غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2338 - 2008 / 7 / 10 - 09:38
المحور:
الادب والفن
مقاربة نقدية
قراءة في قصص ليس للجنة فرع آخر لمحمد عبد العظيم
محمد عبد العظيم كاتب شاب مطارد في أدغال واقع متوحش يغتال الغد بعد أن أتى على الأمس واليوم, واقع يعيش على سنة الافتراس وتقديس العتمة, والحصاد ضياع, ورقص على الدم المسفوح.. وكأنه من طبيعة الأشياء.
ما الذي أخذ هذا الشاب إلى فنتازيا على أرض قناديلها مطفأة بفعل فاعل؟
هل هو العجز عن المواجهة, أم هو القبض على نار الحقيقة, أم الذهول أمام الدوران المجنون حول مركز السكون الذي يخلخل منظومات الوعي, ويشوه الوجدان, ويجعل قيمة الإنسان على ضفاف الصفر, فيسقط العقل في بحر الوجوم والبلبة..ذلك ما يعيشه كاتبنا الشاب المؤرق بالأسئلة، الممتلئ بالمعرفة, يطارد الحقيقة حتى اللهاث والإغماء, ويحلم بالشبع حتى رجفة الموت جوعا. وهو المسلح بأدوات النجاح, يغنم بشهادة ممهورة بناب أزرق يقذفه خارج المدار..يحاول الهجوم أو التسلل فيخرج مذبوحا, يحاول الدخول إلى عالم الأدب ليعيش الألم على طريقته ويحقق ذاته ويظهر تميزها وتمايزها عن ذوات الآخرين, فيصطدم بمن يشكك في شرعيته, ويطفئ جذوته المتقدة. كما في قصة أيامي في الأدب, عندما يتقدم بروايته الأولى عن سيزيف"هو" فتتهمه المحكمة بالسرقة, وترفض نسب الرواية له, وترفض شهادة أبيه " الشاهد الوحيد " بدعوى أنه لا يميز الألف من كوز الذرة .
وعندما يطرح مجموعته القصصية يحتاط للأمر, ويجمع تواقيع جميع كتاب مصر, ويحصل على شهادة تزكية من اتحاد الكتاب, ولأنه فعل كل ذلك ترفضه المحكمة شكلا ومضمونا وتعتبره من أدعياء الأدب. ولأنه الواثق من قدراته, والمعترف به من ذوي الاختصاص, ينشر وعلى نفقته الخاصة ديوانه, مع مقدمة ضافية لشاعر كبير ومشهور.. يبقى الديوان على الأرصفة لا يجد من يشتريه, ويغرق في الديون, ويتشرد أطفاله, وتطلب زوجته الطلاق وتتزوج من أكاديمي معروف, وتؤسس معه دارا للنشر, وإمعانا في إذلاله تقود حملة ضد كتابه النقدي, وتتهمه بالعمالة, ما يدفعه إلى محاولة قتلها فينقذوها منه ويودعونه السجن فيؤلف مسرحية تدور أحداثها حول الهروب من السجن, فيتمكن السجناء من الهروب ما عداه, فيتسلى بكتابة المذكرات.
ما الذي يريد قوله, هل كل من يتوخى الصدق ويخلص لأفكاره يجب قتله قبل أن يبدأ!!
يحدث ذلك عند انفلات المعايير, كما ترهص قصة الحادثة, حيث يحمل القطار ثلاثة عمال, وسيدة مع كلبها المدلل وفتى وفتاة, وسائق القطار لا يتوقف عند المحطات, ما يحدو بالعمال إلى تذكيره قبل الوصل إلى المحطة الثالثة ولكنه لا يتوقف, يهاجمونه فيضربهم بيد واحدة ويخرج القطار من الخط ويصطدم ببناية آيلة للسقوط, تتدحرج رؤوس العمال خارج القطار وتبقى الجثث داخله, وتصرخ السيدة هلعا على كلبها وتموت بالسكتة القلبية, ويهرب الكلب مشردا في الشوارع, أما الفتاة فيغمى عليها والفتى يراقبها عن بعد.
