أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - منذر مصري - عراقي 2من 5- الشعر: سعدي يوسف- مهدي محمد علي















المزيد.....


عراقي 2من 5- الشعر: سعدي يوسف- مهدي محمد علي


منذر مصري

الحوار المتمدن-العدد: 728 - 2004 / 1 / 29 - 04:36
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


عراقي... ( My Iraq )
 ( ما يشبه ملفّاً شخصياً )
2من 5( الشعر: سعدي يوسف- مهدي محمد علي )

أولاً- الشِّعر:
عندما بدأ الشعراء والمثقفون العراقيون، بالنزوح إلى سوريا ثم إلى لبنان، ثم إلى العالم، في نهاية السبعينات، وبداية الثمانينات، تعرفت على هاشم شفيق، وصلاح فائق، ومهدي محمد علي، وسعدي يوسف، هم من حدث وجاؤوا إلى اللاذقية وزاروني.. كانوا يسألون عني في دمشق، فيجيبهم رياض صالح الحسين.... ما لكم ومنذر مصري، إنه ليس شيوعياً، إنه شاعر بورجوازي.. روى لي هذا رياض ضاحكاً...  وخلال زيارة لي لدمشق أخذني إلى بيت عبد الكريم كاصد، وكان في حي المهاجرين على ما أذكر.. أحببت العراقيين أكثر مما أحببت شعرهم، كنت أجد شعرهم ثقيلاً، كنت أشعر أن لهم سلطة في الشعر، أرهبها على نحو ما.. وأنأى بنفسي بعيداً عنها. كنت، أستطيع الادعاء، ابن شعر الطليعة اللبنانية ومن لف حولها، لذا كنت لا أعرف على نحو محدد سوى السياب، والبياتي في أباريقه المهشمة، وبلند حيدري وسعدي يوسف الثائر وقتها... ومن ثم سركون بولص الذي لم يكن له سوى قصائد منشورة في بعض أعداد مجلة شعر.. بعد هذا أحببت ( رهائن ) صلاح فائق، الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق. هو من أحضره لي، جاء مع محمد كامل الخطيب و ناديا خضر، أعجبه رسمي كثيراً. أما انطباعه عن قصيدتي  ( أمريكا أنت تعنين لنا المشاكل ) فهو أن كاتبها يبدو كأنه يحيا في أمريكا. كما أحببت لحد ما ( أقمار منزلية ) لهاشم شفيق، فقد كنت متعصباً لقصيدة النثر، تعصباً  لم يسمح لي أن أحب شعر سعدي إلا بعد أن تحول من قصيدة التفعيلة التي صنعت شهرته إلى كتابة تلك القصائد القصيرة، النثرية وذات التفعيلة النثرية! التي تشبه ولا تشبه قصائد كفافي وريتسوس.. ثم جاءت أيام الربيع الخاطف بين شقي النظام البعثي في العراق وسوريا، في عام 1978، ودخل لسوريا عدد لا بأس به من دواوين الشعراء العراقيين المعروفين والجدد، من منشورات وزارة الثقافة والفنون وربما وزارة الإعلام أيضاً، كما راحت تصل مجلة الطليعة الأدبية التي نشر فيها جمال باروت أول محاولاته النقدية عن جيل السبعينات في الشعر السوري، ذلك المقال الذي كرسنا، نزيه أبو عفش وبندر عبد الحميد وأنا، كشعراء ما سماه القصيدة الشفوية. وما زال لدي كتاب من منشورات هذه المجلة عنوانه: ( كتاب الشعر ) من إعداد ياسين طه الحافظ وطراد الكبيسي، وهو