أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - الضاحية















المزيد.....

الضاحية


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 2398 - 2008 / 9 / 8 - 03:37
المحور: الادب والفن
    



في الضاحية تصطفق الأيدي وحدها، وعيون هاربة ترفل في المرعى وبرية الماء، تغرورق بالدفء أو الغبار، من سيرتها الغابات الآهلة كالفطر في هجير الربع، هاجرتها السنون، لا تملك هذه الغربان غير دائها، حجر الخلوات إذ تومض مرافيء حزينة كالمساجد المهجورة، تلملم أظفارها صحاري مختومة بالصبر، لا يوازي الصبر حبة قبر من هذا المدى..

الضاحية: الشرق أو الغرب، البحر أو النهر، اليمين أو اليسار، الحر أو القر، ترقص أعاليها بيوتات ميتة، عارية كالسواقي، حافية كالروابي، تسرقها الشمس صباحا، ويرعى الليل فيها نجمه، والنجم إذا سقط في هواها أو ارتداها، مستوحدا يمضي لذراها... تمضي الضاحية في جبة خوفها، تحت سقف من الغربة، تتربع نبضها رائحة الموت القديم، إذ تتصاعد من جراب الراجلين... في قبضته ساروت ذهبي مرصع يعطر أوزارها، خصوبة الذراع والباع، ماءت الشتاء في حضنها، طاحت الأنصاب، وهفت في جلدها حبال من هروب، وحياض من بارود النسيان، يطلق لغته في حائط السماء المغلق، وترتد الأصداء في ندى الأنواء، رباطا للخيل أو الغيم يلبس طاقية النسيان..

الضاحية: رجال غرباء في أرض لا ميعاد لها. السود أو الأسود ، السامون أو الحامون، يأكلهم زاد من شذرات محترقة ترحم بؤسهم الطالق لشعر لوعته، تستطيل في أيديهم وفي الساحة الغارقة في الهوس، تصرخ في عودها وتتعب في الحبو، إذ خطوها يشتد في غيس العشق، عاشقون تلتوي أعناقهم في رحبة الله، يخرج الميت منهم من نساء الحي، والحي من عقر الدار، لما رأتهم الرابية خرت ساجدة، ركض ماؤها، جاءهم ثلجها، وقال لهم: أنا الجريان. وارتداهم سحر المجيء، فجاءوا وضربوا رحيلهم على المشارف، وسجدوا، ومرت الأقدام طباقا، جاؤوا ولما استوت ريحهم جاءت الخيل، والعيون، والحواريون، والأصدقاء، والأعداء، وقفوا بدوحة الباب. ضاعت الضربة القاضية في ذهاب اليدين...
لا ظلال تنهض في صيف الضاحية. سماؤها السامقة المثقلة كليالي الفقراء، المجذوعة كالأنسام البليلة، أطبقت، فإلى أين تأوي هذه الصبوات، والمياه الكليلة، يفترسها أو يفترشها الصدأ القادم الضالع في القلب... لها أن تضيق، وأن تسند عياءها على جريدة البكاء. إكليلها المصطف كتاريخ الحفاء، يختبيء في كبوة الصدى، بابها الصمت والدم الكسير، وعتبات ملفوفة كالخراج القديم، اليم سندها أو عيدها. هكذا كانت البيداء. قال لها مرة:
ـ أنا بعلك.
قالت:
ـ سيدي المائل كالظل . إني أتعب في انتظاري. رحل وهج الأصدقاء، ولم يبق غير هذي الجراح تذروها سفائن الهجير..
كانت تحكي عن صوتها الحريري، عن الطلقات كالجدائل، تقول له: أين تنام أوبتي؟ أين تجلس دمائي، أو ترتعد معاولي... فيهرع من عشبه ظليما، وتكون له من الشاكرين. طرقت بابها السماء، كنت أراها مستلقية على الصدر تداعب أنفاس الحقيبة، والمعارف القديمة، واحدا واحدا يصطادها الرجال المغمورون الخارجون من فوهة القرف، وجليد السنين، كأنما نضجت الجلود، وجاءت الآلهة لتلتذ بالكلأ الفضي، سعت إليها هذه الأعناق، وخرجت إلى بريتها تصرخ فى الرماد:
في عرض هذه السماوات الصدئة كماء المجاري،
تذبحني أواصر غريبة،
وتضاهيني المهزلة.

كانت تحكي عن جنونها، ولا تتسع لهذه المدينة المهترئة كالنعال العتيقة، تلبس أوثانها وأتعابها الرملية، تحكي عن شوارع ومزارع وجزائر من التيه تتراءى في امتداد الموتى الجميل..

حين أفيق في ذهول العادة، أرقب منجم الضاحية وأعود مراسها وميراث هذه المدائن العزلاء المكدسة كبخار القارات، ولما تسألني العنوة أستدرج مخاطها، وأستنشق دماءها للكوعين، تمضي عناقيد الود إليها،لا تولد أحزانها إلا على كفي، وكفى بالعين وبالقلب جراحا، هذا اعتبار مخل بشروط الهوادة: سيوف مغلولة تشتد في اللين وتلين في الشد..

