أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عدنان عاكف - - الشرعية الثورية - و - الشرعية التاريخية -















المزيد.....


- الشرعية الثورية - و - الشرعية التاريخية -


عدنان عاكف

الحوار المتمدن-العدد: 2354 - 2008 / 7 / 26 - 10:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


نشرت " طريق الشعب " في عددها 223 بتاريخ 15 تموز 2008 مقالا للأستاذ أ. د. سليم البدري تحت عنوان " 14 تموز 1958 سواء سمي انقلابا أم ثورة ". و جاء المقال تعقيبا على مقال، نشرته الجريدة في عددها 216 ( 3 تموز 2008 ) للأستاذ جاسم الحلوائي، كان بعنوان " هل ما حدث في 14 تموز 1958 كان ثورة أم انقلابا عسكريا ؟ "

لا بد في البداية من الإشارة الى ان مقال البدري، وان جاء في تناغم مع الكثير من المقالات التي تمحورت حول السؤال : ثورة أم انقلاب ؟ إلا انه كان في نفس الوقت متميزا وخرج عن المألوف المتعارف عليه، وكان من المقالات القليلة التي خلت من الاتهامات " الكلاسيكية " التي اعتدنا على قراءتها في تلك المقالات. حاول البدري ان يقود القارئ خارج الطوق الفكري – ثورة أم انقلاب - الذي ساهمنا جميعا في إقامته منذ سنين. ولو عدنا الى مقالات أنصار الثورة ( وانا منهم ) سنجد انها في الغالب تنطلق من موقف الدفاع ، ضد التهم العديدة والمتنوعة التي دأب أنصار الانقلاب توجيهها لـ 14تموز. ومع ان هناك ما يبرر الدفاع عنها ، إلا ان ذلك لا يمكن ان يكون مبرر لنا لنبقى ندور في ما يشبه الحلقة المفرغة. ولا بد من الاعتراف بان أنصار الانقلاب قد نجحوا والى درجة كبيرة في سعيهم لإبقاء الاهتمام محصور في ذلك السؤال القديم، وقد غاب عنا ان ما يعنينا بالدرجة الأولى من تلك الأحداث التي مضى عليها نصف قرن، هي العبر والدروس التي يمكن ان تقدمها لنا للتفكير بما ينبغي ان تكون عليه الثورة الحالية التي بدأت منذ أكثر من خمس سنوات، وكيف يمكن لثورتنا هذه ان تنقل العراق الى آفاق أرحب مما كانت عليه قبل خمسة عقود!! ما من شك ان قضايا مثل " ثورة أم انقلاب " و" شرعية ما حدث في تموز أو عدم شرعيته " ومسؤولية الثورة عن الانقلابات اللاحقة أو عدم مسؤوليتها، هي من المواضيع الحيوية والمهمة، ليس بالنسبة للماضي فحسب، بل وبالنسبة لحاضرنا ومستقبلنا أيضا. لكن ما هو حاصل الآن ممل ومكرور، وذلك بسبب عدم التواصل وانعدام لغة الحوار بين المتحاورين.



يرى الوردي ان الحلوائي لم يكن بحاجة لبذل ذلك الجهد الكبير ليمنح ما حدث في 14 تموز الشرعية الثورية لأن " العهد الملكي كان أول من منح الشرعية لثورة 14تموز. وذلك بعد ان أغلق في 1954 أبواب الشرعية الدستورية أمام قوى المعارضة الشعبية...وبهذا سوغ لقوى المعارضة التوسل بأسلوب الشرعية الثورية وإن كان عن طريق الانقلاب العسكري ".

قد يكون الوردي مقتنع بعدالة ثورة تموز وليس بحاجة لمن يقنعه اليوم بشرعيتها، لكني لا أستطيع ان أتفق معه بشأن عدم الحاجة الى الجهد الذي بذله الأستاذ الحلوائي ( وهو جهد يشكر علية بالتأكيد، وتأتي أهميته من تلك البيانات والمعطيات الكثيرة التي تجعل من 14 ثورة وليس مجرد عمل عسكري محدود ) من أجل أن يثبت الطبيعة الثورية للحدث العسكري الذي وقع في تموز. قد يكون الحلوائي كان بحاجة الى توظيف تلك البيانات بطريقة أفضل لتنقلنا الى آفاق أخرى ومستويات أعمق للحوار الفكري، ولكن لو حاول الأستاذ الوردي ان يعود الى ما نـُـشرَ بمناسبة الذكرى الخمسين سيجد ان غالبية المقالات كانت مكرسة للإجابة على السؤال: هل ما حدث آنذاك كان ثورة أم انقلاب؟ وهذا يعني ان الحاجة ما زالت قائمة الى تلك البيانات والمعطيات.