عبارة عن مختارات ل50شاعراً عراقياً شاباً، منهم هاتف الجنابي وكاظم جهاد وهاشم شفيق وكمال سبتي وخزعل الماجدي وزاهر الجيزاني ورعد عبد القادر ... لم يستوقفني حينها إلا القليل القليل من هذه المختارات، حتى إني وقتها لم أنتبه لكل هذه الأسماء، التي صار لها رنين فيما بعد، فالكتاب بتنوعه المحدود وتقارب مستوياته يطابق النتاج الشعري السائد في سوريا، فهو بعمومه يدين للغة وأساليب وأغراض الرواد ومن تبعهم في عقد الستينات العراقيين والعرب، الأمر الذي كنت أصدق أن شعري بمنجاة منه. ما لفت نظري وقتها، هو أن فكرة الكتاب كوثيقة شعرية، ما كانت لتخطر على بال أي من المسؤولين الثقافيين السوريين. ثم تعرفت على الكثيرين من الشعراء العراقيين، إمّا شخصياً، وهم ليسوا بكثر فأنا لا أحيا في دمشق ولا أسافر إليها إلا لماماً، وإما شعرياً، وهم أكثر من كثر. وصارت قصيدة العراقية الجديدة النثرية خصوصاً من أكثر القصائد التي أهتم بها وأتابعها.. وكنت أستطيع أن أجدها في كل مكان تقريباً، في الدوريات العراقية الثقافية التي ظهرت في دمشق وبيروت، كالثقافة الجديدة والمدى والبديل... وما ظهر أيضاً من خارج سوريا والوطن العربي كالرغبة الإباحية وفراديس وألواح وعيون وبانيبال وما لا يمكن تعداده... وكذلك في مواقع الإنترنيت العراقية، التي تشكل الآن ظاهرة لا مثيل لها، كإيلاف، ونيسابا، وكيكا، والامبرطور، والحوار المتمدن وغيرها، كما ولابد وأن تلقاهم ( الشعراء العراقيين ) في كل الدوريات الثقافية العربية، وقد توصلت لقناعة أثناء كتابة مقالتي ( المنفى والأرض والموت وقصيدة النثر العراقية ) عنهم، بأنه يمكن أن تعتبرها إحدى المستحيلات المستحيلات محاولة حصر عدد الشعراء العراقيين !!:
ـــــــــــــــــــ
1-سعدي يوسف:
من كنت لا أعرفه إلا بالاسم، إلا بالشعر، شعره وترجماته لشعر فاسكو بوبا وريتسوس وكفافي، من كنت لا أعرفه إلا من كتبه، حتى كتبَ عني في البديل ما اعتبرته في بادئ الأمر، لا أكثر من مديح، لكنه في الحقيقة كان افتتاحية صداقة، صداقة دامت بيننا سنين قبل أن نلتقي، وسنين بعد أن التقينا. حين جاءني صوته أول مرة على الهاتف: منذر أنا سعدي يوسف، أنا في اللاذقية، أنتظرك في مقهى اسمه: العصافيري. ذهبت وأحضرته إلى بيتي. كان معه امرأة، ( امرأة لا تنسى يا سعدي ) سهرنا تلك الليلة، بناء على طلبه في بيت علي الجندي:
/ هذا الأمير الدمشقيُّ
مَن رابَهُ
من تسوَّر أهدابَهُ ؟ /
ـــــــــ سعدي يوسف ( من يُعرِّف الوردة ) قصيدة ( علي الجندي )
ثم بعد سهرة الدخان والعرق والذكريات تلك، باتا في شقة فارغة، لدي مفتاحها، في الطابق الرابع من البناية التي يقع بها منزلي. استيقظت صباحاً وبذهني مشروعٌ للإفطار في مطعم على البحر، لكني انتظرت حتى التاسعة خشية إيقاظهما قبل الأوان، نزلت، ثلاث طوابق، أحمل صينية صينية عليها ركوة قهوة ساخنة وفنجانان، أنا لا أشرب القهوة أبداً، لم أجدهما !!!
