أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - أسرار أزمة كركوك: المقدمات، الدوافع، النتائج















المزيد.....


أسرار أزمة كركوك: المقدمات، الدوافع، النتائج


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 2380 - 2008 / 8 / 21 - 10:32
المحور: المجتمع المدني
    


لا أحد يجهل أسباب الأزمة، ولا أحد يجهل عمقها وخطورتها وقدمها.
ولكن ما هو غير مدرك للجميع لماذا قامت الآن؟ لماذا انفجرت في هذا الوقت على وجه التحديد؟ وهل كان انفجارها أمراً حتميّاً، أم أنه خطأ ارتكبه بعض موظفي إقليم كردستان، بدون قناعة تامة من قادتها، كما يدعي بعض أجراء الحكام الكرد؟
للجواب على هذه الأسئلة يتوجب علينا العودة الى حدثين منسيين، الأول: هو أزمة التحالف الكردستاني مع الإئتلاف الموحد السابقة، التي حدثت في نهاية حكم الجعفري، والتي انتهت بإبعاده. قوبلت إزاحة الجعفري بارتياح من قبل الأميركان، لأنهم تخلصوا من سياسي غامض، رغم محاباته لهم، وأفرح إبعاد الجعفري جماعة الحكيم لأنه أزاح من طريقهم منافسا ملتويا، وأبهج بعض أطراف حزب الدعوة، الذين عجّلوا في الاستيلاء على منصبه، واكتفى القادة الكرد بأقل المكاسب: زهو المنتصرين.
أما الحادث الثاني فهو التهديد الشهير الذي أطلقه البارزاني، والذي قال فيه سنعطي الأطراف الأخرى (الجعفري) فرصة لمراجعة أنفسهم، ولكننا لن نمنحهم أكثر من ستة أشهر، بعد ذلك سيكون لنا رأي.
كان "الرأي" الذي لم يفهمه الجعفري جيدا هو مقدرة القيادة الكردية الفعلية على إزاحة كل من يقف في طريقها بالوسائل كافة، المتخيلة وغير المتخيلة.
وقد فهم الجعفري الدرس، ولكن بعد أن وجد نفسه مجددا لاجئا يبحث عن إقامة.
بيد أن نجاح القيادة الكردية في إبعاد الجعفري رافقه سوء طالع، سببه خسارة الرهان على مرشح جماعة الحكيم عادل عبدالمهدي وصعود رجل الدعوة الثاني نوري المالكي. المشكلة التي واجهها القادة الكرد حينذاك هي أنهم أرغموا، باسم "تحالف الكتل"، على القبول برئيس وزراء جديد طبقا للمحاصصة؛ لكنهم لم يتمكنوا من فرض مبدإ التحاصص داخل كتلة الإئتلاف، بسبب وجود غير تيار في داخلها، بعضها يتعارض تعارضا حادا مع جماعة الحكيم كحزب الفضيلة والصدريين، الذين مالوا الى مرشح الدعوة نكاية في مرشح الحكيم؛ وبذلك سقط الانقلاب الكردي الأول، الهادف الى حسم موضوع السيطرة على مركز القوة والقرار في العراق الجديد وتقاسم العراق القديم تقاسما تاما سياسيا وجغرافيا.
لكن هزيمة التحالف الكردستاني وحليفه المخلص جماعة الحكيم لم تمر من دون ثمن. فقد اشتكى الحليفان لدى الأب الحامي الأميركي، متهمين المالكي بالضعف وبأنه لا يستطيع أن يدير السلطة مستقلا، وأن حكومته ستكون موضع ابتزاز من قبل قوى لا تؤمن حقا بالعملية السياسية. وقد اثبتوا أقوالهم من خلال أمثلة مأخوذة من سلوك حزب الفضيلة والصدريين المتذبذب وعلاقتهم المتأرجحة بالحكومة.