وفي معرض الحديث عن الواقعة, تتفق الجرائد العالمية على أن القطار خرج عن مساره قبل الوصول إلى المحطة الرابعة بعد أن قطع 1980 فلنكة, لكن صحيفة روسية أعطت تفسيرا مفاده أن الحادث وقع قبل الوصول إلى المحطة الرابعة, وأن خللا أصاب العداد لوجود 72 فلنكة مسوسة, وأن القطار خرج عن الخط عند الفلنكة73 وان للأرقام دلالة سياسية أو تاريخية(1980,19721 ,1973) ويؤكد ذلك تضارب الأقوال حول شخصية السائق, فمن قائل أنه جنيّ تقمص جسد إنسان " تفسير غيبي ", ومنهم من أكد أنه ركب سيارة مرسيدس كانت تنتظره نقلته إلى إحدى السفارات, وتم تهريبه إلى الخارج بعد تغيير ملامحه "نظرية المؤامرة".
ولأن الحادث مدبر, يقوم زوج السيدة بشراء العمارة المنهارة ويبني عليها مجمعا متعدد الأغراض يخصص طوابقه العلوية لمستشفى العلاج النفسي للكلاب الضالة, بعد أن عثر على كلب المرحومة.وفي يوم الاحتفال بشفاء الكلب من مرض الشيزوفرينيا تصعد روح الفتاة في المستشفى العام"لفرط العناية والنظافة وتوفر العلاج" فلا يملك الراوي/الكاتب غير الصعود إلى سطح البناية ليمارس الانتحار طائرا وكأنه يقول :
" لماذا نجهد في تخيل الفجيعة ونحن نعيشها على مدار الوقت, فهل نملك غير الانتحار؟ "
ذلك ما يبحث عنه في قصة الريح فالمكان الترام, والجو ماطر, يصعد رجل يرتدي معطف سميك ونظارة سوداء وأكياس بلاسيتكية, يجلس على الكرسي المقابل للراوي, ويشرع في الكلام وكأنه يكمل حديثا بدأه قبل أن يصعد إلى الترام, وعند محطة الجامعة يتحدث عن الحَبّيب اليوم والأمس فحَبّيب اليوم يتقصع طول اليوم, أما حَبّيب زمان فيتعامل مع الحقائق بوعي والتزام, فالحب عنده " هذه أمي وهذا أبي "..يهزأ به راكب شاب فيرشقه بالسؤال:
- لماذا أنتَ موجود؟
يؤخذ الشاب, وينتصر الرجل ويقصفه بسؤال آخر:
- هل تعرف كيف توحد الله؟
يصمت الشاب ويؤكد الرجل ضياع هذا الجيل الذي ابتعد عن الأعراف والمثل, ولأن الحديث يتعلق بالأعراف, يتحدث الرجل عن الأجانب وكيف تعلم منهم تقديس العمل واحترام الناس, وكيف يحترم الأجنبي الناس حتى يأخذ غرضه أو يسيِّر عمله, حتى اليهود أولاد.. يحترمونك ولا يحبونك ولا يظهرون لك العداء..
الترام ما زال يقطع المحطات والرجل ما زال يتحدث رجل يسأله:
- هل أنت الريح؟
يسأله كيف عرفه, وأين قابله لكن الرجل لا يجيبه ويهبط عند محطته.
الترام يقترب من المحطة الأخيرة, والريح يتحدث عن محصل التذاكر أيام زمان عن صفارته التي تصدر نغمات مميزة, وعن أدبه وأخلاقه مع الركاب وطربوشه.. عن أيام العز عندما كان المحصلون يفطرون الكبدة واللحم والسجق, وعن أصواتهم المبحوحة هذه الأيام نتيجة إفطار الفول الإجباري..
وفي آخر محطة يهبط الرجل حاملا أكياسه, ويصحو الراوي الذي أخذته حكايات الريح ولم يهبط في محطته وعليه أن يعود في الاتجاه العكسي ..