في زيارته الثانية إلى اللاذقية، ربما في عام 1994، اتصل بي سعدي من دمشق وقال لي بأنه قادم يوم كذا وقت كذا. جاء لوحده، ليست حالة مثلى بالنسبة لأي شاعر، جاء مساءً وكان بانتظاره شاب لاذقاني، واجبه أن يمضي بنا إلى المدينة السياحية الشمالية  ويدلنا على الشالية التي سيقضي بها سعدي أياماً غير محدودة، ليتفرغ  إلى كتابة رواية.. عرفت أن الشالية تعود للرئيس اليمني السابق، المستقر في ربوعنا، على ناصر محمد، الصديق القديم لسعدي بعد جلسة دامت أربع ساعات أمضياها حول ( طاولة تتقدم إليها الأشجار وكائنات البحر )  هذا ما عرفته من قصيدة له عنوانها ( صديق قديم ) من مجموعة ( يوميات الجنوب، يوميات الجنون  ). غير أن الشالية كانت شبه مهجورة، وهي حالة سيئة بالنسبة للجميع. ولكن ما كان هم سعدي سوى أن نجلس ونشرب شيئاً، وكان مستحضراً لهذا الأمر على أتم وجه، فقد كان لديه في حقيبة الكتف إضافة لزجاجات العرق مكسرات وخضار! لكني لم أمكث إلا قليلاً، وتركته يستريح على أن نتغدى سوية ظهر اليوم التالي. وهذا ما حدث، أتيت ومعي ثلاث أديبات من اللاذقية، كنت قد وعدتهن بلقائه عندما علمت أنه سيأتي. وهناك حيث استضافتنا إحداهن، لم تكف الأديبات الثلاث عن الثرثرة حول كل شيء، من الشعر إلى الحب إلى الرواية إلى هنري ميلر وكتابه ( رامبو وزمن القتلة )  الذي ترجمه سعدي، وصولاً إلى الشذوذ الجنسي !!! وأحسب أن سعدي كان يحد في كل هذا الهراء والوقت الطويل المهدور شيئاً رائعاً.. في صباح اليوم الثالث، ليس باكراً أيضاً، صعدت لعنده، وطرقت باب الشاليه، ولكن، فعلها سعدي ثانية، غادر دون وداعي. أخبرني بعدها بسنين، حين التقيته في أمسية له بحلب، أنه اضطر ليلتها، لترك الشاليه والعودة لدمشق لا يلوي على شيء، لأن خزان الماء على السطح، قد فاض تلك الليلة وأغرق المكان برمته..
ولا أدري كيف يمكن أن يفهم، من قبل البعض، إيرادي للنص الذي كتبه عني في مجلة البديل /عدد 3/ عام 1983، ولكني سأورده على أية حال. وما لن يخطر على بال أحد، أني بهذا أقوم بما يشبه الاعتراف بالهزيمة، لأني، اعتبرت في بادئ الأمر، أن يقوم شاعر كسعدي بالكتابة عني، ويكيل لي هذا المديح، ليس إلا أمراً أستحقه بعرق جبيني، وهو شيء عادي، وسيفعل هذا بعده الكثيرون.. ولكني وعلى مدار السنين الكثيرة التي مرت، والتي كتب بها عني عدد غير قليل، مدحاً وقدحاُ، عدت إليه، واحتجته في أكثر من مناسبة. وها أنذا لأول مرة أسمح لنفسي بإيراده كاملاً، كشهادة مجروحة من شاعر أحبه:
بشر وتواريخ وأمكنة
شعر: منذر مصري
الصفحات: 230
الناشر: وزارة الثقافة – دمشق 1979
ـــــــــ