وكان هوشيار زيباري هو من تولى هذه المرة مهمة تحديد فترة التهديد المقررة من قبل القيادة الكردية لرؤساء الحكومات العراقية؛ فقد نقلت صحيفة الشرق الأوسط ذلك التهديد قائلة: إن الوزير حضر مناقشات مجلس الأمن حول تمديد وجود القوة المتعددة الجنسيات بقيادة القوات الأميركية، وصرح لمراسها في نيويورك، صلاح عواد قائلا: " إن الأشهر الستة المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة لحكومة رئيس الوزراء نوري المالكي"، و"إن هذه الأشهر ستكون مهمة بالنسبة للحكومة حتى تثبت أداءها وكفاءتها لقيادة البلاد"
أما الأميركان فقد وضعوا شروطا قاسية- زمنية على طريقة البارزاني وهوشيار- طالبوا فيها المالكي أن يُثبت ذاته السلطوية، وطالبوا مجموعته أن يتقيدوا بجداول الأعمال المقررة عليهم، كشرط للبقاء، وشرط لازم لكي يتم تسويقهم عالميا (مؤتمر بروكسل ثم ستوكهولم)، وعربيا (مؤتمر الكويت)، وان بقاءهم مرهون زمنيا بهذا السقف: المؤتمرات الثلاث.
كان خروج حزب الفضيلة وتهديدات الصدريين المستمر بالكف عن دعم الحكومة وسعي الكتلة الكردية الى شراء الحزب الإسلامي شراء تاما، جعل المالكي يشعر بأنه معلق في الهواء، بلا سند، مما اضطره الى منح جماعة الحكيم والكتلة الكردية الكثير من التنازلات، التي تفوق ما خططوا له وتمنّوا الحصول عليه، حتى أن الأكراد جردوا مستشاره الشخصي من لقبه المحبب، حينما انتقد مرة، سهوا، شدة الضغوط التي يمارسها القادة الأكراد وانفلات غرائزهم وشهيتهم للابتلاع السريع وتخليهم عن تحفظهم كسياسيين حكوميين عراقيين. أحسّ فريق المالكي أن سلوك زيباري المستهتر وصلاحياته الواسعة غير المسموح بمراقبتها حكوميا تُعدّ قضما لسلطات رئيس الوزراء المباشرة، وسلوك الطالباني القومي والمتعارض مع المصالح الوطنية كموضوع اسرائيل، وتأييد بقاء القوات الأجنبية علنا، كان اختبارا واحراجا للمالكي أمام داعميه، وسلوك البارزاني عسكريا ينطوي على إفشال منظّم لجهود المالكي كقائد أعلى للقوات المسلحة؛ أما جماعة الحكيم فقد أغاروا على الصدريين بمساعدة حكومية بغية افتراسهم. ولم يكن أمام المالكي خيار آخر: إذا لم يمنح المفترسين ما يتلهّون به افترسوه.
لكن هذا الضغط الرهيب،المتعدد، الخماسي الأضلاع، من الأميركان، ومن حلفائه في الحكومة (الحكيم والكرد)، ومن حلفائه في الإئتلاف (الفضيلة والصدر)، ومن منافسيه في حزبه (الجعفري)، ومن منافسيه داخل مجموعته الخاصة، إضافة الى ضغط الواقع وضغط الجماعات الخارجة على السلطة كان مصدر خير للمالكي كشخص، وفق قاعدة ربّ ضارة نافعة؛ فقد أرغم المالكي على أن يهمل إهمالا تاما الشأن الوطني والاجتماعي (نصف الوزارات بلا وزراء. مزاد علني!) وأن يتجه بقوة خارقة لإثبات حقه في البقاء، حتى غدا بقاؤه ومجموعته الخاصة قضية حياة أو موت.
إن الحاكم المحلي في العراق يشبه التمثال الحجري، يتم نحت نحتا، وإن المزاج العراقي إزميل موهوب يجيد نحت الطغاة.
حينما جاء المالكي الى السلطة جاءها ضعيفا، هزيلا، بفارق صوت واحد، لكنه أتى وهو يحفظ عن ظهر قلب درس غريمه الجعفري جيدا: ستة أشهر، لا أكثر!
