أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - لقاء















المزيد.....

لقاء


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 2401 - 2008 / 9 / 11 - 04:00
المحور: الادب والفن
    



والتقيا...
هي: في صغرها المهجور كانت تنمو كالنبتة البرية، خارج تاريخ اللآليء المنحدرة، أرض واحدة تؤويها أو تغريها،تملأ منها خيام العين والقلب، وتمسح عنها ضفاف الغربة المعصوبة. الشيء فالشيء كانت تكبر وتفتض العمر كالشرفة، وتنسى ذعر البدايات المقرورة وخيبة الحروب المشتعلة في مدن النسيان والبراري العزلاء..
هو: كان يخرج من ظمأ الحقول كالبأس حاقدا على الشمس، يلبس بداوته القرمدية، عيناه الأرجوحتان تسرقان ألق الأرض وعرق السنين، يقاوم في عزلته كالماء، وينشر حبه الملائكي ليغمر الظلال والأغوار..
وكانت ( هي ) ترقب في دفئها طلعته، وهو يبني أعشاش الفحولة، يسرق ضجيج الأبوة والأرض العاقر التي لا تثمر غير رايات التعب الرقراقة.
التعب هواؤهما.
كانت تقول له والصخور الصماء شاهدة:
ـ ليت مزرعة هذا المجهول تكلمت. تعال أيها العشب المصارع، إني أحس بالجلبة تحاصر أعلاقي. أموت فيك كالجنازة المشدوهة، فاغرس يديك في طست هذه الأنغام المتدلية من الأعتاب. أرى فيك هذه الأرض البيضاء وقافلة رعب تدك صدر الأعداء، الأعداء القاطنين في برج المراقبة يقتلون ريح الطريق، ويبنون أنهارهم على مصاريع الجراحات التي تأكلنا..
تلمه اللم كله، وتنظر بعيدا إذ تتراءى أشجار سامقة تكاد تقترب من حافة السماء...
يقول لها:
ـ أنت برزخ من حلم..
تقول:
ـ لا . إني رأيت هذه الكواكب تندك على قلبي، فافتح بهاءك كي أنام حتى بحر اليقظة...
يقول لها:
ـ نخلة هذه القساوة، أنت. أتسلق أسلافك لأصنع فلكا من كهوف قديمة تصعد نجمة تقع في كفي، أسألها الأمان، فتعطيني أجراس المحبة في هذه القارعة... يتملكني الرعب إذ تتلوني آيات ذكرك. الصيحة بابك، سأصيح في المرات، في الضراوات:إني أقدس فيك شبه العاصفة، تعصفين بملكوت الأعداء. من فرط الشراسة أنا في الحب عدوك.

كانت، عمرها، ترقبه كالمحجة، في كل المساء تنهض هاربة من جذلها، تزحف حافية الأقدام تطوي المزارع، يملها هذا العمران اللطيف، تجلس في أحضانه طلقة واحدة، وتحكي له عن التوابيت والتلال والحوانيت، ومجاري اللوعة في جسد الليالي، تتورد في عينيها الأنواء. تقول له:
ـ لو قلت أنا الرب، هل تعبدني..
يقول لها:
ـ سأسجد صريعا، وأغرق من صلاتي لك، و أحج إليك بلا وداع..
تقول له:
ـ النار لي..
يقول:
ـ أنا حطبها..

وكل عام كان الحلم يتطاول كالركبان، سارت بغبطته الأرجاء. يكبر الحلم بقدر سعة الدنيا. يقول لها:
ـ لو أملك ضروع الكون، أبني ضفافا، تجلسين في ضفتي، وأجلس في ضفتك، ونفترش خرائط الأقاصي، هل تسمعين في الأقاصي البعيدة، يأتي على رأس كل عام طائر أبيض، أبيض كحليب الحوريات، يصيح في الأرض:
ـ هذه مائدة الفقراء..
تضحك كالخلاء، طليقة كالعماء وتظهر ثناياها كساحل من عاج. يقول:
ـ هل تصدقين..؟
تقول:
ـ آمنت...

في خريف هاديء، سكنت إليه ذات ظهيرة، كانت السماء ظلهما، وضعت يدها الساحرة على رأسه، أحس بأبراج من قشعريرة تدب في عيدانه كالمنايا، ويصعد تيار هوائي دافيء يسري بينهما، قالت له:
ـ أنا الهاوية..
قال:
ـ وأنا شوكتها..

وكان أن ترامت الأطراف، أصبح فم الوقت أرحب من القبض، خرج من قعر وجده، خرجت من صمتها، قال:
ـ تولد في معصمي تراتيل من نجوم..
قالت:
ـ لا تبال، إني مدججة بكل الأرض سلاحا..

ناما على العهد، كبر العهد، وأورقت منه الخلجان.. ومع مرور الوقت هوت به الأقدار، صار جنديا. دخلته الرهبة، وذهبت به ريح الزمن مذاهبها، ارتوت بدمه الأحذية الهوجاء، صار منسيا، كأنما هرب من سطح الأرض لباطنها.. وأعواما بعد ذلك جاءها كالشفق، كدلو من طفولة هرمة يهش على ذكريات غريرة. نام هذه المرة في حضنها كسلة من عشق.قال لها:
ـ سأركض في هول دمك، حتى دمعة الخصب. أكلني رماد البعاد. أنا جنديك، لك خزائن القلب، وأسلمت أمري، أشهد أن هذا اللون ربي..
قالت:
ـ أشركت..
قال:
ـ بل، أشرقت.كل هذا العناد أنسي..
قالت:
ـ البداوة العليا خير من البداوة السفلى..
ـ قال:
ـ أميرة الظل، إني مبايعك..
ولما همت به، قال:
ـ إنما الأحباب حرب عليكم..
قالت:
ـ غنمت الحرب..