اذا كان العهد الملكي هو أول من منح الشرعية لثورة تموز، فهذا يعني ان ذلك العهد قد فقد شرعيته الدستورية أيضا. لهذا أرى ان الإصرار على وصف العهد الملكي بالدستوري، مع منح 14 تموز الشرعية الثورية هو تناقض صارخ، و موقف منحاز وغير موضوعي، وبغض النظر عن النتائج التي نجمت عن ثورة تموز والمآل الذي آلت اليه. ولو عدنا الى مقال سابق للأستاذ البدري سنرى ان العهد الملكي فقد شرعيته الدستورية قبل عام 1954. كان الوردي قد نشر مقالا على موقع الإسلام والديمقراطية، العدد 15، بتاريخ 15/5/2006 بعنوان " العراق ( ديمقراطيون )... بلا ديمقراطية ) تناول فيه إشكالية الديمقراطية في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية. وجاء هذا المقال تعقيبا على مقال للدكتور فاضل الجلبي نشر في جريدة الرائد العدد 143، بتاريخ 13/8/2005، بعنوان " العراق...ديمقراطية بلا ديمقراطيين ". كان الجلبي قد ذهب في مقاله الى ان مشكلة الديمقراطية في العراق تعود الى غياب الشخصيات الديمقراطية الحقيقية عن الساحة السياسية، منذ نشوء الدولة العراقية، وكان في مقدمة الشخصيات الديمقراطية التي ركز عليها هو الجادرجي، الذي حاول ان يبين بان سلوكه السياسي كان بعيدا عن الديمقراطية. ومن الجانب الثاني تناول شخصية نوري السعيد الذي كان يعتبر العملية الانتخابية لعبة ساخرة استخدمها ليلهي بها القوى السياسية. في حين ان الوردي يرى ( وقد كان على صواب ) ان المشكلة ليس في الأشخاص بل في البيئة العراقية التي لم تكن ما ملائمة لنشوء وتطور الفكر الديمقراطي. وبغض النظر عن الاختلاف في الموقفين ( وهو اختلاف مهم وجوهري) غير انهما متفقان على عدم التزام الحكومات المتعاقبة بمواد الدستور. ومما جاء في مقالة الوردي : " . تطرّق ( الجلبي ) إلى رؤية نوري السعيد إلى الحياة الدستورية والنيابية في العراق بوصفها لعبة بيد الحكومة والبلاط، ما يجعل صعود المعارضة إلى المجلس النيابي أمراً مستحيلاً. وكان من شروطه لتشكيل الوزارة خلو المجلس النيابي من معارضة حقيقية ". وكان الجلبي قد استشهد بمواقف وتصريحات لنوري السعيد ليبرهن عن بعد هذا الرجل الذي انطبع العهد الملكي بشخصيته، عن الدستور والممارسة الديمقراطية.. ". وهذا يوضح ان العهد الملكي ومنذ بدايته كان لا يحترم الحياة الدستورية بالرغم من انه كان يملك دستورا متقدما.