(عبارة "ستة أشهر"، لمن لا يعرف، موجودة في نص قانون الدولة)
لذلك عمل المالكي فور توليه الحكم، بحماسة وهمّة، في مسار محدد وثابت، هو حماية وتقوية دوره الفردي كحاكم، على حساب دوره الحزبي، مستندا على قوتين، الأولى: الجهاز العسكري، حتى لو أدى ذلك الى ارتفاع عدده الى أكثر من نصف مليون من طريق الاستعانة ببقايا الجيش "المنحل"، وتعبئة القوى القبلية وحتى التحالف المؤقت مع المليشيات و"الصحوات"، والثانية: تقوية مركزه التحالفي الشخصي من طريق بيع الوظائف الكبيرة مقابل الولاءات. كان الجميع، من دون استثناء، غارقين في حملة افتراس الوطن، غافلين عن أن المالكي نجح نجاحا كبيرا في بناء القوتين السالفتين في وقت قصير، ساعده في ذلك الإرتفاع الكبير في أسعار النفط، التي بلغت أرقاما خيالية، عجزت الحكومة بخططها التنموية الغامضة والمهلهلة والمحدودة من إنفاق عائدات النفط كلها. فرغم النهب الجنوني العلني، لم يزل هناك فائض في ميزانية العام الماضي وجزء من مدخولات العام الحالي.
إشارة الخطر الحاسمة التي استلمتها القيادة الكردية جاءت حينما تقدمت القوات العراقية باتجاه الموصل.
ظلت القوات العراقية تتجحفل علنا عدة أشهر، لكنها لم تتمكن من دخول الموصل. وقد أثار وقوف الجيش الطويل على أبواب الموصل تساؤلات كثيرين، خاصة قادة الجيش أنفسهم، الذين أعلنوا غير مرة أن الهجوم العسكري الكبير سيبدأ بعد يوم أو يومين. لكن الهجوم لم يبدأ.
كانت نقطة الصدام الجوهرية التي لم تُعلن هي عدم موافقة القيادات الكردية على انتشار القوات العراقية المسلحة في الموصل كلها، وحصر انتشارها في أماكن محددة. لأن انتشار القوات العراقية في سهل نينوى يمزق تماما حلم قيام البرزخ الكردي الموصل الى سنجار والحدود السورية، أي يمزق حلم استكمال الشكل الجغرافي للدولة الكردية التوسعية في المدى البعيد، ويقلص حجم المكاسب الانتخابية التي يجنيها الحزبان العرقيان في المدى القريب، علما أن الحزبين الكرديين لا يجدان منافسا قويا هنا من العرب والتركمان الشيعة سوى التيار الصدري، الذي يُراد تحاصصه من قبل الجميع. لكن شروط القيادات الكردية لم ترق للعسكريين الميدانيين، لأسباب فنية خالصة وليست سياسية. كان رأي العسكريين يتحدد في نقطة واحدة: الانتشار الناقص ربما يضع القوات المقتحمة أمام احتمالات قاتلة. كانت تلك إشارة جوابية عظيمة الدلالة، تلقاها فريق المالكي وفهم منها أن المالكي أمام احتمالين قاتلين لا ثالث لهما: إما العدول عن الحملة كلها والاعتراف العلني بالنصر التام للقادة الأكراد، كمسيّرين فعليين يحتكرون إدارة حركة الواقع السياسي، أو الدخول في معركة غير مضمونة النتائج، قد تقوده الى فقدان جزء جدي من قواه ومن رهاناته، التي ستجعله لعبة طيعة في أيدي القيادات الكردية أيضا. لذلك حرنت القوات العراقية عند أبواب الموصل وعلى عتباتها. كانت القوات تفكّر، وكان المالكي يتحسس رقبته.
لكن هذا الانتظار، أو القلق بتعبير أدق ، لم يدم طويلا.
