(3)
إن العلاقة بين الديمقراطية والحرية لا تزال ذات طابع إشكالي، على الرغم من الارتباط القوي بينهما بحيث من الشائع أن تتحدد كل منهما بالأخرى .ثمة أسباب عديدة لذلك، منها ما هو ذو طابع تاريخي عائد إلى الظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت سيرورة كل منهما،ومنها ما هو عائد إلى إشكالية كل من مفهومي الديمقراطية والحرية والعلاقة بينهما.
الحرية والديمقراطية تنتميان إلى سياقين تاريخيين مختلفين، ففي حين تنتمي الديمقراطية إلى السياق الأوربي، فإن الحرية تنتمي إلى السياق الإنساني العام. أضف إلى ذلك لم تعالج الحرية في مواجهة الديمقراطية وبالعلاقة معها إلا حديثاً وفي الحقل السياسي تحديداً.
مفهوم الحرية مفهوم مركب فلسفي وأخلاقي وسياسي واقتصادي واجتماعي..الخ وهو من المفاهيم المتعالية التي لا يمكن إدراكها إلا من خلال ارتباطها بسياق تاريخي محدد وبموضوع مميز. لقد اشتغل الفلاسفة كثيراً على مفهوم الحرية من خلال علاقته بمفهوم الضرورة باعتبار أن المفهومين يعكسان سلوك الناس وعلاقاتهم المتبادلة تجاه الظروف الموضوعية والقوانين العامة للطبيعة والمجتمع (1). وعلى الرغم من تعدد المعالجات للعلاقة بين الحرية والضرورة فإنه يمكن التمييز بين ثلاث اتجاهات رئيسة:
الاتجاه الأول ينظر إلى الحرية على أنها تجسيد للروح أو تحرير للإرادة، تجد قوتها المحركة في العالم الداخلي للنفس البشرية ولا علاقة لها بالشروط الخارجية. الحرية المطلقة حسب وجهة النظر السائدة في هذا الاتجاه هي الأساس الوحيد للمسؤولية وللتقييم.
الاتجاه الثاني على النقيض من الاتجاه الأول،فهو يرفض مقولة الحرية من حيث المبدأ ويؤكد أن لا وجود في الحياة إلا للضرورة الموضوعية. حسب زعم أنصار هذا الاتجاه فإن العوامل الخارجية هي التي تحدد مسبقاً حرية الإنسان وتتحكم بإرادته.
الاتجاه الثالث، وهو الأكثر قبولاً في الوقت الراهن و الأقرب إلى العلمية، ينظر إلى الحرية والضرورة كمقولة فلسفية واحدة يتبادل طرفاها التأثير والتأثر،وكان الفيلسوف الإنكليزي سبينوزا هو أول من حاول تفسير الحرية بصورة علمية عندما قال:"الحرية هي وعي الضرورة أو الضرورة وقد صارت وعياً " (2). ومن ثم جاء هيغل بتفسيره الجدلي لوحدة الحرية والضرورة في مقولة جدلية واحدة تحتل الضرورة فيها بالمعنى الوجودي نقطة البداية ومن ثم تُشتق منها لا حقا حرية الإنسان وإرادته (3).
إن التفسير السائد للضرورة في الطبيعة والمجتمع يحيلها إلى القوانين الموضوعية، الطبيعية أو الاجتماعية، حيث تأخذ صورتها.غير أن هذه الإحالة من وجهة نظرنا قاصرة ولا تجعل الحرية تقابل الضرورة في وحدتهما الجدلية.الضرورة بالعلاقة مع الحرية تعبر عن كل ما يجهله الإنسان أو لا يستطيع التصرف تجاهه بإرادة حرة هادفة.فقبل أن يكتشف الإنسان القوانين الموضوعية في الطبيعة والمجتمع مرّ تاريخ طويل كان يكتشف الإنسان خلاله يوميا الأشياء والظواهر المميزة في الطبيعة والمجتمع ،ومع كل اكتشاف جديد كانت تتوسع حريته تجاه ما يكتشفه وتصبح ممارسته أكثر وعيا وحرية.
الحرية تعبر عن ذاتها في الممارسة من خلال الإرادة الحرة، فالإنسان الحر هو الإنسان الذي يمتلك إرادة حرة في نطاق حريته.فالإرادة الحرة ليست سوى تعبير عن سلوك هادف وواع للإنسان الحر في إطار الشروط والظروف الموضوعية المحيطة به.فحسب إنجليز الإرادة الحرة هي تعبير عن خاصية اتخاذ القرار في ضوء معرفة العمل(3). ولذلك فإن الخطوة الأولى لامتلاك حرية الإرادة تتمثل في وعي الهدف، يليها اتخاذ القرار بالعمل، ومن ثم البدء بالعمل بعد تسليحه بالوسائل الضرورية لإنجازه والوصول إلى الهدف.
إن طريقة اختيار الأهداف يرجع إلى انعكاس العالم الخارجي في العالم الداخلي للإنسان(حاجات،رغبات، اهتمامات)، في ظروف تاريخية محددة تلعب فيها الخبرة المتراكمة والتربية دورا حاسما.
في الحقل السياسي تأخذ الحرية أيضا دلالات مختلفة.بصورة عامة يمكن النظر إليها في هذا الحقل من زاويتين تكمل كل منها الأخرى.من الزاوية الأولى تبدو الحرية محددة سلباً بدلالة القيود القمعية أو الزجرية. الحرية هنا تمثل صفة ملازمة للأفعال البشرية خارج نطاق أي ضغط أو إكراه، فهي نقيض للعبودية والتبعية.بهذا المعنى ارتبطت الحرية تاريخياً في الوعي العربي وتحددت بدلالتها.يؤكد ذلك أفضل تأكيد مقولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الشهيرة " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ".