لنعود الى إجراءات نوري السعيد في عام 1954. مع ان العهد الملكي بتلك الإجراءات قد " أغلق أبواب الشرعية الدستورية أمام قوى المعارضة الشعبية " كما يقول الوردي، ، إلا ان المعارضة لم تفقد أملها بالنضال السلمي ووفق ما يسمح به الدستور، من أجل تحقيق مطالبها أو حتى جزء من تلك المطالب. لكن النظام كان مصرا على قطع آخر الخيوط التي ما زالت تربطه ليس فقط بالأحزاب المعارضة، بل و بما تبقى من حلفاءه التقليدين، من قبيل حزب صالح جبر وحزب الأمة، والكثير من الشخصيات السياسية التقليدية التي شغلت مناصب عليا في الدولة. في 1954 أقدم نوري السعيد على إلغاء مجلس النواب بعد أول جلسة له، وأجرى انتخابات بديلة في نفس العام. نترك المؤرخ عبد الرزاق الحسني يصف لنا تلك الانتخابات : " انتهت الانتخابات الجديدة بمأساة لم يشهد لها تاريخ البرلمان العراقي نظيرا لها. لعل أغربها ان الشرطة كانت تعتقل كل مرشح غير مرغوب فيه من قبل الحكومة وعلى هذا فقد فاز بالتزكية 121 نائبا من أصل 135 . أما الباقون وعددهم 14 فقد فازوا بانتخاب الصوري "!! كل هذا لم يكن قادر على ان " يسوغ لقوى المعارضة التوسل بأسلوب الشرعية الثورية وإن كان عن طريق الانقلاب العسكري "، كما ورد في مقال البدري. مازالت المعارضة الأمل بأسلوب النضال السلمي. بعد العدوان الثلاثي على مصر وتمادي النظام الحاكم في معاداته للقضايا القومية والوطنية وبعد القمع الذي جوبهت به انتفاضة عام 1956 أخذت الكفة تميل تدريجيا لصالح فكرة البحث عن أساليب أخرى للنضال الى جانب الأسلوب السلمي. وحتى بعد صدور البيان الأول لجبهة الاتحاد الوطني التي ضمت أهم الأحزاب السياسية المعارضة في البلاد ( باستثناء الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان في تحالف ثنائي مع الحزب الشيوعي ) كان الهدف الأول هو إسقاط حكومة نوري السعيد وإقامة حكومة وطنية. وهكذا فان المعارضة الوطنية لم تلجأ الى الجيش لحسم الصراع مع النظام الحاكم، كخيارها المفضل، بل أقدمت على ذلك لكونه كان الخيار الوحيد.

من هنا نؤكد على ضرورة الإلتزام بدقة بالمفاهيم والتعابير السياسية التي نستخدمها، ان كنا نريد بالفعل لحوارنا الفكري والسياسي ان يخرج من دائرة النقاش السفسطائي. فاذا كنا نعترف بان النظام الملكي أقفل أبواب الشرعية الدستورية أمام قوى المعارضة السياسية، فليس من حقنا منح ذلك النظام سمة الديمقراطية. والعكس صحيح أيضا. لا يحق لمن يدافع عن مشروعية ثورة تموز ان يتحدث في نفس الوقت عن المشروعية الديتورية للنظام الملكي. واذا كان المواطن العراقي الذي يتمتع بالحد الأدنى من الثقافة السياسية لتأريخ العراق الحديث يعلم ان 14 تموز لم يكن الانقلاب الأول في البلاد، فلماذا يصر البعض على مقولة أصبحت شائعة في المقالات أنصار الانقلاب على ان 14 تموز هو الذي فتح الباب أمام الجزمة العسكرية لتدوس على المؤسسات الدستورية. ونفس الكاتب الذي يؤكد على ان " ثورة تموز أفضت إلى 8 شباط، والأخيرة أفضت إلى 18 تشرين الثاني، وهذه إلى 17 تموز 1968، والأخيرة إلى صدام حسين " يعود بعد بضع جمل ليعترف بعبثية هذا المنطق ويؤكد: " ليست هذه طريقة في التحليل بالطبع... ". أيعقل هذا الكلام ؟ ان كانت هذه ليست طريقة في التحليل فلماذا تستخدمها يا سيدي ؟ والعجيب ان الكاتب يدعوى جميع القوى السياسية العرؤاقية " المختلفة والمتصارعة ان تبني تحليلاتها على أساس التحليل السياسي الموضوعي "...وهل يحق الحديث عن " الانقلاب العسكري في تموز الذي أفضى الى انقلاب، والانقلاب أفضى الى انقلاب " ثم نعود في نفس الصفحة لنتحدث عن " ثورة تموز المباركة " ؟؟



الشرعية التاريخية –

يخصص الكاتب الجزء الأخير من مقاله للحديث عن الشرعية التاريخية، ويرى انها، وبحكم ديناميكيتها لا تصدر أحكاما قطعية بل أحكام متجددة باستمرار وتبقى مفتوحة على المستجد من البيانات. يرى الوردي ان الشرعية الثورية التي استندت اليها ثورة تموز " سرعان ما انقلبت وبالاً عليها، حين وظفتها الزمر الانقلابية للانقضاض عليها. ان جميع الانجازات والمكاسب التي تحسب لثورة 14 تموز لتبدو باهتة بالقياس الى التداعيات المأساوية والدموية لتطبيق موضوعة "الشرعية الثورية" على أيدي الزمر الانقلابية المغامرة ".

