يفعل إسلاميون) فستتساوى جميع الأشياء، ويفقد المجتمع معايير التمييز بين الحق والباطل، أي عقله. إن تشويش المدارك العام وتساوي جميع الأشياء والأفعال وفقدان القدرة على التوجه والتمييز يدمر حس العدل في نفوس الناس ويخرس صوت احتجاج الضمير. وحيال حالة الضياع هذه، سيلوذ الناس بالطوائف، لأنها أطر ثقة وأهل، يتوجه فيها المرء بسداد وأمان، أوطان بديلة. ولإلفتنا الطويلة بهذا الشرط المشوش فقدنا الشعور بفظاعته، ولتفضيلنا تفسيره بوجود أشرار، قلما ننتبه إلى توطن الشر في نفوسنا وتفكيرنا، وإلى أن البحث عن الأشرار ينتج في النهاية الأشرار فعلا. نحن. لا ينبغي أن يفهم من ذلك أننا نقرر تساوي المسؤوليات، أي التسليم بانهيار مبدأ المسؤولية. إنه بالأحرى تعبير مبدئي عن العزم على تحمل المسؤولية، ورفض منطق الاتهام والتنصل الشائع. إن الانغلاق السياسي المديد هو ما يسبب أزمة الثقة العامة والتعازل الاجتماعي وانتشار ذهنية البحث عن أشرار. ولقد بدا واضحا أثناء انفراجات وجيزة وهشة عرفتها البلاد ("ربيع دمشق" بخاصة) تفوق مسعى البحث عن شركاء على البحث عن أشرار، وأرجحية الثقة والتواصل بين الناس على الريبة والقطيعة، وتطور نقد يجمع بين التفسير السببي وتحديد المسؤوليات على أسس عقلانية حسنة التحديد. هذا يكفي للقول إن مفتاح الخروج من أزمتنا العامة، السياسية والثقافية، سياسي ويقع بيد النظام. فهو من يشغل الموقع الأفضل للتأثير على وجهة سير الأوضاع العامة؛ وهو من يحتكر الفاعلية العامة، فيقع عليه تحمل المسؤولية عن أعطالها وأزماتها؛ وهو من يمنع الناس من التعاون والانتظام المستقل، ولو لتكنيس شارع. تحميل المسؤولية للنظام معرفا بموقعه العام ووسائله العامة أمر بديهي، ينبع من مفهوم الدولة بالذات. وتولي المسؤولية بصورة جدية هو ما من شأنه أن يقطع الطريق على انحطاط مبدأ المسؤولية، واتخاذه شكل البحث عن أشرار. الشرير ليس موجودا. وحدها الحاجة إليه موجودة. وهي حاجة تنبع من شروط سياسية واجتماعية يتعين مقاربتها بالتحليل العقلاني. أشرنا إلى انغلاق سياسي مزمن، يثير شعورا بالاختناق الاجتماعي والثقافي، ويدفع نحو تأكيد الذات بالنيل ممن هم مثلنا؛ أشرنا كذلك إلى أن النظام لا يكف عن نشر مناخ إيديولوجي ونفسي اتهامي، محملا أشرارا خارجيين دائما، وأشرارا داخليين غالبا، المسؤولية عن نتائج سياساته هو؛ وقد نضيف أن الإيديولوجيات التي ينجذب إليها السوريون تحمل تصورا صراعيا للعالم، يسهل قلبه في بيئاتنا الاجتماعية والثقافية التي مستها الحداثة العقلية والسياسية مسا خفيفا إلى تصور ديني أو ثنوي للعالم، يواجه المؤمنون أو الأخيار فيه كفرة أو أشرارا. هذا فضلا عن أن التعبئة ضد الشرير استثمار مجز سياسيا على المدى القصير.. في عين صغار المستثمرين. .. نتخلص من الأشرار بتحويلهم إلى شركاء.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-إعلان دمشق- وأزمة المعارضة السورية
-
-نخبة- متخلفة في مجتمع متغير
-
كأنها حرب أهلية...
-
في شأن مسألة الحاكمية
-
في أن القضايا -المقدسة- مطايا مثالية!
-
انفصال عن الجدار مقالة في الثقافة والثورة الثقافية
-
عن منظمات حقوق الإنسان والإيديولوجية الحقوقية في سورية
-
من البشير الصامد إلى حنبعل الفاتح!
-
قليل من السياسة، كثير من المشاعر
-
الاستبداد والغرب: الحكاية نفسها دوما
-
في ضروب الشعبوية العربية وبعض خصائصها
-
الطغيان مخرجا من صعوبة السياسة
-
-الدولة الخارجية- وغريزتها السياسية
-
المثقفون والمسألة الإسلامية
-
في -التفكير العضوي- والأساطير والانحطاط...
-
ماركس لم يكن ملحداً؛ لماذا؟
-
مبادئ لسياسة معارضة عقلانية في شروط الكفاف السياسي
-
خواطر في شأن نحوس الليبرالية العربية وسعودها
-
نظريات الفساد السوري وبرامجها العلاجية المقترحة
-
غسان المفح يحاور ياسين الحاج صالح
المزيد.....
-
جامعة ابن رشد في هولندا تصدر العدد التاسع و الخمسين من مجلة
...
-
مكاتب متفحمة واستوديوهات مدمّرة.. مشاهد تُظهر الأضرار التي ل
...
-
-أسطول الظل- الروسي تحت المجهر.. كارثة بيئية وشيكة في خليج ع
...
-
ماذا تعرض موسكو لإنهاء المواجهة بين طهران وتل أبيب؟
-
بعد تأجيل الزيارة مرات عدة: هل سيزور العاهل المغربي فرنسا قر
...
-
إسبانيا: الإفراج المشروط عن شرطي إسباني في مدريد تسبب في وفا
...
-
بعد تعثر رحلتها في ليبيا: قافلة الصمود المغاربية لكسر الحصار
...
-
ما مدى اقتراب إيران من تطوير سلاح نووي؟
-
تفاصيل بشأن مهلة ترامب لإيران وتأثيرها على مسار الحرب
-
قد تستخدم لضرب -فوردو-.. تعرّف على خصائص قنبلة -جي بي يو 57-
...
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|