لماذا الترام, ولماذا الريح "كنية للرجل" ولماذا المطر, وماذا يريد محمد عبد العظيم السارد الحساس اللاقط للأسباب, المؤول للنتائج, المفعم بالتفاصيل لدرجة الانتحار, والمطلع حتى الامتلاء على الفكر والسياسة والأدب, والخارج من نسيج الفئات المسحوقة في المجتمع المصري.
ماذا يفعل والخراب طال كل شيء وأفسد الحياة ؟
هل يواصل رفع صخرته المتدحرجة إلى قاع الوادي, أم يقاتل طواحين الهواء, حتى لو ترك كبده للجوارح تنهشها في النهار لتنمو في الليل من جديد.
هو يستعذب الألم, فهل يجد فيه بعثا جديدا أو فجيعة جديدة كما في قصة الغربان حيث ينظر في المرآة فيطل عليه وجه كافكا بدلا من وجهه.. يبحث في مكتبته عن كتاب لفرانز كافكا يرى نفس الصورة بالأبيض والأسود, وصفحات بيضاء غادرها الكلام وكأنها تدعوه إلى كتابة فصلا جديدا, ماذا يكتب وهل يكون كافكا آخر.. يعود إلى الماضي(1912) ويصور الرعب الذي أصابه عندما صحا من النوم ولم يجد أمه.. هل هو الإحساس بفقد المرجعية, لكن الخوف يظل يلازمه حتى بعد عودة الأم, فهل عودة الأم لم تؤكد الانتماء؟ يقفز إلىالعام1992 شاب حديث البلوغ يتعرف على المرأة, يقف عند الرغبة والمحرم, هل يكسر التابو ويثبت أن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست كعلاقة البنزين والنار, فكيف يتم ذلك ومن أين له طاقة تكسير الموروث الذي يعشش داخله, فأبيه الذي يراه كما يريد ويشكله على هواه ويدمر توازنه ما زال له بالمرصاد.
لا يستطيع التمرد, ويعلن هزيمته في معركة لم يخضها ويشكر حبيبته على رسائل لم تكتبها, ويتنازل عنها لمن يستحقها, ويصدق أنه شبح يتسكع في روح إنسان, فهل في ذلك شيء من كافكا, أم أشياء من محمد عبد العظيم الذي يتوقف عن الكتابة ويصحو على تهشم زجاج النافذة, وعلى كتيبة غربان تنشب مخالبها فيه..غربان تحمل وجوه يعرفها..وجه لا يحمله غراب كان مصلوبا على المبنى هو وجهه..
ِلمَ كل هذا الفزع والخوف والتشاؤم!
الكاتب يُقر أن الجهد الفردي لا يستطيع التصدي لعوامل الهدم والتدمير, وأن إعلان الهزيمة لا يبرر الخروج من الصراع, حتى ولو كان الإنسان المؤرق بالمعرفة أول ضحاياه. فقدره الرقص مذبوحا من الألم, كما في قصة خلوة الحضرة..وحضرة الخلوة, فالمؤلف هو بطل القصة يغير موسيقى الموبايل إلى نغمة طويلة " حبيبي ما ترحش بعيد..يا حبيبي" يشوي المنتظر على الخط انتظارا قبل أن يرد عليه, لجأ إلى ذلك بعد أن تركته حبيبته صفا وغادرت بعيدا, تاركة إياه مع الوحدة والفقد وتتبع أخبارها عن بعد, تعود ومعها وطفلها علاء, وعن بعد يتصل به رقم غريب لا يكترث به, ويدخل الحمام ليجد الموبايل قد سجل اتصالين من نفس الرقم, يتصل فيرد عليه صوت نسوي يعرفه:
- صحيح أنا اتصلت..هذا الرقم مسجل عندي باسم محمد بس..
يصرخ علاء, صوتها يسأل:
- ممكن أعرف مين..لأني مش عارفه أفتكر النمرة دي..