لنفترض جدلا ان الكاتب محق فيما ذهب اليه، وان انجازات الثورة لا تضاهي النتائج المأساوية والدموية التي تمخضت عنها. فماذا كان على قوى المعارضة الشعبية ان تفعله بعد ان أغلق العهد الملكي أبواب الشرعية الدستورية أمامها؟ أن تستسلم للأمر الواقع وتنتظر الفرج، أو تنتظر عسى ان نوري السعيد يعود الى رشده ويستيقظ ضميره ؟ ان الاعتراف بان العهد الملكي قد أقفل أبواب الشرعية الدستورية أمام قوى المعارضة يعني ان ذلك العهد قد ألغى إمكانية النضال السلمي من أجل تحقيق بعض المكاسب السياسية والاجتماعية، ولو بحدودها الدنيا. أليس لجوء النظام الى زج القوات المسلحة في حلبة الصراع السياسي مع قوى المعارضة هو استخدام للعنف، وتخل عن مبدأ التداول السلمي للسلطة، والذي أقره الدستور؟ لماذا يحق للفئة الحاكمة ان تلجأ للجيش في قمع المعارضة السياسية السلمية، ويحرم على قوى المعارضة القيام بذلك؟ وكما ان هذا السؤال موجه لحكام العهد الملكي، فانه موجه للسياسيين العراقين من مختلف ال الاتجاهات، ان كانوا في سدة الحكم أو في المعارضة.

أما تحميل الشرعية الثورية لتموز تبعية ما آلت اليه نتائج الثورة بسبب لجوء الزمر الانقلابية لاحقا الى استخدام نفس " الشرعية الثورية " فهو ما لا يمكن الاتفاق معه. يمكن الاتفاق مع الوردي في حالة واحدة فقط، وهو ان تلك الزمر الانقلابية جاءت لمواصلة مسيرة تموز وتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها. ولكن الجميع يعرف ان هدف تلك الزمر كان ضرب الثورة وحرفها عن مسارها والإجهاز على المنجزات التي حققتها. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف اتحدت تلك الزمر مع القوى الرجعية والمحافظة وجميع الفئات التي تضررت مصالحها وبالتعاون والتنسيق مع الكثير من دول الجوار والدول الاستعمارية . وبهذا الشأن يرى الباحث والكاتب د. خدوري خدوري " ان الانعطافات والتغييرات الحادة في طبيعة الصراع داخل المجتمع العراقي، منذ ثورة 14 تموز حتى الآن، ترتبط أساسا بالاتجاه الموضوعي بعد تموز نحو بلورة طبقة جديدة من كبار الضباط الجيش والبرجوازية الصاعدة، مناهضة لطبقات النظام القديم من جهة، ومتناقضة مع القوى والطبقات الاجتماعية الديمقراطية من جهة أخرى ".

