أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - ( تحت العجلة )..رواية هرمان هسه: تعرية لبؤس التقاليد















المزيد.....

( تحت العجلة )..رواية هرمان هسه: تعرية لبؤس التقاليد


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 2326 - 2008 / 6 / 28 - 08:33
المحور: الادب والفن
    


يتحرك الفعل السردي لروايات هرمان هسه، في الغالب، في فضاء البلدات الصغيرة. ومثل هذه الأمكنة لها خصائصها المميزة على صُعد نمط الروابط الاجتماعية السائدة، والقيم الساندة لتلك الروابط. ففي البلدة الصغيرة ينفتح بيت العائلة الخاص على البيوت الأخرى، وتضيق مساحة الأسرار، ويطغي نوع من الحميمية على علاقات البشر بعضهم ببعض، وتسري الشائعات ويجري تداول الأخبار بسرعة كبيرة، ويلقى المرء اهتماماً دائماً من الآخرين فيجد نفسه مكشوفاً أمام أعينهم الفضولية. وهذا كله ينعكس على مسار الأحداث وسياقات السرد. فيما تبرز سمة أخرى تطبع روايات هسه، يتحسسها القارئ، وهي تلك الهالة الروحانية الصافية التي تجلل لغة السرد، والبعد الروحي في تفكير كثر من شخصياته على الرغم من القلق الوجودي الذي يصاحبهم، وربما كان هذا القلق دالة على ذلك البُعد.
فضلاً عمّا ذكرنا، يغرف هسه في بناء عالم روايته ( تحت العجلة )* من تجربته الشخصية؛( وأيُّ روائي لا يفعل ذلك؟. ) فقد ولد في عام 1877 في ( كالف ) وهي مدينة صغيرة تقع في جنوب ألمانيا "دخل المدرسة اللاتينية عام 1890 في كوينغن بسويسرا، وأنهى الامتحان الإقليمي للمقاطعة الخاص باختيار الطلبة للدخول إلى الدير عام 1891، ثم فصل من الدير بسبب هروبه من حلقة ماولبرون الدراسية 1892". وما يصوره في رواية ( تحت العجلة ) مستمد إلى حد بعيد من تجربة حياته المبكرة هذه. وشخصية هرمان هايلنر، في الرواية، تكاد تُطابق شخصية هرمان هسه نفسه ( لاحظ التشابه بين الاسمين ). وها هو يقول في إحدى مقابلاته عن بطل روايته هانز جيبنرات؛
"في تاريخ تطور شخصية الفتى هانز جيبنرات لعبت، إلى حد ما، دور المُدين والمنتقد لكل تلك السلطات التي هزمت جيبنرات والتي كادت أن تهزمني شخصياً ذات مرة؛ المدرسة، الدين، التقاليد والسلطة".
وهانز فتى ذكي، ومميز بحسب المعايير الخاصة في البلدة الصغيرة التي يعيش فيها، فالمعلم والناظر والجيران وقس البلدة ورفاق المدرسة يتفقون على أن في هانز ما يميزه ويجعل مستقبله واضحاً وراسخاً، وهو أن يكون قساً أو معلماً أو يحصل على وظيفة مكتبية.. يتقدم لامتحان المقاطعة، حيث تختار الدولة نخبة البلاد المتعلمة، كونه المرشح الوحيد المؤهل لأداء الامتحان في هذه البلدة التي تحظى للمرة الأولى باجتياز مثل هذا الامتحان الشاق في شخص هانز الذي سيكون كما تأمل مبعث فخرها.
ينجح هانز بتفوق ويجد نفسه في دير التأهيل الديني ( ماولبرون ).. يتصف هذا الدير بالأبهة والفخامة والشموخ، على حد ما يذهب إليه الراوي. وفيه الدراسة مكثفة تقليدية ومملة، وتفرض إدارة المدرسة أعرافاً كلاسيكية وتقاليد صارمة في التعامل مع الطلبة.