جاءت المفاجأة الكبرى في غير موضعها وزمنها. بغتة، ومن دون إعداد أو إنذار، انتقل الهجوم بكامل زخمه الى البصرة، من غير توقع، وحتى من دون تنسيق ميداني على الأرض مع القوات" الحليفة" البريطانية، في عملية استعراض دموية، بالغة القسوة والإثارة. جاءت عملية البصرة، أو "صولة الفرسان"، قبيل مؤتمر بروكسل والكويت بأيام. حتى أن المجتمعين في "فحيحيل" كانوا يسمعون دوي الانفجارات ويرون برك الدم بأعينهم المجردة. وفي المؤتمرَين أعلن المالكي والناطق باسمه علي الدباغ أن المالكي أثبت للجميع أنه "غير منحاز طائفيا"، أمّا دليلهما القاطع على ذلك فهو الذبح الجماعي والبربري الذي أحدثه في البصرة، وما رافقه من تحشيد إعلامي متلفز. لكن ردود الفعل الباردة التي تلقاها المالكي كانت صدمة عنيفة له، غير متوقعة، بعد كل ذلك الدم المجاني. فقد صمّ المجتمعون في الكويت آذانهم عن أصوت المدافع والطائرات، التي كانت تحرق البيوت في عملية ذبح جماعية بريرية، استخدم فيها المالكي الدم بدلا من السياسة لاستدرار عطف الضاغطين الأجانب، المتعطشين الى حد الهوس الى شرب الدم والنفط العراقيين. كانت صدمة المالكي سببا أساسيا في توجيه الجيش الى مدينة الصدر مصحوبا بقسوة مضاعفة، ليثبت فيها هناك ، بدليل أقوى، أنه قطع بحق الخيوط التي تربطه بمن أسماهم "الخارجين على القانون"، الذين اعتمد عليهم سابقا في وصوله الى سدة الحكم، وليثبت لمنافسيه أنه فُطم وإجتاز مرحلة الرضاعة، وبات قادرا على إدارة شؤون نفسه بنفسه. لهذا السبب شدد المالكي مجددا في رسالته الى مؤتر ستوكهولم على تأكيد هذا الدور قائلا: " إن العراق التزم بالبنود التي وقعها في وثيقة العهد، وإنه ينتظر إيفاء المجتمع الدولي بتعهداته". وأضاف في كلمة افتتاح المؤتمر " ان العنف تراجع في العراق بنسبة ثمانين بالمئة مقارنة بعام 2006" و" إننا أصبحنا أكثر ثقة بالنصر وأكثر ثقة بالنفس". إن التعهد بالالتزامات ( تنفيذ الشروط)، والنصر (العسكري)، والثقة بالنفس، هي مكونات ستراتيجيّة المالكي الجوهرية للبقاء في الحكم.
استطاعت عمليات بغداد والبصرة والديوانية، ثم الكوت وميسان- رغم بشاعة بعضها وطابعها التنكيلي والابتزازي- أن تفرض سلطة الدولة على الشارع. وقد أثبت الواقع أن السلطة كانت قادرة منذ وقت طويل على فعل ذلك، لكنها كانت تتغذى وتعتاش على قوة المليشيات، وأنها لم تكن سوى شريك في تقاسم عنف الشارع، بما فيه تقاسم إرهاب وإجرام الشوارع؛ فكل شيء كان يتم بعلمها ومعرفتها أو تحت رقابتها، والذي يعني أنها المسؤول الأول والأخير قانونيا عن كل قتيلة وقتيل، وعن كل سرقة لم يُحاسب مرتكبها.
حينما فرغ المالكي من الوسط والجنوب بدأت أنظاره تتجه مجددا نحو الموصل، لكن حملته اصطدمت مرة ثانية بقرار القيادة الكردية الحاسم، المسنود من تيار الحكيم، القاضي بعدم السماح للقوات العراقية " الغريبة" (كلمة غريبة مأخوذة من نص قانون الدولة) بالانتشار في الموصل كلها، مما دفع المالكي الى تسيير حملة استعراضية، سقط فيها من "عصابات القاعدة" أقل مما أحدثته قنبلة واحدة من مئات القنابل التي ألقتها الطائرات الأميركية على البيوت البائسة في مدينة الصدر.
فشلُ خطة الموصل والأثر المعنوي العظيم الذي أحدثه " اختفاء" المظاهر المسلحة في الجنوب والفرات الأوسط وبغداد، وتمركز ما يقرب من نصف مليون مقاتل في يد المالكي أغراه على التقدم شمالا، لغرض فك الحصار عن بغداد وعن نفسه؛ وهي خطوة سياسية وعسكرية وأمنية كان يجب أن يقوم بها قبل ميسان والبصرة والموصل، لأن ديالى هي مفتاح الأمن في العاصمة، والعاصمة هي مفتاح الأمان لرئيس حكومة لا يُسمح له بالتجوال في شوارعها.