في الضاحية لا تنحني الجبال،تأتي العساكر لتدفن أشلاءها، الشعراء ليبكوا قيامتهم،والصبايا ليغزلن صوف الحرائق التي تلهبها أعواد اللهفة، هناك إذ تتناسل رفات عباد الله الفارين من قبضة الديون الخارجية، يذرعون الحارات السائلة ليلا ونهارا، حيث تمضي دبابات الضوء والماء سريعا، وتدك رأس الرجاء الصالح، والمنازل المخضوضرة تعاند الفراغ المستديم، الآكل بكلتا يديه الشرفات المنسية، تستيقظ وتلبس غموضها، تجلس في عنق الهامة، وتندب حظها. يا حظنا : الكلاب الجائعة التي تثأر من نباحها، وتجلس القرفصاء في باب المذلات، ترتقب رأس الشهر، والزيادات الموعودة، والترقيات،والتعويضات القديمة، والسلالم، ورائحة العيش النتنة...

بعيدا تنتصب هذه المتعة الميتة. سمعت أن الشمس لما غربت، اشتهت الضاحية أن تنام، لكن الصيحة جاءت من بعيد، ذهبت القبائل والسواحل والقنابل في كأس الرعب، جاء الرعاة يسرقون خطو الفجر، وينسجون قارعات البهو الدفين. وأغربت النار، وهاهي البيارق السوداء تلبس المهابة، والسلف الهائج يجنح للقتل، تكاد تسيل الدماء في الممرات، وتملأ الأرض، ويتصاعد منها ما يشبه الدخان...
ولما تعب الغروب من الوطء، بادرنا بالرغبة تسري في معادن الخروج ، خرجت الضاحية للمرة الأولى،ولبت نداء هواها الوخز الذي يبني أعشاشها، وجاء الأطفال عبر حصون الليل، فتحوا النوافذ المغلقة في وجه الريح، وامتلأت الأرض ببردها، كان الأطفال يهتفون في الشوارع العميقة كالآبار، ولا طير تقع ، المرة الواحدة التي يسافر فيها الأطفال بعيدا، وتهتز الضاحية قبل أن يأخذ الموت وقته للراحة، ويسأل الجار عن الجار، وتورق الديموقراطيات الجوفاء، ويبيع الواحد منا صوته في المزاد..

في لبلاب الأفق بعيدا يتراءى قوس القبض أو الفيض، وأولياء الله المبشرون بالجنة يستلقون على الشواطيء، ورمال الفقراء، كالأنعام يضحكون ويشربون، ويسبحون بحمد الليبراليات والملكيات الخاصة، وهضم حقوق الإنسان،تتدلى أكياس النعمة والكرامات من أدبارهم، وتحشو عراء رقابهم الرخوة، كل الأولياء بلا استثناء يصعدون كالقمل، يصفقون ويكذبون، وينهبون، ويبتاعون الأصوات ويمشون في الأرض هولا.. ووراء كل ولي امرأة أو عمارة أو إمرة، أو مطمورة، هناك حيث يزاحم أولئك الباعة المتجولين باسم أكل العيش الذي لا يبين في الظلام، ويأكل أموال الرقيق والعبيد الذين لا يعرفون حضارة اليوم، وقالوا للشعراء: قاتلوا ريثما يأتي الرجال، وقالوا للرجال: إنما الشعراء يتبعهم الحاقدون...

حضرتني الغمرة، وارتجت مني الأنحاء، ومنها أطلقت ساقي لريح الأمام، الوراء، لم يتبعني أي الكلاب، تكالبت علي في الطريق أسنان السفك، وموقفي الصفو في دارة الكدر، التقفت أشلائي، سارت بها الركبان والرهبان، الصلاة المقصورة ظلت شاهدة على القبر ، القبر انساح في بطن الساحات والساعات، كأنما تسافر في قرارته أغلال الكبرياء، او كأنما لونه من دمي. قلت: يا لسواد هذه القمة.