( إنها تمطر في العاشر من حزيران
وليس لك أن تسلو
ولو قليلاً
لتنظر عبر النافذة
ويبدو عليك بعضٌ من الدهشة.
/
إنها تمطر في العاشر من حزيران
وما ذا يجدي ذلك
مع صدر مطبق
وقبضة تشدُّ على القلب.
/
كيف لكَ أن تغزل خيطاً آخر
كيف لكَ أن تنسل خيطاً آخر
إنها تمطر في العاشر من حزيران
وهذا
لا يدعوك لشيء.. )
ــــــــــ
قد تصلح القصيدة أنموذجاً لكتابة منذر مصري. فهو الذي يعتبر الإحساس رهانه الأول، لا يفتئت على الواقع، ولا يحمّل منتقياته أكثر مما تتحمل، بل ليست له أدنى رغبة في ذلك، حتى ولو ألحت عليه الاحتمالات... وربما كان لمقدرته التشكيلية ( الرسم ) دور في هذا الاعتبار، مكّن طموحه إلى الدقة الشعرية من التحقق عبر الموازنة بين المرئي والمبصر.
 إن قصيدته متميزة عمن حوله، مكتفية بنتوءات الواقع وملمس هذه النتوءات على أنامله المرهفة، محاولاً أن يكون أمينا على الدوام إلى شروط العملية الفنية، أي إلى حقيقة التركيبة التي تجعلنا نميز بين النص الإبداعي وسواه.إن لديه كوابحه التي تحد كثيراً من إمكان القفز على تلك الشروط، وتمنع من ركوب ( غرق؟ ) الموجة المغرمة برش البهارات اللغوية والتكنولوجية ... هذه البهارات التي تؤدي عادة إلى وهمين :
1. وهم التعرف على الواقع
2. وهم الحداثة .
هذه الكوابح لدى منذر مصري هي من القوة بحيث تعصمه من التجاء إلى غير الحقيقي، حتى في الموضوعات التي قد تتيح له مجال المناورة، متعللاً بخصائص الموضوع ذاته. ولنا أن نعتبر قصيدته ( أخيراً يا بابلو بيكاسو ) مثالاً ( ص 59 ) ... فبدلاً من تسلية نفسه وقصيدته باصطلاحات بيكاسو وألوانه وفتراته... الخ، واغتنام الفرصة الذهبية لمقارعة التكنولوجيين البداة، نراه يعود إلى البداهة والبداءة العريقتين:
نحن نتساءل
كيف ستسرق لنا غداً
نيران الآلهة
بعد أن أمسيت
واحداً منها ..
ــــــــــ
في محور ( قصائد من الغرفة ) التي تضم ثماني عشرة قصيدة، من صفحة 160إلى صفحة 190، نرى هذا الفجهد أكثر تواتراً واتساقاً، ونرى المنجز الشعري أكثر قدرة على تكوين مشهد متكامل.
الشاعر في الغرفة، الشاعر في ذاته، لكنها الذات الداخلة / الخارجة، الذات التي تطلق بصمات الأصابعن والعينين...
( ألّمُ يُلمس باليد
ألمٌ يجد طريقَه سالكاً
من العينين إلى القلب ) ..
ـــــــــــ
هكذا، خطوة خطوة، كما في حقل الألغام يتلمس المر طريقه..
( من يدي إلى النافذة
التجعدات تكسو المفاصل
وكلُّ أصابع شجرة الموز ممزقة
بذورٌ راحت نصيباً لعصافير الدوري
وأغراس تقاسمتها الرياح والحوافر
والآن لا أدري ماذا أخسر.
/
ليس في الحزن حكمة
ولا في الكآبة ما أحسد عليه
عمري سبعة وعشرون خريفاً
ولم يأتي
الصَّيف.. )
ــــــــــ ص 164
 قلت إن منذر مصري لا يصطنع الشعلة... إنه يؤرِّثها بمقبس حطب صغير دقيق، ويظل ينفخ ويحرك، يتنسم رائحة العود الرطب، ودخان الاتقاد الأول... حتى ترتفع ناره وتتقد بذلك الضوء الذي يفتح العينين ولا ... يبهرهما.
/ لكن الحلم والذاكرة... لا النبيذ
هما ما أشعل رأسي /
ــــــــــــ ص 17
كيف يقود منذر مصري الإحساس إلى الثورة؟
/ تبدأ الحياة من إبهاميك
 عند منتصف وأعلى البرتقالة
لحظة يصيبك في عينيك
شيءٌ من رذاذها الكحولي
وأنتَ تشطرها إلى
فلقتين.
/
حيّاً
وبين يديك فلقتا برتقالة
لا سعادة أقصى
أستطيع أن أرى
لا سعادة أقصى
لكَ أن ترومها
فالحياة بالتحديد
ما سوف تعصره بعد ذاك
بأسنانك .. /
ــــــــــ قصيدة ( البرتقالة ) ص 181