* * * * * *
والتقيا..
هو: بعد أن ذهبت قدماه في حراب الأرض، وأبحر في مدائن من عبور ضاع في صداها، وانقلب خطوه احتراقا خلف زجاج السنين..
هي: بعد أن ارتداها طقس النسيان، وضلت عن حقل الطريق، وعادت إلى حيث ابتدأت..
قال لها:
ـ خير ما في هذه البلاد نبيذها...
وعرجا نحو السوق القديم، استسقى نبيذها الزجاجي، واصطفت في عينيه ظلال غيبوبة لا مرئية تسفك فيه براري الحلم المتداعي..وعادا للبيت، حيث يلتقي خواء الجهات..
كان يشرب، وتشرب، تطاردهما أطياف جراح متوردة من أزمنة الصحو، وهما يطاردان مقابض الغياب.. قال لها:
ـ لو صرت النقيض، كنت نقيض الصحو
قالت:
ـ لو كنت بابا كنت باب السكر... لو كنت الشمس كنت قرص الإغماء..
كانت تتأمله ببراءة معتقة، تشرب لهفى، وحديثه المتناثر، المبلل يرن في مسامعها كشرارة تقترب من جادة الانطفاء.كانت تستهويه أنقاض ذكريات تتراءى أشلاء تنحني على نبضه وتسكن وحدته، قال لها: أتذكرين؟ من زمن بعيد كانت المسافات تنام في خطونا وأحلامنا مشرعة للعاصفة..دخلت مرة هذه القبة الرقطاء، أقعدني سيدها مقعد الأريكة الحمراء، جذبني من جهات الحديث، وقال لي : ما حملت معك؟ لم يكن في جيبي غير درهم واحد، سلبه مني، واستنفر غروره، ومضيت أنا خلف ضباب هذه السنين الخانقة..
ضحكت، هي، وتداعت منها حافات الجسد، كادت تموت من فرط الدهشة والاستغراب والحيرة، ماذا لو لم يكن معه ذلك الدرهم..تغرق في زيغ القهقهة، وتنفرط منها غيمة دموع وشيكة، سرعان ما تنحدر وكأنها ليست لها..كانت تحكي عن زوجها السابق، تضحك الآن من برودته، من موت قلبه، لا يشرب، لا يدخن، أمانة من أمانات الله المختومة، تستعرض مساوئه الجميلة، وتشتعل أنفاسها المكسورة كأنما جبال الندم قد تعصمها من هزائم الماضي.. وتمر لحظات من الهدوء جارحة بينهما، وتجهش بالبكاء، تندب حظها المثقوب. يتهاوى محشوا بالحسرة، ويفتح غموض صحرائه الضائعة، يحكي عن زوجته القديمة، عن فتنتها ، عن جنونها وعجيزتها وسييقانها الشقراء..يتحرك بصعوبة من مكانه، يكاد يبسط يديه، لكنه لا يقوى، وتلتف بهما أغصان ذكريات تملأ جليد البيت. تستلقي نحوه، أو تزحف كشبح من الرغبة العاتية، وتوقظ فيه تاريخ العواصف والشهوات، يواصلان الشراب، ويواصل الكأس الجارف دورته.
كان من العادة أن تشرب للصباح، ومن العادة أن يفطر على الشراب كل صباح، كأنما يهرعان نحو ذروة الغياب،وكل مرة يبدو وكأنه مرغم على البكاء، يستعيد عبره تاريخا منه مسكونا بالأسرار، يتبرأ من مضائقه، أحيانا يتملكه الغضب، يكاد يصرخ في وجهها، أو يعود بها إلى نقطة البدء... يقول لها:
ـ أنا المأكول كالفريسة. تولد في سمائي تضاريس من أحزان، ورمال مجهولة حين أتلمسها تمسي سرابا.. وتتعثر الصحراء في قلبي...
كأنها تعرف الصحراء، تسأله عن قامتها، عن ضفائرها، عن الحلي والحلل... يحدثها عن النخيل فتشتهي طوله، وعن الماء فتشتهي انسيابه، وعن الواحات فتشتهي ظمأها الخافق...
في خلوتهما كانت تدور أفلاك من خطايا، لا هو يقوى على النسيان، ولا هي تحتمل السلوى، تشتبك في دمه رفرفات ذكريات زوجته القديمة، يقول لها:
ـ هل أصبح الصبح..
تقول:
ـ يا هذا المسكون... النار المسافرة في عتباتي، كأني بالأرض تضيق، فسبح بحمد هذه الشهقات، ولا تولني عمرك المهزوم...

وتمر بينهما لحظات صمت شائكة، هرمة، يذهب بعيدا في صلواته ويفكر في خوفه، هل خانته زوجته، أم هو خائنها، وتراودها الفكرة ذاتها، هل خذلت زوجها أم هو خاذلها.. ولم يكن من عزاء لهما غير الكؤوس المصطفقة تملأ الأنفاس مرارة، وتحاول ما في وسعها أن تصد خطو الصباح...

1991.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ولاء
- الضاحية
- الثلاثة
- الشجرة
- النفس غير المطمئنة
- فصول المودة القديمة
- حالة شبه خاصة
- تكوين
- الولدعديشان
- تلخيص جراح قديمة
- العربة
- سبعة ( رجال )
- بلاد
- باب انقلاب الحال
- باب-عبس وتولى-
- باب التلقيح
- ساعة ألم مضافة للزمن المغربي
- ديموقراطية في سبيل الله
- مثل الدجاجتين
- باب الفتنة


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - لقاء