يتعرف هانز على زملاء صفه القادمين من بلدات عديدة وأبرزهم ( هرمان هايلنر ) يصفه الراوي بأنه "شخص ملفت للنظر، شاب من منطقة الغابة السوداء، سليل عائلة عريقة.. شاعر ومتذوق للأدب.. كان متحدثاً لبقاً، حيوياً.. كان مزيج فتى غير ناضج لكتلة من العواطف الجياشة والتهور، غير أنه كان ينطوي على شيء من العمق..". وهرمان هذا سيكون له تأثيره الهائل على هانز وستكون صداقتهما مدمرة، في ما بعد، لكليهما.
يجد هانز في صديقه هرمان نقيضه، ونصفه المكمّل، أو ربما الجزء المقموع من ذاته وقد تحرر.. صورته التي أراد أن يكونها ولم يستطع. فهانز على عكس هرمان تلميذ نجيب، وهادئ ومجتهد، نال احترام زملائه وإعجابهم، وبطبيعة الحال باستثناء صديقه هرمان "الطائش العبقري الذي يسخر منه أحياناً ويلقبّه بالطموح.."!.
ولهرمان أفكاره ومعتقداته المختلفة عن الآخرين.. يحلّق في سموات الخيال، وتنتابه مشاعر غامضة، وينظر إلى العالم بعين ساخرة، ففي شخصه شيء غير قليل من العبثية والتمرد. فهو قد خُلق ليكون شاعراً لا معلماً أو رجل دين، لذا سيواجه مشاكل جمة في هذا المحيط المعادي الذي لا تتوافق معه روحه المشاكسة ورغباته الفوارة. وأيضاً نلمس في علاقة الشابين شيئاَ من الغرابة.. هرمان تعني له الصداقة متعة وترفاً، وينطلق فيها من مزاجيته الخاصة، فيما هانز يجد فيها "كنزاً يتباهى ويزهو به، وينوء تحت ثقله". فهذه الصداقة هي بمثابة المرآة التي تريه حقيقة ذاته المحتجبة للمرة الأولى، ربما. وكل عبارة من هرمان كانت تهزه، وتحطم في داخله حاجزاً ما، وتضيء فيه منطقة معتمة.. كان هرمان واحداً من أولئك الذين يصنعون الصدمات. ولا شك أن وقع الصدمة في مكان مثل دير ماولبرون يكون أشد وأدهى. فإذا كان هانز، في سبيل المثال، يعامل كتبه المدرسية كأشياء مقدسة فإن هرمان كان يعبث بها، ويدنسها بخربشات بالقلم الرصاص.. لكن ماذا كان يريد هرمان من هذه الصداقة بالمقابل؟. يخبرنا الراوي أن هرمان "كان متعلقاً به، لحاجته إليه. كان يود أن يكون لديه شخص ما يثق به ويستمع إليه ويدهش له. كان بحاجة لمن يصغي إليه بصمت وتشوق عندما يتحدث أحاديثه الثورية عن المدرسة والحياة. ويحتاج أيضاً لمن يواسيه ويلقي برأسه في حضنه حين تلم به الكآبة..".
يُحدث هرمان كسراً مدوياً في رتابة حياة الدير حينما يُقدم على ضرب زميل له لأن عزف الأخير لم يعجبه فيتلقى عقوبة الحبس المدرسي الصارمة، لكنه يقف شاحباً متحدياً الجميع من غير أن يحظى بمساندة أحد من زملائه أو مواساته بمن فيهم هانز جيبنرات؛
"أنت جبان حقير يا جيبنرات، يا للعار.. وخرج يصفر عالياً ويديه في جيبي سرواله". ومنذ هذه اللحظة يتغير مسار السرد.
بعد عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة يطلب هانز من هرمان أن يسامحه ليستعيدا صداقتهما،وهكذا يعودان صديقين مرة أخرى. وفي هذه الأثناء تكون أشياء كثيرة قد تغيرت، وحدث شرخ من نوع ما في نظام العلاقات.. يستدعي الناظر التلميذ هانز، وبعد بضعة أسئلة تقليدية يسأله عن صداقته مع هرمان هايلنر، فيجيب أن هايلنر صديقه حقاً؛