لم أقرأ للشاعر بعد ( بشر وتواريخ وأمكنة ) شيئاً. ولست أدري إن كان قد هجر الكتابة، أو ضاق بها ذرعاً، منصرفاً إلى البحر والرسوم... لكني سأظل أحتفظ له بكل ذلك الاحترام الذي تستحقه أمانته الإبداعية، وأظلُّ آمل أن أراه يوماً ... مع قصائد أخرى من غرفته .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
 
2- مهدي محمد علي
 هل تريد رهطاً أكثر قدسيَّة من هذه الأقانيم الثلاثة، محمد، علي، مهدي، الذين يتألف منهم أسم الشاعر العراقي مهدي محمد علي؟ كيف لرجل يحمل هذه الأسماء، مثلاً، أن يكذب، أو أن يسرق كتاباً، أو يخون زوجة، أو ينمَّ عن صديق... وغير هذا مما لم أعرفه يوماً في مهدي. أو أسأل نفسي، كيف له، بكل هذه الأسماء المهيبة، أن يُمَسَّ بضرٍّ، أو يُهدد، أو يخاف؟ كيف له بعد هذا أن يهاجر ويحيا مشرداً خارج وطنه، ربع قرن؟ بل كيف له وهو المضرور المهدد الخائف المشرد أن يحب ويتزوج وينجب طفلة، ثم يكرس حياته كلها كلها لأجلهما، كيف له أن يسمي حلب، التي ينزوي فيها، بصرة حلب، ويكتب كتاباً كبيراً عن بصرته دون أن يحتوي أي صورة، لشارع أو لساحة أو لمبنى وزارة أو لتمثال، هل هذا لأنه ليس لديه أي صورة للبصرة، أو أنه كان يريد صوراً معينة من أين أن يأتي بها؟ كيف له حين يشاهد زهرة شقائق نعمان وحيدة، فيقول: ( يا شقيقة النعمان الوحيدة / أين بقية شقيقاتك ؟ ) مهدي، الذي أتمنى لو يكسر الشعراء والنقاد العراقيين صمتهم عنه، صاحب ( رحيل 78) و( سر التفاحة ) و( شمعة في قاع النهر ) و(سماع منفرد ) و( خطى العين ) و( ضوء الجذور ) ... ماذا يريدون أكثر.
في الساعة الثانية عشرة والربع، من ذلك اليوم البعيد في الزمن القريب في الذاكرة، موعد انصرافي من عملي في مديرية التخطيط اللاذقية، وأنا أهمُّ بعبور شارع المغرب العربي العريض، سمعت أحداً ينادي اسمي، ثم رأيت شاباً أسمر نحيلاً، بشعر كثيف، ونظارة طبية كبيرة، يتجه نحوي: أنا مهدي محمد علي، رياض صالح الحسين يرسل لك تحياته.. عرفتك من وصفه لك... وهكذا عبرنا الشارع معاً باتجاه منزلي، الآن تعارفنا الآن نستعيد ذكريات صداقة قديمة أبطالها أصدقاؤنا المشتركون. مهدي الذي ما اتصلت به يوماً إلاّ وقال لي: كنت أتذكرك، اسأل نضال، أنت في بالي منذ البارحة، وكنت أريد أن أتصل بك الآن. يؤكد هذا بترداده لكلمة: عجيب عجيب !كتب عن مجموعتي ( مزهرية على هيئة قبضة يد ) في جريدة الرأي الكويتية مقالاً بعنوان ( القصيدة المحيرة ببداهتها ) لكنه احتج على أن يوسف بزي قد لعب بالعنوان! لا حدود لحبه وتصديقه بي وبشعري، هو المحب الصادق مع الجميع، الأمر الذي يجعلني واثقاً بأنه إذا كنت سعيد الحظ وكتب لي الموت قبله، فسيكتب عني قصيدة رثاء، من أجمل قصائده، كما فعل مع جميع الذين سبقوه وماتوا من أصدقائه!. ولكن في حياتي، لم يبخل مهدي عليَّ بشيءٍ من هذا. فقد كتب عني قصيدة في مجموعته ( سماع منفرد )يتحدث فيها عن كثرة كاراتي وتنقلي بين أنواع عديدة من التجارة، فكيف إذن عندما أقوم بالنقلة الكبرى من الحياة إلى الموت:
رسالة