لو اعتمدنا هذا المقياس ( الذي يعتمده الوردي ) في تقييم الثورات لكانت النتيجة حتما لصالح القوى المحافظة والرجعية منذ بدأ الصراع بين المُستغِلين والمُستغـَلين، بدأ من ثورة سبارتاكوس، مرورا بثورة الحسين وثورة الزنج، والقرامطة، مرورا بثورة العشرين ووثبة كانون 1948 وانتفاضة تشرين 1952. ولا أظن ان فيما أقوله مبالغة. وجدير بالذكر ان اعتماد معيار الربح والخسارة لتقييم أهمية الأحداث الثورية التي عرفتها شعوب كثيرة في العصر الحديث قد انتشرت كثيرا في بلدان عديدة، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. في نهاية الثمانينات أخذ العديد من الكتاب والمثقفين الجزائريين بطرح السؤال التالي : هل ان ما حققته الثورة الجزائرية يستحق تلك التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب الجزائري والتي تمثلت بأكثر من مليون شهيد، إضافة الى الدمار الكبير الذي تركه الاستعمار الفرنسي بعد رحيله ؟ كانت تلك الأصوات خجولة في بادئ الأمر، ولكن بعد الشروع بسياسة الانفتاح والتي كانت إشارة للبدء بسرقة المال العام واستحواذ البرجوازية الطفيلية بسرقة ألمؤسسات والمشاريع الحكومية بدأ أنصار هذا التيار بالتكاثر. ومع بدء البريسترويكا أخذت أصوات الديمقراطيين والليبراليين ترتفع مطالبة بمحاكمة الحزب الشيوعي السوفيتي بسبب سياسته الخاطئة تجاه هتلر. إذ كان هؤلاء يرون بان مقاومة الغزو الألماني للاتحاد السوفيتي هي التي تسببت بوفاة أكثر من 20 مليون مواطن سوفيتي سقطوا خلال الحرب، إضافة الى ان البلاد تحملت القسط الأكبر من الخراب والدمار. وترددت أصوات مشابه تطالب بتقديم المناضلين في المقاومة السرية للقوات الألمانية في بعض بلدان أوربا للمحاكمة بتهمة تعريض مصالح شعوب تلك البلدان..

يقول البدري :" لقد شرعنت ثورة 14 تموز – شئنا أم أبينا – الانقلابات العسكرية، وتغلغلت الرؤية الانقلابية شيئاً فشيئاً في ثقافة المجتمع العراقي ومعظم قواه السياسية. ويعدّ هذا، بحد ذاته، نكوصاً في الوعي السياسي للعراقيين عن ثقافة المجتمع المدني، ودور الجماهير في إحداث التغيير. وبات من شبه المستحيل أن تتفجر وثبة جماهيرية كوثبة كانون 1948، أو انتفاضة تشرين 1952، فقد منحت الجماهير ثقتها المطلقة للنخبة العسكرية، مما غذّى لدى الأخيرة نزعة الاستبداد والتفرد بالسلطة...".

لا أظن ان الأستاذ سليم الوردي بحاجة الى من يذكره بان العهد الملكي الذي منح ثورة تموز شرعيتها الثورية بسبب سياساته الرعناء ونهجه طوال أكثر من ثلاثة عقود هو نفسه الذي شرعن الانقلابات العسكرية، وجعل منها أسلوبا " نضاليا " اعتياديا وسهلا لإسقاط الحكومات واستبدالها أو للضغط من أجل فرض شخصيات معينة في مواقع معينة. . يكفي الإشارة إلى أنه منذ عام 1936 ( انقلاب بكر صدقي ) وحتى عام 1941 ( انقلاب العقداء الأربعة ) نظم الجيش أو كان وراء سبعة تغيرات حكومية أو انقلابات عسكرية. لم يقتصر تدخل العسكريين في الحياة السياسية على الاستخدام المباشر للجيش كأداة عنف في الصراع السياسي بين المجموعات المتصارعة على السلطة، والتي كانت جميعها تنتمي الى النظام الحاكم، أو على استخدام الجيش لحسم الصراع بين النظام والمعارضة، وذلك من خلال استخدامه كقوة ضاربة لقمع المظاهرات والإضرابات، ولتنفيذ الأحكام العرفية ، بل أصبح هؤلاء ( العسكريون ) طرفا فعالا في العملية السياسية. فقد كانت لهم أحزابهم وتحالفاتهم وبرامجهم السياسية والاقتصادية، وكانوا يتداولون المواقع بين السلطة والمعارضة ( الشكلية )، حتى دون الحاجة للجوء الى فتح أبواب الثكنات العسكرية.