بيد أن تقدم الجيش باتجاه ديالى يتطلب حدوث تماس مباشر مع قوات البيشمركة، التي تطوق شمال العاصمة في مناطق خانقين وقره تبة والسعدية. وهي العنق الموصل الى نقطة الصدام الكبرى: كركوك.
من هنا بدأ سباق القادة الكرد مع المالكي، سباق اللحظة الأخيرة، الذي انطلق في مجلس النواب في هيئة تنافس سياسي وبرلماني دستوري وإعلامي؛ لكنه كان، في جوهره، سباقا عسكريا خالصا. فمن يملك الساحة العسكرية هو من يقدر على إملاء شروطه. هذا الدرس البليغ، الذي تعلمه المالكي من البارزاني وأجاد استخدامه، وضع القادة الأكراد أمام خيارات مرّة: إن القبول بتقدم القوات العراقية باتجاه ديالى وصلاح الدين سيتبعه بالضروة تقدم باتجاه كركوك والموصل، وفي وقت لاحق سيتبعه دفع قوات البيشمركة الى الحدود، لممارسة دورها وواجبها المهني والفني المعترف به وطنيا ودستوريا، القاضي بحراسة أطراف العراق الشمالية والشمالية الشرقية وحمايتها والدفاع عنها، بما في ذلك الاستشهاد في سبيل منع اختراقها من قبل أية قوة أجنبية، سواء كانت حكومية أو غير حكومية.
وما هو مخجل هنا، في هذه القضية الشائكة، هو إصرار جميع الأطراف على إخفاء الحقائق عن الشعب، حتى هذه اللحظة. إن الأسباب الحقيقية لرفض قوات البيشمركة الانسحاب من ديالى، وأسباب ذهاب القادة الكرد الى أميركا نجدها في اتفاقيات التحالف التي وقعها السياسيون الحاكمون، والتي رفعوها زورا الى منزلة الدستور. من هنا نرى أن رفض البيشمركة الانسحاب من ديالى لم يكن اعتباطيا، بل كان يستند الى أسس دستورية (!) زائفة، ولكنها للأسف متفق عليها من قبل جميع الساسة الذين شاركوا في حكم العراق. وللإطلاع عليها يتوجب علينا العودة الى قانون بريمر (قانون إدارة الدولة) لعام 2004، الذي يرسم بدقة بالغة خريطة انتشار قوات البيشمركة، كما جاء في نص مادته الثالثة والخمسين:

"(أ) ـ يعترف بحكومة اقليم كردستان بصفتها الحكومة الرسمية للاراضي التي كانت تدار من قبل الحكومة المذكورة في 19 آذار 2003 الواقعة في محافظات دهوك واربيل والسليمانية وكركوك وديالى ونينوى. ان مصطلح "حكومة اقليم كردستان" الوارد في هذا القانون يعني المجلس الوطني الكردستاني. ومجلس وزراء كردستان والسلطة الاقليمية في اقليم كردستان."
إلا أن اضطراب الأوضاع الأمنية دفع بالقوات الكردية الى مناطق جديدة في بغداد والفلوجة، ووصلت في حملة "صولة الفرسان" الى البصرة، باعتراف القيادات الكردية نفسها. إن الانتشار العسكري للمليشيات الكردية تم بغطاء شرعي حكومي وبموافقة صامتة من قبل السياسيين العراقيين. لذلك ترى القيادات الكرية أنها أخذت على حين غرة، وأن ما حدث يخالف المعاهدات المشتركة التي ألزموا أنفسهم بها بالاتفاق مع الأميركان. وهذا ما أسماه البارزاني بـ "الانقلاب" القذر.
عنصر جوهري آخر لعب دورا حاسما في تعجيل وإثارة القيادة الكردية واستفزازها، هو خشية هذه القيادة من فقدان الحليف الدولي، ممثلا بالحزب الجمهوري الأميركي. فقد أثار افتضاح بنود الاتفاقية الأميركية الشعب العراقي بأسره، الذى أبدى رغبة قوية في انسحاب القوات الأجنيبة؛ وقد تضاعف تأثير هذا العامل بظهور عنصر جديد في المعادلة السياسية الأميركية، ممثلا بمشروع أوباما، غير المحبذ لإبرام أية اتفاقية تنطوي على التزامات مالية وعسكرية قادمة.