ومن الزاوية نفسها وبانحراف بسيط تبدو الحرية محددة بدلالة الأخلاق السياسية وترتفع بالتالي إلى مستوى الحقوق العامة ذات الطابع القيَمي. الحرية بهذا المعنى تمثل بحثاً في شروط تحققها ولذلك فهي ترتبط بجملة من المفاهيم العامة الأخرى مثل المسؤولية، القانون، المؤسسة، السلطة، الشرعية..الخ.
من الزاوية الأخرى تبدو الحرية محددة إيجابياً بالنضال في سبيل تأمين شروط ممارستها.لذلك فإن تطوير المجتمع، وتعميم التعليم والرعاية الصحية الشاملة، وخصوصاً مأسسة السلطة وإشراك الناس في صنع مستقبلهم السياسي، تشكل ضمانات للحرية. الحرية بدلالتها الإيجابية لا تتجسد إلا من خلال الديمقراطية السياسية والاجتماعية.
من منظور الفكر الليبرالي تتحدد الحرية سلباً من خلال غياب الإكراه وجميع القيود التي يفرضها أي طرف على الطرف الأخر.الإنسان الحر بحسب الفكر الليبرالي هو الذي يستطيع الاختيار بحرية وبوعي بين احتمالين على الأقل لقضية واحدة.يعتبر جون ستوارت مل في كتابه "عن الحرية " أشهر المفكرين الليبراليين الغربيين الذين دافعوا عن هذا المعنى لمفهوم الحرية (4). وثمة مفكرون آخرون من نفس الاتجاه يعتبرون أن غياب الإكراه يكفي كي تتحدد الحرية به.وهم في هذه الحالة يوسعون كثيراً من مفهوم الإكراه بحيث يشمل القيود التي تفرضها العوامل والظروف الطبيعية إلى جانب الشروط والعوامل الاجتماعية. الإنسان لا يكون حراً حسب زعمهم إلا بتوفر عوامل ثلاث:
- غياب الإكراه والقيود ذات المنشأ الاجتماعي .
- غياب الإكراه الناجم عن الطبيعة.
- امتلاك الوسائل الكافية لتحقيق الأهداف التي يتم اختيارها بصورة واعية (5).
يقول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل في تعريفه للحرية"إن الحرية بشكل عام تعني غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات" (6). غير أن نظرة راسل الاطلاقية هذه للرغبات أوقعته في اللاتاريخية. فمن المعروف أن الرغبات ذات طابع تاريخ دائما فهي مشروطة بمستوى تطور المجتمع وطبيعة بنائه الداخلي. ففي المجتمعات المتخلفة تكون الرغبات عادة محدودة وتكثر القيود على الحرية بالمقارنة مع البلدان المتقدمة، وفي هذه الأخيرة ذاتها لا يتساوى من حيث الرغبات ولا الحرية الفقير والغني ،أو من يملك القوة ومن لا يملكها، بين من يملك الوسائل الكافية لتحقيق أهدافه ومن لا يملكها..الخ. من هنا نجد أن الحرية والسلطة بالمعنى العام كانتا دائما عبر التاريخ مترابطتين بعلاقات عكسية، وتشكلان موضعاً للصراعات الاجتماعية الطبقية. يقودنا ذلك إلى الاستنتاج بأن العلاقة بين الحرية والمساواة علاقة ضرورية بالاتجاهين، فلا يمكن الحديث عن الحرية بدلالتها اللغوية أو الفلسفية أو السياسية في غياب المساواة. لكن المساواة لا يمكنها أن تتحقق خارج التاريخ فهي نسبية وتاريخية دائما، والحرية كذلك.
إن الفهم الخاطئ للعلاقة بين الحرية والمساواة قاد أغلب الاتجاهات الفكرية الماركسية إلى النظر إلى الحرية من الحقل الاجتماعي بعيدا عن الحقل السياسي، الأمر الذي تبين خطأه من جراء التحولات الكبيرة التي جرت على الصعيد العالمي كان من نتيجتها انهيار ما كان يسمى بالمنظومة الاشتراكية.
إن منع الناس من المشاركة في صنع مصيرهم واختيار نمط حياتهم لم يحقق المساواة الاجتماعية، لذلك يبدو أن الربط بين الحرية والديمقراطية هو الذي يؤمن أفضل الشروط لتحقيق الربط بين الحرية والمساواة في إطار تاريخي محدد. نشدد على كلمة "تاريخي" ، لأنه في الحياة العملية قد يكون النظام السياسي في بلد معين ديمقراطياً وتكون الحرية فيه مقيدة بقيود عديدة خصوصا تلك التي يمكن اصطناعها بالوسائل غير المباشرة. الحرية كانت دائما مادة للتلاعب من قبل أولئك الذين يملكون السلطة والقوة ويسيطرون على وسائل الإعلام و التعليم..الخ.
نخلص مما تقدم إلى القول أن الحرية والديمقراطية لا تتحددان سلبا فقط من خلال كثرة القيود على ممارستهما، بل وتتحددان إيجابيا من خلال النضال في سبيل تحققهما على الصعد كافة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا يكون من خلال تحقيق حقوق الإنسان.
المراجع
1-القاموس الفلسفي (صوفيا، الدار الحزبية للنشر،1977) ص 521.
2-القاموس الفلسفي، مرجع سبق ذكره،ص 521.
3-المرجع السابق ،ص521.
4- المرجع السابق ، ص94.
5-الكيالي، عبد الوهاب ،رئيسا للتحرير "موسوعة السياسة" ( بيروت،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1981) الطبعة الأولى ،ص243.
6-المرجع السابق، ص244.