أما الجزم بان ثورة تموز تتحمل مسؤولية تغلغل الرؤية الانقلابية في ثقافة المجتمع العراقي ومعظم قواه السياسية فهو تجني على تلك الثورة، وعلى الكثير من القوى السياسية أيضا. فلو عدنا الى مقالي د. فاضل الجلبي و الأستاذ الوردي (أشرنا اليهما )في بداية مقالنا سنرى ان ( أبو ) الديمقراطيين العراقيين ورائد الديمقراطية في العراق، المرحوم كامل الجادرجي، قد شرعن استخدام العنف، ومنح المعارضة السياسية الحق في اللجوء الى مساعدة الجيش في صراعها مع النظام الحاكم في حالة اصرار ذلك النظام على إغلاق جميع الطرق أمام عملية التغيير السياسي والاجتماعي. توقف البدري مطولا عند رأي د. الجلبي في سلوك الجادرجي السياسي منذ الثلاثينات، وخاصة موقفه من انقلاب بكر صدقي. وانتقد بشدة ضلوعه بالانقلاب، وقال : " وبهذا يكون الجادرجي قد شارك في التأسيس لعقيدة انقلابية عملت على تعطيل الحياة الدستورية "... ومن الواضح ان الوردي كان متناغما مع الجلبي في إدانته لموقف الجادرجي من انقلاب 1936، وذهب أبعد من ذلك في إدانته لتأييد الجادرجي لانقلاب 1958 . يقول الوردي : " حين نقرأ مذكرات الجادرجي يتضح لنا ندمه على المشاركة في إنقلاب بكر صدقي. لكن ضلوعه في إنقلاب تموز 1958 يؤكد تعذّر تحرره من الرؤية الانقلابية. ولم يكن تكرار ضلوعه في إنقلاب عسكري مجرد شطحة ثانية، بل رؤية سياسية تطرّق لها في مذكراته ) السرية للغاية) عن (الاشتراكية الديمقراطية) التي قدمها إلى المركز العام للحزب الوطني الديمقراطي في 15 آب 1947، حيث يقول: (إذا سدّت بوجه الشعب جميع السبل الديمقراطية فلا بد آنذاك من اللجوء إلى استعمال القوة. لكني أرى أن مفعول القوة يجب أن يقف عند حده حينما تتحقق الديمقراطية، أي حينما يســـــترد الشـــعب حقوقـه الدستورية). وأتعجّب كيف توهّم الجادرجي ثانية بعد تجربته القاسية مع إنقلاب بكر صدقي سنة 1936، إن العسكر يمكن أن يحملوا الديمقراطية و الحياة الدستورية للبلد! نعم يجوز لنا أن نحكم "...

تبقى هناك ملاحظة أخيرة تتعلق بموقف الجماهير من الانقلابات العسكرية. لا نعتقد ان من الصواب تعميم ظاهرة الانقلابات العسكرية واعتبارها سمة أساسية ميزت العقلية السياسية في العراق ما بعد ثورة تموز 1958، كما يوحي الى ذلك الوردي. لو عدنا الى تلك الانقلابات سنجد انها كانت من تدبير نفس الطاقم العسكري والسياسي، بدأ من حركة الشواف في الموصل ومحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، مرورا بانقلاب 1963 الدموي والانقلابات التي تلته. وبالرغم من سياسة البطش التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة مع الأحزاب والقوى السياسية الأخرى بعد انقلاب شباط، إلا ان غالبية تلك القوى لم تنجر الى تبني سياسات متطرفة ، بل حاولت بكل الوسائل ان تعيد عربة القطار السياسي في البلاد الى سكة الصراع السلمي. وقد أقدمت بعض القوى السياسية المعروفة على مغامرات سياسية، كادت ان تطيح بمستقبلها، من أجل التوصل الى تفاهم مع نظام البعث بعد انقلاب 1968، كما حصل مع القوى الكردية وتوقيع بيان 11 آذار، وتوقيع الجبهة مع الحزب الشيوعي العراقي.



#عدنان_عاكف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصراع بين الشعر والعلم - 1
- المسلمون الأوائل وكروية الأرض - 3
- المسلمون الأوائل وكروية الأرض – 2
- المسلمون الأوائل وكروية الأرض - 1
- ثورة تموز و - الديمقراطية الملكية -
- 14 تموز بين الموقف العاطفي و الموقف الطبقي
- 14 تموز: تلبية لإرادة الشعب أم تحقيق لمطامح العسكر ؟؟
- نحن وثورة الرابع عشر من تموز 1
- آينشتاين والاشتراكية


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عدنان عاكف - - الشرعية الثورية - و - الشرعية التاريخية -