كانت تلك الأسباب هي التي دفعت القيادة الكردية الى تفجير الأزمة علنا واعتبارها "كسر عظم!". وكانوا على صواب مطلق. كانت معركة كسر عظم، عظم العراق أو عظم من يعجّل بتقسيمه وتدمير وحدته.
في هذه المرحلة انتقل القادة الكرد من تهديد رؤساء الحكومات الى تهديد مجلس الشعب بأكمله: "صار لزاما علينا" إعادة ترتيب التحالفات، كما يقول محمود عثمان، لتخويف النواب ولي أذرعهم. أما مسعود البارزاني فيرسم صورة النهاية المرتقبة بوضوح تام، قبل بدء الخلاف، لذلك يقول في برنامج (الحرة تقدم): " إذا لم تنفذ المادة 140، فسوف تقع حرب أهلية حقيقية".
ما الذي نستخلصه من هذا كله؟ أثبتت أزمة كركوك أن العراق بلد محتل عسكريا من قبل القوات الكردية، إضافة الى الاحتلال الأساسي الأميركي، والهيمنة الإيرانية السياسية والأمنية. وأن القرار السياسي في العراق مرهون بمعادلات السلاح، وليس بالكلمات السياسية، لأن السياسة لا أكثر من واجهة لفظية لصراع السلاح والقوة. وهناك من يرى أبعد من هذا، معتقدا أن النجاح الأميركي المؤقت في إدارة الصومال عسكريا من طريق استئجار الجيش الأثيوبي، ربما يغري القادة الأميركان على تطبق المبدإ ذاته في العراق على يد البيشمركة. لهذا يهدد أحد نواب الكتلة الكردية زملاءه من الكتل الأخرى قائلا: "إن قوات البيشمركة هي التي تحرس مجلس الشعب"، فالمعركة العسكرية الآن تدور بالسلاح الأبيض في أروقة مجلس الشعب! ويؤيده في تهديده قائد قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني حينما يشرك- في تصريح لصحيفة (آسو) الكردية- حتى الله في احتلال العراق:" إن بناء قواعد عسكرية أميركية في كردستان فضل من الله". ففي وطن قيد التقسيم تتم عسكرة اللغة والأحلام والأماني، وتصاغ المعادلات السياسية كلها، بما فيها التهديد والترغيب والتمني والتصويت،عسكريا.
أثبتت أزمة كركوك أن أكثر الحمقى في السياسة العراقية هم الذين يعتقدون أن القادة الأكراد يسعون الى الانفصال عن العراق وتكوين دولتهم المستقلة. هؤلاء أغبياء بامتياز. إن القادة الأكراد لا يحتاجون الى الانفصال عن العراق لكي يكوّنوا لهم دولة. لأنهم يملكون الآن دولة أكثر تماسكا وقوة من الدولة المركزية، دولة بعلم ورئيس ووزارة خارجية وجيش واتفاقيات أجنبية وقواعد عسكرية وسجون ومطارات، وهي المقومات الشرطيّة الأساسية لقيام الدول. لذلك هم لا يحتاجون الى انفصال لكي يشكلوا دولتهم، لأنهم يملكون دولة حقيقية قائمة في قلب الخريطة العراقية. ومن لا يراها فهو إما متواطئ أو جاهل. أما الأزمة التي أثاروها، وسيكررون إثارتها قريبا، فهي جولة قتال من أجل تحديد حجم هذه الدولة ومساحتها الجغرافية ومقدار هيمنتها على ما تبقى من دولة العراق الممزقة.