كانت الضاحية أهلا..
الأهل: جذورها اللاهثة تتعب في ثنايا الليل وأعطاف النهار، ليلها تابوت مغلق كالمحيط تبيض فيه الوحشة مهاوي البلوى، وجراحا متدلية ترفع دويها في وجه الهواء، تلفحها البرودة الصامتة، تتفسخ كالنمل، تتوالد وتجر أذيالها في مسام الجسد العنيدة.. شجرة الأهل في كبد السماوات جذورها، وفي هذي الأرض الرخوة كعجين الأمهات فروعها، حين تسمق، تمتليء أحداق العناق بنورها،يتلألأ كالسحر في خوابيها، يتسع أحيانا كشغاف القلب، ويضيق ، يضيق أحيانا كالمسغبة.. يوم جاؤوها كالكواسر والجوارح، وطافت بها فلول البأس ورجال الحال، رثوا لحالها، كانت الشجرة تلبس خضرتها وتعاند البزوغ فتبارك الآلهة عنفوانها، وتضطرم النار، يجيئونها، يطوفون بها وينشدون مزامير عهود هذه الورطة، تعنيهم إلا من أتى الله بقلب سليم..
الأهل آهلون بالجراح.. في الصباحات يلبسون هواهم، يغدون نفيرا أو زفيرا، من عاداتهم أن يتبعوا وتساقط الأجساد منهم في برية الذهول،لا يقرأون ولا يكتبون، والأيام وحدها توقد في عمقهم، منهم الهارب والشارب، والقارب والغارب، واللاهب والناهب، والمحارب والغريب والقريب، والحبيب والنسيب ، والقتيل و الفتيل، والشريد والطريد،والسافل والحافل ، والكادح والصالح والمادح الصادح.. بابهم الموت يرسمون بريد الطرقات، كانوا يأمرونهم فيأتمرون، ويقال إن الساعات كانت تتقدم فيهم، يأكل بعضهم البعض، ومازالت الموائد تصطف في قناعاتهم، وبقايا من حروب قديمة تنشر ألويتها بين ظهرانيهم، وكلما ارتوى منهم الدم انتفض الدم... لا تسألني الآن، من تكون هذه السفينة المحملة بالزور والزيف والاقتراع العائم والمجالس اللقيطة والجماعات المجاعات، والديموقراطيات الملفوفة، المشاعة كالتبن.. ومن كل زوج اثنين.. هم الأهل أدرى بشعابها، أولى برغابها، ذاقوا حلاوتها. ( يا حلاوة السيبة والبندقية ).
حين جئت الأهل جمد الماء في الركبتين، ورأيت الواحد منا يهرب من دمه، أو يسرق أو يأكل شحم أخيه، أو يحفر الحفرة لأخيه، أو يقتل أخاه ليتزوج حليلته، أو يصطاد عرضه، أو يكويه لأقرب مركز للشرطة، أو يشهد عليه افتراء... فيرجم ويعلن في الناس: هذا قتيل العناد، فلا تعاندوا.

ولا تتعب الضاحية...
قوافل اللذة القادمة، قامات الأهل العاشقة، والأرض لا ترتوي من ماء الأعداء، تتأبط الخيام الظمأى عناءهم كالجواري هدتها السنون، وتنقرها الشارات المخبوءة في الطلقات، لما تلتئم الفاقات بزبدها أو طوبها، يستيقظ ريح الدمع والكف والشهادة، تلبس الضحية لباسها وتمضي في عز صيفها. السفر لها ،تغريني يداه المبسوطتان، المقبوضتان قبض الريح، جاءني ليثه يعيرني صفيحة الغريق، أغرقتني، ومضت منه القدمان، أبلاهما صرف الجديدين... جثوت على جبل من النار أصرخ، يومها تصاعدت ظلالي، برجها المراقب كالحروب، وتداعى الحمل بين اليدين. قلت: أيتها الآلهة لا أطيق الصمت، سأرقب هذه المقبرة. إنها تلدني، وبسطت كفي لمنتهى الدموع..
أذهلتني الهضاب النازفة، قيلا تنام تحت حائط الضاحية كالريش، قلت: يا إلهي، أيها المعبود، المتعدد، المعادل، ألقني في دوامك، لعلي أصل يمك، وأتيمم هدير المراسي المفردة... لتدفعني ثمنا لقوتك...
وجاءها الوحم نخيلا: العدة والعتاد، والشدة والقتاد، والقلة والشتات،والعلة والفتات،والحاقة والفاقة والمنال.. وسارت به، امتلكها بريق الأهواء، يستطيل في الصلب والمغارب والمشارق... هلا اقتربت. لا ترحم هذه الدوامة أو خلوة الاشتعال، قلت لها: الطريق إليك اختصارا. يا لغرة هذه الأفلاك، من سعدي أن أطأ هروبها، وحطام الشمس في تعبها، إني أجري لمستقر لها، من حقي أن ألعن هذه النقمة، وأبصق في وجه هذا التاريخ الذي يلوي أعناقنا كالمجزرة...
قالت الضاحية:
لتكن الضحية، يا أيها الآكل مخاض الغواية، يا مسافرا في تلة الريح، هذه الجفوة خطوة في قبضات القرب، هذه الربوة أنسك، فانصب ولا ترفع خوفك في وجه الأهل...
واستفقت من ضيقي، غاصت بي خيوط المحبة... كانت الضاحية مملكة تتوهج فيها سواقي الورد، كانت الأغاريد والهوام، والوحوش، والضواري، والغانيات، والنجوم السيارات تتلألأ، ويذهب صداها في صلصال الأرض...
هكذا تلدنا الضاحية، ولا خيار لنا بالمرة غير أن نكون ضحايا.ضحايا...

1986.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثلاثة
- الشجرة
- النفس غير المطمئنة
- فصول المودة القديمة
- حالة شبه خاصة
- تكوين
- الولدعديشان
- تلخيص جراح قديمة
- العربة
- سبعة ( رجال )
- بلاد
- باب انقلاب الحال
- باب-عبس وتولى-
- باب التلقيح
- ساعة ألم مضافة للزمن المغربي
- ديموقراطية في سبيل الله
- مثل الدجاجتين
- باب الفتنة
- باب القران
- باب العداوة


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - الضاحية