هوِّن عليك
يا منذر مصري
أيها الشَّاعر !
/
الشِّعر
كما قال ناظم حكمت
مثل الحذاء
يحمي النفس من الروماتيزم.
/
ومثلما يحمي الحذاء القدمين
تحمي نفسكَ بالشعر
ثم تحمي الشعر بالكتب
والكتب بالفيديو
والفيديو بالأحذية !!
وفي كل ذلك
تحمي منذر مصري
بمنذر مصري..
ـــــــــ مهدي محمد علي /حلب 6/9/1993/
وأهداني قصيدة أخرى، كتبها عن أمه والله، بذات المجموعة على أنها توارد خواطر مع قصيدة ( إن كان محتماً علي أن أعبد إلهاً )تقرر إهداؤه إلى الشاعر...  مهدي زوج نضال المناضلة عن حقٍ وحقيق، التي تعرف عليها في موسكو وتزوجها في دمشق. أبو أطياف، السمراء الصغيرة، التي بسبب ولادتها في ليبيا، لا يستطيع مهدي أن يذكر تلك السنوات الأربع العجاف التي قضاها فيها إلا بالحب والامتنان. أطياف العراقية التي ولدت في بنغازي وترعرعت في حلب، فصارت تتكلم باللهجة الحلبية مع الحلبيين، وباللهجة العراقية مع أبيها وأمها والزوار العراقيين، وهي لم تعرف العراق قط. تكتب وترسم قصائد ورسوماً ( عجيبة! ) تدور حول أصناف الخضار والطعام وشؤون المطبخ التي تديره أمها، والتي أكثر ما راقها من أفكاري الشعرية، فكرة الانتحار بالشوكولا... وأنا أيضاً كنت قد سبقته وكتبت عنه قصيدة ( حِصانُ السَّاعَةِ الثَّانيَةِ والنِّصفِ لَيلاً ) وهي إحدى قصائد مخطوطتي ( دعوة خاصة للجميع ):

حِصانُ السَّاعَةِ الثَّانيَةِ والنِّصفِ لَيلاً
   ( إلى مهدي محمَّد عَلي )

*

يَوماً سَوفَ تَكتُبُ شَيئاً
عَن صَديقٍ
صادَفتَهُ في مَحَطَّةِ القِطار
وَعَن ثَلاثِ لَيالٍ بِنَهاراتِها
عُشتُماها مَعاً وَكُلٍّ مِنكُما
يَحسَبُ رَفيقَهُ شَخصاً آخَر
وَكُنتَ تُناديهِ فَيُجيبُكَ
وَكانَ يُناديكَ فَتُجيبُه
بِغيرِ اِسمَيكُما.
/
وَسوفَ تَكتُبُ أيضاً شَيئاً ما
وَلَو بَعدَ عِشرينَ سَنَة
عَن لَيلَةٍ قَضَيتَها ساهِداً أَرِقاً
وَأَنتَ تَقِفُ عَلى نافِذَةِ غُرفَةٍ صَغيرَة
في فُندُقٍ مِنَ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ
في بَغداد
فَرأَيتَ عِندَ السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ والنِّصفِ لَيلاً
حِصاناً أَبيضَ بِلا سَرجٍ وَلا لِجام
يَعدو لا يلوي عَلى شَيء
عَلى طولِ شارِعِ الثَّورَة.
/
وَأَنا بِدَوري سَأَكتُبُ شَيئاً
قَصيدَةً عَلى الأَرجَح
وَلَن أُرجِئَها زَمناً طَويلاً
بَل ها أَنَذا أَكتُبُها الآن
وَهيَ عَنكَ أَنتَ بِالذَّات
يا مَن أَشار إلَيَّ
وناداني باِسمي
وَهُوَ لا يَعرِفُني
ولَم يَرَني يَوماً مِن قَبل
أَنا الحِصانُ
المَزروبُ في الحَظيَرَة..
ــــــــــــ منذر مصري 21-11-1982
لكنه كان أيضاً الشاعر غير السوري الوحيد الذي يرد اسمه في مجموعتي ( دعوة عامة لشخص واحد ) تأليف منذر مصري وشركاه، وذلك بقصيدتنا المشتركة ذات عنوان (حنين سام ) التي كتبتها مستخدماً، بصورة أساسية، مقاطع من قصائده. العنوان ذاته الذي جاءت الحرب، وسقوط نظام صدام حسين، ومنعاني من كتابة دراسة عن مظاهر هذا الحنين ( سام ): ( طال بالروح هذا العراق / طال.. حتّى غدا لا يُطاق ) و ( لماذا أنا هنا / وحياتي هناك؟ ) التي تتبدى في الشعر العراقي، وكنت أنتوي أن أجعل من شعر مهدي مثالي عليه:

حَنينٌ سَام
  ( مَهدي محمَّد علي – مُنذر مَصري )
*

في مُعظَمِ اللَّيالي
وَبَعد سَهَرٍ طَويل
تُشعِلُ شَمعَةً
تَقُودُكَ عِبرَ ظَلامِ البَيت
إلى الفِراش
لَكِنَّكَ كُلَّما أَشعَلتَها
أَيقَظَت رَغبَتَكَ
بِالسَّهر.
/
أَيُّ عُريٍ خَفَيٍّ يَراكَ
أَيُّ عُريٍ تَغسُلُهُ
بِماءٍ بَعيد
وما مِن دُمُوعٍ
تَنطَلي عَلَيكَ
سِوى
دُموعِكَ.
/
( دَعني
أُقبِّلُ الهواءَ
الَّذي يَلمُسُها
بِطَرَفِهِ الآخر ).
/
( دَعني
أَرشُفُ
مِن كَأسِ
حَنينِي
فَأَموت )..
ــــــــــــ 18-7-2001
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نهاية الجزء الثاني ويتبعه الجزء الثالث من الملف



#منذر_مصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عراقي - 1من 5- المحتوى- المقدمة- نداء
- معادلة الاستبداد ونظرية الضحية - في الذكرى الثالثة عشر لوفاة ...
- محمود درويش : أيُّ يأسٍ وأيُّ أملٍ ممزوجين معاً في كأسٍِ واح ...
- عادل محمود لَم يخلق ليكون شاعراً !
- علي الجندي قمر يجلس قبالتك على المائدة
- أي نقدٍ هذا ؟
- بوعلي ياسين مضى وعلى كتفيه شال من شمس شباطية
- يوم واحد من حياة إيفان دنيسوفيتش- للروائي الرجعي عدو الحرية ...
- كتابٌ أكرهُهُ وكأنَّه كتابي
- دُموعُ الحَديد
- حجر في المياه الراكدة - مقابلة مع وكيل مؤسسي الفرع العاشر لل ...
- على صَيحة ... يَعقِدُ جمميعَ آمالِه - مقدمة لمختارات من شعر ...
- محمد سيدة ... هامش الهامش
- احتفاءً بحق الموت العربي
- رقابة في ملف مجلة الآداب عن الرقابة
- الحرب والشَّعب والسُّلطة والمعارضة في سوريا
- هل من المحتم أن يكون للعرب مستقبل ؟


المزيد.....




- أنباء عن نية بلجيكا تزويد أوكرانيا بـ4 مقاتلات -إف-16-
- فريق روسي يحقق -إنجازات ذهبية- في أولمبياد -منديلييف- للكيمي ...
- خبير عسكري يكشف مصير طائرات F-16 بعد وصولها إلى أوكرانيا
- الاتحاد الأوروبي يخصص 68 مليون يورو كمساعدات إنسانية للفلسطي ...
- شاهد: قدامى المحاربين البريطانيين يجتمعون في لندن لإحياء الذ ...
- وابل من الانتقادات بعد تبني قانون الترحيل إلى رواندا
- سوريا.. أمر إداري بإنهاء استدعاء الضباط الاحتياطيين والاحتفا ...
- طبيب: الشخير يمكن أن يسبب مشكلات جنسية للذكور
- مصر تنفذ مشروعا ضخما بدولة إفريقية لإنقاذ حياة عدد كبير من ا ...
- خبير أمني مصري يكشف عن خطة إسرائيلية لكسب تعاطف العالم


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - منذر مصري - عراقي 2من 5- الشعر: سعدي يوسف- مهدي محمد علي