إن المشكلة التي يعاني منها الأكراد الآن لا تتمثل في عدم وجود دولة مستقلة لهم، على العكس من هذا تماما، إنهم يعانون معاناة قاسية من أزمة وجود هذه الدولة وشدة ضغط هذا "الوجود" عليهم نفسيا وسياسيا واجتماعيا. وبهذا الصدد يقول محمود عثمان نقلا عن شبكة أخبار العراق " ان وجود جيش عراقي مستقبلا سيضعف الاكراد ويخرجوا بدون فوائد من الحكومة ". فكلما تطور بناء مركزية الدولة العراقية يغدو "وجود" الدولة الكردية وتكامل مقوماتها التدريجي والسريع عنصر صدام وتعارض مع وجود الدولة المركزية غير المستقلة وغير المستقرة. فلا يمكن لدولتين أن توجدا في كيان سيادي واحد. هذا أمر محال في قوانين السياسة كافة. إن القيادة الكردية تدرك إدراكا تاما أنها في سبيلها الى فقدان دولتها كلما استقر الوضع الأمني في العراق، وكلما ضعفت سيطرة المليشيات. وربما لا يوجد من هو أصدق من البارزاني في تأكيد هذا الأمر. يقول البارزاني في تصريح مقدم الى إذاعة صوت أميركا الناطقة باللغة الكردية في 10 آب 2006 " إن حكومة مركزية قوية لن تقوم في العراق بعد الآن"
إن العراق كيان يعيش حالة هيمنة مركّبة: دولية، وإقليمية وعرقية.

إن النضال من أجل استقلال العراق يتضمن النضال من أجل التحرر من سيطرة الحكام الشوفينيين الكرد وتهذيب دوافعهم العرقية إنسانيا ووطنيا، كمدخل رئيسي لبسط سيطرة الدولة على أراضيها وثرواتها واستعادة سيادتها الوطنية وإقامة دولة المواطنة، على انقاض دولة الطائفة والعرق.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المادة 24، الانتقال من التحاصص الدستوري الى سياسة كسر العظم
- الجوانب الخفيّة في الاتفاقيّة الأميركيّة العراقيّة
- من نوري السعيد الى نوري التعيس
- صولات الدم العراقية
- نقد المثقف الشيوعي.. فخري كريم نموذجاً.. الديموقراطيّة للاحت ...
- نقد المثقف الشيوعي.. فخري كريم نموذجاً.. تعبئة وتعميم الشر: ...
- نقد المثقف الشيوعي.. فخري كريم نموذجاً.. الشيوعية السحريّة أ ...
- نقد المثقف الشيوعي.. قيادة (طريق الشعب): فخري كريم نموذجاً.. ...
- نقد المثقف الشيوعي.. قيادة (طريق الشعب): فخري كريم نموذجاً.. ...
- نقد المثقف الشيوعي ..مخيلة العنف، من النفسي الى السياسي وبال ...
- نقد المثقف الشيوعي..فوضى اللغة والبواعث النفسية للعنف الثقاف ...
- نقد المثقف الشيوعي.. من ديالكتيك ماركس الى جدلية رامسفيلد
- نقد المثقف الشيوعي
- محاكمة الأدب الفاشي عالميا
- إنهم يصرعون الله بالضربة القاضية
- تحالف الحكّام الشيعة والكرد: شراكة وطنيّة أم زواج متعة؟
- عراقي في لوس انجلس .. الحلم الأميركي والكابوس العراقي
- المذبحة الأخيرة على الأبواب: معركة كركوك
- قميص بغداد!
- الثقافة بين الإرهاب وديموقراطية الاحتلال


المزيد.....




- لجنة مستقلة: الأونروا تعاني من -مشاكل تتصل بالحيادية- وإسرائ ...
- التقرير السنوي للخارجية الأمريكية يسجل -انتهاكات جدية- لحقوق ...
- شاهد: لاجئون سودانيون يتدافعون للحصول على حصص غذائية في تشاد ...
- إسرائيل: -الأونروا- شجرة مسمومة وفاسدة جذورها -حماس-
- لجنة مراجعة أداء الأونروا ترصد -مشكلات-.. وإسرائيل تصدر بيان ...
- مراجعة: لا أدلة بعد على صلة موظفين في أونروا بالإرهاب
- البرلمان البريطاني يقرّ قانون ترحيل المهاجرين إلى رواندا
- ماذا نعرف عن القانون -المثير للجدل- الذي أقره برلمان بريطاني ...
- أهالي المحتجزين الإسرائيليين يتظاهرون أمام منزل نتنياهو ويلت ...
- بريطانيا: ريشي سوناك يتعهد بترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا في ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - أسرار أزمة كركوك: المقدمات، الدوافع، النتائج