"كيف تم ذلك؟ إنكما من طبيعتين مختلفتين تماماً.. أنت الوحيد الذي وقع تحت تأثير هذا الهايلنر السيئ".
تتدنى النتائج الامتحانية لهانز وترتبك علاقاته مع إدارة المدرسة، وتصيبه عدوى التمرد والعبث. ويزداد الأمر إثارة حين يبدأ هرمان بالتحدث عن الفتيات والعلاقات الحميمة معهن. وهذا ما يعمّق إعجاب هانز بصديقه. ثم ينتهي كل شيء بطرد هرمان من الدير بعدما فرّ منه ذات يوم. وأصيب هانز بالكآبة والمرض فعاد هو الآخر إلى بلدته تاركاً الدراسة وإلى الأبد.
يتلبس هانز شبح التفكير بالموت، ويحاول الانتحار لكنه يتردد. وفي النهاية يزول عنه، شيئاً فشيئاً، المزاج الثقيل المخدر، وتتلاشى لديه فكرة الفناء، فيتطلع ثانية إلى الحياة والطبيعة بنفس هادئة. ويطرق الحب أبواب قلبه بأصابع متأنية دافئة.. يتعرف على إيما، في موسم قطاف التفاح، في بستان يملكه أحد جيرانه، وتنعقد بينه وبين الفتاة الرقيقة علاقة صداقة، أو أبعد من ذلك. وينال منها قبلة حياته الأولى فتنتعش روحه، ويرى العالم من حوله مشرقاً ورائعاً، غير أن الفتاة سرعان ما تغادر وتتركه مع خيبة جديدة، ليموت في ما بعد غريقاً، وهو في حالة سكر؛ "يندفع بارداً، صامتاً، هادئاً مع تيار النهر المظلم المنحدر أسفل الوادي". ولكن من المسؤول عن إيصال هانز إلى هذا المصير التراجيدي.. يتهم اسكافي البلدة أصحاب المعاطف الرسمية، ويقول لوالد هانز بعد مراسيم الدفن؛
"ربما أنت وأنا أيضاً قد أهملنا أمر الصبي أحياناً".
يحاول هسه في رواية ( تحت العجلة ) تعرية نظام التربية والتعليم التقليدي الذي يقضي على المواهب الحقيقية، ويجفف عندها منابع الإبداع. وفي وجه من وجوهها فهذه رواية عن الفشل، عن اصطدام عربة الطموح بجدار صلد، من التقاليد البالية البائسة، يتسبب بتحطمها.
* ( تحت العجلة ) رواية هرمان هسه.. ترجمة: نامق كامل.. دار المدى للثقافة والنشر/ دمشق 2001.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرضّة الحزيرانية ونكوص الإنسان المقهور
- سلّة الأخطاء
- ثلاثة أشباح.. ثلاثة نصوص: شكسبير، ماركس، ديريدا
- ما بعد حزيران؛ نقد الذات المهزومة
- المعاهدة والمعارضة
- هزيمة حزيران؛ فشل الدولة ( العربية ) الحديثة
- المستقبل للنساء
- أستورياس في ( الريح القوية )
- أسعار النفط !!
- ثقافة الصورة.. ثقافة المشاهدة
- المثقفون وفوبيا الحرية
- صورة المثقف مخذولاً وضحية
- إذا ما غابت الثقة
- ماركس الحالم.. ماركس العالم
- فتاة في المطر
- حواف الإيدز، أو؛ خالد في الصحراء
- ماريو بارغاس يوسا في؛ ( رسائل إلى روائي شاب )
- شبح ماركس
- أخلاقيات الحوار
- حواف الإيدز؛ أو خالد في الصحراء


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - ( تحت العجلة )..رواية هرمان هسه: تعرية لبؤس التقاليد