يُغلق الخط ويشعر أنه أمام كتيبة من جنود الإعدام, يطلقون عليه النار دفعة واحدة.. يهرب إلى المسجل ويرقص على موسيقى رجل وامرأة.. يدعوها للرقص.." كم رقص معها على أغنيات الأفلام التي تحبها والتي كانت تُسمعها له على التليفون.."
يطلبها ثانية..ترد بسرعة:
- محمد عبد العظيم..
يجيب بسرعة من يتخلص من أجندة قديمة :
- النمرة غلط..
لم يعد محمد عبد العظيم الذي تعرف, ولم يتبقى من صفا التي أحب غير طفل ينتمي لرجل آخر, ونغمة راقصة لأغنية عابثة "يا حبيبي متروحش بعيد.."
يحضن قلبه ويواصل الرقص مذبوحا من الألم..؟!
ولعل أعذب ألوان الألم في البوح الصوفي في رحلة البحث عن الجوهر, حيث يتعرى الواحد أمام الحقيقة كما في قصة ليس للجنة فرع آخر حيث يدخل في مكاشفة مع حبيبة مفترضة "ليلى الحقيقية" التي تصادق الذئاب حبا, فتهز لها ذيولها وتبتسم بأنيابها المتحفزة للافتراس.. يحاول الالتفاف بلعبة التميز, ويحدثها عن الثقافة والمعرفة فتخترق حواجزه الواهية, وتضبط فيه فتيات أحلامه ولا تغضب لأنهن جميعا يحملن ملامح وجهها الطفل..عندها يدرك كيف يستوطن الحزن خلف قناع البراءة, فيتألم لحزنها الذي هو سحرها, وهو الذي عاش مع الشجن صديق عمره, لذلك يقرر تأليف كتابا عن فلسفة الضعف يعارض فيه نيتشة, الذي تحدث عن فلسفة القوة, وطرح منطقا هشا, أما هو فسيكتب فصلا في تعليم الضعفاء الكراهية, لأن الأقوياء يولدون بها غريزة أصيلة فيهم.
فهل يحقق ما يصبو إليه في عالم متوحش؟
لا ملاذ غير الحلم..
لذلك يتمنى لو تحول إلى بخار يجوب العالم ويهبط مع ذرات الندى, ويطبع قبلة على وجوه النساء,وينسخ القبلات وينسج منها فستانا لحبيبته, يخيطه بفمه قبلة قبلة, وينسحب مع ذيل الفستان على الأرض التي تستمد شرفها من خطواتها عليها.. أية عبودية للحب هذه, وأية محبوبة تلك التي ينشدها محمد عبد العظيم طالب الحب الفقير, الذي يرى في الحب قبلها زندقة وبعدها الحاد..
تجيب أو هو يجيب لا فرق بعد أن حل فيها وتوحد:
شاطئا ما ترى..
فهل ما زال حتى اللحظة يبحث عن شاطئ يأخذه إلى جنة مساحتها امرأة متجردة من ألاعيب أهل الأرض..
أما بعد
محمد عبد العظيم شاب مزحوم بالأسئلة الجارحة, يقظ يجافيه النوم المريح, متوتر مثل تائه الصحراء لا يرى غير السراب, محزون يقف في منطقة الحيرة بين الصدمة والدهشة, يملك حساسية خاصة, مسلح بأدوات الكتابة, عارف بشروط القص, يخوض تجاور وتقاطع الأنواع الأدبية لا تخذله اللغة, ولا يأخذه الاسترسال خارج حدود النص, شفراته غامضة على قارئ التسلية, مثيرة للباحث عن جدوى الفن في الألفية الثالثة, يأخذ من التكنولوجيا بمقدار ويغترف من الموروث الجمعي بمقدار, تشغله السياسة وتخلخله ولكنه لا يتوقف عن الاندفاع, يعاني الفقد ,يبحث عن جدار يحميه فلا تغتالوه
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